ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة وفواضل
ومن الأحداث التي كانت في طفولة نبينا محمد r :رعيه الغنم:
روى البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن النبي r قال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة».قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي
الغنم قبل النبوة: أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام
بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة، لأنهم إذا صبروا
على رعيها، وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع
عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها
واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف
طباعها، وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد
لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة،
لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك: لكونها أضعف
من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل
والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع
انقيادا من غيرها، وفي ذكر النبي r
لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع
لربه والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه
وعلى سائر الأنبياء" ([34]).وهكذا يمضي سيد الخلق r
هذه الطفولة .... بين أرجاء مكة وأنحائها، ولم تزل مكانته بين قومه تزداد
سموا وعزا.... لما رأوا فيه من الطهر والزكاء والنبل والوفاء، لقد عرفوه حق
المعرفة... عرفوا نسبه وشرفه وصدقه وأمانته وعفته، هكذا نشأ بينهم معروفا
بذلك كله، ولم يحفظوا عنه كذبة قط، ولهذا سأل هرقل ملك الروم عن هذه
الأوصاف، فعلم أنه ما كان ليدع الكذب على الناس ثم يفتري الكذب على الله عز
وجل، وعلم بذلك صدقه فيما جاء به من النبوة والرسالة.ولا غرو في ذلك..... فإن الله كان يهيئه لأعظم رسالة وأشرف مكانة: }وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى *
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى{([35]).
وتتتابع الأيام وتمضي الشهور والأعوام والنبي r
يزداد شرفا ورفعة ومكانة بين أهل مكة، فلدى تدرجه في مراحل عمره.... ما
بعد الطفولة وفي صباه وفي شبابه .... وما بعد ذلك.... لم يعرفوا عنه r
أي أمر يشينه .... فسرته تتوهج نبلا وطهرا وزكاء.... كانت مكة ترتجس
بأنواع الملاهي وغوائل العقل والعرض، وطالب هذه الأمور لا نكير عليه ولا
مانع له، لكنه r لم يحفظ عنه في يوم من الدهر أنه تعاطى أي أمر مما يبغضه الله من تلك الملاهي المحرمة والأفعال المنكرة.واستمر ذلك الطهر والزكاء في سيرة المعصوم r ، وحفظه الله من مزالق الطبع الإنساني برغم ما كانت ترتجس به مكة آنذاك من أمور منكرة، أما أهل مكة فكانوا لا يدانون به r أحدا منهم ولا من غيرهم في طهره وأمانته وزكائه، فبات نبينا r
ملء سمع قريش وأبصارها، فلا تعرفه ولا تدعوه إلا بالأمين.... حتى أكرمه
الله بالنبوة وابتعثه بالرسالة الخاتمة. فتضاعفت فيه تلك الأخلاق الكريمة
وتزايدت الخلال النبيلة بما أوحى الله إليه من الشرع المطهر علاوة على
الفطرة المستقيمة التي فطر الله عليها نبيه محمدا r .نسأل الله أن يوفقنا لمتابعته وسلوك هديه، وأن يحشرنا يوم القيامة في زمرته. آمين.
* * *
مراضع المصطفى r وحواضنه
تاريخ وذكريات
كان من عادة العرب ـ ومنها قريش ـ أن تسترضع صغارها في البوادي، ليكون ذلك أوفق لهم في أبدانهم وألسنتهم.
وها
هو وفد نساء هوازن وقد أتين من بادية بني سعد يُيَمِّمن وجوههن نحو حاضرة
قريش علهن يحظين بصبي أو جارية يدخل عليهن من خلاله مال يزحزح عنهن شبح
الفاقة والعيلة.
ولما كان سيد البشر نبينا محمد r
حينذاك يتيما لا يُرجى له أب يغدق النوال والعطاء، فقد أعرض عنه المراضع،
لتتوجه منحة ربنا وكرامته إلى سيدة كريمة ومرضع جليلة .... إنها: حليمة بنت
أبي ذؤيب السعدية... فأسعدها ربها بخير البرية محمد r .فقد أكرم الله تعالى هذه المرأة بأن تتولى رضاع النبي r وحضانته لمدة تربو عن أربع سنين.وخبر إرضاع حليمة للنبي r
في ديار قومها في بادية بني سعد بالطائف خبر شهير مستفيض في كتب السيرة
وفي غيرها، وقد قال بصحته عدد من العلماء الحفاظ كابن كثير والذهبي وابن
حجر ـ رحمهم الله ـ وغيرهم.وقد أورد الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ في قسم السيرة من "تاريخ الإسلام" ([36]) خبرا مطولا رواه بعض أهل السير عن حليمة السعدية ـ وجود إسناده ـ تخبر فيه عما لاحظته إبان إرضاعها له مما يدل على بركته r ، وعناية الله به وحفظه له.
فما أن حل عليها محمد بن عبد الله r ، حتى در ثديها اللبن، فارتوى منه عليه الصلاة والسلام وارتوى ابنها الذي كانت تحمله ([37])، بعد أن كان يبكي من الجوع لجفاف ثدي أمه، وكان ابنها من شدة ما فيه من الجوع من قبل يبكي حتى لا يدع أحدا ينام، وببركة المصطفى r
وهو رضيع امتلأ ضرع راحلة حليمة باللبن بعد أن كان يابسا، فشبعت هي وزوجها
من لبن الراحلة، وأضحت نشيطة قوية، تسير في مقدمة الركب بعد أن كانت عاجزة
تسير في مؤخرة الركبان، وحيثما حلت أغنام حليمة تجد مرعى خصبا فتشبع ولا
تجد أغنام غيرها شيئا، وكان ينمو نموا سريعا لا يشبه نمو الغلمان.كل ذلك وغيره من مباركة الله تعالى لنبيه r ، منذ صغره على حليمة وأهلها.ثم عادت هذه البركة على هوازن كلهم بعد أن أسروا بعد فتح مكة ([38])، كما سأذكره بعد قليل، بل إن بركته r عادت على البشرية جمعاء ليخرج الله من شاء منهم من الظلمات إلى النور.
وكانت حليمة ـ رضي الله عنها ـ تداعب النبي r وترقصه، وتناغيه، كما تفعل الأمهات مع الأبناء، فمن ذلك قولها ([39]):يا رب إذ أعطيته فأبقه
وأعله إلى العلا ورقِّه
وادحض أباطيل العدا بحقه
وكانت الشيماء ـ أخته من الرضاعة ـ تقول:
هذا أخ لي لم تلده أمي
وليس من نسل أبي وعمي
فديته من مخول معمي ([40])
فأنمه اللهم فيما تنمي
وكانت تقول ـ أيضا ـ :
يا رب أبق أخي محمدا
حتى أراه يافعا وأمرادا
ثم أراه سيدا مسودا
واكبت أعاديه معا والحسدا
وأعطه عزا يدوم أبدا
وهكذا
تعيش حليمة أزهى أيام عمرها وأسعدها منذ ولدت، حتى جاء ذلك اليوم الذي وقع
فيه حادث أقلقها، ذلكم هو ما يبينه ما رواه مسلم في "صحيحه" ([41]) عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r
أتاه جبريل ـ عليه السلام ـ وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرعه، فشق عن
قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله
في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه [أي جمعه وضم بعضه إلى بعض] ثم أعاده في
مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه، يعني ظئره [أي مرضعته] فقالوا: إن
محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع [أي متغير اللون] قال أنس: وقد كنت أرى
أثر ذلك المخيط في صدره [يعني أنه كان يرى أثر الغرزات والخياطة في صدر
النبي r ].
كانت تلكم الحادثة ولرسول الله r حوالي الأربع سنين أو الخمس ([42]).ويحدثنا المصطفى r
عن هذه الحادثة التي كانت في طفولته وكيف أنها أقلقت حاضنته وأمه من
الرضاعة حليمة فيقول: "فقالت: أعيذك بالله، فرحلت بعيرا لها، فجعلتني على
الرحل وركبت خلفي، حتى بلغنا إلى أمي، فقالت: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها
بالذي لقيت، فلم يرعها ذلك [أي لم تفزع أو تقلق]، وقالت: إني رأيت خرج مني
نور أضاءت منه قصور الشام" رواه الإمام الدارمي وأحمد والحاكم ([43])، وصححه الحافظ الذهبي والعلامة الألباني ([44]).ويحسن التوقف عند حادثة شق الصدر هذه، والتي تكررت أيضا ليلة الإسراء كما ثبت ذلك في "الصحيحين" ([45])
أيضا، حيث يقول الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ : "إن جميع ما ورد من شق
الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم
له، دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من
ذلك".اهـ([46]).
وشق الصدر هذا يبين تعهد الله ـ عز وجل ـ نبيه محمدا r
عن مزالق الطبع الإنساني ووساوس الشيطان، وهو حصانة للرسول الكريم التي
أضافها الله عليه ليكون المثل الكامل للإنسان الكامل الذي يحقق الكمال
بطهارة القلب وزكاء النفس، ولأجل ذلك فقد شب رسول الله r بمكة وهي تعج بمختلف أنواع اللهو والفساد والملاذِّ الشهوانية الدنسة، ومظاهر الشرك المتنوعة، ولم يتدنس بشيء من ذلك، فكانت حياته r حياة زكية طاهرة من الآثام التي تُدنس كثيرا من الشباب في مجتمعاتهم.وعودا
على رضاعه عليه الصلاة والسلام، فها هو بعدما يزيد على ستين سنة يعود
ببركته وبره على مرضعته وقومها، فإن هوازن وقعوا في الأسر وغنمت أموالهم في
غزوة حنين، وذلك بعد فتح مكة بأشهر، قال وفدهم وقام خطيبهم زهير بن صرد
فقال ضمن ما قال: "إنما في هذه الحظائر [يعني مواضع الأسرى] عماتك وخالاتك
وحواضنك اللاتي كن يكفلنك" ([47]).
فأطلق النبي r الذرية، وكانت ستة آلاف، ما بين صبي وامرأة، وأعطاهم أنعاما وأناسي كثيرا.وهذا الخبر ضمن أبيات شعر مال الحافظ ابن حجر إلى تصحيحه([48]).
قال
الحافظ ابن كثير: قال الحسين بن فارس فكان قيمة ما أطلق لهم يومئذ خمسمائة
ألف ألف درهم (أي خمسمائة مليون درهم)، فهذا كله من بركته العاجلة في
الدنيا، فكيف ببركته على من اتبعه في الآخرة. اهـ([49]). أسأل الله الكريم أن يجعلني وإياك منهم.
وحيث قد عدنا بالذاكرة بما يزيد على ألف وأربعمائة وخمسين عاما، فلنبق هنالك لنختم هذا المقتطف العابق بذكر حواضن المصطفى r على طريقة أهل السير.وفي هذا يقول العلامة ابن القيم([50]) ـ رحمه الله ـ : فمنهن أمه آمنة، ومنهن ثويبة، وحليمة، والشيماء ابنة حليمة، وهي أخت النبي r
من الرضاع، كانت تحضنه مع أمها، ومنهن الفاضلة الجليلة أم أيمن بركة
الحبشية، وهي مولاته، ورثها من أبيه ثم أعتقها عندما تزوج بخديجة، وقيل
ورثها من أمه.قال القرطبي ـ رحمه الله ـ : وكان r يكرمها، ويبرها مبرة الأم، ويكثر زيارتها، وكان r عندها كالولد، ولذلك كانت تَتَذَمَّر وتَتَغَضَّبُ عليه محبة وشفقة، ومن طريف ذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" ([51]) عن أنس قال: انطلق رسول الله r
إلى أم أيمن، وانطلقت معه، فناولته إناء فيه شراب، قال: فلا أدري أصادفته
صائما أو لم يرده، فجعلت تَصَخَّب عليه وتذمر عليه. يعني كما تفعل الأمهات
إذا عاف الابن الطعام.وللقرطبي ـ رحمه الله ـ كلام في الثناء عليها، والتعليق على بكائها على النبي r كلام مختصر جليل يضيق المقام عن إيراده وهو في كتابه "المفهم" ([52]).وبعد،
أيها الأحبة، تلكم بعض الصفحات لطفولة أعظم مخلوق وطئت قدماه الثرى صنعت
على عين الله، يرعاه ويحوطه، وله الحكمة والقدرة سبحانه، طفولة امتزجت
بإظهار المعجزات مع مكابدة البلاء من اليتم والعيلة وقلة النصير، حتى أكمل
الله دينه وأتم نعمته بدين الإسلام وبعثه خير الأنام محمد بن عبد الله خاتم
رسل الله وأنبيائه r .وفقنا الله لسلوك شرعه واقتفاء هديه ولزوم سنته ومصاحبته في الآخرة. آمين...
* * *