لم تعرف البشرية محاربا وفاتحا أرحم
بمحاربيه ومن يقع في يديه من الأسرى من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
.. ففي الوقت الذي كانت فيه الجاهلية لا تعرف أخلاقيات للحروب ولا حقوق
للأسرى ، وتستباح الحرمات والأعراض ، جاء النبي - صلى الله عليه وسلم -
ليضع للعالمين تصورًا سامياً لحقوق الأسرى ، ورغم أنَّ هؤلاء الأسرى ما هم
إلا محاربون للإسلام ، إلا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بالإحسان
إليهم ، وقرَّر لهم واجبات وحقوقاً على المسلمين ، منها : الحرية الدينية ،
والحق في الطعام ، والكسوة ، والمعاملة الحسنة ، وكلُّ ذلك له شواهد في
سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
وقبل أن نذكر بعضا من مواقفه - صلى الله عليه وسلم - مع الأسرى نذكر طرفا
من هديه ووصاياه المتعلقة بما قبل الحرب وأثناءها ، لنرى أروع القيم
الحضارية من سيرة خير البشرية ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
هديه قبل القتال :
لم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ينظر إلى أعدائه نظرة لا تفرق بين معاهد ومحارب ، ولم يكن ينقض العهود أو
يغدر بأعدائه ، بل كان يعامل كل فريق بمقتضى ما يربط بينهما من علاقات
السلم والحرب ، وقد لخص ابن القيم مُجْمل هديه
ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك في كتابه زاد المعاد فقال : " .. ثم كان
الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ،
وأهل ذِّمة ، فأمر أن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوَّفَّي لهم به
ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إلى عهدهم ، ولم يقاتلهم
حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأُمِرَ أن يقاتل من نقض عهده ، ولما نزلت سورة "
براءة " نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوه من
أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام ، وأمره بجهاد الكفار
والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين
بالحجة واللسان .." ..
هديه أثناء القتال :
رغم كون القتال عملية تزهق فيها الأرواح وتجرح الأبدان ، ويقصد فيها إلحاق
أنواع الأذى بالأعداء ، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرع لأمته
آدابا يتحلون بها قبل الحرب وأثناءها وبعدها .. فعن
سليمان بن بريدة عن أبيه قال : ( كان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه
في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : اغزوا باسم الله
في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا و لا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا
تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ) رواه مسلم .
فإذا وضعت الحرب أوزارها ، ووقع المقاتلون من الكفار أسرى في أيدي المسلمين
، راعى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاني الرحمة والكرامة الإنسانية
التي تراعي مصلحة الدولة المسلمة وحقوق الأسرى ، والتي لم يبلغها القانون
الدولي الإنساني المعاصر ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (
استوصوا بالأُسَارَى خيرا ) رواه الطبراني .
يقول ابن القيم في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
في الأسرى : " .. كان يَمُنّ على بعضهم (يطلق سراحهم بلا فداء) ، ويقتل
بعضهم ، ويفادي بعضهم بالمال ، وبعضهم بأسارى المسلمين ، فعل ذلك كلّه بحسب
المصلحة .. " ..
وهذه بعض مواقفه - صلى الله عليه وسلم مع الأسرى من خلال سيرته المشرفة :
أسرى بدر :
أوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه بعد معركة بدر بمعاملة أسرى المشركين معاملة حسنة ، وقال لهم : (
استوصوا بالأسارى خيرا ) رواه الطبراني ، وبهذه التوصية النبوية الكريمة ظهر تحقيق قول الله تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً }(الإنسان:
، فقد امتثل الصحابة - رضوان الله عليهم - وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضربوا أروع الأمثلة في معاملة الأسرى ..
يقول أخٌ لمصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ : "
.. وكنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر
وأطعموني البر، لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رواه الطبراني .
ويقول أبو العاص بن الربيع : " كنت في رهط من
الأنصار جزاهم الله خيراً ، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا
التمر، والخبز معهم قليل ، والتمر زادهم ، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة
فيدفعها إليّ " ،
وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد قوله : " وكانوا يحملوننا ويمشون " ..
وعاد أولئك الأسرى إلى مكة وكل حديثهم عن كرم أخلاق رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ وأصحابه ، وعن محبته وسماحته ، وعن دعوته وما فيها من البر
والتقوى ، والإصلاح والخير ..
وقد تركت هذه المعاملة الحسنة أثرها في قلوب هؤلاء الأسرى ، فأسلم كثير منهم في أوقاتٍ لاحقة ، فأسلم أبو عزيز عقيب بدر بعد وصول الأسرى إلى المدينة ، وأسلم معه السائب بن عبيد ..
أسرى غزوة بني المصطلق :
كان من بين الأسرى الذين أسرهم المسلمون في غزوة بني المصطلق
جويرية بنت الحارث بن ضرار سيد قومه ، وكانت بركة على قومها ، فقد ذكرت ـ أم المؤمنين ـ عائشة : ( أن جويرية أتت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالت له : قد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك ، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس ،فكاتبته
على نفسي ، فجئت أستعينك على كتابي .. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
فهل لك في خير من ذلك ؟! ، قالت : وما هو يا رسول الله ؟ ، قال : أقض عنك
كتابك وأتزوجك ، قالت : نعم يا رسول الله قد فعلت .. قالت عائشة : وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تزوج جويرية بنت الحارث ،
فقال الناس : أصهار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأرسلوا ما في
أيديهم من سبايا بني المصطلق .. فلقد أعتق تزويجه إياها مائة أهل بيت من
بني المصطلق ، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها ) رواه أحمد
.. ومن ثم تعتبر غزوة بني المصطلق (المريسيع) من الغزوات الفريدة المباركة
التي أسلمت عقبها قبيلة بأسرها ، وكان زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجويرية ـ
رضي الله عنها ـ السبب في ذلك ، إذ استكثر الصحابة على أنفسهم ، أن يكون
أصهار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحت أيديهم أسرى ، فأعتقوهم جميعا
بغير فداء ..
أسرى بني قريظة :
كانت غزوة بني قريظة نتيجة من نتائج غزوة