فإنَّ الإسلام يعني بمفهومه
الشامل الاستسلام لله - عز وجل -، والانقياد له بالطاعة ظاهرًا وباطنًا،
والبراءة من الشرك وأهله، وهو كلٌّ لا يتجزأ، والمطلوبُ من المسلم حتى يحقق
إسلامهُ وإيمانه أن يستسلم لله - عز وجل -، في كل شئون حياته الباطنة
والظاهرة.


يقول الله - عز وجل -: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) الآية (البقرة: 208).

ويقول - تعالى -:
((قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ))
(الأنعام: 162 ـ 163).


إنَّ
الإسلام عقيدةً ينبثقُ منها أعمال وأقوال وأخلاق وشريعة، وليس مجرد معرفةٍ
ذهنية، وإقرار قلبي، ثم لا أثر له في أعمال العبد وأخلاقه، ومواقفه في
حياته كلها.


ولهذا أجمع السلف على أنَّ الإيمان اعتقادٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح.

والمتأمل
في حياة السلف الصالح، يجدُ هذا الشمول في أخذ الإسلام واضحًا، في حياتهم
ومنهجهم، وقد كان لهم صولاتٍ وجولاتٍ مع المرجئة الذين فصلوا العمل عن
الإيمان، وحصروه في التصديق القلبي، أو في التصديق وقول اللسان.


أحبابي الكرام إعلمو أنه


لا
انفصام بين العقيدة والأخلاق، بل هما متلازمان تلازم الروح والجسد،
وبينهما ترابطٌ شديد يجعل أحدهما يزول بزوال الآخر، ويضعفُ بضعفه، ويقوى
بقوته ـ وفي هذا يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله - تعالى-:
التوحــيد ألطف شيءٍ وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأي شيءٍ يخدشه ويدنسه ويؤثر
فيه، فهو كأبيض ثوبٍ يكون، يؤثرُ فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدًّا،
أدنى شيءٍ يؤثرُ فيها، ولهذا تشو شهُ اللحظة، واللفظة، والشهوة الخفية، فإن
بادر صاحبهُ وقلعَ ذلك الأثر بضده، وإلاَّ استحكم وصار طبعًا يتعسرُ عليه
قلعه)) [1].


ومما
يؤيدُ أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف، وارتباطهِ الوثيق بالعقيدة،
تضمين علمائهم هذه الجوانب فيما كتبوه من أصول أهل السنة والجماعة،
كالعقيدة الواسطية، والطحاوية وغيرها، ومن أمثلة ذلك قول الإمام الصابوني ـ
- رحمه الله تعالى -ـ في تقريره لعقيدة السلف: »ويتواصون بقيام الليل
للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام على اختلاف الحالات، وإفشاء السلام،
وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور
المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف والسعي في
الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع،
واتقاء شر عاقبة الطمع، ويتواصون بالحق والصبر)) ([2]).


ولتجلية أهمية ارتباط العقيدة بالأخلاق، والأخلاق بالعقيدة في حياة الناس، وبخاصة الدعاة منهم، وطلبة العلم نقف الوقفات التالية.

الوقفة الأولى:
من المعلوم أننا عندما نتحدث عن منهج السلف- رحمهم الله - تعالى- فإنا لا
نعني بذلك علمًا نظريًّا مجردًا في الذهن، وتصديقًا مجردًا في القلب، كلا
فلم يكن هذا منهجهم، وإنَّما كان عقيدةً وعبادةً وأخلاقًا وسلوكًا.


وإنَّ
المتأمل في حياتنا معشر أهل السنة ـ في هذه العصور المتأخرة ـ يلاحظ بونًا
شاسعًا، وانفصالاً كبيرًا ـ ما بين مُكثرٍ ومقلٍ في ذلك ـ بين الجانب
العلمي النظري، والجانب السلوكي الأخلاقي؛ حيث أصبح من المعتاد أن يرى
الإنسان أحيانًا من نفسه، أو من بعض إخوانه من الدعاة بُعدًا في الجانب
الخلقي عن أخلاق السلف وسلوكهم.


فمن
اللازم إذاً عند طرح منهج السلف، والدعوة إليه، أن يطرح شاملاً لمعتقدهم
وفقههم، ولسلوكهم وأخلاقهم؛ فكما أنَّهُ لا يقبل من أحدٍ أن يلتزم بأخلاق
السلف ويترك معتقدهم، فكذلك لا يسوغ فهم معتقدهم دون الالتزام بسلوكهم
وأخلاقهم.


ولو أننا رجعنا إلى سيرةِ سلفنا
الصالح، لوجدناها خيرَ مثالٍ لهذا المنهج المتكامل. فإذا ما تم لنا إدراكُ
هذا الأمر والالتزام به، فسوف تختفي من حياتنا ـ بإذن الله - تعالى -ـ تلك
الصور والمواقف المتناقضة.


نعم سوف لن
نجد شخصًا على عقيدة السلف في توحيد الألوهية، والأسماء والصفات، ومحاربة
البدع، ثُمَّ هو في نفس الوقت يخالفُ سلوكهم، باقترافه للظلم والكذب،
والغيبة والحقد، والشحناء واتباع الأهواء.


وبعبارةٍ أُخرى، فإنَّ تطبيق هذا المنهج كاملاً، كفيلٌ بإزالة هذه الازدواجية التي نعاني منها.

الوقفة الثانية:
إنه لا شيء يضبط السلوك، ويزكي النفوس، ويأطرُ النفس على محاسن الأخلاق
وترك سيئها، غير توحيد الله - عز وجل -، والخوف منه - سبحانه -، ورجاءَ
ثوابه ومراقبته في السر والعلن، والشعورُ باطلاعهِ - عز وجل - على خفايا
القلوب، ومنحنيات الدروب، وهذا كلهُ لا يتأتى إلاَّ بالتربية على التوحيد،
ومعرفة أسماء الله - عز وجل - وصفاته، ومقتضياتها والتعبد له - سبحانه -
بها، مما يكونُ له الأثر في ظهور آثارها على أخلاق العبد وسلوكه.


وإذا
لم يوجد هذا الشعور، وهذه التربية على العقيدة، فإنَّهُ لا تنفع أي محاولة
مهما كانت في تهذيب سلوك الناس، مهما وضع من النظمِ والقوانين والعقوبات،
فغاية ما فيها ضبط سلوك الفرد أمام الناس، فإذا غاب عن أعينهم ضاعت
الأخلاق، واضطربت القيم،


ومثالٌ آخر:
قرأته في بعض الكتب، وحُزَّ في نفسي، أسرةٌ من زوج وزوجة وابن لهما، وكانت
المرأة قبل إقلاع الطائرة من بلدها محتشمة متسترة، قد غطت وجهها وشعرها
وسائر جسدها بخمارٍ وعباءة، ولكنها ويا للأسف ما إن أقلعت الطائرة، واستوت
في الفضاء، حتى لفت تلك العباءة ونزعت ذلك الخمار، ودستهما في حقيبتها
اليدوية، ثم أصبحت سافرة الرأس والشعر والوجه!! ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم .



فعلى
أي شيءٍ يدل هذا ؟ إنَّهُ والله يدل على رقـةِ الدين، وضعف العقيدة،
وبالتالي ضعفت الأخلاق أو ضاعت؛ إذ لو كانـت العقيدة والخوف من الله - عز
وجل - في القلوب، لما تغير السلوك بمجـرد تغـير البـيئة، وزوال الرقيـب من
الناس، ولكنَّهـا العادات والتقاليد المنبتة عن العقيدة، والتي لا تنشئ
إلاَّ النفاق والتربية المشـوهـة، والازدواجية الكـريهـة.


ومن
خلال هذين المثالين، يتبن لنا أهمية التربية على العقيدة، حيث إنَّها
الأصل في صلاح النفوس والأخلاق، وبدونها تفسد الأخلاق والقيم، ولو صلحت بعض
الأخلاق بدوافع أخرى غير العقيدة، كالعادات ورقابة القانون، أو المصالح
النفعية، فإنها لا تدوم بل تزول بزوال المصلحة أو الرقيب.


ويحسن
بنا في هذه الوقفة، تنبيه المخدوعين من أبناء المسلمين، الذين انخدعوا
ببعض الأخلاق النفعية، التي يجدونها عند الكفار في ديارهم، كالصدق في
المواعيد والأمانة والوفاء بالعقود، إلى أنَّ هذه الأخلاق لم يكن دافعها
الخوف من الله - عز وجل -، ورجاء ثوابه في الدنيا والآخرة، وإنَّما هي
أخلاق نفعية مؤقتة، يريدون منها مصالحهم الخاصة، والدعاية لهم ولشركاتهم،
ولذلك فإنَّها لا تدومُ معهم، وإنما تدور معهم حسب مصالحهم، بدليل أنَّ هذه
الأخلاق تنعدم ويحل محلها الأخلاق السيئة من الكذب والخداع، إذا كانت
مصالحهم تقتضي ذلك.


أما المسلم المتربي على العقيدة الربانية، فأخلاقه ثابتة معه في ليله ونهاره، في سره وعلانيته، في سرائه وضرائه.

ومن هُنا تأتي أهمية التربية على العقيدة، في استنبات الأخلاق الفاضلة الثابتة.



الوقفة الثالثة:

تبين
لنا في الوقفة السابقة أثر العقيدة في بناء الأخلاق الصالحة، وتجنب
مساوئها، وفي هذه الوقفة سنتعرفُ على العكس، من ذلك ألا وهو أثر الأخلاق
على العقيدة سلبًا وإيجابًا.


إن التوحيد كما سبق أن ذكر الإمام ابن القيم- رحمه الله - تعالى-: ((ألطف شيءٍ وأنزهه، وأنظفهُ وأصفاه، فأيُّ شيءٍ يخدشهُ ويدنسه ويؤثر فيه)).

ومعنى
هذا أنَّ الأخلاق السيئة والمعاصي تشوش التوحيد، وتضعف صفاءه، وكلما كثرت
المعاصي والأخلاق السيئة، وتراكمت على القلب دون توبة، فإنَّ صفاء التوحيد
يتكدرُ، بل يظلم وينطمس في النهاية- والعياذ بالله تعالى- والعكس من ذلك،
فإن الإتيان بمحاسن الأخلاق، وتجنب مساوئها، يزيد من صفاء التوحيد وبهائه
وكماله.


ويوضحُ هذا المعنى، الحديث الذي رواه حذيفة ? في الفتن، حيثُ يقول الرسول :
((تعرض الفتن على القلوب كا عرض الحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أشربها
نُكِتَ فيه نكتة سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على
قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض،
والآخر أسود مربادًّا كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا
إلا ما أُشْرِبَ من هواه... الحديث)) [4].
وإذا
أردنا أن نتبين خطورةَ الأخلاق السيئة، واستمرائها على العقيدة، فلننظر
إلى أولئك الذين وقعوا في الأخلاق السيئة، وأصروا عليها، سواء كان ذلك
بألسنتهم، كالغيبة والنميمة، والكذب والفحش، أو بأبصارهم، كالنظر إلى ما
حرم الله - عز وجل - من النساء الأجنبيات، أو صورهنَّ الماجنة في مجلةٍ أو
تلفاز، أو بأسماعهم كسماع المعازف والكلام الفاحش،... إلخ، حيثُ نرى أن
الحال تصل بهؤلاء إلى حد الاستئناس بهذه المنكرات، وإلفها وعدم إنكارها،
وهذا بدوره قد يُؤدي- والعياذ بالله- إلى الرضى بها وإقرارها، وهُنا مكمن
الخطر، إذ لو كانت هذه المساوئ الخلقية تقارف، وفي النفس كرهها وعدم الرضى
بها، لكان الأمر أهون، إذ يرجى لصاحبها التوبة والإقلاع، أما إذا تحول
الأمر إلى إلفها والرضى بها، فقد يكون هذا ضربًا من الاستحلال الذي يقدح في
أصل التوحيد والعقيدة، ومن هُنا يظهر أثر الأخلاق الذميمة، وفعل السيئات
على العقيدة، عندما تستمر أ ويداوم على فعلها من غير وازعٍ ولا واعظ، وقد
ينتهي الأمرُ بصاحبها إلى الاستهزاء بالواعظين، وعدم الاكتراث بوعظهم، كما
قال المستكبرون من قومِ هود: ((سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ)) (الشعراء: 136).


وكما قال إخوانهم في الغي من قوم شعيب: ((قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ)) (هود: 91).

وبهذا
يظهرُ لنا خطورة الأخلاق السيئة على العقيدة، وأنَّ الأمـرَ لا يتوقفُ في
كون الأخلاق السيئة معصية فحسب، بل قد يـؤدي في النهاية إلى الرضى بها، أو
استحلالها، وذلك حـينما يداومُ عليهـا من غـير واعظٍ ولا وازع، ولقد وجد من
المسلمين الذين ألفوا النظر إلى الصور المحرمة، والفتنة بالمجلات الماجنة،
عنـدما وجـهت له النصـيحة بإبعادها عن نفسه وأهله، قال: إيش فيها- وما علم
المسـكين أنه أتى بكلمة شنيعة، يحسبها هينة وهي عند الله عظيمة، لأنَّها
كلمة تقرب من الاسـتحلال، والاستحلال يهدمُ أصل العقيدة، وما ذاك إلاَّ من
الإدمان والإصرار على هذه السيئات، الذي أورث في النفس حبها وحب من يسهل
أمرها، وبغض من يصده عنها أو يصدها عنه- والعـياذ بالله تعالى-، فهل يبقى
بعد ذلك من شكٍ في أثر الأخـلاق السـيئة على العـقيـدة؟ أما أثر الأعمال
الصالحة، ومحاسنُ الأخلاق على زكاءِِ العقيدة، وقوة الإيمان والهداية،
فالأدلة على ذلك من كتاب الله - عز وجل -، ومن واقع أحوالِ الناس كثيرةً
ومتضافرة، ويكفي في ذلك قوله - تعالى -: ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)) (محمد: 17).


وقوله - تعالى -: ((إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))
(لأنفال: 2).


ومن
ذلك حديث حذيفة السابق ذكره، حيث مرَّ فيه أن القلب الذي ينكرُ المنكر،
ويرفض مساوئ الأخلاق، يزداد بذلك صفاءً وقوةً وثباتًا أمام الفتن، والعكس
من ذلك القلب الذي يقبلها ويشربها.


ومن
خلال الأدلةِ المتضافرة في الكتاب والسنة، أصلُ أهل السنة، أصولهم الثابتة
في أبواب الإيمان، وقالوا: هو قولٌ وعملٌ يزيدُ بالطاعة، وينقصُ بالمعصية.

والله المستعان