السترعلى العصاة !!
الحمد لله وحده، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد
فإن من الصفات الحميدة والتي ضَيَّعها الكثيرُ من المسلمين إلا من رحم الله ستَرَ عَوَرَات الناس والأخذ بأيدي هؤلاء الذين يعملون السيئات إلى الله تعالى، ليتوبوا من قريب بدلاً من هتك عوراتهم وكشف عيوبهم وإعانة الشيطان عليهم
والستر من رحمة الله لعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم، كما صان دماءهم وأموالهم،وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه. (تفسير السعدي).والسترلعله يكون من أقوى الدوافع على التوبة والإقلاع عن المعصية،
واجب العاصي نحو نفسه
يجب على كل مسلم أن يتقي الله في
نفسه وفي أهل بيته، وفي أمواله وفي الناس جميعًا، وأن يتجنب معصيته، فإذا
تغلب عليه شيطانه وأوقعه في معصية وجب عليه أن يستر نفسه بستر الله ولا يفضح نفسه بين الناس، وأن يتوب إلى الله من قريب
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال «كل أُمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجلُ بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» البخاري ، ومسلم
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله، إني عاجلت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها دون أن أمَسَّها، فأنا هذا، فاقض فيَّ ما شئت فقال عمر بن الخطاب لقد سترك الله،
لو سترت نفسك فأتْبعهُ النبي رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية وَأَقِمِ
الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ هود ،
فقال رجل من القوم يا نبي الله، هذا له خاصة، قال «بل للناس كافة» البخاري ، ومسلم
خطورة الجهر بالمعاصي
قال ابن بطال في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله
وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، في الستر بها السلامة من
الاستخفاف، لأن المعاصي تذل أهلها، من إقامة الحد عليهم إن كان فيه حد، ومن
التعزيز إن لم يُوجب حدًا وإذا تمحص حق الله، فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة والذي يجاهر يفوته ذلك .
والحديث مصرح بذم من جاهر بالمعصية فيستلزم مدح من يستتر (مفهوم المخالفة)، وأيضًافإن ستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه، فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بهاأغضب ربه فلم يستره، ومن قصد التستر بها حياء من ربه ومن الناس منَّ الله عليهبستره إياه. [فتح الباري].
الله يحب ستر عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة
قال تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً لقمان )
قال الضحاك بن مزاحم أما الظاهرة فالإسلام والقرآن، وأما الباطنة فما ستر من العيوب( الدر المنثور )
الستير من صفات الله تعالى
عن يعلى بن أمية أن رسول الله رأى رجلاً يغتسل بالبَراز بلا إزار، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال «إن الله عز وجل حيي سِتِّير، يحب الحياء والسّتر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر» صحيح أبي داود
قال ابن الأثير سَتِّير فعيل بمعنى فاعل أي من شأنه وإرادته حُبُّ الستر والصون النهاية
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال «إن الله يُدْني
المؤمن، فيضع عليه كَنَفَهُ ستره وعفوه ويستره، فيقول أتعرف ذنب كذا،
أتعرف ذنب كذا، فيقول نعم أي ربِّ، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى نفسه أنه هلك،
قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته،
وأما الكافر فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين»
البخاري ، ومسلم
النبي يأمرنا بالستر على العصاة
قال
تعالى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )التوبة
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال «لا يستر عبدٌ عبدًا في الدنيا، إلا ستره الله يوم القيامة» مسلم
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربة فرَّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» البخاري ، ومسلم
وعن أبي بَرْزة الأسلمي أن رسول الله قال «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبهُ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عَوراتهم يتبعُ الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» صحيح أبي داود
وعن معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله قال «إنك إن اتَّبعتَ عَوْرات الناس أفسدتُهم أو كدت أن تفسدهم»
فقال أبو الدرداء كلمة سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله بها
وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال وحوله عِصابةٌ جماعة من أصحابه «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا
ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتون ببهتان تفترونه بين
أيديكم وأرجُلكُم ولا تعصوا في معروف، فمن وفَّى منكم فأمره إلى الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعُوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك» البخاري ، ومسلم
أقسام الناس في المعاصي
إن الناس في ارتكاب المعاصي على قسمين
جامع العلوم والحكم ،
القسم الثاني من كان مشتهرًا بالمعاصي، معلنًا بها ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجر المعلن، ليس له غيبة كما نص على ذلك
الحسن البصري ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود، ومثل هذا
لا يُشفع له إذا أُخذ ولم يَبْلغ السلطان، بل يُترك حتى يقام عليه الحد
لينكشف شره ويرتدع به أمثاله قال الإمام مالك بن أنس من لم يُعِرفُ منه أذى
للناس وإنما كانت منه زلة، فلا بأس أن يشفع له ما لم يَبْلغُ الإمام، وأما
من عُرف بشر أو فساد فلا أحبُ أن يشفع له أحد ولكن يُترك حتى يُقام عليه
الحد(جامع العلوم والحكم )،
فائدة هامة قال ابن حجر ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته، جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به (فتح الباري )
النبي صلى الله عليه وسلم وستر عورات العصاة
كان رسول الله إذا
أخطأ أحد من الصحابة أو وقعت منه زلة لا يفضحه أمام الناس، ولكنه يجمع
الناس ليحذرهم الوقوع في نفس الخطأ، فيقول «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا»
دون أن يصرح بأسمائهم
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم»، فاشتد قوله في ذلك حتى قال «لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» البخاري
وعن أبي حميد الساعدي قال استعمل النبي رجلاً من بني أسد يُقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال هذا لكم وهذا أُهْدي لي، فقام النبي على المنبر، فحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال «ما بالُ العامل نبعثه فيأتي فيقول هذا لك وهذا لي، فهلا جلس
في بيت أبيه وأمه فينظر أُهدي له أم لا» البخاري ، ومسلم
أمثلة لستر العصاة
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي لأحببت أن أستره عليه(مصنف عبد الرزاق )
عمار بن ياسر رضي الله عنه يأخذ سارقًا، ثم يَدْعَهُ ويقول استره لعل الله يسترني مصنف عبد الرزاق
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يلقى سارقًا فيزوده ويرسله
( مصنف عبد الرزاق )
وقيل لابن مسعودرضي الله عنه: هذا فلان تقطر لحيته خمرًا، فقال عبد الله: إنَّا قد نهينا عنالتجسس، ولكن إن يظهر لنا شيءٌ نأخذ به
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أشرف على داره بالكوفة، فإذا هي قد غصت بالناس، فقال من جاء يستفتينا فليجلس نفتيه إن شاء الله، ومن جاء يخاصم فليقعد حتى نقضي بينه وبين خصمه إن شاء الله، ومن جاء يريد أن يطلعنا على عورة قد سترها الله عليه، فليستتر بستر الله وليقبل عافيته وليُسرر توبته إلى الذي يملك مغفرتها فإنا لا نملك مغفرتها ولكن نقيم عليه حدها ونمسك عليه بعارها
(مصنف عبد الرزاق )
عن أنس بن مالك رضي الله عنه
عن صالح بن كرز أنه جاء بجارية له زنت إلى الحكم بن أيوب قال فبينا أنا
جالس إذ جاء أنس بن مالك، فجلس فقال يا صالح، ما هذه الجارية التي معك ؟
قلت جارية لي بغت فأردت أن أرفعها إلى الإمام ليقيم عليها الحدَّ فقال لا
تفعل، ردَّ جاريتك واتق الله واستر عليها قلت ما أنا بفاعل قال لا تفعل وأطعني فلم يزل يراجعني حتى رددتُها مصنف عبد الرزاق
قال مِسْعَرُ بن كدام رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي في ستر بيني وبينه، فإن النصيحة في الملأ تقريع بهجة المجالس – (لابن عبد البر )
قال
بعض السلف أدركت أقوامًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس، فذكر الناس
عيوبًا لهم، وأدركت أقوامًا كانت لهم عيوب فكفوا عن عيوب الناس ونُسيت
عُيُوبُهم (جامع العلوم والحكم )
قال
الوزير الصالح لأحد الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام وأولى
الأمور ستر العيوب (جامع العلوم والحكم )
روى وكيع بن الجراح بسنده أن شُرحبيل بن السِّمْطِ كان على جيش
فقال إنكم نزلتم أرضًا فيها نساءٌ وشراب، فمن أصاب منكم حدًا فليأتنا حتى
نطهره، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فكتب إليه «لا أم لك تأمر قومًا ستر الله عليهم أن يهتكوا ستر الله عليهم» (الزهد لوكيع )
قال عوف الأحمسي كان يُقال من سمع بفاحشة فأفشاها كان فيها كالذي بدأها (الزهد لوكيع )
ستر عيوب العلماء وولاة الأمور
إذا
كان الواجب عليه ستر عيوب عامة الناس الذين لا يجاهرون بالمعاصي، فإن
العلماء وولاة الأمور أولى الناس بستر العيوب ؛ لأن كشف عوراتهم يزيل
هيبتهم من صدور الناس فيحدث في الناس والبلاد من الفساد ما لا تحمد عقباه،
فالناس لا يقبلون من أهل العلم فتوى ولا نصيحة
روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» صحيح أبي داود
معنى
الحديث أي اعفوا عن أصحاب المروءات والخصال الحميدة وذي الوجوه من الناس
الذين لا يجاهرون بالمعاصي ولكن تقع منهم بعض الزلات (عون المعبود )
نصيحة العلماء وولاة الأمور تكون سرًا
عن عياض بن غَنْم أن رسول الله قال
«مَن أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يُبْد له علانية، ولكن ليأخذ بيده
فيخلو به، فإذا قبل منه فذاك، وإلا قد أدى الذي عليه له» حديث حسن لغيره
مسند أحمد
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
منقول