صلة الأرحام وتقوية الروابط الأسرية
بسم الله الرحمن الرحيم إن
الإسلامَ يهدِف إلى بناءِ مجتمعٍ متراحمٍ متعاطِف ، تسودُه المحبّةُ
والإخاء ، ويهيمِن عليه حبّ الخيرِ والعَطاء ، والأسرةُ وحْدةُ المجتمع ،
تسعَد بطاعة الله وصلة الرّحِم ، لذلك اهتمّ الإسلامُ بتوثيق عُراها ،
وتثبيتِ بُنيانها ، فجاء الأمر برعايةِ حقّها بعدَ توحيد الله وبرّ
الوالدين ، قال جلّ وعلا :
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى
[النساء : 36]
وقُرِنَت مع إفرادِ الله بالعبادةِ
والصّلاةِ والزّكاة فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ
يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ ... فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ ))
[ متفق عليه ]
وقد أُمِرَت الأمم قبلَنا بصِلة أرحامِها ، قال سبحانه :
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى
[ البقرة : 83]
ودَعا إلى صِلتها نبيُّنا محمّدٌ e في مَطلعِ نُبوّته ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ :
(( كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ
أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ ،
وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ
أَخْبَارًا ، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي ، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ ،
فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ e مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ ،
فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ ، فَقُلْتُ لَهُ : مَا
أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا نَبِيٌّ ، فَقُلْتُ : وَمَا نَبِيٌّ ؟ قَالَ :
أَرْسَلَنِي اللَّهُ ، فَقُلْتُ : وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ :
أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ ، وَأَنْ
يُوَحَّدَ اللَّهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ ...))
[ رواه مسلم ]
وسأل هِرقل أبا سفيانٍ عن النبيّ ما يقول
لكم ؟ قال : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ :
(( سَأَلْتُكَ : مَاذَا يَأْمُرُكُمْ ؟ فَزَعَمْتَ
أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ ، وَالصِّدْقِ ، وَالْعَفَافِ ،
وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، قَالَ : وَهَذِهِ
صِفَةُ نَبِيٍّ ))
[رواه البخاري ومسلم]
وأمَر بها عليه الصلاة والسلام أوّلَ مقدمِه
إلى المدينة ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ
النَّاسُ قِبَلَهُ ، وَقِيلَ : قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ
اللَّهِ ، ثَلَاثًا ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ ، فَلَمَّا
تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ ،
فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ :
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَفْشُوا السَّلَامَ ،
وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ
وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ ))
[ رواه الترمذيّ وابن ماجه واللفظ له]
وهي وصيّة النبيّ e ، قال أبو ذر:
(( أوصاني خليلِي بصِلة الرّحم وإن أدبَرَت ))
[ رواه الطبراني ]
فصِلةُ ذوي القربَى أمارةٌ على الإيمان ، فعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( ... وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ...))
[ متفق عليه ]
صلةُ الحرم عبادةٌ جليلة مِن أخصِّ العبادات ،
يقول عمرو بن دينار : "ما مِن خَطْوةٍ بعد الفريضةِ أعظمُ أجرًا من خَطوةٍ
إلى ذي الرّحم " .
ثوابُها معجَّل في الدنيا ، ونعيمٌ مدَّخرَ في الآخرة ، قال e :
(( ليس شيء أُطِيعَ اللهُ فيه أعْجَل ثوابًا من صِلةِ الرحم ))
[ رواه البيهقيّ ]
والقائمُ بحقوقِ ذوي القربَى موعودٌ بالجنّة ،
يقول عليه الصلاة والسلام عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ
يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ :
(( ... وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ، ذُو
سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ ، رَقِيقُ
الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى ، وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو
عِيَالٍ ))
[رواه مسلم]
أمَرَ الله بالرّأفة بالأرحام كما نرأَف بالمِسكين ، قال عزّ وجلّ :
وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
[الإسراء : 26]
وحقُّهم في البذلِ والعطاء مقدّمٌ على اليتامَى والمساكين ، قال سبحانَه :
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ
مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ
[البقرة : 215]
وللسخاءِ عليهم ثوابٌ مضاعفٌ من ربِّ
العالمين ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ ، وَعَلَى ذِي الْقَرَابَةِ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ ))
[ النسائي وابن ماجه ]
وأوّلُ مَن يُعطَى مِن الصدقة هم الأقربون مِن ذوي المَسكنَة ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ :
(( كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ
بِالْمَدِينَةِ مَالًا ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ
، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا ، وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا
طَيِّبٍ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ : ] لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : ] لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ ، وَإِنَّ أَحَبَّ
أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ ، أَرْجُو
بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
حَيْثُ شِئْتَ ، فَقَالَ : بَخٍ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، ذَلِكَ مَالٌ
رَابِحٌ ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا ، وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي
الْأَقْرَبِينَ ، قَالَ : أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَسَمَهَا
أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ ، وَبَنِي عَمِّهِ ))
[ متفق عليه ]
فالباذلُ لهم سخيُّ النّفس ، كريم الشّيَم ، يقول الشعبيّ رحمه الله : " ما ماتَ ذو قرابةٍ لي وعليه دينٌ إلاّ وقضيتُ عنه دينه " .
ماذا تعني كلمة الأرحام ؟
الأول : رحم الدين ، وهي رحم عامة تشمل جميع المسلمين ، وتتفاوت صلتهم حسب قربهم وبعدهم من الدين ، وكذلك حسب قربهم وبعدهم المكاني .
ويدل على ذلك قوله تعالى :
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
[الحجرات : 1]
فأثبت الله الأخوّةَ الإيمانية لجميع المسلمين .
وقوله :
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ
[محمد]
الثاني : رحم القرابة ، القريبة والبعيدة ، من جهتي الأبوين .
ولكل من هذين النوعين حقوق ونوع صلة.
الروابطُ تزداد وُثوقًا بالرّحم ، وقريبُك لا يَمَلّكَ على القرب ، ولا ينسَاك في البُعد ، عِزّهُ عزٌّ لك ، وذُلّه ذُلٌّ لك .
قال القرطبي رحمه الله : " اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة ، وأن قطيعتها محرمة .
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا :
(( إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ
فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَصِلَةُ
الرَّحِمِ ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ
الدِّيَارَ ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ ))
[أحمد]
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ ، وَتَدْفَعُ عَنْ مِيتَةِ السُّوءِ ))
[الترمذي]
ما معنى صلة الرحم ؟
الرحم العامة رحم الدِّين ، ويجب صلتها
بملازمة الإيمان ، والمحبة للمؤمنين ، ونصرتهم ، والنصيحة لهم ، وترك
أذيتهم ، والعدل بينهم ، والإنصاف في معاملتهم ، والقيام بحقوقهم الواجبة ،
كتمريض المرضى ، ومواساة الفقراء ، من دون أن يمن عليهم ، ونصرة المظلومين
، وحقوق الموتى ، من غسلهم ، والصلاة عليهم ، ودفنهم ، وغير ذلك من الحقوق
المترتبة لأهل الإيمان
الرحم الخاصة رحم القرابة ، وتكون صلتها
بزيارتهم ، وتفقد أحوالهم ، والسؤال عنهم ، والإهداء إليهم ، والتصدق على
فقيرِهم ، والتلطف مع وجيههم وغنيّهم ، وتوقير كبيرهم ، ورحمة صغيرهم ،
وتكون الصلة باستضافتهم ، وحسن استقبالهم ، وإعزازهم ، ومشاركتهم في
أفراحهم ، ومواساتهم في أتراحِهم .
وتكون الصلة أيضاً بالدعاء للأرحام ، وسلامة
الصدر لهم ، والحرص على نصحهم ، ودعوتهم للخير ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم
عن المنكر ، وإصلاح ذات البين إذا فسدت
وتكون الصلة أيضاً ببشاشةٍ عند اللّقاء ،
ولينٍ في المُعاملة ، إلى طيبٍ في القول ، وطلاقةٍ في الوجه ، وزيارات
وصِلات ، وإحسانٌ إلى المحتاج ، وبذلٌ للمعروف ، ونصحُهم ، والنّصحُ لهم ،
ومساندةُ مكروبِهم ، وعيادةُ مريضهم ، الصفحُ عن عثراتهم ، وترك مُضارتهم ،
والمعنى الجامِع لذلك كلِّه : إيصالُ ما أمكَن من الخير ، ودفعُ ما أمكنَ
منَ الشرّ .
ثم إن الأقارب يختلفون في أحوالهم ، وطباعهم ،
ومنازلهم ، فمنهم من يرضى بالقليل ، فتكفيه الزيارة السنوية ، والمكالمة
الهاتفية ، ومنهم من يرضى بطلاقة الوجه ، والصلة بالقول ، ومنهم من يعفو عن
حقه كاملاً ، ويلتمس المعاذير لأرحامه ، ومنهم من لا يرضى إلا بالزيارة
المستمرة ، وبالاهتمام الدائم ، فمعاملتهم بهذا المقتضى تعين على حسن الصلة
بهم ، واستيفاء مودتهم .
وبشكل مختصر تبدأ صلة الرحم بنوع من الاتصال
الهاتفي أو البريدي ، ثم الزيارة ، ثم تفقد الأحوال المعيشية والاجتماعية ،
ثم المساعدة بألطف أسلوب ، ثم الأخذ بيد القريب ، وأهله إلى الله ، وحملهم
على طاعته ، والتقرب إليه ، وهذا تاجٌ تتوّج به هذه الصلة ، وعندئذ تكون
هذه الصلة حققت هدفها الأكبر .
حتى لو كان الأقارب من النوع المتعب الذي
يقابل الإحسان بالإساءة ، فلا يجوز أن تقاطعهم ، لأنك تتعامل مع الله تعالى
طاعة لأمره ، والتزاما بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى ذلك يجب على
المسلم أن يسلك كل السبل ليصل أرحامه ، ويحسن إلى أقاربه وجيرانه .
إنّ ذوي الرّحِم غيرُ معصومين ، يتعرّضون
للزّلَل ، ويقَعون في الخَلل ، وتصدُر منهم الهَفوات ، ويقَعون في خطيئات
كبيرات ، فإن بَدَر منهم شيءٌ من ذلك فالزَم جانبَ العفوِ معهم ، فإنَّ
العفوَ من شِيَم المحسنين ، وما زادَ الله عبدًا بعفو إلاّ عِزًّا ، وقابِل
إساءَتهم بالإحسان ، واقبل عُذرَهم إذا اعتذروا ، ولك في النبي الكريم
يوسف القدوة والأسوة ، فقد فعل إخوةُ يوسفَ مع يوسفَ ما فعلوا ، وعندما
اعتذروا قبِل عذرهم وصفَح عنهم الصفحَ الجميل ، ولم يوبِّخهم ، بل دعا لهم
وسأل الله المغفرةَ لهم ،
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
[يوسف]
فغُضَّ عن الهفواتِ ، واعفُ عن الزّلاّت ،
وأقِلِ العثرات ، تجْنِ الودَّ والإخاء ، واللينَ والصفاء ، وتتحقَّقُ فيك
الشهامةُ والوفاء ، وداوِم على صِلة الرّحم ، ولو قطعوا ، وبادِر بالمغفرة ،
وإن أخطؤوا ، وأحسِن إليهم وإن أساؤوا ، ودَع عنك محاسبةَ الأقربين ، ولا
تجعَل عِتابَك لهم سبباً لبعدهم عنك ، وكُن جوادَ النّفس كريمَ العطاء ،
وجانبِ الشحَّ ، فإنّه من أسباب القطيعة ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ :
(( إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا ،
وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا ، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ
فَفَجَرُوا ))
[ أبو داود ، أحمد ]
قيل لأحدهم : ما حقّ الرّحم ؟ قال : " تُستَقبَل إذا أقبَلت ، وتُتْبَع إذا أدبَرت " .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ لِي قَرَابَةً
أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ ،
وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ ، فَقَالَ : لَئِنْ كُنْتَ
كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ
مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ ))
[رواه مسلم ]
أما إذا كانت الرحم فاجرة أو فاسقة ، فتكون
بالعظة والتذكير ، وبألطف تعبير ، وبذل الجهد الكبير ، فإذا أعيتك الحيلة
في هدايتهم كأن ترى منهم عناداً ، أو استكباراً ، أو أن تخاف على نفسك أن
تتردى معهم ، وتهوي في حضيضهم فابتعد عنهم ، واهجرهم الهجر الجميل الذي لا
أذى فيه ولا تحقير ، وردد هاتين القاعدتين ؛ " دع خيراً عليه الشر يربو " ،
و " درء المفاسد مقدم على جلب المنافع " ، وأكثر من الدعاء لهم بالهداية ،
وأعد الكَرة بعد الكَرة ، والمرة تلو المرة .
وإكرامُ ذوي القراباتِ مأمور به ، على ألاّ يكونَ في التّقديمِ بخسٌ لأحدٍ أو هضمٌ لآخرين ، قال سبحانه :
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
[الأنعام : 152]
ثمار صلة الرحم :
صلةُ الرّحم تدفَع بإذن الله نوائبَ الدّهر ، وترفع بأمرِ الله عن المرء البَلايا ، قَالَ جبريل للنبي e :
(( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [ ،
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا ، فَقَالَ : زَمِّلُونِي ، زَمِّلُونِي ، فَزَمَّلُوهُ
حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ ، وَأَخْبَرَهَا
الْخَبَرَ : لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : كَلَّا ،
وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ،
وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ،
وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ))
[رواه البخاري ومسلم عن عائشة]
لقد خلق الله الرحمَ ، وشقَقَ لها اسمًا من
اسمِه ، ووعَد ربُّنا جلّ وعلا بوصلِ مَن وصلَها ، ومَن وصَله الرحيمُ ،
وصلَه كلُّ خير ، ولم يقطَعه أحد ، ومن بَتَره الجبّار لم يُعلِه بشرٌ ،
وعاشَ في كَمَد ،
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ
[الحج : 18]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ ، حَتَّى إِذَا
فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ
مِنْ الْقَطِيعَةِ ، قَالَ : نَعَمْ ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ
وَصَلَكِ ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ : بَلَى يَا رَبِّ ، قَالَ :
فَهُوَ لَكِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : ]فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [ ))
[ متفق عليه ]
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ ، تَقُولُ : مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ ))
[مسلم]
صلةِ الرّحم ؛ محبّةُ للأهل ، وبَسطُ الرّزق
، وبركةُ العُمر ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ
بِهِ أَرْحَامَكُمْ ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ ،
مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ ، مَنْسَأَةٌ فِي أَثَرِهِ ))
[ رواه أحمد ]
وفي صحيح البخاريّ ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ))
[متفق عليه]
صلةُ الرّحم أمارةٌ على كَرَم النّفس ،
وسَعَةِ الأفُق ، وطيبِ المنبَتِ ، وحُسن الوَفاء ، ولهذا قيل : مَن لم
يَصْلُحْ لأهلِه لم يَصْلُحْ لك ، ومَن لم يذُبَّ عنهم لم يذبَّ عنك ،
يُقْدِم عليها أولو التّذكرةِ وأصحابِ البصيرة .
وصلة الرحم مدعاة لرفعه الواصل ، وسبب للذكر الجميل ، وموجبة لشيوع المحبة ، وعزة المتواصلين .
صلة الرحم تقوَي المودَّة ، وتزيدُ المحبّة ،
وتتوثَّق عُرى القرابةِ ، وتزول العداوةُ والشّحناء ، فيها التعارفُ
والتواصلُ والشعور بالسّعادة
واقع معظم المقصرين :
كثير من الناس مضيعون لهذا الحق ، مفرطون
فيه ، فمن الناس من لا يعرف قرابته لا بصلة ولا بمال ، ولا بجاه ولا بحال ،
ولا بخلق ولا بود ، تمضي الشهور وربما الأعوام ولا يقوم بزيارتهم ، ولا
يتودد إليهم لا بصلة ولا بهدية ، ولا يدفع عنهم مضرة ولا أذية ، بل ربما
أساء إليهم ، وأغلظ القول لهم .
ومن الناس من لا يشارك أقاربه في أفراحهم ،
ولا يواسيهم في أتراحهم ، ولا يتصدق على فقرائهم ، بل تجده يقدم عليهم
الأباعد في الصلات والهبات .
ومن الناس من يصل أقاربه إن وصلوه ، ويقطعهم
إن قطعوه , وهذا في الحقيقة ليس بواصل ، وإنما هو مكافئ للمعروف بمثله ،
وهو حاصل للقريب وغيره ، والواصل حقيقة هو الذي يتقي الله في أقاربه ،
فيصلهم لله سواء وصلوه أو قطعوه ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا ))
[البخاري]
ومن مظاهر القطيعة : أن تجد بعض الناس يحرص
على دعوة الأباعد ، ويغفل أو يتغافل عن دعوة الأقارب ، وهذا مالا ينبغي ؛
فالأقربون أولى بالمعروف قال الله عز وجل :
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
[ الشعراء :214]
نتائج قطيعة الرحم :
إنّ معاداة الأقاربِ شرّ وبلاء ، الرّابح
فيها خاسِر ، والمنتصِر مهزوم ، وقطيعةُ الرّحم مِن كبائر الذّنوب ، وقبائح
العيوب متوَعَّدٌ صاحبُها باللّعنةِ والثبور ، قال تعالى :
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا
فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم
[محمد : 22 ـ 23]
فالتدابرُ بين ذوِي القربَى مؤذِنٌ بزوالِ
النِّعمة وسوءِ العاقبةِ وتعجيلِ العقوبة ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ ))
[ رواه البخاري ومسلم]
فعقوبتُها معجَّلة في الدّنيا قبلَ الآخرة ،
فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ
اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ
فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ ـ أي الظلم ـ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ ))
[ رواه الترمذي ]
قطيعة الرحم سببٌ للذِلّة والصّغار ،
والضّعفِ والتفرّق ، مجلَبةٌ للهمّ والغمّ ، فقاطعُ الرّحم لا يثبُت على
مؤاخاة ، ولا يُرجَى منه وفاء ، ولا صِدقٌ في الإخاء ، يشعر بقطيعةِ الله
له ، ملاحَقٌ بنظراتِ الاحتِقار ، مهما تلقَّى من مظاهِر التبجيل ، لقد كان
الصحابة رضي الله عنهم يستوحِشون مِن الجلوس مع قاطِع الرّحم .
الخطوة العملية :
ومن كان بينه وبين رحمٍ له عداوة فليبادِر بالصّلة ، وليعفُ وليصفح ،
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
[الشورى : 4]
وإنّ لحُسنِ الخُلُق تأثيرًا في الصّلة ،
والزَم جانبَ الأدَب مع ذوي القربَى ، فإنّ مَن حَفِظَ لسانَه أراح نفسَه ،
وللهديّةِ أثرٌ في اجتلابِ المحبّة ، وإثباتِ المودّة وإذهابِ الضغائن ،
وتأليفِ القلوب .
والرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا من
الخصام والخلاف والقطيعة فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ
فَوْقَ ثَلَاثٍ ، يَلْتَقِيَانِ ، فَيَصُدُّ هَذَا ، وَيَصُدُّ هَذَا ،
وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ ))
[البخاري]
ويقول ربنا سبحانه وتعالى :
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
[فصلت]
يحذرنا صلى الله عليه وسلم من مصير قاطع
الرحم ، فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ )) . قَالَ سُفْيَانُ : يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ .
[متفق عليه]
واحذروا أيها المؤمنون من قطيعة الرحم ، فإنها سبب للعنة الله وعقابه ، يقول الله عز وجل :
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ
[محمد ]
ويقول تعالى :
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ
[الرعد]
من هدي النبي ص في صلة الرحم :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرق الناس ، وأعفهم ، وأوصلهم ، وأحلمهم ؛ ولذلك ذكر الله خُلُقَه ومناقبه في القرآن ، فقال :
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
[القلم :4]
وقال له :
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
[آل عمران :159]
فقد بلغ في صلة الرحم مبلغاً عظيماً ، ضرب
به المثل على مرِّ التاريخ ، فما سمعت الدنيا بأوصل منه صلى الله عليه وسلم
، قام قرابته ـ أبناء عمه وأقاربه ـ فأخرجوه من مكة ، وطاردوه وشتموه
وآذوه ، حاربوه في المعارك ، ونازلوه في الميدان ، وقاموا بحرب عسكرية
وإعلامية واقتصادية ضده ، فلما انتصر ماذا فعل ؟
(( دخل مكة منتصرا ً، ووقفت له الأعلام مكبرة ، وطنت
بذكر نصره الجبال والوهاد ، فلما انتصر ، وقف عند حلق باب الكعبة صلى الله
عليه وسلم منحنياً ، وهو يقول للقرابة وللعمومة : ما ترون أني فاعل بكم ؟
فيتصورون الجزاء المر ، والقتل الحار ، والموت الأحمر ، فيقولون وهم
يتباكون : أخ كريم ، وابن أخ كريم ، فتدمع عيناه ، ويقول : اذهبوا فأنتم
الطلقاء )) !
[السيرة النبوية]
كأنه يقول : عفا الله عنكم وسامحكم .
ويأتي ابن عمه أبو سفيان بن الحارث ، فيسمع
بالانتصار ، وقد آذى الرسول عليه الصلاة والسلام ، وشتمه وقاتله ، فيأخذ
هذا الرجل أطفاله ، ويخرج من مكة ، فيلقاه علي بن أبي طالب ، ويقول : يا
أبا سفيان ! إلى أين تذهب ؟ قال : أذهب بأطفالي إلى الصحراء فأموت جوعاً
وعرياً! والله إن ظفر بي محمد ليقطعني بالسيف إرباً إِرباً ! فيقول علي ـ
وهو يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أخطأت يا أبا سفيان ! إن الرسول
صلى الله عليه وسلم أوصل الناس ، وأبر الناس ، وأكرم الناس ، فعد إليه ،
وسلم عليه بالنبوة ، وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف :
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ
[يوسف :91]
فيأتي بأطفاله ، ويقف على رأس المصطفى صلى الله عليه
وسلم ، ويقول : يا رسول الله! السلام عليك ورحمة الله وبركاته : ]تَا
للَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [ ،
فيبكي عليه الصلاة والسلام ، وينسى تلك الأيام ، وتلك الأعمال ، وتلك الصحف
السوداء ، ويقول : ] لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ
لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [
ويقول أبو سفيان بن حرب : يا بن أخي ، ما أوصلك ؟ ما أرحمك ؟ ما أحكمك ؟ ما أعقلك ؟
فهل من متسم بأخلاقه ؟ وهل من مقتد بأفعاله ؟ فإنه الأسوةُ الحقة ، وإن اتباعه نجاة من العار والدمار والنار.
تأتيه أخته من الرضاعة صلى الله عليه وسلم ،
وقد ابتعدت عنه عقوداً عديدة ، فتأتيه وهو لا يعرفها ، وهي لا تعرفه ،
وتسمع وهي في بادية بني سعد في الطائف بانتصاره ، فتأتي لتسلم على أخيها من
الرضاع ، وهو تحت سدرة عليه الصلاة والسلام ، والناس بسيوفهم بين يديه ،
وهو يوزع الغنائم بين العرب ، فتستأذن ، فيقول لها الصحابة : من أنت ؟
فتقول : أنا أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ، أنا الشيماء
بنت الحارث أرضعتني أنا وإياه حليمة السعدية ، فيخبرون الرسول عليه الصلاة
والسلام فيتذكر القربى وصلة الرحم ، ويقوم لها ليلقاها في الطريق ، ويرحب
بها ترحيب الأخ لأخته بعد طول غياب ، وبعد الوحشة والغربة ، ويأتي بها
ويجلسها مكانه ، ويظللها من الشمس .
تصوروا رسول البشرية ، ومعلم الإنسانية ،
ومزعزع كيان الوثنية ، يظلل هذه العجوز أخته من الرضاع من الشمس ، ويترك
الناس وشئون الناس ، ويقبل عليها ويسألها ، ويقول لها : يا أختاه كيف حالكم
؟ : يا أختاه اختاري الحياة عندي ، أو تريدين أهلك ؟ فتقول : أريد أهلي ،
فيمتعها بالمال ويعطيها مئة ناقة ، ليعلمِّ الناس صلة الأرحام
يا سيدي ، يا رسول الله ، يا من كانت الرحمة مهجتك ، والعدل شريعتك ، والحب فطرتك ، والسمو حرفتك ، ومشكلات الناس عبادتك !!!
يا سيدي يا رسول الله ، نقل عنك في أحاديثك
الصحيحة ، أنك تقلق أشد القلق ، يوم القيامة على أمتك ، فتقول أمتي ، أمتي ،
فيقال لك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك ؟
يا سيدي يا رسول الله ، الذي أحدثوه بعدك
أنهم قطعوا عماتهم وخالاتهم ، وبناتهم وأخواتهم ؟ وحرموهن من الميراث الذي
فرضه الله لهن ، وقطعوهن من الصلة والزيارة ؛ حتى سمعنا ورأينا من الأمهات
الفقيرات من تضطر الواحدة منهن أن تقيم دعوى على ابنها المترف من أجل أن
ينفق عليها ، هان أمر الله علينا من بعدك فهنا على الله
أسباب قطيعة الرحم :
وإذا أنعمنا النظر في أسباب قطيعة الأرحام ؛ وجدنا أن من تلك الأسباب :
1ـ الجهل بعواقب القطيعة ، والجهل بفضائل
الصلة ، والتفكر في الآثار المترتبة على الصلة ؛ فإن معرفة ثمرات الأشياء ،
واستحضار حسن عواقبها من أكبر الدواعي إلى فعلها ، وتمثلها ، والسعي إليها
، وكذلك النظر في عواقب القطيعة ، وتأمل ما تجلبه من هم ، وغم ، وحسرة ،
وندامة ، ونحو ذلك ، فهذا مما يعين على اجتنابها ، والبعد عنها .
2ـ ضعف التقوى ، والكبر ، فبعض الناس إذا
نال منصبا ًرفيعاً ، أو حاز مكانة عالية ، أو كان تاجراً ، أو مشهوراً ؛
تكبر على أقاربه ، وأنف من زيارتهم والتودد إليهم .
ومما يحبب الإنسان لقرابته ، ويدنيه منهم تواضعه ولين جانبه :
من كان يـحلم أن يسود عشــيرة فعليه بالتقوى و لين الجــانب
و يغض طرفاً عن مساوي من أسـا منهم ويحلم عند جهل الصاحب
3ـ الانقطاع الطويل الذي يقود إلى الوحشة ، واعتياد القطيعة .
4ـ العتاب الشديد ، فبعض الناس إذا زاره أحد
من أقاربه ؛ أمطر عليه وابلاً من التقريع والعتاب على تقصيره في حقه ,
وإبطائه في المجيء إليه ؛ ومن هنا تحصل النفرة من ذلك الشخص ، والهيبة من
المجيء إليه .
وعلاج ذلك تحمل عتابهم ، وحمله على أحسن
المحامل ، فهذا أدب الفضلاء ، ودأب النبلاء ممن تمت مروءتهم ، وكملت
أخلاقهم ، وتناهى سؤددهم ، ممن وسعوا الناس بحلمهم ، وحسن تربيتهم ، وسعة
أفقهم ؛ فإذا عاتبهم أحد من الأقارب ، وأغلظ عليهم ، لتقصيرهم في حقه ؛ لم
يثرّبوا عليهم ، ولم يجاروه في عتابه بل يتلطفون به ، ويحملون عتابه على
المحمل الحسن ، فيرون أن هذا المعاتب محب لهم ، حريص على مجيئهم ويشعرونه
بذلك ، ويشكرونه ، ويعتذرون إليه ، حتى تخف حِدَّتُه ، وتهدأ ثورته ، فبعض
الناس يقدر ويحب ؛ ولكنه لا يستطيع التعبير عن ذلك إلا بكثرة اللوم والعتاب
، والكرام يحسنون التعامل مع هؤلاء ، ولسان حالهم يقول : لو أخطأت في حسن
أسلوبك ما أخطأت في حسن نيتك .
5ـ التكلف الزائد ، فهناك من الناس من إذا
زاره أقاربه تكلًّف لهم أكثر من اللازم ، وخسر الأموال الطائلة ، وقد يكون -
مع ذلك - قليل ذات اليد ، ومن هنا تجد أقاربه يقصرون عن المجيء إليه ،
خوفاً من إيقاعه في الحرج .
6ـ وتجد من إذا زاره أقاربه لم يهتم بهم ،
ولم يصغ لحديثهم ، ولا يفرح بمقدمهم ، ولا يستقبلهم إلا بكل تثاقل وبرودة ،
مما يقلل رغبتهم في زيارته .
7ـ الشح والبخل ، فمن الناس من إذا رزقه الله مالاً أو جاهاً تهرب من أقاربه ، حتى لا يرهقونه بطلباتهم المتنوعة .
وعلاج ذلك بذل المستطاع لهم من الخدمة
بالنفس ، أو الجاه ، أو المال ، وأن يدع المنة عليهم ، والتعاون على حل
مشكلاتهم المادية والاجتماعية والدينية ، فإذا ما احتاج أحد من أفراد
الأسرة مالاً لزواج ، أو نازلة أو غير ذلك ؛ قاموا بدراسة حاله ، ورفدوه
بما يستحق ، فهذا مما يولد المحبة بين الأقارب .
8 ـ تأخير قسمة الميراث ، فقد يكون بين
الأقارب ميراث لم يقسم ، إما تكاسلاً منهم ، أو قلة وفاق فيما بينهم ،
وكلما تأخر قسم الميراث شاعت العداوة ، وكثرت المشكلات ، وزاد سوء الظن ،
وحلت القطيعة .
9ـ الشراكة بين الأقارب ، فكثيراً ما يشترك
الإخوة أو غيرهم من الأقارب في مشروع أو شركة ما ، دون أن يتفقوا على أسس
ثابتة ، ودون أن تقوم الشراكة على الوضوح والصراحة ، بل تقوم على المجاملة ،
والحياء ، وحسن الظن . فإذا زاد الإنتاج ، واتسعت دائرة العمل ؛ دب الخلاف
، وساد البغي ، ونـزغ الشيطان، وحدث سوء الظن خصوصاً إذا كانوا من قليلي
التقوى والإيثار ، أو كان بعضهم مستبداً برأيه ، أو كان أحد الأطراف أكثر
جدية من صاحبه ، ومن هنا تسوء العلاقة ، وتحل الفرقة ، وربما وصلت بهم
الحال ، إلى الخصومات في المحاكم ؛ فيصبحون سبّة لغيرهم .
وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ
[ص : 24 ]
1ـ الاشتغال بالدنيا ، والانشغال بها عن
أداء واجباته تجاه أرحامه ، لذلك وجب أن تكون لهم اجتماعات دورية شهرية أو
نصف شهرية ، أو نحو ذلك .
11ـ والطلاق بين الأقارب إذا لم يكن بإحسان .
12ـ وبُعد المسافة ، والتكاسل عن الزيارة .
13ـ وقد يكون التقارب في المساكن بين
الأقارب مسبباً للقطيعة بسبب ما يكون من التزاحم على الحقوق ، وبسبب ما
يحدث بين الأولاد من مشكلات قد تنتقل إلى الوالدين
14ـ قلة التحمل ، والصبر على الأقارب .
15ـ ونسيانهم في الولائم والمناسبات ، فقد يفسر هذا النسيان بأنه تجاهل واحتقار ، فيقود ذلك الظن إلى الصرم والهجر .
ومن الطرق المجدية أن يسجل أسماء أقاربه ،
وأرقام هواتفهم ، ثم يحفظها عنده ، حتى يستحضرهم جميعاً ، ويتصل بهم إما
مباشرة أو عبر الهاتف ، أو غير ذلك .
الإخلاص في صلة الرحم :
يراعي في صلة الأرحام أن تكون الصلة قربة
لله ، خالصة لوجهه الكريم ، وأن تكون تعاوناً على البر والتقوى ، ولا يقصد
بها حمية الجاهلية .
إنّ الجاليات الإسلامية والعربية منتشرة في
شتى بقاع الأرض ، وبعض الجاليات في بعض البلاد الغربية القريبة والبعيدة
تفوقت تفوقاً يلفت النظر ، فبينما لا يزيد عدد الحاملين للدكتوراه ، من
السكان الأصليين على الثمانية بالألف نجد أن الذين يحملون الدكتوراه في
الجاليات الإسلامية يزيد على ثلاثة وثلاثين في الألف ، هؤلاء المتفقون
علمياً تسلّموا مناصب رفيعة في بلاد المهجر في الطب والفلك والاقتصاد
والذرة .
والآن ، ما علاقة أفراد الجاليات الإسلامية بموضوع الخطبة اليوم ( صلة الأرحام ) ؟
الحقيقة أن أفراد الجاليات الإسلامية
والعربية هؤلاء ينبغي أن يكونوا رسلاً لإسلامهم ولأوطانهم ، وهم إذ ينقلون
للغرب القريب والبعيد حقائق الإسلام ومبادئه وقيمه ، دعوة ، ويطبقونها
منهجاً في حياتهم ، يأخذ الغرب من الإسلام موقفاً غير هذا الموقف الذي
يؤلمنا أشد الألم ، وهم إذ ينقلون لأمتهم التي ترعرعوا في كنفها ، ونبت
لحمهم من خيراتها ، وتلقوا العلم في جامعاتها ، أفضل ما في الغرب من علم
ونظام وعمل دؤوب ، ولا ضير في ذلك ، لأن ثقافة أية أمة هي ملك البشرية
جمعاء ، لأنها بمثابة عسل استخلص من زهرات مختلف الشعوب على مر الأجيال ،
وهل يعقل إذا لدغتنا جماعة من النحل أن نقاطع العسل الذي حصلته من أزهارنا ؟
فإن فعلت الجاليات الإسلامية والعربية ذلك تكون قد وصلت رحمها بطريقة
معاصرة ، ولا أدل على ذلك من أن كبار مفكري الغرب يعترفون بفضل الحضارة
الإسلامية على العالم .
يقول غوته : إن دين الإسلام دين إخلاص ، ودين اجتماع وأخلاق ، ورعاية لبني الإنسان .
ويقول برناردشو : الإسلام هو الدين الذي نجد فيه حسنات الأديان كلها ، ولا نجد في الأديان حسناته .
ويقول غوستاف لوبون : إن الأمم لم تعرف بحق فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب ، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم .
ويقول ولي عهد بريطانية : إن كثيراً من المزايا التي تفخر بها أوربة العصرية جاءت أصلاً من إسبانيا في أثناء الحكم الإسلامي .
ويقول ديورانت : إن محمداً ـ e ـ كان من
أعظم عظماء التاريخ ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي
للناس ، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحاً لم يدانِه فيه أيّ مصلح آخر .
لذلك استضاف معرض فرانكفورت الدولي للكتاب الحضارة العربية والإسلامية لتكون ضيف شرف لهذا العام .
وتعزيزاً لصلة الأرحام بين المغتربين وأهلهم
في بلاد الشام كانت وزارة المغتربين ، وكان مؤتمر المغتربين ، الذي ألقى
فيه السيد الرئيس كلمة قال فيها :
ومن أجل القيم الأصيلة التي نؤمن بها
تواصلوا مع وطنكم ، تواصلوا مع أقربائكم ، تواصلوا مع أصدقائكم ، شجعوا
التواصل بين أبنائكم وبناتكم وبين أبناء وبنات الوطن ، تواصلوا مع العرب
الآخرين ، تواصلوا مع الناس جميعا ، نظموا أنفسكم في منظمات تعبر عنكم وعن
ثقافتكم ، ومصالحكم ، أريد منكم التفوق والاندماج والولاء لوطنكم الذي
تعيشون فيه ، والوفاء لوطنكم الأم
والحمد لله رب العالمين