بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
زكـــاة الحــلي
أ.د.إبراهيم بن محمد الصبيحي
المقدمة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركا فيه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من تمسك بهديه إلى يوم الدين أما بعد:
فإن المسلم الغيور لينشرح صدره حينما يرى شباب بلادنا خاصة، وشباب عالمنا الإسلامي عامة إلى الالتزام بالإسلام مع اقبالهم وعنايتهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد : حفظاً وتفقها، ودراسة، واتخاذهما منهج حياة، ويزين هذا وعي وإدراك ومعرفة بما يحيط بهم ورصد لكل ما يحاك حولهم من مؤامرات ومخطاطات خبيثة لصدهم عن الدين، فبارك الله في جهاد شباب أمتنا وسدد خطاهم، وأبان لهم طريق الحق.
وإن الفضل في هذا يعود إلى الله تعالى، ثم إلى جود رجال مخلصين نذروا أنفسهم خدمة لأمتهم، ونصرة لدينهم، ورفعاً لمستوى أبنائهم، فجزاهم الله خير ما ي جزى به عباده المخلصين، وإننى لأشيد بجه9ود شيخين جليلين وعالمين كريمين هما سماحة شيخنا العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وفضيلة شيخنا الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، حفظهما الله، وبارك في بقية أعمارها.
ثم إن هذه النهضة العلمية العظيمة مرتبطة بجهود علماء الدعوة الإصلاحية المباركة التي قادها ورسم خطاها وأسس دعائمها الإمام الشيخ المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله رحمة واسعة وإن هذه الدعوة المباركة مبنية على منهج إمام أهل السنة والجماعة الإمام المبجل أحمد بن حنبل في العقيدة والفقه، وقواعد الاستنباط.
وإن من أبرز أصول هذا المنهج الوقوف مع الدليل، وعدم التعصب لأقوال الرجال، حتى إنه ليروى عن الإمام أحمد رحمه الله الأراء المتعددة في المسألة الواحدة مما يدل على تجدد العطاء، والبحث عما يعضده الدليل، وعدم الجمود على قول معين قد ظهر الحق خلافه، وهذا هو منهج الأئمة الأعلام من الصحابة الكرام والتابعين لم بإحسان.
وإنني لأنصح شباب أمتنا أن يعنوا بمعرفة الأسس والضوابط التي بنى عليها الأئمة مناهجهم ومدارسهم في كيفية معرفة فقه الكتاب والسنة، وطريقتهم في التوفيق بين الأدلة التي ظاهرها التعارض.
وإن من أبرز هذه الأسس علم أصول الفقه، فمن رام الوصول إلى أرجح الأراء، وأدقها، فينهل من قواعده العظام، وليدقق في تطبيق الأمثلة على تلك القواعد، وليسأل ربه الفقه في الدين.
ولن يكون الصواب حليف الذين أعرضوا عنه، وقد قيل: من حرم الأصول حرم الوصول، وهذه حقيقة لا ينكرها إلا من لم يعرف مناهج العلماء في التفقة في الدين.
وإن العناية بهذا العلم وتحصيله من أعظم الأسباب في كسرب حدة التعصب لآراء الرجال الذي ربما بلي به بعض شبابنا المعاصر حين إنه لا يعرف من طرق الترجيح إلا محبة شيخه الذي يأخذ عنه، ومعرفة ظواهر الأدلة التي عرضها الشيخ، واعتمد عليها في فتواه، فيرى أن مخالفة من يتعصب له قدح في الدين، فيضلل إخوانه وربما يكون الصواب حليفهم.
هذا ومن المسائل التي تعددت فيها الأقوال، وتعارضت فيها الفتاوى، وصارت حديث المجالس، بل ربما حصل الخلاف فيها بين المرأة وزوجها: مسألة زكاة الحلي، لأ، كل واحد منهما يذهب إلى قول أحد المفتين.
لذا بذلت الجهد في دراستها دراسة علمية مؤصلة، فبنيتها على منهج المحدثين في نقد الأسانيد والحكم على المتون، كما اعتمدت على منهج الأصوليين في التفقه والاستنباط والترجيح، والجمع بين الأدلة المتعارضة وتقديم الخاص على العام، وربط المجمل ببيانه، وتحديد متى يجب تقديم قول الصحابي إذا خالف روايته، ومتى يجب تقديم روايته على رأيه، متوخيا في ذلك أصول مذهب الإمام أحمد وهو مذهب جمهور أهل العلم، لما ظهر لدى من رجحان مذهبهم على مخالفيهم.
وقد اعتمدت في الجانب اللغوي على أدق التعريفات التي اعتمدها جهابذة أئمة اللغة، والمتفقة مع دلالات السنة المطهرة.
وقد بذلت في هذا البحث قصارى جهدي فحررت مسائله، وبينت مجمله، ورددت فروعه إلى أصولها وأمثلته إلى قواعدها، كما عنيت بجمع أدلة الجمهور من شتى المصادر لأنني لم أر أحد قصد جمعها وتولى الأجابة عن أدلة المخالفين واعتراضاتهم، إلا ما وقفت عليه مما صدر حديثاً عن فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام بعنوان القول الجلي في زكاة الحلي، وهي محاولة طيبة، لكنه لم يستكمل فيها جمع الأدلة، كما لم يستكمل دراستها، ولعل عذر الشيخ أن عمله هذا جاء ضمن شرحه لكتاب بلوغ المرام، ولم يقصدها بالتأليف، كما ذكر هذا في مقدمته.
وقد أضفت إلى تلك الأدلة ما رأيته صالحا للاستدلال به، وإن لم أجد أحدا سبقني إليه، كما تعرضت للإجابة عن أدلة المخالفين، واعتراضاتهم، بما رأيته صالحا، وإن لم يسبقني إليه أحد، فاسأل الله التوفيق والتسديد في الأمور كلها. هذا وقد بنيت هذا البحث على تمهيد وبابين، وخاتمة وفهارس.
فذكرت في التمهيد ما يعين القارئ الكريم على فهم الدراسات الواردة في الأبواب، فعرفت: الزكاة، والحلى، والأواقي، والورق، والرقة، والدراهم، وحددت فيه نصاب الذهب تحديداً لم أرح أحدا سبقني إليه، كما عنيت بدراسة الزكاة في العهد المكي ومدى تأثير ذلك على فهم الأدلة.
أما الباب الأول: فذكرت فيه أدلة الذين لا يرون وجوب الزكاة مع بيان دلالاتها، ومدى تأثيرها في قوة ما ذهبوا إليه.
أما الباب الثاني: فجعلت من فصلين، فخصصت الفصل الأول لتحليل أدلة الموجبين لزكاة الحلى، وبيان مدى دلالاتها على ما احتجوا بها عليه، كما خصصت الفصل الثاني: لدراسة الاعتراضات التي احتجوا بها على مذهب مخالفيهم، ثم ختمته بالنتيجة العلمية التي توصلت إليها من خلال هذه الدراسة الموسعة، والله الهادي إلى الصواب، وهو حسبنا ومعيننا. سبحانه وتعالى. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
حرر في مدينة الرياض
في 9/1/1411هـ
التمهيد
مما يعين القارئ الكريم على فهم الدراسة التي أوردتها في هذه الرسالة: معرفته بأرجح الأقوال في المسائل التي تعتبر محور الخلاف بين الأئمة في إيجاب زكاة الحلي، ولذا عنيت في هذا التمهيد بدراسة تعريف الزكاة، والحلى، والأواقي، والدراهم، والورق، والرقة عند أهل اللغة، وتمييز التعريف الذي قصد في لغة السنة، من مطلق التعريف الذي استعمل في لغة العرب، كما عنيت بتحديد نصاب الذهب خاصة، لأن غالب الذهب المتخذ حلياً ليس ذهبا خالصاً.
وأكثر الناس اليوم لا يفرق بين نصاب الذهب الخالص، وبين نصاب الذهب المختلط بغيره، كما عنيت أيضاً بدراسة أحكام الزكاة في العهد المكي، لأن هذا يعين على فهم الأحاديث الواردة في عموم الزكاة، كما يسهل التمييز بين ما ورد في التشريع الأول للزكاة، مما ورد في التشريع الثاني لها لئلا تتداخل الأحكام، وأسأل الله التوفيق والتسديد أنه نعم المولى ونعم النصير.
أولاً: ما يطلق عليه لفظ الزكاة:
I- إطلاقها عند اللغويين:
قال الليث: الزكاة: زكاة المال، وهو تطهيره، والزكاة الصلاح، وقال الأزهري: قال الله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (المؤمنون:4) قال بعضهم: الذين هم للزكاة أي العمل الصالح فاعلون.
ومنه قوله عز وجل: خَيْراً مِنْهُ زَكَاة (الكهف: من الآية81) أي خيرا منه عملا صالحا وقال غيره: قيل لما يخرج من المال للمساكين من حقوقهم زكاة، لأنه تطهير للمال وتثمير وإصلاح ونماء.أ.هـ( ). وقال أبو علي: الزكاة صفوة الشيء، وزكاة إذا أخذ زكاته، وتزكى أي تصدق، وفي التنزيل العزيز وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ قال بعضهم: الذين هم للزكاة مؤتون، وقال آخرون: الذين هم للعمل الصالح فاعلون.
وجاء أيضاً في لسان العرب: وأصل الزكاة في اللغة الطهارة والنماء والبركة والمدح، وكله قد استعمل في القرآن والحديث، وهي من الأسماء المشتركة بين المخرج والفعل، فيطلق على العين، وهي الطائفة من المال المزكى بها، وعلى المعنى، وهي التزكية.أ.هـ( ).
II- إطلاقها عند الأصوليين:
الزكاة عندهم من المجمل الذي لا يعرف معناه منه، بل هو بحاجة إلى بيان، ولا يجوز العمل به حتى يرد ما يبينه، فالعمل إذاً بالبيان لا بالإجمال.
قال أبو الخطاب رحمه الله: وأما المجمل فهو: كل لفظ لا يعرف معناه منه، وقيل: لا يعرف معناه من لفظه، والأول: أصلح، لأنه يرجع إلى لفظه.
وهو على ضربين: لا عرف له في الشرع، ولا في اللغة، وهو مثل قوله عز أسمه: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ فإن هذا الحق ليس له عرف في الشرع ولا في اللغة.
وحكم هذا أن لا يجوز المصير إليه حتى يرد ما يفسره، ومجمل له عرف في اللغة وهو مثل الصلاة والزكاة والحج، فإن الصلاة لها معنى في اللغة وهو الدعاء، و الدليل عليه قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي أدع لهم.
وأما الزكاة فمعناها في اللغة: الزيادة والنماء، يقال زكا المال إذا نماء فحكم هذا لا يصار إليه حتى يرد دليل يفسره، وقد اختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم من قال هو عام في جميع الأشياء وقال أحمد رحمه الله في كتاب طاعة الرسول: لا يجوز العدول إلى هذا حتى يرد ما يفسره.أ.هـ( )
وقال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ).
المسألة الرابعة: وأختلف في المراد بالزكاة هنا، فقيل: الزكاة المفروضة لمقارنتها بالصلاة وقيل صدقة الفطر، قاله مالك.
فعلى الأولى – وهو قول الأكثر – فالزكاة في الكتاب مجملة بينها النبي ( ).
وقال الإمام النووي رحمه الله: وذكر أصحابنا في كتب الأصول والفروع خلافاً في هذه وهل مجملة أم لا؟ فقالوا: قال أبو اسحاق المروزي وغيره من أصحابنا هي مجملة، قال البنديجي: هذا هو المذهب، لأن الزكاة لا تجب إلا في مال مخصوص إذا بلغ قدراً مخصوصاً، ويجب قدر مخصوص، ولي في الآية ( ) بيان شيء من هذا، فهي مجملة بينتها السنة، إلا أنها تقتضي أصل الوجوب.
وقال بعض أصحابنا ليست مجملة بل هي عامة، بل كان ما تناوله اسم الزكاة فالآية تقتضى وجوبه، والزيادة عليه تعرف بالسنة، قال القاضي أبو الطيب في تعليقه وآخرون من أصحابنا: فائدة الخلاف أنا إذا قلنا: مجملة فهي حجة في أصل وجوب الزكاة، ولا يحتج بها في مسائل الخلاف، وإن قلنا ليست مجملة كانت حجة في أصل وجوب الزكاة، وفي مسائل الخلاف تعلقاً بعمومها، والله أعلم.أ.هـ ( ).
ج- ما تطلق عليه عند الفقهاء:
تطلق الزكاة عند الفقهاء، على زكاة الفطر، وعلى الزكاة المفروضة، كما تطلق على عارية الحلى، وهو مذهب جمهور أهل العلم وبه قال جمع من الصحابة ، وهم أصحاب لسان، وفقه في الدين فيجب اعتبار تفسيرهم.
قال ابن قدامة رحمه الله بعد إيراد حديث عمرو بن شعيب في زكاة الحلى: ويحتمل أنه أراد بالزكاة إعارته، كما فسره به بعض العلماء، وذهب إليه جماعة من الصحابة وغيرهم.أ.هـ ( ).
ثانياً: تعريف الحلي:
الحلي: ما تزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة، كذا في اللسان والقاموس.
وقال الليث: الحلي كل حلية حليت بها امرأة أو سيف ونحوه، والجمع حلي، قال الله عز وجل: مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ.
وقال أبو علي: وإما يحال الحلي للمرأة، وما سواها فلا يقال إلا حلية للسيف.أ.هـ.
وقال ابن الأثير في مادة (حلا) وفيه (أنه جاءه رجل وعليه خاتم من حديد، فقال: (ما لي أرى عليك حلية أهل النار) الحلي اسم لكل ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة ( ).
وقال ابن الأثير أيضاً في مادة (سخب) بعد ما أشار إلى قوله (تصدقن ولو من حليكن، فجعلت المرأة تلقى القرط والسخاب) قال رحمه الله: هو خيط ينظم فيه خرز ويلبسه الصبيان والجوارى، وقيل: هو قلادة تتخذ من قرنفل ومحل وسك ونحوه، وليس فيها من اللؤلؤ والجواهر شيء ( ).
فتبين بهذا أن الحلى اسم لما يتزين به من المصاغات، وليس هو اسماً لكل مصاغ.
وبسبب هذا التعريف اللغوي للحلي فرق جمهور العلماء بين حلي الذهب والفضة المتخذ للزينة، وبين سائر مصاغات الذهب والفضة المتخذة للنفقة أو للتجارة أو للكراء أو للادخار، فلم يوجبوا الزكاة في النوع الأول، لأنه يشمله اسم الحلي، والأصل عدم وجوبها فيما تتزين به النساء وتتحلى به، وأوجبوها في الثاني، لأن اسم الحلي وكذا الزينة لا يشمله، فيجب أن يبقى على حكم أصله، وهو وجوب الزكاة في الذهب والفضة.
وسيأتي مزيد بيان لهذا في الاعتراض الرابع على القياس من الفصل الثاني من الباب الثاني – إن شاء الله – والله أعلم.
ثالثاً: تعريف الأواقي:
الأواقي: جمع أوقية، قال في اللسان: الأوقية زنة سبعة مثاقيل، وزنة أربعين درهما ( ). وقال الفيروز آبادي: الأوقية بالضم سبعة مثاقيل، وأربعون درهما ( ).
فهذا يدل على أنه يراد بالأوقية عند الاطلاق: وزن المعدود مع بيان عدده إلا أنها لم قيدت بالورق في السنة صارت خاصة، بعدد الدراهم، وهذا محل اتفاق بين أئمة اللغة والشريعة.
قال الجوهر: والأوقية في الحديث: أربعون درهما، وكذلك كان فيما مضى ( ). وقال مجاهد في تفسير حديث أن النبي : لم يصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش، قال: الأوقية أربعون درهما والنش: عشرون ( ).
وقال الأزهري في تفسير قول النبي : (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) قال: خمس أواق مائتا درهم، وهذا يحقق ما قال مجاهد ( ).
وقد أطلق الزمخشري على الأوقية أنها أربعون درهما، ولم يذكر غبر هذا ( ).
وذكر أبو عبيدة أن الأربعين درهما تسمى أوقية، كما تسمى العشرون نشا ( ).
ووافق ابن الأثير أبا عبيد على أن الأوقية اسم لأربعين درهما ( ) ونقل الإمام ابن حجر الإجماع على أن مقدار في حديث (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) أربعون درهما ( ) وقال العيني: وأجمع أهل الحديث والفقه وأئمة اللغة على أن الأوقية الشرعية أربعون درهما، وهي أوقية الحجاز ( ).
قلت: ومما يدل أيضاً على أن الأوقية المذكورة في الحديث السابق أربعون درهماً ما رواه البخاري عن أنس أن فيما كتب له أبو بكر حينما وجهه إلى البحرين: وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها.أ.هـ.( ). فهذا الحديث مفسر وموضح لحديث (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) وهو في محل النزاع فيجب المصير إليه، لأن في هذا جمعاً بين السنن. والله أعلم.
رابعاً: تعريف الورق والرقة:
قال الجوهري: الورق: الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة، والهاء عوض من الواو، وفي الحديث: (في الرقة ربع العشر)( ).
وقال ابن فارس: الرقة: من الدراهم.أ.هـ( )، وقال الأزهري: الورق: اسم للدراهم، وكذلك الرقة، يقال أعطاه ألف درهم رقة لا يخالطها شيء من المال غيرها، وروى عن النبي أنه قال (وفي الرقة ربع العشر).
وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه قال: الورق والرقة: الدراهم خالصة، والوراق: الرجل الكثير الورق.أ.هـ ( )، وقال الفيروز آبادي: الورق: الدراهم المضروبة، وقال أبو عبيد في الرقة: لا نعلم هذا الاسم في الكلام المعقول عند العرب يقع إلا على الورق المنقوشة ذات السكة السائرة في الناس، وكذلك الأواقي ليس معناها إلا الدراهم، كل أوقية أربعون درهم.أ.هـ( )، وقال الحربي: الورق: يعني الدراهم.أ.هـ( ). وقال أبو الهيثم: الورق والرقة: الدراهم خاصة.
وقال ابن منظور: الورق والرقة: الدراهم.أ.هـ( ). هذا وقد رد الشنقيطي رحمه الله على الذين زعموا أن لفظ الرقة، ولفظ الأوقية الثابت في الصحيح يشمل المصوغ كما يشمل المسكوك بقوله: وقد قدمنا إلى التحقيق خلافه.أ.هـ( ).
هذا ما استطعت الوقوف عليه، من كلام الأئمة الذين رأوا أن المراد بالورق، والرقة الدراهم المضروبة خاصة إلا أن هناك رأيا آخر في المراد بهما. ففي المخصص: الرقة: الفضة وربما سميت الفضة ورقا.أ.هـ( ).
وقال أبو عبيدة: الورق الفضة كانت مضروبة كدراهم أولا .أ.هـ( ).
أما ابن الأثير فقد اختلف رأيه فيهما، فقال مرة في تفسير قوله : (فهاتوا صدقة الرقة) يريد الفضة والدراهم المضروبة منها، وأصل اللفظة الورق، وهي الدراهم المضروبة خاصة.أ.هـ( ).
وقال في موضع آخر: الورق: الفضة.أ.هـ.( ) قال الزيعلي: قال ابن قتيبة: الرقة: الفضة سواء كانت الدراهم أو غيرها نقله ابن الجوزي في التحقيق.أ.هـ( )، وقال ابن حجر: الورق: الفضة.أ.هـ( ).
وعند الاختلاف لا بد من الترجيح، والراجح من الأقوال أن المراد بالرقة الواردة في أحاديث الزكاة الدراهم المضروبة خاصة أما الورق فهو اعم من ذلك إذ يشمل المضروب وغير المضروب لما يأتي:
I- اتفاق الأئمة على أن المراد بالأواقي في حديث: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) الدراهم، فأفاد هذا الحديث أن محل الصدقة الدراهم المسكوكة من الورق، لا نفس الورق إذا لم يكن مسكوكا.
II- دلالة حديث رسول الله على أن الرقة عين الدراهم وذلك فيما رواه انس بن مالك أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط – الحديث، وجاء في آخره (وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها) رواه البخاري ( ).
فهذا يدل على أن الرقة في لسان الشارع يراد بها المضروب خاصة ولا يصح أن يترك الدليل الشرعي الخاص، إلى عموم اللغة المختلف فيها.
ج - خص جمهور أئمة اللغة الرقة بالمضروب، وهذا يدل على أن هذه هي لغة جمهور العرب، فنبغي أن تفسر بها السنة، خصوصاً مع ورود ما يؤيد هذا في السنة نفهسا كما سبق، ولا ينبغي حمل السنة على غريب اللغة، لأن في هذا هجراً لفصيحها بلا دليل.
د- أن الذين أطلقوا الرقة على الفضة، لم يذكروا شاهد من كلام العرب فلا يحتج بقولهم، لما ذكر أبو عبيد من أنه لا يحفظ من كلام العرب ما يدل عليه، وقوله أصل معتبر يرجع إليه، فلا تصح معارضته بقول غيره إلا لمن جاء بما يشهد له من فصيح كلام العرب، أما قول أبي عبيدة في الورق، فلا يعارض قول أبي عبيد في الرقة، لاختلاف الاسمين، كما ورد في لسان العرب 10/374. من اختلاف أنواع النبات الذي يسمى بالرقة عما يسمى بالورق عند الاطلاق، وحاصله أن الرقة تطلق على بعض ما يطلق عليه لفظ الورق فبينهما عموم وخصوص، وهذا متفق مع ما ذهب إليه أبو عبيد من أن الرقة خاصة في المضروب، والمضروب جزء من الورق الذي يصلح إطلاقه على الفضة، ثم إن أبا عبيدة لم يقل بأن الرقة عين الورق حتى يصح أن يحتج بقوله في الورق على عموم الرقة، ويستفاد من هذا التفريق بين لفظي الرقة والورق أن الأصل في تحديد مقدار الزكاة في السنة، الدراهم المعدودة المضروبة، وليس الأصل في تحديدها الفضة غير المضروبة إذ لم يرد الأمر بإيجابها في الورق إلا مع تقييده بالأواقي التي هي الدراهم. والله أعلم.
خامساً: تعريف الدراهم:
قال الجوهري: الدرهم: فارسي معرب، قال الشاعر:
لو أن عندي مائتي درهام
يحاز في آفاقها خاتامي
وجمع الدرهم: الدراهم.أ.هـ( ).
وقال المقري: الدرهم الإسلامي: اسم للمضروب من الفضة، وهو معربن ثم قال: وكانت الدراهم في الجاهلية مختلفة، فكان بعضها خفافاً هي الطبرية، وبعضها ثقالاً، وكانت تسمى العبدية، وقيل البغلية نسبة إلى ملك يقال له رأس البغل، فجمع الخفيف والثقيل وجعلا درهمين متساويين، فجاء كل درهم ستة دوانق.أ.هـ( ).
وقال الحافظ ابن حجر: والمراد بالدرهم: الخالص من الفضة سوءا كان مضروبا أو غير مضروب، قال عياض: قال أبو عبيد: أن الدرهم لم يكن معلوم القدر حتى جاء عبدالملك بن مروان فجمع العلماء، فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، قال: وهذا يلزم منه أن يكون النبي أحال بنصاب الزكاة على أمر مجهول، وهو مشكل، والصواب أن معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام، وكانت مختلفة في الوزن بالنسبة إلى العدد، فعشرة مثلا وزن عشرة، وعشرة وزنه ثمانية، فاتق الرأي على أن تنقش بكتابة عربية ويصير وزنها وزنا واحدا.
وقال غيره: لم يتغير المثقال في الجاهلية ولا في الإسلام، وأما الدراهم فأجمعوا على أن كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم، ولم يخالف في أن نصاب الزكاة مائتا درهم يلغ مائة وأربعين مثقالاً من الفضة الخالصة إلا ابن حبيب الأندلسي..الخ ( ).
قلت: فهذا وما سبق يدل على ضعف القول الذي صدره الحافظ في أول كلامه، ومما يشهد لهذا ما قاله: ابن رفعة رحمه الله: قال أصحابنا: وكان غالب ما يتعامل به من أنواع الدراهم في عصر النبي والصدر الأول بعده: نوعان من أنواع الدراهم: الطبرى، والبغلى.أ.هـ( ).
وقال أبو عبيد: أن الدراهم التي كانت نقد الناس على وجه الدهر لم تزل نوعين: هذه السود الوافية، وهذه الطبرية العتق، فجاء الإسلام وهي كذلك، فلما كانت بنو أمية وأرادوا ضرب الدراهم نظروا في العواقب فإن هم ضربوا أحدهما بمفرده أضر ذلك بأرباب الأموال أو أهل الزكاة، فجمعوا الدرهمين وقسموهما على اثنين فخرج كل درهم ستة دوانيق.أ.هـ بتصرف ( ).
فهذا مما يؤكد ما قلنا خلافا لما جاء في الفتح، كما أنه يدل على أن رأي أبي عبيد غير ما نسب إليه، والله أعلم.
سادساً: تحديد نصاب الذهب والفضة:
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: ومن ملك ذهبا أو فضة مغشوشة أو مختلطا بغيره، فلا زكاة فيه حتى يبلغ قدر الذهب والفضة نصابا، لقوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة).
فإن لم يعلم قدر ما فيه منهما وشك هل بلغ نصابا أو لا خير بين سبكهما ليعلم قدر ما فيه منهما، وبين أن يستظهر ويخرج ليسقط الفرض بيقين.أ.هـ( ).
وقال النووي: إذا كان له ذهب أو فضة مغشوشة فلا زكاة فيها حتى يبلغ خالصها نصاباً. هكذا نص عليه الشافعي والمصنف وجميع الأصحاب في كل الطرق إلا السرخسي. فقال في الأمالي: لا تجب الزكاة في مائتين من الفضة المغشوشة..الخ، ثم قالك وهذا الوجه الذي انفرد به السرخسي غلط مردود بقوله (ليس فيما دون خمس أواقي من الورق صدقة)( ).
وقد قام فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي بدراسة موسعة ومؤصلة في تحديد نصاب الذهب والفضة حسب وزن الكيلو جرام. فتوصل إلى أن نصاب الذهب (85) جراماً، ونصاب الفضة 595 جراماً وذلك من الفضة والذهب الخالص وفقاً لمذهب الجمهور ( ).
قلت: يلاحظ على بعض الفتاوى عدم تفريقها بين الذهب الخالص من غيره عند تحديد النصاب، وذلك أن الذهب الموجود بأيدي الناس اليوم ليس كله ذهباً خالصاً، بل هو مختلف العيارات، فالجنية السعودي مثلاً عيار 22، والحلي له عدة عيارات، فمنه عيار: 21، 18، 16، ولا شك أن قلة العيارات تعني كثرة المواد المضافة من غير الذهب، وهي لايصح أن تعتبر من جملة نصاب الذهب، فينبغي مراعاة فصلها عند تحديد نصابه لأن الذهب الخالص هو عيار 24، فعلى هذا فإن نصاب الذهب على مختلف أنوعه هو النتائج للعمليات الحسابية التالية:
1- السبيكة الذهبية عيار (24) 85×24÷24=85جراماً.
2- الجنية السعودي عيار (22) 85×24÷22=92,72جراماً.
3- الحلي عيار (21) 85×24÷21=97,14جراماً.
4- الحلي عيار (18) 85×24÷18=113,33جراماً.
5- الحلي عيار (16) 85×24÷16=127,5جراماً.
وإن كان الذهب على غير هذه العيارات المذكورة فيمكن معرفة الذهب الخالص بسلوك هذه الطريقة الحسابية، والله الموفق.
سابعاً: بيان الزكاة في العهد المكي:
من المقرر لدى علماء الشريعة أن الزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله تعالى، وقد نزلت عدة آيات في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية تحث المؤمنين وتأمرهم بأداء الزكاة، بل لقد أثنى الله سبحانه وتعالى في تلك الآيات على الذين هم للزكاة فاعلون، والذين في أموالهم حق معلوم، وكانت هله الزكاة أحكام تخصها وإليك جملة من الآيات الواردة في بيان وجوب الزكاة في العهد المكي: وشيئاً من فقهها:
1- قال تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ( ).
2- قال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً( ).
3-