مسألة
وهنا سؤال
يدور في أذهان بعض المصلين وهو : ما حكم إغماض العينين في الصلاة خصوصا وأن المرء
قد يحس بمزيد من الخشوع إذا فعل ذلك ؟
والجواب : أن
ذلك مخالف للسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدّم قبل قليل كما أن
الإغماض يفوّت سنة النظر إلى موضع السجود وإلى الأصبع. ولكن هناك شيء من التفصيل في
المسألة فلندع الميدان للفارس ولنفسح المكان للعلامة أبي عبد الله ابن القيم يبين
الأمر ويجلّيه ، قال رحمه الله تعالى : " ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغميض
عينيه في الصلاة ، وقد تقدّم أنه كان في التشهد يومئ ببصره إلى أصبعه في الدعاء ولا
يُجاوز بصره إشارته...
وقد يدلّ على
ذلك مدّ يده في صلاة الكسوف ليتناول العنقود لما رأى الجنة ، وكذلك رؤيته النار
وصاحبة الهرة فيها وصاحب المحجن ، وكذلك حديث مدافعته للبهيمة التي أرادت أن تمرّ
بين يديه وردّه الغلام والجارية وحجزه بين الجاريتين ، وكذلك أحاديث ردّ السلام
بالإشارة على من سلّم عليه وهو في الصلاة ، فإنه إنما كان يشير إلى من يراه ، وكذلك
حديث تعرّض الشيطان له فأخذه فخنقه وكان ذلك رؤية عين. فهذه الأحاديث وغيرها
يُستفاد من مجموعها العلم بأنه لم يكن يغمض عينيه في الصلاة.
وقد اختلف
الفقهاء في كراهته ، فكرهه الإمام أحمد وغيره وقالوا : هو فعل اليهود ، وأباحه
جماعة ولم يكرهوه... والصواب أن يُقال إن كان تفتيح العين لا يُخلّ بالخشوع فهو
أفضل ، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره
مما يشوّش عليه قلبه فهنالك لا يُكره التغميض قطعا ، والقول باستحبابه في هذا الحال
أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة ، والله أعلم " زاد المعاد 1/293 ط.
دار الرسالة
وبهذا يتبين
أن السنة عدم الإغماض إلا إذا دعت الحاجة لتلافي أمر يضرّ بالخشوع.
(11) تحريك السبابة :
وهذا أمر
أهمله كثير من المصلين فضلا عن جهلهم بفائدته العظيمة وأثره في الخشوع
قال النبي صلى
الله عليه وسلم : (لهي أشد على الشيطان من الحديد.) رواه الإمام أحمد 2/119 بسند
حسن كما في صفة الصلاة ص: 159 " أي أن الإشارة بالسبابة عند التشهد في الصلاة أشد
على الشيطان من الضرب بالحديد لأنها تذكّر العبد بوحدانية الله تعالى والإخلاص في
العبادة وهذا أعظم شيء يكرهه الشيطان نعوذ بالله منه." الفتح الرباني للساعاتي
4/15.
ولأجل هذه
الفائدة العظيمة كان الصحابة رضوان الله عليهم يتواصون بذلك ويحرصون عليه ويتعاهدون
أنفسهم في هذا الأمر الذي يقابله كثير من الناس في هذا الزمان بالاستخفاف والإهمال
، فقد جاء في الأثر ما يلي : (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بعضهم على
بعض. يعني : الإشارة بالأصبع في الدعاء) رواه إبن أبي شيبة بسند حسن كما في صفة
الصلاة ص: 141 وفي المطبوع من أبي شيبة [بأصبع ] أنظر المصنف رقم 9732 ج10 ص: 381
ط. الدار السلفية - الهند
والسنة في
الإشارة بالسبابة أن تبقى مرفوعة متحرّكة مشيرة إلى القبلة طيلة التشهد.
(12) التنويع في السور والآيات والأذكار والأدعية في الصلاة
وهذا يُشعر
المصلي بتجدد المعاني والانتقال بين المضامين المتعددة للآيات والأذكار وهذا ما
يفتقده الذي لا يحفظ إلا عددا محدودا من السور (وخصوصا قصارها) والأذكار ، فالتنويع
من السنّة وأكمل في الخشوع.
وإذا تأملنا
ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوه ويذكره في صلاته فإننا نجد هذا التنوع
ففي أدعية
الاستفتاح مثلا نجد نصوصا مثل :
(اللهم باعد
بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم نقني من خطاياي كما يُنقّى
الثوب الأبيض من الدّنس ، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرَد.)
(وجهت وجهي
للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي
لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمِرتُ وأنا أول المسلمين.)
(سبحانك اللهم
وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك ولا إله غيرك.)
وغير ذلك من
الأدعية والأذكار والمصلي يأتي بهذا مرة وبهذا مرة وهكذا.
وفي السور
التي كان صلى الله عليه وسلم يقرؤها في صلاة الفجر نجد عددا كثيرا مباركا مثل:
(طوال المفصّل
كالواقعة والطور و ق ، وقصار المفصّل مثل : إذا الشمس كورت والزلزلة والمعوذتين
وورد أنه قرأ الروم ويس والصافات وكان يقرأ في فجر الجمعة بالسجدة والإنسان)
وفي صلاة
الظهر ورد أنه كان يقرأ في كلّ من الركعتين قدر ثلاثين آية وقرأ بالطارق والبروج
والليل إذا يغشى.
وفي صلاة
العصر يقرأ في كل من الركعتين قدر خمس عشرة آية ويقرأ بالسور التي سبقت في صلاة
الظهر.
وفي صلاة
المغرب يقرأ بقصار المفصّل كالتين والزيتون وقرأ بسورة محمد والطور والمرسلات
وغيرها.
وفي العشاء
كان يقرأ من وسط المفصّل كـ (الشمس وضحاها) و (إذا السماء انشقت) وأمر معاذا أن
يقرأ بـ الأعلى والقلم والليل إذا يغشى.
وفي قيام
الليل كان يقرأ بطوال السور وورد في سنته صلى الله عليه وسلم قراءة مائتي ومائة
وخمسين آية وكان أحيانا يقصّر القراءة.
وأذكار ركوعه
صلى الله عليه وسلم متنوعة فبالإضافة إلى (سبحان ربي العظيم) و(سبحان ربي العظيم
وبحمده) يقول : (سُبّوح قُدّوس رب الملائكة والروح) ويقول : (اللهم لك ركعت وبك
آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي ، خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله
رب العالمين).
وفي الرفع من
الركوع يقول بعد (سمع الله لمن حمده) : (ربنا ولك الحمد) وأحيانا (ربنا لك الحمد)
وأحيانا (اللهم ربنا (و) لك الحمد) وكان يضيف أحيانا (ملء السموات وملء الأرض وملء
ما شئت من شيء بعد) ويضيف تارة (أهل الثناء والمجد ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا
معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ)
وفي السجود
بالإضافة إلى (سبحان ربي الأعلى) و(سبحان ربي الأعلى وبحمده) يقول أيضا : (سُبّوح
قدوس رب الملائكة والروح) و (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) و (اللهم لك
سجدت وبك آمنت ولك أسلمت ، سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وشقّ سمعه وبصره ، تبارك الله
أحسن الخالقين) وغير ذلك.
وفي الجلسة
بين السجدتين بالإضافة إلى (رب اغفر لي رب اغفر لي) يقول (اللهم اغفر لي وارحمني
واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني).
وفي التشهد
عدد من الصيغ الواردة مثل (التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها
النبي... الخ) وكذلك ورد (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، السلام عليك
أيها النبي... الخ) وورد (التحيات الطيبات الصلوات لله ، السلام عليك أيها النبي...
الخ).
فيأتي المصلي
مرة بهذا ومرة بهذا.
وفي الصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلّم عدّة صيغ منها : (اللهم صلّ عل محمد وعلى آل محمد
كما صليت على إبراهيم وعل آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل
محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد).
وورد أيضا
(اللهم صلّ على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم إنك
حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل بيته وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل
إبراهيم إنك حميد مجيد).
وورد (اللهم
صلّ على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد
النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد).
ووردت صيغ
أخرى كذلك والسنة أن ينوّع بينها كما تقدّم ولا يمنع أن يواظب على بعضها أكثر من
بعض لقوة ثبوتها أو اشتهارها في كتب الحديث الصحيحة أو لأن النبي صلى الله عيه وسلم
علّمها أصحابه لمّا سألوه عن الكيفية بخلاف غيرها وهكذا. جميع ما تقدّم من النصوص
والصيغ من كتاب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للعلامة الشيخ محمد ناصر الدين
الألباني الذي اجتهد في جمعها من كتب الحديث.
(13) أن يأتي بسجود التلاوة إذا مرّ بموضعه
من آداب
التلاوة السجود عند المرور بالسجدة وقد وصف الله في كتابه الكريم النبيين والصالحين
بأنهم (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجّدا وبكيا) قال ابن كثير رحمه الله تعالى
: " أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم واتباعا لمنوالهم " تفسير
القرآن العظيم 5/238 ط. دار الشعب.
وسجود التلاوة
في الصلاة عظيم وهو مما يزيد الخشوع قال الله عز وجل : (ويخرون للأذقان يبكون
ويزيدهم خشوعا) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد بسورة النجم في صلاته
وروى البخاري رحمه الله في صحيحه (عن أبي رافع قال : صليت مع أبي هريرة رضي الله
عنه العتمة [ أي : العشاء ] فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد فقلت له ، قال : سجدت خلف
أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه.) صحيح البخاري : كتاب
الأذان ، باب الجهر بالعشاء. فينبغي المحافظة على سجود التلاوة في الصلاة خصوصا وأن
سجود التلاوة فيه ترغيم للشيطان وتبكيت له وذلك مما يضعف كيده للمصلي. عن أبي هريرة
قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (إذا قرأ ابن آدم السجدة ، اعتزل
الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله ، أمر بالسجود فسجد ، فله الجنة ، وأمرت بالسجود
فعصيت ، فلي النار). رواه الإمام مسلم في صحيحه رقم 133
(14) الاستعاذة بالله من الشيطان
الشيطان عدو
لنا ومن عداوته قيامه بالوسوسة للمصلي كي يذهب خشوعه ويلبِّس عليه صلاته.
" و الوسواس
يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو بغيره ، لا بد له من ذلك ، فينبغي للعبد
أن يثبت ويصبر ، و يلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة ولا يضجر ، فإنه بملازمة ذلك
ينصرف عنه كيد الشيطان (إن كيد الشيطان كان ضعيفا).
وكلما أراد
العبد توجها إلى الله تعالى بقلبه جاء من الوسوسة أمور أخرى ، فإن الشيطان بمنزلة
قاطع الطريق ، كلما أراد العبد السير إلى الله تعالى ، أراد قطع الطريق عليه ،
ولهذا قيل لبعض السلف : " إن اليهود والنصارى يقولون : لا نوسوس قال : صدقوا ، وما
يصنع الشيطان بالبيت الخرب ". (مجموع الفتاوى 22 / 608).
" وقد مثل ذلك
بمثال حسن ، وهو ثلاثة بيوت : بيت للملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره، وبيت للعبد فيه
كنوز العبد وذخائره وجواهره وليس جواهر الملك وذخائره ، وبيت خال صفر لا شيء فيه ،
فجاء اللص يسرق من أحد البيوت ، فمن أيها يسرق ؟ (الوابل الصيب ص: 43)
" والعبد إذا
قام في الصلاة غار الشيطان منه ، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان ،
وأشده عليه فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه بل لا يزال به يعده
ويمنّيه وينسيه ، ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهوّن عليه شأن الصلاة ، فيتهاون بها
فيتركها. فإن عجز عن ذلك منه ، وعصاه العبد ، وقام في ذلك المقام ، أقبل عدو الله
تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه ، ويحول بينه وبين قلبه ، فيذكّره في الصلاة ما لم
يكن يذكر قبل دخوله فيها ، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة وأيس منها ، فيذكره
إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها ، ويأخذه عن الله عز وجل ، فيقوم فيها بلا قلب ،
فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر
بقلبه في صلاته ، فينصرف من صلاته مثلما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله ، لم
تُخفَفْ عنه بالصلاة ، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها ، وأكمل خشوعها ،
ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه." الوابل الصيب ص: 36
ولمواجهة كيد
الشيطان وإذهاب وسوسته أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى العلاج التالي :
عن أبي العاص
رضي الله عنه قال : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي
يلبِّسها عليّ ، فقال رسول الله صلى عليه وسلم : (ذاك شيطان يُقال له خنزب فإذا
أحسسته فتعوّذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا). قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني.
رواه مسلم رقم : 2203
ومن كيد
الشيطان للمصلي ما أخبرنا عنه صلى الله عليه وسلم وعن علاجه فقال : (إن أحدكم إذا
قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه - يعني خلط عليه صلاته وشككه فيها - حتى لا يدري كم
صلى. فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس) رواه البخاري ، كتاب السهو ، باب
السهو في الفرض والتطوع.
ومن كيده كذلك
ما أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله : (إذا كان أحدكم في الصلاة
فوجد حركة في دبره أحدث أو لم يحدث ، فأشكل عليه ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد
ريحا). رواه مسلم رقم 389.
بل إن كيده
ليبلغ مبلغا عجيبا كما يوضحه هذا الحديث : عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
سئل عن الرجل يخيّل إليه في صلاته أنه أحدث ولم يُحدِث ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : (إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته حتى يفتح مقعدته فيخيل إليه أنه
أحدث ولم يُحدث ، فإذا وجد أحدكم ذلك فلا ينصرفن حتى يسمع صوت ذلك بأذنه أو يجد ريح
ذلك بأنفه) رواه الطبراني في الكبير رقم 11556 ج:11 ص: 222 وقال في مجمع الزوائد
1/242 رجاله رجال الصحيح.
مسألة
وهناك خدعة
شيطانية يأتي بها " خنزب " إلى بعض الخيِّرين من المصلين وهي محاولة إشغالهم
بالتفكير في أبواب أخرى من الطاعات عن الصلاة التي هم بشأنها وذلك كإشغال أذهانهم
ببعض أمور الدعوة أو المسائل العلمية فيستغرقون فيها فلا يعقلون أجزاء من صلاتهم
وربما لبَّس عل بعضهم بأن عمر كان يجهِّز الجيش في الصلاة ، ولندع المجال لشيخ
الإسلام ابن تيمية يجلي الأمر ويجييب عن هذه الشبهة.
قال رحمه الله
تعالى : " وأما ما يروى عن عمر بن الخطاب من قوله : (وإني لأجهز جيشي وأنا في
الصلاة) فذاك لأن عمر كان مأمورا بالجهاد وهو أمير المؤمنين ، فهو أمير الجهاد ،
فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلي الذي يصلي صلاة الخوف حال معاينة العدو ،
إما حال القتال وإما غير حال القتال ، فهو مأمور بالصلاة ، ومأمور بالجهاد ، فعليه
أن يؤدي الواجبين بحسب الإمكان. قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة
فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) ، ومعلوم أن طمأنينة القلب حال الجهاد لا
تكون كطمأنينتة حال الأمن ، فإذا قُدِّر أنه نقص من الصلاة شيء لأجل الجهاد لم يقدح
هذا في كمال إيمان العبد وطاعته.
ولهذا تخفف
صلاة الخوف عن صلاة الأمن ، ولما ذكر الله سبحانه صلاة الخوف قال : (فإذا اطمأننتم
فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) فالإقامة المأمور بها
حال الطمأنينة لا يؤمر بها حال الخوف.
ومع هذا :
فالناس متفاوتون في ذلك ، فإذا قوي إيمان العبد كان حاضر القلب في الصلاة ، مع
تدبره للأمور بها ، وعمر قد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه ، وهو المحدَّث المُلهم
فلا ينكر لمثله أن يكون مع تدبيره جيشه في الصلاة من الحضور ما ليس لغيره ، لكن لا
ريب أن حضوره مع عدم ذلك يكون أقوى ، ولا ريب أن صلاة رسول الله حال أمنه كانت أكمل
من صلاته حال الخوف في الأفعال الظاهرة فإذا كان الله قد عفا حال الخوف عن بعض
الواجبات الظاهرة فكيف بالباطنة.
وبالجملة
فتفكر المصلي في الصلاة [في] أمر يجب عليه ، قد يضيق وقته ، ليس كتفكره فيما ليس
بواجب أو فيما لم يضق وقته. وقد يكون عمر لم يمكن [ لعلها : يمكنه ] التفكر في
تدبير جيشه إلا في تلك الحال ، وهو إمام الأمة والواردات عليه كثيرة ، ومثل هذا
يعرض لكل أحد بحسب مرتبته ، والإنسان دائما يذكر في الصلاة ما لا يذكره خارج الصلاة
، ومن ذلك ما يكون من الشيطان ، كما أن بعض السلف ذكر له رجل أنه دفن مالا وقد نسي
موضعه ، فقال : قم فصل ، فقام فصلى فذكره ، فقيل له ، من أين علمت ذلك ؟ قال : علمت
أن الشيطان لا يدعه في الصلاة حتى يذكره بما يشغله ولا أهم عنده من ذكر موضع الدفن
، لكن العبد الكيِّس يجتهد كمال الحضور مع كمال فعل بقية المأمور ، ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم. مجموع الفتاوى 22 / 610.