العبرة الرابعة : بماذا ثبت الإمام أحمد ؟ أو : ما هي أسباب ثباته ؟
تأملت فرأيت ثلاث أسباب :
أولها : تثبيت الله عز وجل { وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيل ا(74) إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } .. ثبته الله تعالى بعونه وتشديده وتأيده :
وإذا لم يكن عون من الله للفتى ~~~~~~~ فأول ما يجني عليه اجتهاده
{ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } , فاتـِّجهْ إلى الله تعالى وسَلْ الله واعتصم بالله وتوكل على الله وآمن بالله وسلم إلى الله واعلم أنك لا تنجو بنفسك ولا بقوتك ولا بحولك وإنما بالله تعالى , ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله , وأخبر أنها من كنـز تحت العرش . ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) : فلا تحول للعبد من معصية إلى طاعة أو من بدعة إلى سنة أو من ضلالة إلى هدى إلا بالله تعالى ، ولا قوة للإنسان وصبرا له على طاعة الله واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصبر على ما يلقاه إلا بعون الله تعالى وتأيده وتسديده . فقل دائما وأبداً لا حول ولا قوة إلا بالله تجد العون والتسديد من الله .
السبب الثاني : البينة والعلم الذي كان يحمله ، فكان على بينة من أمر دينه , تلقى كتاب الله وكان عالما إماما في القرآن ، وتلقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قيل إنه يحفظ مئات الألوف من الأحاديث بأسانيدها ، وعرف وعلم فلم يكن عنده في ذلك شك ولا تردد ولا ريبه ولذلك ما داخله في ذلك شيء فعلم أنه على الحق فصبر وصابر ، وكان الله تعالى يسخر له بعد ذلك .
السبب الثالث : وهو الأمة التي كانت وراء الأمام أحمد . نعم , كانت وراءه أمة تؤيده وتساعده وتصبره, قال أبو جعفر الأنباري : لما حمل الأمام أحمد إلى المأمون وتجاوز الناس به النهر - نهر الفرات - عبرت إليه فإذا هو في الخان فسلمت عليه فرد عليّ السلام وقال لي : تعنيت - أي تعبت في سبيل المجيء إلي - قلت له :ليس هذا بعناء . قال :ثم قلت له - وانظر إلى نصيحة هذا الرجل الذي لا يملك شيئا إلا النصيحة يقولها لأحمد يثبته ويصبره بها - : يا هذا أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك فوالله لأن أجبتهم إلى ما يريدون وقلت بخلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق كثير من خلق الله تعالى , وإن أنت امتنعت عن هذا ليمتنعون بامتناعك ، ومع هذا فإن الرجل - أي المأمون - إن لم يقتلك فإنك تموت غير بعيد ولا بد لك من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء , قال : فجعل الإمام أحمد يبكي ويكفكف دموعه ويقول : ما شاء الله ما شاء الله أعد علي هذا الكلام , قال : فأعدته عليه . فقال : ما شاء الله ، ما شاء الله .
وأعجب من ذلك أن الإمام أحمد لما جيء به إلى الخليفة يمتحن جاءه رجل فهمس بأذنه بكلام - ما هذا الكلام ؟ - قال أنا رسول إليك أرسلني إليك فلان الحداد - رجل محبوس - يقول لك يا أحمد اثبت ولا تـجزع من الضرب فوالله أنا قد جُلِدت في معصية الله ألف حد - ولعله يقصد ألف جلدة في معصية الله - فما يضرك أنت أن تجلد في ذات الله ؟! حتى السجناء وحتى العصاة يشعرون أن عليهم واجبا في تثبيت أهل الطاعة ودعمهم وتقوية هممهم وعزائمهم وتصبيرهم وإعانتهم بما يستطيعون .
الوقفة الخامسة : أن الإمام أحمد ثبت وكان وحده , وانجفل الناس عنه وأعرضوا فلا تجد حول بيته أحد ولا يقترب الناس منه ولا يُؤْذَنْ لهم فيأخذون عنه العلم والحديث , على حين كان بعض شيوخ البدعة حولهم الجاه والصولجان ، وما هي إلا سنوات حتى انقلبت الآية فكان يجلس في مجلس الإمام أحمد كما ذكر الذهبي وغيره خمسة آلاف منهم خمسمائة يكتبون العلم والباقين يتعلمون من الإمام أحمد الأدب والهدي والسمت وأصبح لا يجرؤ عليه أحد .
ثم مات رحمه الله فصلى عليه خلق كثيرون حتى قيل إنهم حسب الإحصائيات المتوسطة مليون إنسان ، فضلا عمن صلوا عليه في السفن وفي الأنهار , وفي غيرها خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى . ازدحمت الشوارع وامتلأت بغداد وغصت بمن فيها واجتمع خلق وقال بعض المؤرخين إنهم لم يجتمعوا في الإسلام قط كما اجتمعوا على جنازة الإمام أحمد .. لماذا ؟ لأنه صبر وكان يقول لأهل البدع : "بيننا وبينكم الجنائز " . فأما أحمد فحضر جنازته ما يزيد على المليون وارتفع الصياح في البيوت والأسواق والمقابر والمساجد وغيرها ، وما من مسلم إلا دخلت المصيبة عليه بموت الإمام أحمد ؛ أما أهل البدعة ومنهم ابن أبى دؤاد خصم الإمام أحمد وعدوه اللدود والذي كان يقول للخليفة : يا إمام اقتله ودمه في عنقي ، لأنه من علماء السلطان وكان ضالا مبتدعا منحرفا عن السنة , هذا الرجل لما مات بالفالج ما حضر جنازته إلا ثلاثة . وهناك كثيرون كبشر الحافي وغيره من أهل الزهد والورع والصلاح ومع ذلك لم يحضر جنازتهم أحد يذكر .. أما أحمد فكان هذا الخلق حضر جنازته .
أما في الدنيا قبل أن يموت فحدث ولا حرج فقد ضربت شهرته الآفاق وصار ذكره على كل لسان حتى صار هو يضيق بذلك ويقول : "اشتهرت ، اشتهرت" , وكان يقول : طوبى لمن أخمد الله تعالى ذكره . ويرى عليه الحزن أحيانا من كثرة ذكر الناس له .. بل لعل من الطريف أن الحسين بن الحسن الرازي كان يقول : اشتريت من بقال بمصر - مع أن الأمام أحمد لم يدخل مصر - متاعا وتحدثت معه وذهبنا في الحديث وجئنا , قال : فسألني عن الإمام أحمد بن حنبل , قال : أتعرفه ؟ قلت : نعم أعرفه وقد كتبت عنه حديثا . قال : فلما أتيت أعطيه ماله قال : والله لا آخذ منك شيئا , أنا آخذ ثمن متاع من إنسان عرف الإمام أحمد ورآه بعينه ؟! أبدا أنا سامحتك ولا أخذ منك شيئا . فكانوا يعظمون حتى من لقي أحمد أو أحبه أو أخذ عنه أو كتب عنه الحديث , وهذه بعض آثار صبره رحمه الله على المحنة.
النقطة السادسة : فهي زهده وعبادته . ولعل هذا يمت بسبب إلى ما سبق ، فلم يكن يصبر ويصابر لولا أنه كان يستمد هذا من عبادته لله تعالى , قال الله تعالى { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(1)قُمْ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا(2)نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا(3)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا(4)إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا } قال عبدالله ابن الإمام أحمد : كان والدي ساعة يصلي العشاء ينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو على رغم كبر سنه وبعدما جاوز السبعين من عمره ، وكان يقرأ في كل يوم سُبع القرآن فيختم القرآن في كل أسبوع وربما ختم القرآن في كل أسبوع مرتين , وكان يكثر من الصيام ويسرده وربما صام وهو في السجن وربما صام وهو يجلد وربما ضعف كثيرا حتى كاد أن يغمي عليه وهو مع ذلك مصرٌّ على الصيام حتى قرب وفاته رحمه الله تعالى . ولما اشتد مرض الإمام أحمد بعث إليه الخليفة بابن ماسويه الطبيب ، فنظر إلى الإمام أحمد ورجع إلى الخليفة وقال له : يا أمير المؤمنين , أحمد ليست به عله في بدنه إنما هذا من قلة الطعام وكثرة الصيام ، وكثرة العبادة . فسكت المتوكل عن ذلك .
هذا جانب من عبادته وقربه إلى الله تعالى .
ثم إنه كان معرضا عن الدنيا ومباهجها وزخرفها . قال بعض المؤرخين عرض الشافعي على الإمام أحمد أن يتولى القضاء في اليمن فأبى وقال للشافعي : أنت تعلم أنني أتعلم منك العلم المزهد في الدنيا فلا أريد شيئا يبعدني عن الآخرة ويرغبني في الدنيا . والإمام أحمد حينما رفض القضاء رفضه كَسُلَّم إلى الدنيا , أما أن يكون القضاء سببا إلى إصلاح بين الناس وإلى إقامة القسط والعدل وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى قضاء حوائج المسلمين فلا شك أن هذا من أعظم القربات وأجل الطاعات ، ولا بد للناس من القضاء ومن القضاة وقد يتعين هذا المنصب على من يكون أهلا له وجديرا به .
كان الإمام أحمد يكره التكلف والتصنع والتزين والتظاهر بالأشياء ، ويعرف أن البهرج لا ينطلي على الله تعالى , وأن العبد يعرض على الله تعالى لا تخفى منه خافيه { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } , { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } حتى ثيابكم ونعالكم وملابسكم وأراضيكم خلفتموها وراء ظهوركم ! ليس معكم شيئا أنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلاً { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح . فكان الإمام يتعامل مع الله تعالى ، ويراقب الله ، ويخاف من الله ، فلا يتظاهر بشيء . قال أبو حاتم : إذا رأيت أحمد تعلم أنه لا يظهر النسك , رأيتُ عليه نعلا لا يشبه نعل القراء له رأس كبير ( يعني النعل ) معقد , وشراك مسبل كأنه اشترى له من السوق ( يعني نعلة من نعال الناس ) وليس من النعال التي يتميز بها القراء وأحيانا فتيان القراء . وبعض المحدثين وبعض الطلبة قد يكون له سمت خاص وبزة معينة أما أحمد لم يكن كذلك ، بل كان كسائر الناس . قال : ورأيت عليه إزارا وجبة. قال أبو محمد ابن أبي حاتم : أراد الإمام أحمد بهذا - والله أعلم - ترك التزين بزي القراء وإزالته عن نفسه لئلا يشتهر به . إذا كان الإمام يكره أن يشتهر بشيء من ذلك . وقال المروزي إذا كان الإمام أحمد في بيته كان خاشعا وكان عامة جلوسه التربع , فإذا كان برّا - يعني في خارج بيته - لم يتبين منه خشوع ولم يكن يتظاهر بذلك لا في مشيته ، ولا في ثيابه ، ولا في طأطأة رأسه . ولا يتميز بثياب خاصة أو ملابس معينة أو هندام وإنما كان يهتم بالحقائق لا بالمظاهر وبالمعاني لا بالرسوم .
أمر ثالث من زهده وعبادته إعراضه عن الدنيا والمال : قضى الإمام أحمد حياته كلها فقيرا , وكان يحب الفقر ويفرح به . ومع ذلك عرضت عليه أُعطيات كثيرة من التجار ومن سائر الناس , بعضها أموال ، وبعضها من المزارع ، وبعضها هدايا ، وبعضها أعطيات . ومع أنهم يحاولون بكل وسيلة إلا أنه كان لا يقبل شيئا من ذلك قط مهما كانت به من الحاجة . قال :عبد الرزاق : أعطيته بعض الدنانير فردها الإمام أحمد ، وقال : أنا بخير . وقال محمد بن سعيد الترمذي : قدم إلى بغداد صديق له من خرسان وكان قد اتخذ بضاعة يبيع ويشتري وقال : إن ربح هذه البضاعة للإمام أحمد . فذهب الرجل إلى الإمام أحمد ،وقال له : أن رجل بخرسان يبيع ويشتري ويقول : إن ربح البضاعة لأحمد . فقال الإمام أحمد : جزاه الله تعالى عنا عن العناية والاهتمام خيرا ، أما نحن ففي غنى وسعة , وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك . ربما أحرجه بعض الناس وأطال عليه فيقوم من المجلس ويدخل في بيته . دفع إليه السلطان أموالاً فردها ، ودفعها فردها مرة أخرى , فقالوا له : إن رددتها تغير عليك قلب السلطان وظن أنك لا تأخذ منه شيئا وربما وقع في نفسه . فأخذ هذه الأموال وقال : هاتوا لي أسماء الفقراء وطلاب الحديث وطلاب العلم المحتاجين وجعلها كلها في قوائم فما أصبح في بيته درهم واحد منها ولا دينار , وكان يقول : { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } . ولما مات الإمام أحمد بعث ابن طاهر بصينيتين عليهما كفن و حنوط للإمام أحمد وقال :كفنوه في هذا وحنطوا بهذا . فقال صالح ولد الإمام أحمد : لا , إن الإمام أبا عبدالله قد أعدّ كفنه وأعدّ حنوطه قبل أن يموت ، وإن أمير المؤمنين قد أعفى والدي من كل ما يكره وهذا مما يكره الإمام أحمد ، وأبى أن يقبلها وردها إليه . كان الإمام أحمد يقول لولده صالح : إن والدتك - وكان يحبها كثيرا ويتذكرها وقد ماتت قبله - كانت تغزل غزلا دقيقا فتبيع الأستار بدرهمين أو أقل أو أكثر وكان ذلك قوتنا ومعاشنا ، وكان يقول : أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيئ من الدنيا . ثم يقول : إنما هو طعام دون طعام ، ولباس دون لباس ، وأيام قلائل ثم نصير إلى الدار الآخرة .
ثم بلغ من ورع الإمام أحمد وزهده أنه نهى ولده عن أن يأخذ شيئا من أعطيات السلاطين ، وكان صالح - فيما أذكر - قد وليَّ القضاءُ وأخذ بعض المال وبعض المرتبات ، فكان الإمام أحمد - لا تحريما لهذا ولكن من باب الورع ولأنه يرى أنه دخل في الأموال شيئ - يتورع عن أخذها ويعتذر عن ذلك ، ولما أخذ أولاده بعض ذلك عاتبهم فاعتذروا , وقالوا : احتجنا يا أبانا , فهجرهم شهرا لا يكلمهم . ولما مرض وصفوا له بعض القرع الذي يشوي ويؤخذ ماؤه فلما جاءوا بهذا القرعة قال بعض الحضور : اجعلوها في تنور صالح . لأن تنور صالح قد أوقد وحمى فاجعلوها في هذا التنور . فكان الإمام أحمد يقول بيده هكذا ( لا، لا ) ، لا تجعلوها في تنور صالح لأنه يأخذ من السلطان . وكان لعمه غلام يجلس عند الإمام أحمد فربما حرك عليه المروحة يروح عنه أحيانا فبغض الإمام أحمد ذلك لأنه يخشى أن يكون عمه اشترى هذا العبد من أعطيات السلطان .
هذا جانب من ورعه ، جانب من زهده ، إنه لا يحرم الحلال أبدا ولا يضيق على الناس أبدا . والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين : ( ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك ) , أي ما كان من سبل الحلال ولكنه كان في خاصة نفسه وفي من يعول من ولده يتخذ مسلك الورع والتقوى والاحتياط والتعفف والبعد حتى عن أقل القليل من ذلك .
أخلاقه ومناقبه : وإنها عجب من العجب ! أُوذِي الإمام أحمد وضُرِب وقضى حياته كلها مترددا بين السجون فماذا كان موقفه ؟ سامح من آذوه وضربوه , وقال : "ما علينا ألا يعذب الله تعالى أحد بسببنا" , إلا من أصروا على الضلال والبدعة فإنه لم يصالحه . وقد تلقى عنه هذا الهدي والسمت تلاميذه ومحبوه وأتباعه , فكان الإمام ابن تيمية مثلا وقد ضُرِب أيضا وأُوذى واعتُدِي عليه وسُجِن , وكان إذا أصرَّ عليه طلابه يقول لهم : الحق إن كان لي فقد عفوت عنهم ، وإن كان لله فالله تعالى يتولاهم ، أما أنتم فليس لكم بذلك شأن .
قيل للإمام أحمد قد مكنك الله من عدوك , هذا هو ابن دؤاد اصنع به ما شئت واحكم فيه ما شئت , فلم يتكلم بشيء !. ما قال أنتقم منه وأن هذه فرصة سانحة بل أعرض عنه , { وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفي وأصلح فأجره على الله } , ( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تحن من خانك ) . استفتوه في أموال لابن أبي دؤاد وكانت أموالا جاءته من السلاطين فلم يرد منها شيئا وما أفتاهم بشيء . بل ذكر البيهقي حكاية عجيبة عن أبي الفضل التميمي عن الإمام أحمد أنه كان يدعو في سجوده ويقول : "اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فرده إليه حتى يكون على الحق حقا" . هكذا حرصه ودعاؤه حتى للضالين والمحاربين والمبتدعين يدعو لهم بالهداية لأنه يقول : "ما علينا ألا يعذب الله أحد في النار بسببنا , اللهم إن قبلت من عصاة هذه الأمة فداء فاجعلني فداء لهم" ! إلى هذا الحد حرصه على هداية الناس ودعوتهم إلى الخير وإنقاذهم من المعصية ودعوتهم إلى الطاعة والسنة !!
ناظر الإمام أحمد أهل البدعة في مجالس عديدة في زمن المعتصم وغيره فلم يكن يقول إلا هاتوا لي دليلا من كتاب الله تعالى . ما كان يسب ولا يشتم ولا يلعن ولا يرفع صوته ولا يتهم , فالمسألة ليست مشاتمة ولا ملاعنة ولا خصومه , وإنما كانت المسألة مسألة مناظرة بالدليل .
كلام الإمام أحمد في الرجال - الجرح والتعديل - : لم يكن يغلظ في القول ولا يبالغ في ذلك وإنما كان في كلامة إجمال وعفة وإعراض . فربما قال لا تأخذ الحديث عن فلان أو اتركه أو ما أشبه ذلك أو أشاح عنه بوجه وتركه . ولكن لا ينقل عنه الكلام الغليظ ، فالكلمات المعروفة بالقسوة والشدة قلما تسمع من فم الإمام أحمد .
تواضعه : وهذا أمر عجيب أذكر منه نماذج فحسب . لم يكن يدع أحدا يستقي له الوضوء بل كان يأخذ الماء بنفسه , وربما خاط الإمام أحمد قلنسوته بيده ، ويتولى شأنه مباشرة ويعمل فيه بيده أيضا . وربما خرج إلى البقال يشتري حاجته بيده ويحملها على كتفه { وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ } هذا هو هدي المرسلين التواضع والبساطة والبعد عن الأبهة وعن الجبروت وعن الكبرياء ومن تواضع لله رفعه الله . قال له رجل : يا أحمد هذا العلم تعلمته لله ؟ فقال : هذا شرط شديد , وفي رواية أنه قال أما لله فعزيز ولكن حبب إلي شيء فجمعته . وروى البيهقي أن رجلا قال للإمام أحمد : إن أمي مقعدة منذ سنين وإنها أوصتني أن آتي إليك لتدعو الله تعالى لها , فغضب الإمام أحمد وقال : أنا أدعو لله تعالى لها ؟! أنا أحوج أن تدعو الله تعالى هي لي . فذهب الغلام وهو مكسوف وذهب إلى أمه يريد أن يخبرها بخبر الإمام أحمد . فلما ولى رفع الإمام أحمد يديه إلى السماء ودعا الله تعالى لها . فلما طرق الغلام الباب إذا أمه تفتح الباب له وقد عافها الله تعالى وشفاها ببركة دعاء الإمام أحمد لها . روى عنه ولده صالح وعبدالله أنه كان في مرض موته إذا أغمى عليه قال : لا بعد لا بعد ، فلما أفاق قال : يا أبتِ ما كلمة تلهج بها قال : ما هي ؟ قال : تقول لا بعد لا بعد , قال : إن الشيطان عرض لي في زاوية هذه الحجرة وهو عاض على أصبعه يقول : فتني يا أحمد فتني يا أحمد , فأقول له : لا ما فتك بعد .. فما دامت الروح في الجسد فأنا لم أفتك بعد والكيد قائم وربما كان هذا من كيد الشيطان للإمام أحمد أن يدخل على قلبه أو نفسه شيء من العجب فربما داخله ذلك ، ولكن الله تعالى عصم الإمام أحمد بصدقه وورعه وتقواه فكان يقول لا ما فتك بعد . وقال المروزى لأحمد : ما أكثر الذين يدعون لك يا أحمد . قال : عسى ألا يكون هذا استدراجا . أي : من أجل ماذا يدعون لي ؟ ما فيّ شيء يستحق أن يُدعى لي وأخشى أن يكون هذا من الاستدراج . قال له يا أحمد : كنا في بلاد الروم وقد هجم المسلمون على الكفار فكان الجنود وهم مرابطون في المعارك يدعون لك في الهزيع الأخير من الليل ويبكون ويسألون الله تعالى لك . فدمعت عيناه وقال : من أجل ماذا ؟ أخشى أن يكون هذا استدراجا . قال : يا أحمد والله لقد رأيت الجنود يرمي أحدهم بالمنجنيق ويقول : هذا عن الإمام أحمد ، فربـما ضرب علجا من علوج الروم فقطعه أو قتله فبكى أحمد وقال : من أجل ماذا يصنعون هذا ؟ أخشى أن يكون استدراجا .
قيل له وقد ترك التحديث في آخر عمره وحلف ألا يكمل حديثا من أوله إلى آخره وأعرض عن الناس , فقال قائل في مجلسه : يا أحمد إن الناس يتكلمون أنك لست زاهدا في الدنيا فقط بل أنت زاهد في الدنيا زاهد في الناس . قال : ومن أنا حتى أزهد في الناس , الناس يزهدون بي . ولاحظ أخي أن الإمام أحمد ما كان يرى أنه هو الإمام الفحل المبجل الذي اتسم بالورع حين خلط الناس ، والتقوى حين فجر الناس ، والتزم بالسنة حين خالفها الناس ، وأنه وحيد زمانه وفريد أوانه .كان متواضعا لا يرى لنفسه حقا ولا يرى نفسه شيئا ! يقول : لا , الناس يزهدون بي ولست أنا الذي أزهد بالناس .
ذكروا له أن فلانا رأى أنك بشرت بالجنة , فلان رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يذكرك ويثني عليك ويقول : اصبر . فيبكى الإمام أحمد وينفض يده ويقول : الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره وهذا فلان بُشِّر بالجنة فوقع في الدماء - أي اعتدى على الناس وتجرأ عليهم - .
ننتقل بعد ذلك إلى نقطه وفقره أخيره وهي : ( بين الإمام أحمد وبين علماء عصره ) .
علماء عصره كثي ر، وقل منهم أحد إلا ولقي أحمد وأخذ عنه أو تتلمذ الإمام أحمد عليه لكني سوف أضرب نماذج سريعة لكل فئة :
الإمام الشافعي نموذج لعلماء السنة , أخذ عنه الإمام أحمد نحو عشرين حديثا مع أن الإمام أحمد أبصر منه بالحديث وأوسع منه في الرواية بمراحل ومع ذلك أخذ عنه ، وكان الإمام أحمد يقول لبعض زملائه تعال حتى أريك رجلا لم ترَ عينك مثله قط ، ثم يشير إلى الشافعي رضي الله عنه . كما أخذ عن الشافعي جملة من كلام العرب . ولما مات أحمد وجد في تركته كتاب الرسالة وهو كتاب عظيم صنفه الشافعي في أصول الفقه وكان أحمد يقرأ فيه ويستفيد منه ويدعو للشافعي ويثني عليه . وقد روى أحمد عن الشافعي حديثا طريفا مسلسلا بالأئمة : رواه أحمد عن الشافعي عن مالك وهم ثلاثة أئمة متبوعون , عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى تعود إلى جسدها ) ولما لقي الإمام الشافعي أحمد في رحلته الثانية إلى بغداد قال الشافعي لأحمد : "يا أحمد إذا صح الحديث عندكم فأعلمني به حتى أذهب إليه " .. حجازيا كان الحديث أو شاميا أو عراقيا أو يمنيا أو كان ما يكون إذا صح الحديث فأخبرني حتى أذهب إليه . يقول هذا لإنسان يصغره بسنوات طويلة . وكان الإمام أحمد يقول لولد الشافعي محمد بن محمد : أبوك من الستة الذين أدعو لهم في السحر .
وكان الإمام أحمد في حداثته يختلف إلى مجالس علماء آخرين كالقاضي أبو يوسف , وقد كتب روايات علماء الرأي وروايات أهل العراق ثم أقبل على الحديث والسنة .
نموذج آخر : الحارث بن أسد المحاسبي وهو من المشهورين بالزهد والتقوى والورع والصلاح , بل التشديد في ذلك والتنقيب فيه . قال إسماعيل بن إسحاق السراج : قال لي الإمام أحمد هل تستطيع أن تريني الحارث بن أسد المحاسبي ؟ قال قلت له : نعم . وفرحت فرحا شديدا فدعوتهم ليلة على العشاء فأتوني بعد المغرب فجلسوا مطرقي الرؤوس , وجلس الإمام أحمد في غرفة بحيث يسمع حديثهم ولا يرونه هم ولا يعلمون به .. قال فجلس هؤلاء مطرقي الرؤوس كأن على رؤوسهم الطير وهم يتحدثون وبشر يعظهم ويذكرهم . قال : فإذا كان قريب من نصف الليل سأل أحدهم الحارث عن مسألة فشرع الحارث يتكلم فيها بكلام قوي جزل مؤثر فجعل هذا يبكى وهذا يأن وهذا يزعق ، قال : فصعدت إلى أحمد في الغرفة فإذا هو يبكى وقد اشتد به البكاء حتى كاد أن يغشى عليه . قال فرجعت فلم يزل كذلك إلى الصباح ، ثم ذهبت إلى أحمد فقلت له : ماذا رأيت ؟ قال : ما رأيت أحدا يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل ، وما رأيت مثلهم قط ، فأثنى عليهم بالخير الذي فيهم ، قال ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم . لماذا ؟ أولا : قيل لأنه كان عنده شيء من علم ا لكلام ، وهذا محتمل . ثانيا : قال البيهقي لأنه ظن أن هذا الرجل يعجز أن يصل إلى سيرة هؤلاء ويشق عليه . ثالثا : وهذا الذي رجحه ابن كثير في البداية والنهاية أن الإمام أحمد رأى في الحارث ومن معه من شدة التقشف والتدقيق والتنقير والمحاسبة والتشديد في ذلك والمبالغة فيه ما يرى أنه ليس بمشروع . فلذلك تركهم ونصح هذا الرجل بأن لا يصحبهم وأن يقبل على العلم والحديث والزهد المعتدل الذي لا يكون فيه إسراف .
النموذج الثالث من علماء عصره ابن أبي دؤاد الذي كان يسمى قاضي القضاة ، وكان عالم الخليفة وهو الذي تسبب في البدعة وناظر الإمام أحمد ووقف على رأسه وأغرى به وآذاه وحصل منه ما حصل ، ثم دارت الدائرة عليه فجرد من منصبه وبيعت أمواله بالمزاد العلني وأخرج من بغداد واضطهد وضيق عليه ومات شر ميتة ، ثم لم يحضر جنازته إلا عدد قليل . سئل عنه الإمام أحمد فلم يجب عنه بشيء فسئل في أمواله فأعرض عنها .
فهذا نموذج سريع لمواقفه من علماء عصره ...
رحم الله الإمام أحمد ورفع من درجته في المهديين وألحقنا به في الصالحين إنه على كل شيء قدير .. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه