آداب طالب العلم لفضيلة الشيخ ابي اسحاق الحويني حفظه الله آداب طالب العلم لفضيلة الشيخ ابي اسحاق الحويني حفظه الله آداب طالب العلم لفضيلة الشيخ ابي اسحاق الحويني حفظه الله
آداب طالب العلم لفضيلة الشيخ ابي اسحاق الحويني حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
آداب طالب العلم [1-2]
العلم هو ميراث الأنبياء، لذلك كان طلبه والاشتغال به من أعظم أنواع العبادة وكفى به شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو واقع فيه لذلك كان بد على طالب العلم أن يتحلى بآدابه، وأن يجتنب كل ما يقدح فيه حال طلبه للعلم.
فضل العلم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها الإخوة الكرام! درسنا في أمور تتعلق بطلب العلم، وهي نبذٌ مختصرة، وإلا فالأمر طويل جداً، لكن السعيد ينفعه القليل، والمكابر لا ينفعه الكثير.
أذكر بين يدي هذه المحاضرة أبياتاً أشرحها، وهذان البيتان نظمهما أحد العلماء نصيحة لطالب العلم؛ فقال: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان هذه الستة الأمور هي عماد طالب العلم، ومن أهدر واحدة منها كان الخلل في بنيانه بقدر ما أهدر، وهي مراتب متفاوتة بعضها أعلى من بعض، ولا يستقيم بنيان طالب العلم إلا بها جميعاً.
والعلم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه) .
فإنك إذا قلت لرجل جاهل: يا جاهل! احمرّ أنفه من الغيظ؛ لأن الجهل عار وشنار، فالكل يتبرأ منه، ولو قلت له: يا عالم، لاغتبط؛ لأن العلم شرف؛ وكم من ضعيف متضعِّف أعزه الله بالعلم! كان الأعمش رحمه الله يقول: (والله لو كنت بقالاً لاستقذرتموني) ؛ لأنه كان عنده عمش في عينيه، فلو كان بقالاً لاستقذره الناس، فرفعه الله بالعلم، وكان طلبة العلم يتهافتون عليه مع الإهانة الكبيرة التي كان يتعمد أن يفعلها بهم.
فالمقصود: أن العلم يرفع صاحبه، وهذا شيءٌ ذاتيٌ في العلم، وأشرف العلم هو: معرفة الله ورسوله، ومعرفة ما افترضه الله عز وجل على العباد، وهو العلم الشرعي.
صفات وآداب طالب العلم
أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان
طول الزمان
قوله: (وطول زمان) ، وهذا إشارة إلى أن المرء إذا طال عمره في العلم كان أقوى في الفتوى، فما أعجب اعتراض بعض طلاب العلم على المشايخ وهو ليس له في طلب العلم إلا سنة واحدة! نسأل الله السلامة! عمره سنة واحده في طلب العلم ومع ذلك ما ترك أحداً إلا وقال: أخطأ فلان وفلان وأنا أعرف طالباً في الجامعة كتب كتاباً يحكم فيه بين المتنازعين في الحديث، عالمان من العلماء الكبار متنازعان في تصحيح حديث.
قال: فلما رأيت الشيخين الجليلين اختلفا أحببت أن أفصل بينهما.
أهذا من الأدب؟ طالب يفصل النزاع بين البخاري ومسلم إن طول العمر يكسب الملكة في الاستنباط، وهي لا توجد في الكتب ولا تدرس، بل تحتاج إلى عمق وممارسة.
مثلاً: مسألة الجمع بين الصلاتين في الحضر، ورد فيها هذا حديث صحيح وهو من حديث ابن عباس في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جمعاً في الحضر من غير سفر ولا مطر، فسئل ابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: لئلا يحرج أمته) ، مع أن الأصل أن الصلاة تقام في وقتها: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] ، لكن هذا الجمع في الحضر يحتاج إليه بعض الناس، كدكتور سيعمل عملية تستمر ست ساعات، وفتح بطن المريض قبل الظهر بساعة، فسيأخذ ست ساعات، بمعنى أن الظهر سيضيع عليه، فلو قلنا له: اترك المريض واذهب إلى الصلاة؛ لن يرجع إلا وقد مات المريض.
لكن نقول له: لك رخصة في جمع التأخير، فاعمل العملية وأخر الظهر إلى وقت العصر لماذا؟ لأن هذا فيه حرج، فترك المريض وبطنه مفتوحة حرج شديد.
كذلك مثلاً: إذا كان المريض أباً أو أماً أو أخاً، وهناك ضرورة ملحة لأن تقف بجانبه، فيجوز لك أن تترك صلاة الجماعة، وتجمع بين الصلوات، لكن إذا أتى رجل وقال: هل يمكن لي أن أجمع بين الصلاتين، وليس عنده عذر، وأجزت له؛ فسوف يتخذ هذا الحديث ذريعةً لإهماله، ويجمع الظهر مع العصر، ويقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجمع بين الظهر والعصر.
فالواجب عليك لمثل هذا الصنف من الناس ألا تعطيه الفتوى بالجواز.
وهذا مثال آخر يبين أن الملكة لا تأتي إلا بالممارسة: أبو حاتم الرازي رحمه الله، مر عليه حديث رواه الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن زيد بن عبد الله، فقال أبو حاتم: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش.
لقد أصبح يسمع الحديث فيعرف راويه، كما يتذوق أحدنا في بيته الأكل فيميز بين الجيد والرديء، فأصبحت هذه الأحاديث عند أبي أبي حاتم من كثرة الدربة والممارسة لها علامة خاصة، فأول ما يسمع بحديث للأعمش يقول: هكذا أحاديث الأعمش رجل له ملكة، وهنا قال: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش، هذا يشبه أحاديث عمرو بن الحصين - وعمرو بن الحصين متروك، كذبه بعض العلماء- قال أبو حاتم: ثم رحلت إلى بلد كذا وكذا وإذا بي أجد الحديث عن الأعمش عن عمرو بن الحصين عن أبي سفيان عن جابر، قد دلسه الأعمش فأسقط عمرو بن الحصين.
ما الذي عَّرف أبا حاتم أنه من حديث عمرو بن الحصين؟! لأن أحاديث عمرو بن الحصين لها مذاق خاص عند أبي حاتم الرازي.
وهذا يحصل بالدربة، ولممارسة، وبكثرة النظر.
(وطول زمان) إشارة إلى أن العلم لا يذلل لصاحبه إلا بطول الزمان.
وكم من مسائل كنت أتشبث بها وأظنها هي عين الصواب، فتبين لي فيما بعد أنها عين الخطأ.
صور من تأديب العلماء لطلابهم
فـ الأعمش -سليمان بن مهران- رحمه الله، كان يقول: (لو كنت بقالاً لاستقذرتموني) ، وهو أشهر من أذل علماء الحديث، كان كلما يأتي إليه طالب ويقول له: حدثني حديثاً، يأبى عليه.
وفي ذات مرة خرج في جنازة، فعلم أحد طلاب الحديث بخروجه، فتبعه وأخذ بيده وقال له: أصحبك يا أبا محمد! وهم يمشون في الجنازة، فأخذ الطالب ينحرف به عن الطريق حتى وصل به إلى مكان خالٍ من الناس.
فقال: يا أبا محمد! أتدري أين أنت؟ قال له: لا.
قال: أنت في جبانة كذا وكذا، ووالله لا أردك إلى البلد حتى تملأ ألواحي حديثاً.
فحدثه حتى ملأ الواحة، وعاد به إلى البلد، وفي الطريق أعطى هذا الطالب الألواح لزميل له، ومضى مع الشيخ ليرده إلى البلد، فلما سمع الأعمش الأصوات عرف أنه في البلد، فأمسك الطالب وجعل يصرخ: أخذ مني الألواح، فقال له الطالب: لقد أعطيتها فلاناً، فقال الأعمش: كل ما حدثتك كذب، فقال: أنت أعلم بالله من أن تكذب.
فإذا أتى طالب العلم إلى حلقة العلم وهو رافع أنفه لأنه فلان ابن فلان؛ فإنه لا يصلح لطلب العلم، ولأجل ذلك كان الشيخ يقسو عليه ويكسر داعي الكبر فيه.
ولله در مجاهد بن جبر حين قال: (لا يتعلم اثنان: مستحٍ ومتكبر) ، فالمستحي يحمله الحياء أن يظهر بمظهر طلاب العلم، والمستكبر: يرى أن هذا العمل لا يناسبه، فهو ابن فلان أو ابن علان، ولذلك لا يتعلم إلا من كُسر فيه داعي الكبر.
وجاء رجل إلى الأعمش، فقال: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ الأعمش بحلقه وأسنده إلى الحائط وقال: هذا إسناده.
وجاء رجل من الغرباء إلى حلقة الأعمش، وكان الأعمش لا يحب أن يجلس أمامه أحد، فجاء والمجلس ممتلئ ولا يوجد مكان إلا بجانب الأعمش، فقعد بجانبه، فكان الأعمش يقول: حدثنا فلان، ويبصق عليه، فصبر الطالب على هذا البصاق حتى انتهى المجلس.
ومما يروى في شدة الأعمش مع تلاميذه: أنه عندما أكثروا عليه، وكل يوم يأتون إلى منزله، اشترى كلباً، وكان الكلب عندما يسمع أقدام المحدثين يلحق بهم، فيهربون، وفي ذات مرة كان هناك ثلاثة تلاميذ وهم: أبو إسحاق السبيعي، وشعبة، وسفيان الثوري، فذهبوا إلى بيت الأعمش، وكانوا كلما أتوا إليه خرج عليهم الكلب، فيفرون ويرجعون مرة أخرى، فذات يوم اقتربوا من البيت بحذر خشية أن يخرج عليهم الكلب، وكانوا كلما اقتربوا لا يسمعون حسيساً للكلب، حتى وصلوا الدار ولم يخرج الكلب، فدخلوا على الأعمش، فلما أحس بهم بكى، فقالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟!! قال: لقد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أي: الكلب.
وهل كان الأعمش شحيحاً بحديثه؟ لا.
بل كان الأعمش من أكثر الناس حديثاً، وحديثه منتشر ومبثوث في الكتب.
لكن لم هذه الشدة؟ لتأديب طلبة العلم، وقد ورث عنه هذه الشدة تلميذه: أبو بكر بن عياش، فقد كان شديداً، فجاءه تلاميذه يوماً فقالوا: يا أبا بكر! حدثنا بحديث، فقال: ولا بنصف حديث، فقالوا له: رضينا منك بنصف حديث، فقال: اختاروا السند أو المتن؟ والسند: هو سلسلة الرجال، وسمي سنداً لأن كل راوٍ يسند ما سمعه إلى شيخه، وهذا يسنده إلى شيخه.
وهكذا، فقيل: مسند، أو قيل: سند، والمتن: هو الكلام نفسه، فقال لهم: اختاروا السند أو المتن؟ فقالوا: يا أبا بكر! أنت عندنا إسناد، فأعطنا المتن، فقال: (كان إبراهيم يدحرج الدلو) .
فقال الخطيب البغدادي: انظر إليه! شح عنهم بما ينفعهم.
ومع ذلك كانوا يتهافتون عليه.
والإمام يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل (أكبر موسوعة للرواة) أتى إليه رجل مستعجل، وقال له: حدثني بحديث أذكرك به.
فقال له: (اذكرني إذ طلبت مني فلم أفعل) .
أي: إذا كنت تريد أي شيء للذكرى، فاذكر رفضي تحديثك، وأبى أن يحدثه.
وعلماء الحديث كانوا يفعلون هذا تأديباً لطالب العلم.
وهذا أبو يوسف كان معه حلقة تضم بعض طلبة العلم، وذلك في حياة أبي حنيفة، فبعث أبو حنيفة أحد تلامذته وأمره أن يسأل أبا يوسف بها، فحضر حلقته وبدأ يسأل، فسأل السؤال الأول فأجاب أبو يوسف، فقال السائل: أخطأت، وكذا في السؤال الثاني والثالث.
فقال أبو يوسف: والله ليس هذا من قولك، هذا من قول أبي حنيفة، ومعنى ذلك أنه وصلت أبا يوسف الرسالة التي أرسلها أبو حنيفة، فكأنه قال له: لست شيخاً، ولا تصلح أن تكون شيخاً الآن، فرجع أبو يوسف فلزم مجلس أبي حنيفة إلى أن مات.
وكذلك ما يروى عن الإمام الشافعي أنه عندما ذهب يتعلم ويأخذ العلم عن محمد بن الحسن الشيباني -والإمام الشافعي أرفع قدراً في العلم وأتبع للآثار من محمد بن الحسن، مع جلالة الكل رحمة الله عليهم- فذهب الشافعي إلى محمد بن الحسن الشيباني وجلس في مجلسه كالتلميذ، وكان لا يعجبه بعض ما يفتي به محمد بن الحسن، فكان لا يواجه محمد بن الحسن في المجلس، ويقول له: أنت أخطأت، لكن كان الشافعي بعدما يقوم محمد بن الحسن من المجلس يقوم ويناظر بعض طلابه فيظفر عليهم، ولا يستطيعون الإجابة، فلما أكثر الشافعي عليهم شكوه إلى محمد بن الحسن، وقالوا له: عندما تقوم من هنا يأتي والشافعي فيلزمنا بإلزامات لا نستطيع أن نرد عليه، فلما جاء محمد بن الحسن وجلس في المجلس قال للشافعي: بلغني أنك تجادل أصحابي وتناظرهم، فهلا ناظرتني، فقال له الشافعي: إني أجلك عن المناظرة.
يتبع