إن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله
وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
هذه
الأربعون ينبغي لطالب العلم أن يحفظها،لأنها منتخبة من أحاديث عديدة. وفي
أبواب متفرقة،بخلاف غيرها من المؤلفات فلو نظرنا إلى عمدة الأحكام لوجدناها
منتخبة؛ لكنها في باب واحد وهو باب الفقه، أما الأربعون النووية فهي في
أبواب متفرقة متنوعة. ونحن نستعين بالله تعالى في التعليق عليها. والله
الموفّق.الحديث الأول
(عَنْ
أَمِيرِ المُؤمِنينَ أَبي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ
تعالى عنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوله، وَمَنْ
كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا، أَو امْرأَة يَنْكِحُهَا،
فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)[3]
رواه
إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن
بَرْدِزْبَهْ البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري
النيسابوري، في صحيحيهما اللَذين هما أصح الكتب المصنفة.
الشرح
عَنْ
أَمِيرِ المُؤمِنينَ وهو أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه،آلت إليه
الخلافة بتعيين أبي بكر الصديق رضي الله عنه له، فهو حسنة من حسنات أبي
بكر، ونصبه في الخلافة شرعي، لأن الذي عينه أبو بكر، وأبو بكر تعين بمبايعة
الصحابة له في السقيفة، فخلافته شرعية كخلافة أبي بكر، ولقد أحسن أبو بكر
اختياراً حيث اختار عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وفي قوله سَمِعْتُ دليل
على أنه أخذه من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة. والعجب أن هذا الحديث
لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمر رضي الله عنه مع أهميته،
لكن له شواهد في القرآن والسنة. ففي القرآن يقول الله تعالى: (وَمَا
تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ )(البقرة: الآية272) فهذه
نية، وقوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً )(الفتح: الآية29)
وهذه نيّة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِيْ بِهَا وَجْهَ اللهِ
إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلَهُ فِي فِيّ امْرَأَتِك[4]
فقوله: تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللهِ فهذه نية، فالمهم أن معنى الحديث ثابت
بالقرآن والسنة. ولفظ الحديث انفرد به عمر رضي الله عنه، لكن تلقته الأمة
بالقبول التام، حتى إن البخاري رحمه الله صدر كتابه الصحيح بهذا الحديث.
قوله
: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا
نَوَى لهذه الجملة من حيث البحث جهتان: نتكلم أولاً على مافيه من البلاغة:
فقوله:
إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فيه من أوجه البلاغة الحصر، وهو:إثبات
الحكم في المذكور ونفيه عما سواه،وطريق الحصر: إِنَّمَا لأن (إنما) تفيد
الحصر، فإذا قلت: زيد قائم فهذا ليس فيه حصر، وإذا قلت: إنما زيد قائم،
فهذا فيه حصر وأنه ليس إلا قائماً. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى .
وفي
قوله صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا
يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ
إِلَيهِ من البلاغة: إخفاء نية من هاجر للدنيا، لقوله: فَهِجْرَتُهُ إِلَى
مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ولم يقل: إلى دنيا يصيبها، والفائدة البلاغية في ذلك
هي: تحقير ماهاجر إليه هذا الرجل، أي ليس أهلاً لأن يُذكر، بل يُكنّى عنه
بقوله: إلى ماهاجر إليه.
وقوله:
مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ الجواب: فَهِجْرَتُهُ
إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فذكره تنويهاً بفضله، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ
لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا
هَاجَرَ إِلَيهِ ولم يقل:إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، لأن فيه تحقيراً
لشأن ما هاجر إليه وهي: الدنياأو المرأة.
* أما من جهة الإعراب، وهو البحث الثاني:
فقوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ مبتدأ وخبر، الأعمال: مبتدأ، والنيات: خبره.
وَإِنَّمَا
لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى أيضاً مبتدأ وخبر، لكن قُدِّم الخبر
علىالمبتدأ؛ لأن المبتدأ في قوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى
هو: مانوى متأخر.
فمَنْ
كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ
وَرَسُولِهِ هذه جملة شرطية، أداة الشرط فيها: مَنْ، وفعل الشرط: كانت،
وجواب الشرط: فهجرته إلى الله ورسوله.
وهكذا نقول في إعراب قوله: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا .
أما في اللغة فنقول:
الأعمال جمع عمل، ويشمل أعمال القلوب وأعمال النطق، وأعمال الجوارح، فتشمل هذه الجملة الأعمال بأنواعها.
فالأعمال القلبية: مافي القلب من الأعمال: كالتوكل على الله، والإنابة إليه، والخشية منه وما أشبه ذلك.
والأعمال
النطقية: ماينطق به اللسان، وما أكثر أقوال اللسان، ولاأعلم شيئاً من
الجوارح أكثر عملاً من اللسان، اللهم إلا أن تكون العين أو الأذن.
والأعمال الجوارحية: أعمال اليدين والرجلين وما أشبه ذلك.
الأعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ النيات: جمع نية وهي: القصد. وشرعاً: العزم على فعل العبادة
تقرّباً إلى الله تعالى، ومحلها القلب، فهي عمل قلبي ولاتعلق للجوارح بها.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ أي لكل إنسانٍ مَا نَوَى أي ما نواه.
وهنا مسألة: هل هاتان الجملتان بمعنى واحد، أو مختلفتان؟
الجواب:
يجب أن نعلم أن الأصل في الكلام التأسيس دون التوكيد، ومعنى التأسيس: أن
الثانية لها معنى مستقل. ومعنى التوكيد: أن الثانية بمعنى الأولى. وللعلماء
رحمهم الله في هذه المسألة رأيان، يقول أولهما: إن الجملتان بمعنى واحد،
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وأكد
ذلك بقوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى .
والرأي الثاني يقول: إن الثانية غير الأولى، فالكلام من باب التأسيس لامن باب التوكيد.
* والقاعدة:
أنه إذا دار الأمر بين كون الكلام تأسيساً أو توكيداً فإننا نجعله
تأسيساً، وأن نجعل الثاني غير الأول، لأنك لو جعلت الثاني هو الأول صار في
ذلك تكرار يحتاج إلى أن نعرف السبب.
* والصواب:
أن الثانية غير الأولى، فالأولى باعتبار المنوي وهو العمل. والثانية
باعتبار المنوي له وهو المعمول له، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا. ويدل
لهذا مافرعه عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: فمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
وعلى هذه فيبقى الكلام لاتكرار فيه.
والمقصود من هذه النية تمييز العادات من العبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض.
* وتمييز العادات من العبادات مثاله:
- أولاً:الرجل
يأكل الطعام شهوة فقط، والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالاً لأمر الله عزّ
وجل في قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا )(الأعراف:الآية31) فصار أكل الثاني
عبادة، وأكل الأول عادة
- ثانياً:
الرجل يغتسل بالماء تبرداً، والثاني يغتسل بالماء من الجنابة، فالأول
عادة، والثاني: عبادة، ولهذا لوكان على الإنسان جنابة ثم انغمس في البحر
للتبرد ثم صلى فلا يجزئه ذلك، لأنه لابد من النية،وهو لم ينو التعبّد وإنما
نوى التبرّد.
ولهذا
قال بعض أهل العلم: عبادات أهل الغفلة عادات، وعادات أهل اليقظة عبادات.
عبادات أهل الغفلة عادات مثاله: من يقوم ويتوضأ ويصلي ويذهب على العادة.
وعادات أهل اليقظة عبادات مثاله: من يأكل امتثالاً لأمر الله، يريد إبقاء
نفسه، ويريد التكفف عن الناس، فيكون ذلك عبادة. ورجل آخر لبس ثوباً جديداً
يريد أن يترفّع بثيابه، فهذا لايؤجر، وآخرلبس ثوباً جديداً يريد أن يعرف
الناس قدر نعمة الله عليه وأنه غني، فهذا يؤجر. ورجل آخر لبس يوم الجمعة
أحسن ثيابه لأنه يوم جمعة، والثاني لبس أحسن ثيابه تأسياً بالنبي صلى الله
عليه وسلم ، فهو عبادة.
* تمييز العبادات بعضها من بعض مثاله:
رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة، فالعملان تميزا بالنية، هذا نفل وهذا واجب، وعلى هذا فَقِسْ.
* إذاً المقصود بالنيّة: تمييز العبادات بعضها من بعض كالنفل مع الفريضة، أوتمييز العبادات عن العادات.
واعلم
أن النية محلها القلب، ولايُنْطَقُ بها إطلاقاً،لأنك تتعبّد لمن يعلم
خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والله تعالى عليم بما في قلوب عباده، ولست
تريد أن تقوم بين يدي من لايعلم حتى تقول أتكلم بما أنوي ليعلم به، إنما
تريد أن تقف بين يدي من يعلم ماتوسوس به نفسك ويعلم متقلّبك وماضيك،
وحاضرك. ولهذا لم يَرِدْ عن رسول الله ولاعن أصحابه رضوان الله عليهم أنهم
كانوا يتلفّظون بالنيّة ولهذا فالنّطق بها بدعة يُنهى عنه سرّاً أو جهراً،
خلافاً لمن قال من أهل العلم: إنه ينطق بها جهراً، وبعضهم قال: ينطق بها
سرّاً ، وعللوا ذلك من أجل أن يطابق القلب اللسان.
ياسبحان
الله، أين رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا ؟ لوكان هذا من شرع الرسول
صلى الله عليه وسلم لفعله هو وبيّنه للناس، يُذكر أن عاميّاً من أهل نجد
كان في المسجد الحرام أراد أن يصلي صلاة الظهر وإلى جانبه رجل لايعرف
إلاالجهر بالنيّة، ولما أقيمت صلاة الظهر قال الرجل الذي كان ينطق بالنية:
اللهم إني نويت أن أصلي صلاة الظهر، أربع ركعات لله تعالى، خلف إمام المسجد
الحرام، ولما أراد أن يكبّر قال له العامي: اصبر يارجل، بقي عليك التاريخ
واليوم والشهر والسنة، فتعجّب الرجل.
وهنا مسألة: إذا قال قائل: قول المُلَبِّي: لبّيك اللهم عمرة، ولبيك حجّاً، ولبّيك اللهم عمرة وحجّاً، أليس هذا نطقاً بالنّية؟
فالجواب:
لا، هذا من إظهار شعيرة النُّسك، ولهذا قال بعض العلماء: إن التلبية في
النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة، فإذا لم تلبِّ لم ينعقد الإحرام، كما أنه
لولم تكبر تكبيرة الإحرام للصلاة ما انعقدت صلاتك. ولهذا ليس من السنّة أن
نقول ما قاله بعضهم: اللهم إني أريد نسك العمرة، أو أريد الحج فيسّره لي،
لأن هذا ذكر يحتاج إلى دليل ولادليل. إذاً أنكر على من نطق بها، ولكن بهدوء
بأن أقول له: يا أخي هذه ما قالها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه،
فدعْها.
فإذا قال: قالها فلانٌ في كتابهِ الفلاني؟ .
فقل له: القول ما قال الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وَإِنَّمَا
لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى هذه هي نيّة المعمول له، والناس يتفاوتون فيها
تفاوتاً عظيماً، حيث تجد رجلين يصلّيان بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب
أو مما بين السماء والأرض في الثواب، لأن أحدهما مخلص والثاني غير مخلص.
وتجد
شخصين يطلبان العلم في التّوحيد، أو الفقه، أو التّفسير، أو الحديث،
أحدهما بعيد من الجنّة والثاني قريب منها، وهما يقرآن في كتاب واحد وعلى
مدرّسٍ واحد. فهذا رجل طلب دراسة الفقه من أجل أن يكون قاضياً والقاضي له
راتبٌ رفيعٌ ومرتبة ٌرفيعة،والثاني درس الفقه من أجل أن يكون عالماً
معلّماً لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فبينهما فرق عظيم. قال النبي صلى
الله عليه وسلم مَنْ طَلَبَ عِلْمَاً وَهُوَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ
اللهِ لا يُرِيْدُ إِلاِّ أَنْ يَنَالَ عَرَضَاً مِنَ الدُّنْيَا لَمْ
يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ [5]، أخلص النية لله عزّ وجل .
* ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بالمهاجر فقال:
فَمَنْ كَانَتْ هِجرَتُهُ الهجرة في اللغة: مأخوذة من الهجر وهو التّرك.
وأما في الشرع فهي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
وهنا مسألة: هل الهجرة واجبة أو سنة؟
والجواب:
أن الهجرة واجبة على كل مؤمن لايستطيع إظهار دينه في بلد الكفر، فلايتم
إسلامه إذا كان لايستطيع إظهاره إلا بالهجرة، وما لايتم الواجب إلا به
فهوواجب. كهجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة، أو من مكّة إلى المدينة.
فمَنْ
كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ
وَرَسُولِهِ كرجل انتقل من مكة قبل الفتح إلى المدينة يريد الله ورسوله،أي:
يريد ثواب الله، ويريد الوصول إلى الله كقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)(الأحزاب: الآية29) إذاً يريد الله: أي يريد
وجه الله ونصرة دين الله، وهذه إرادة حسنة.
ويريد
رسول الله: ليفوز بصحبته ويعمل بسنته ويدافع عنها ويدعو إليها والذبّ
عنه،ونشر دينه، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، والله تعالى يقول في الحديث
القدسي مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعَاً [6] فإذا أراد الله،فإن الله تعالى يكافئه على ذلك بأعظم مما عمل.
*وهنا مسألة: بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم هل يمكن أن نهاجر إليه عليه الصلاة والسلام؟
والجواب:
أما إلى شخصه فلا، ولذلك لايُهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول صلى الله
عليه وسلم ، لأنه تحت الثرى، وأما الهجرة إلى سنّته وشرعه صلى الله عليه
وسلم فهذا مما جاء الحث عليه وذلك مثل: الذهاب إلى بلدٍ لنصرة شريعة الرسول
والذود عنها. فالهجرة إلى الله في كل وقت وحين، والهجرة إلى رسول الله
لشخصه وشريعته حال حياته، وبعد مماته إلى شريعته فقط.
نظير هذا قوله تعالى: ( فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرسول صلى الله
عليه وسلم ِ)(النساء: الآية59) إلى الله دائماً، وإلى الرسول صلى الله عليه
وسلم نفسه في حياته، وإلى سنّته بعد وفاته. فمن ذهب من بلدٍ إلى بلد
ليتعلم الحديث، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر من بلد إلى بلد
لامرأة يتزوّجها، بأن خطبها وقالت لاأتزوجك إلا إذا حضرت إلى بلدي فهجرته
إلى ماهاجر إليه. فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا بأن علم
أن في البلد الفلاني تجارة رابحة فذهب إليها من أجل أن يربح، فهذا هجرته
إلى دنيا يصيبها، وليس له إلا ما أراد. وإذا أراد الله عزّ وجل ألا يحصل
على شيء لم يحصل على شيء.
قوله
رحمه الله: (رواه إماما المحدّثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن
إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري من بخارى وهو إمام المحدّثين ومسلم
بن الحجّاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصحّ الكتب
المصنّفة أي صحيح البخاري وصحيح مسلم وهما أصحّ الكتب المصنّفة في علم
الحديث، ولهذا قال بعض المحدّثين: إن ما اتفقا عليه لايفيد الظن فقط بل
يفيد العلم.
وصحيح
البخاري أصحّ من صحيح مسلم، لأن البخاري - رحمه الله - يشترط في الرواية
أن يكون الراوي قد لقي من روى عنه، وأما مسلم- رحمه الله - فيكتفي بمطلق
المعاصرة مع إمكان اللقيّ وإن لم يثبت لقيه، وقد أنكر على من يشترط اللقاء
في أول الصحيح إنكاراً عجيباً، فالصواب ما ذكره البخاري - رحمه الله - أنه
لابد من ثبوت اللقي. لكن ذكر العلماء أن سياق مسلم - رحمه الله - أحسن من
سياق البخاري، لأنه - رحمه الله- يذكر الحديث ثم يذكر شواهده وتوابعه في
مكان واحد، والبخاري - رحمه الله - يفرِّق، ففي الصناعة صحيح مسلم أفضل،
وأما في الرواية والصحة فصحيح البخاري أفضل.
تشاجر قومٌ في البخاري ومسلم
وقالوا: أيّ زين تقدّم
فقلت: لقد فاق البخاري صحة لديّ
كما فاق في حسن الصناعة مسلم
قال بعض أهل العلم: ولولا البخاري ما ذهب مسلم ولا راح، لأنه شيخه.
فالحديث إذاً صحيح يفيد العلم اليقيني، لكنه ليس يقينياً بالعقل وإنما هو يقيني بالنظر لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم .