قصيدة عظيمة للشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد
إنه من المتفق عليه عند أغلب النقاد قدامى ومحدثين أن الشعر العظيم هو ذلك الشعر الذي يتواشج فيه الحس الوجداني العميق القائم على مأسويةٍ تصدر عن قلبٍ غمِّسَ بالألم , مع قدرة فائقة على التصوير والخيال المحلق , فالصورة مهما كانت رائعة لا يمكن أن تصنع مفعولها في السامع إن لم تكن مغموسة بحسٍ وجداني صادق , وما يقال عن الصورة معزولة عن الوجدان يقال أيضاً عن الوجدان معزولاً عن الصورة والخيال المحلق , فالوجدان الصادق وحده أيضاً لا يصنع شعراً عظيماً , إن الشاعر العظيم هو ذلك الذي يستطيع الجمع بين هذه وتلك , وهذا لا يتأتى إلا لقلة من الشعراء , والشاعر الأعظم هو ذلك الشاعر الذي كلما كتب قصيدة بزتْ التي سبقتها وكأنه ينبوعٌ لا نهاية لعذوبة مائه , وهذا أيضاً لا يتأتى إلا لقلة قليلة من الشعراء , وعبد الرزاق عبد الواحد الشاعر العراقي العظيم واحدٌ من هؤلاء .
والقصيدة التي بين أيدينا قصيدة ألقاها الشاعر في قناة أبو ظبي يوم الخميس الماضي , وقد تجشمت عناء نقلها من صوت الشاعر إلى حروف مكتوبة لتزين منتدانا في أسواق المربد وشعراء النيل والفرات .
هذه القصيدة التي أقدمها هدية لأصدقائي في منتديات أسواق المربد , ومنتديات النيل والفرات هي قصيدة عظيمة لشاعر عظيم استطاع أن يجمع فيها بين العمق في الوجدان والصورة المحلقة , وهي دعوةٌ مني لنفسي أولاً ثم للذين يريدون أن يكونوا شعراء كباراً أن ينهلوا من هذا النبع الصافي , ويتعلموا كيف يكون الشعر العظيم .
وعذراً من الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد لأني وضعت عنواناً للقصيدة إذ أنه قرأها بدون عنوان حيث أرجو من الله أن أكون وفِّقْتُ في اختياره .
وإليكم القصيدة صبورٌ أنت يا جملُ
من مأثورنا الشعبي أن مخرزاً نُسِيَ
تحت الحمولة على ظهر الجمل
قـالـوا وظــلَّ.. ولــم تشـعـر بــه الإبـــلُيمشـي، وحاديـهِ يحـدو.. وهــو يحتـمـلُ
ومـخـرزُ الـمـوتِ فــي جنـبـيـه ينـشـتـلُحـتـى أنــاخ َ بـبـابِ الـــدار إذ وصـلــوا
وعندمـا أبصـروا فيـضَ الـدمـا جَفـلـواصبـرَ العـراق صـبـورٌ أنــت يــا جـمـلُ!
صـبـرَ الـعـراق وفــي جَنبـيـهِ مِـخــرزهُيغـوصُ حـتـى شـغـاف القـلـب ينسـمـلُ
ما هدموا.. مـا استفـزوا مـن مَحارمـهِما أجرموا.. ما أبـادوا فيـه.. مـا قتلـوا
وطـوقُـهـم حـولــهُ.. يـمـشـي مـكـابـرة ًومـخـرزُ الـطـوق فــي أحـشـائـه يَـغِــلُ
وصـوتُ حاديـه يحـدوهُ علـى مَـضـض ٍوجُـرحُـهُ هــو أيـضــاً نـــاز ِفٌ خـضــلُ
يـا صـبـر أيــوب.. حـتـى صـبـرُه يـصـلُإلــى حُــدودٍ، وهــذا الصـبـرُ لا يـصــلُ!
يـــا صـبــر أيـــوب، لا ثـــوبٌ فنخـلـعُـهُإن ضـــــاق عــنـــا.. ولا دارٌ فـنـنـتـقـلُ
لـكــنــه وطــــــنٌ، أدنــــــى مــكــارمــهيـــا صـبــر أيـــوب، أنـــا فـيــه نكـتـمـلُ
وأنـــــه غُـــــرَّةُ الأوطـــــان أجـمـعِـهــافـأيـن عــن غــرة الأوطــان نـرتـحـلُ؟!
أم أنـــهــــم أزمــــعــــوا ألا يُـظـلّــلــنــافــي أرضـنـا نـحـن لا سـفـحٌ، ولا جـبـلُ
وا ضيعـة الأرض إن ظلـت شوامخُـهـاتهـوي، ويعلـو عليهـا الـدونُ والسفـلُ!
جميعهـم حـول أرض ٍ حـجـمُ أصغـرهِـمإلا مـروءتُـهـا.. تـنــدى لــهــا الـمُـقــلُ!
وكـان مـا كـان يــا أيــوبُ.. مــا فعـلـتْمسعـورة ً فـي ديـار النـاس مــا فعـلـوا
مـا خربـت يــد أقـسـى المجرمـيـن يــداًمــا خـرّبـت واستـبـاحـت هـــذه الـــدولُ
هـذي التـي المـثـل العلـيـا عـلـى فمـهـاوعـنـد كــل امـتـحـان تـبـصـقُ الـمُـثُـلُ!
يــا صـبـر أيــوب، مــاذا أنـــت فـاعـلـهُإن كـان خصمُـكَ لا خـوفٌ، ولا خـجـلُ؟
ولا حــيـــاءٌ، ولا مـــــاءٌ، ولا سِــمـــة ٌفـي وجهـه.. وهـو لا يقضـي، ولا يـكِـلُ
أبـعــد هـــذا الـــذي قـــد خـلـفــوه لــنــاهـذا الفنـاءُ.. وهـذا الشـاخـصُ الجَـلَـلُ
هـذا الخـرابُ.. وهـذا الضيـقُ.. لقمتُـنـاصــارت زُعـافـاً، وحـتـى مـاؤنـا وشِــلُ
هــل بـعــده غـيــر أن نـبــري أظـافـرنـابريَ السكاكين ِ إن ضاقت بنـا الحيَـلُ؟!
يــا صـبـر أيــوب.. إنــا مـعـشـرٌ صُـبًُــرُنُغضـي إلـى حــد ثــوب الصـبـر ينـبـزلُ
لكـنـنـا حـيــن يُسـتـعـدى عــلــى دمــنــاوحـيـن تُـقـطـعُ عـــن أطفـالـنـا الـسـبـلُ
نــضــجُّ، لا حــــي إلا اللهَ يـعــلــمُ مـــــاقـد يفعـل الغـيـض فيـنـا حـيـن يشتـعـلُ!
يا سيدي.. يا عـراق الأرض.. يـا وطنـاًتـبــقــى بــمـــرآهُ عــيـــنُ اللهِ تـكـتـحــلُ
لـم تُشـرق الشمـسُ إلا مــن مشـارقـهولـــم تَـغِــب عـنــه إلا وهــــي تـبـتـهـلُ
يا أجملَ الأرض ِ.. يا من فـي شواطئـهتــغــفــو وتـسـتـيـقــظ الآبــــــادُ والأزلُ
يـــا حـافـظـاً لـمـسـار الأرض ِ دورتـــهوآمـــــراً كــفـــة َ الـمــيــزان تــعــتــدلُ
مُــذ كــوّرت شعـشـعـت فـيـهـا مسـلّـتـهودار دولابــــه، والأحـــــرُفُ الــرســـلُ
حـمـلــن لـلـكــون مــســرى أبـجـديّـتــهوعـنـه كــل الـذيـن استكـبـروا نـقـلـوا!
يـا سيـدي.. أنـت مــن يـلـوون شِعفـتَـهويـخـسـأون، فـــلا والله، لـــن يـصـلـوا
يضاعـفـون أسـانــا قـــدر مـــا قـــدِرواوصـبـرُنـا، والأســـى، كـــل لـــه أجـــلُ
والعـالـمُ الـيــومُ، هـــذا فـــوق خيـبـتـهغــافٍ، وهــذا إلـــى أطـمـاعـه عَـجِــلُ
لكـنـهـم، مـــا تـمــادوا فــــي دنـائـتـهـمومـــا لـهــم جـوقــة ُ الأقـــزام ِ تمـتـثـل
لـن يجـرحـوا مـنـك ِ يــا بـغـداد أنمُـلـة ًمــا دام ثـديُـك رضـاعــوه مـــا نَـذلــوا!
بغـدادُ أهلُـك رغـم الجُـرح ِ، صبرهـمـوصبرُ الكريـم، وإن جاعـوا، وإن ثَكِلـوا
قــد يأكـلـون لـفــرط الـجــوع أنفـسـهـملكنـهـم مــن قــدور الغـيـر مــا أكـلــوا!
شـكـراً لـكــل الـذيــن استـبـدلـوا دمـنــابلقـمـة الخـبـز.. شـكــراً لـلــذي بـذلــوا
شـكـراً لإحسانـهـم.. شـكــراً لنخـوتـهـمشكراً لمـا تعبـوا.. شكـراً لمـا انشغلـوا
شـكـراً لـهـم أنـهـم بـالـزاد مــا بَـخَـلـوالــو كــان لـلــزاد أكّـالــون يـــا جـمــلُ!
لــكــن أهــلــي الـعـراقـيـيـن مـغـلـقــة ٌأفواهـهـم بدمـاهـم فـــرط مـــا خُـذِلــوا
دمــاً يمـجّـون إمّــا استنطـقـوا، ودمـــاًإذ يسكتـون، بـجـوف الــروح، ينهـمـلُ!
يـا سيـدي.. أيـن انـت الآن؟ خـذ بـيـديإنـــي إلـــى صـبــرك الـجـبــارِ أبـتـهــلُ
يـــا أيـهــذا الـعـراقـي الخـصـيـبُ دمـــاومــــا يــــزال يــلالــي مــــلأه الأمــــلُ
قـل لــي، ومـعـذرة ً، مــن أي مبهـمـة ٍأعصابُـك الـصـمُ قُــدت أيـهـا الـرجـلُ؟!
مــا زلـــت تـؤمــن أن الأرض دائـــرة ٌوأن فـيـهـا كـرامــاً بـعــدُ مـــا رحـلــوا
لقـد نـظـرت إلــى الدنـيـا، وكــان دمــييجـري.. وبـغـدادُ مــلءَ العـيـن تشتـعـلُ
مـا كـان إلا دمـي يـجـري.. وأكـبـرُ مــاسمعتُهُ صيحة ً باسمي.. ومـا وصلـوا!
وأنـت يـا سيـدي مــا زلــت تـومـئ لــيأن الـطـريــق بــهــذا الــجــبِّ يـتــصــلُ
إذن فـبـاسـمـك أنـــــت الآن أسـألُــهــمإلـــى مـتــى هـــذه الأرحــــام تـقـتـتـل؟
إلـى مـتـى تـتـرعُ الأثــداء فــي وطـنـيقيـحـاً مـــن الأهـــل لـلأطـفـال ينـتـقـلُ؟
إلــى مـتـى يــا بـنـي عـمـي؟.. وثابـتـة ٌهـذي الديـارُ.. ومـا عــن أهلـهـا بَــدَلُ؟
بـلـى... لـقـد وجــد الأعـــرابُ منتَـسَـبـاًومـلــة ً مـلــة ً فــــي ديـنـهــا دخــلــوا!
وقايضـوا أصلـهـم.. واستبـدلـوا دمـهـموسُــوّي الأمــر.. لا عـتـبٌ، ولا زعــلُ!
الـحـمـد لله.. نـحــن الآن فـــي شُــغُــل ٍوعـنـدهــم وبــنــي أخـوالـهــم شُــغُــلُ!
أنـــا لـنـسـأل هـــل كــانــت مـصـادفــة ًأن أشرعـت بيـن بيتـي أهلـنـا الأسَــلُ؟
أم أن بـيـتــاً تـنــاهــى فـــــي خـيـانـتــهلـحـدِّ أن صــار حـتـى الـخـوفُ يفتـعـلُ؟
وهـــا هـــو الآن يـسـتـعـدي شـريـكـتـهبـألـفِ عــذر ٍ بـلـمـح الـعـيـن تـرتـجـلُ!
أمــا هـنـا يــا بـنـي عـمـي، فـقـد تعـبـتمـمـا تـحـن إلــى أعشـاشـهـا الـحَـجَـلُ!
لـقـد غــدا كُـــلُ صـــوت فـــي منـازلـنـايبـكـي إذا لــم يـجـد أهــلاً لـهـم يـصــلُ!
يـا أيـهـا العـالـم المسـعـورُ.. ألــفُ دم ٍوألــفُ طـفـل ٍ لـنـا فــي الـيـوم يـنـجـدل
وأنــت تُحـكِـمُ طــوقَ الـمـوت مبتـهـجـاًمـن حـول أعناقهـم.. والمـوت منذهـلُ!
ألـيــس فـيــك أبٌ؟.. أمّ ٌ يـصـيـح بــهــارضيعُهـا؟؟ طفـلـة ٌ تبـكـي؟ أخ ٌ وجِــلُ؟
يصـيـح رعـبـاً، فيـنـزوي مــن توجّـعـههـذا الضميـرُ الـذي أزرى بـه الشـلـل؟
يـا أيهـا العالـم المسعـورُ.. نـحـن هـنـابجُـرحـنـا، وعـلــى اســــم الله نـحـتـفـل
لـكــي نـعـيـد لـهــذي الأرض بهـجَـتـهـاوأمـنَـهـا بـعـدمــا ألــــوى بــــه هُــبــلُ!
وأنــت يـــا مـرفــأ الأوجـــاع أجمـعـهـاومعـقـلَ الصـبـر حـيـن الصـبـرُ يُعـتـقـلُ
لأنـــهـــم مـــــــا رأوا إلاّك مـســبــعــةعـلـى الطـريـق إليـنـا حيـثـمـا دخـلــوا!
لأنـــك الـفــارع الـعـمـلاقُ يــــا رجــــلُلأن أصـــدق قـــول فـيــك: يـــا رجـــلُ!
يـقـودنــي ألــــفُ حــــب.. لا مـنـاسـبــةٌولا احـتـفــالٌ.. فــهــذي كـلـهــا عــلــلُ!
لـكـي أنـاجـيـك يـــا أعـلــى شوامـخـهـاولــن أرددَ مـــا قـالــوا، ومـــا سـألــوا
لـكـن سأستغـفـر التـاريـخَ إن جـرحــتأوجاعُـنـا فـيــه جـرحــاً لـيــس يـنـدمـل
وسـوف أطـوي لـمـن يـأتـون صفحـتـههــــذي، ليـنـشـرهـا مسـتـنـفـر ٌ بــطــلُ
إذا تــلاهـــا تــلاهـــا غــيـــرَ نـاقــصــةحرفـاً... وإذ ذاك يبـدو وجـهـك الـجَـذِلُ!
يا سيدي؟؟ يا عراقَ الأرض.. يا وطنيوكـلـمــا قـلـتُـهـا تــغـــرورقُ الـمــقــل!
حـتــى أغـــصّّ بـصـوتـي، ثـــم تطـلـقـههـــذي الأبـــوة فـــي عيـنـيـك والـنُـبُـلُ!
يـا منجـمَ العمـر.. يــا بـدئـي وخاتمـتـيوخـيـرُ مـــا فـــي أنـــي فـيــك أكـتـهـلُ!
أقول: هـا شيـبُ رأسـي.. هـل تكرمُنـيفأنتـهـي وهــو فــي شطـيـك منـسـدلُ؟!
ويغـتـدي كـــلّ شـعــري فـيــك أجـنـحـةمـرفـرفـاتٍ عـلــى الأنــهــار تـغـتـسـلُ!
وتغـتـدي أحـرفـي فــوق النـخـيـل لـهــاصـوتُ الحمائـم إن دمــع ٌ، وإن غَــزََلُ
وحين أغفو... وهـذي الأرض تغمرُنـيبطـيـنـهـا... وعـظـامــي كـلُــهــا بــلـــل
ستورق الأرضُ مـن فوقـي، وأسمعُهـالـهــا غـنــاءٌ عـلــى أشـجـارهـا ثــمــلُ
يصـيـح بــي: أيـهـا الغـافـي هـنـا أبـــداًإن الـعــراق مـعـافـى أيــهــا الـجـمــلُ!
‗۩‗°¨_‗ـ المصدر:#منتدي_المركز_الدولى ـ‗_¨°‗۩‗