بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
التواضع
كان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يخالط الناس، ويعيش معهم سائر أحوالهم في السراء والضراء، والعسر واليسر، لا يرى لنفسه كبير فضل وميزة عليهم إلا الوحي المنزل عليه من السماء، وصرح بذلك رب العالمين، فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]، فقد كان (صلى الله عليه وسلم) يواسي الناس في القليل والكثير، كان يتبسط معهم؛ فعن عثمان -رضي الله عنه- قال: إنا والله قد صحبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير.. ( ([1].وإن من أعلى صور تواضع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ما كان من اعتنائه (صلى الله عليه وسلم) بالضعفاء؛ الذين يُهَمَّشُون كثيرًا في المجتمعات، ولا يأبه بهم أحد، بينما كان (صلى الله عليه وسلم) يهتم بهم اهتمامًا خاصًّا. فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ابغُونِي الضعفاء، فإنما تُرْزَقُون وتُنْصَرُون بضعفائكم».([2])
وإن تواضع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) مع هذه الفئة من الضعفاء، لم يكن مجرد تبسُّط في التعامل معهم، بل كان يُعْنَى بقضاء حاجاتهم ومشكلاتهم. فعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه - قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكثر الذكر، ويُقِلّ اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأبى أن يمشي مع الأرملة، أو المسكين؛ فيقضي حاجته([3]).وحدث مثل هذا مع الإماء، وهن طبقة الخَدَم قديمًا؛ فعن أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه- قال: إنْ كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتنطلق به حيث شاءت([4]).ومن تواضعه (صلى الله عليه وسلم) في تعامله مع الناس تبسُّطه في التعامل مع الصبية وصغار السن. فعن أنس ابن مالكٍ -رضي الله عنه-: أنه مر على صبيانٍ فسلَّم عليهم، وقال: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يفعله([5]).وتواضع محمد (صلى الله عليه وسلم) في تعامله مع الصغار لم يكن فقط قاصرًا على مجرد إلقاء السلام عليهم ومبادلتهم التحية، بل كان يتبسط في الحديث معهم ومداعبتهم، فعن أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه- قال: إن كان النبي (صلى الله عليه وسلم) ليخالطنا حتى يقول لأخٍٍ لي صغيرٍ: يا أبا عمير ما فعل النُّغَيْر.([6])
صور من تواضع النبي (صلى الله عليه وسلم):
لقد جاءت أحاديث كثيرة تبين تواضع النبي (صلى الله عليه وسلم) وحثّه على التواضع, فمن ذلك ما رواه أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس في المسجد دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد. ثم عقله. ثم قال لهم أيكم محمد؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم.. ([7])، فلم يكن الغريب الآتي يعرفه من الوهلة الأولى؛ لأنه لم يكن يميّز نفسه بملبس ولا طعام ولا شراب، بل كان (صلى الله عليه وسلم) كأحدهم.وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يجلس على الأرض, ويأكل على الأرض, ويعتقل الشاة, ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير"([8]).فهكذا كان (صلى الله عليه وسلم) في تواضعه في حياته الاجتماعية ولم يكن كزعماء فارس والروم في زخرفهم ومظاهرهم في الجلوس والأكل, أما حلب الشاة فإنه مظهر من مظاهر التواضع الكبير؛ لأن الكبراء لا يفعلون ذلك, وكذلك إجابة دعوة المماليك ونحوهم من الفقراء.ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان لا يأكل متكئًا، ولا يطأ عقبه رجلان"([9])، وهنا يعلمنا (صلى الله عليه وسلم) أن الإنسان وهو يأكل من نعمة الله تعالى ينبغي له أن يتواضع حتى يكون شاكرًا لله جل وعلا على نعمته. وأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يأذن للناس أن يمشوا خلفه، فهذا من تواضعه الجمّ، فلو أنه أذن للصحابة رضي الله عنهم أن يتبعوه لمشى أكثرهم خلفه احترامًا له وتعظيمًا، ولكنهم لم يكونوا يفعلون ذلك لما يعلمون من كراهيته إياه.وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا استقبله الرجل فصافحه، لا ينـزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينـزع, ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو يصرفه, ولم يُرَ مقدِّما ركبته بين يدي جليس له"([10]).
في تعامله مع أهل بيته:
قد يكون الإنسان متواضعًا في الظاهر وسط أقرانه، شديدًا على زوجته وأولاده، ولكن تواضع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ظهر واضحًا في تعامله مع أهل بيته، فقد كان يعيش في بيته ومع أهله معيشة المتواضعين، وتبين لنا أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- حياته في بيته، فعن الأسود قال: سألت عائشة ما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يصنع في أهله؟ قالت: كان في مهنة أهله؛ فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة.(([11] وبمزيد من الإيضاح تقول عائشة رضي الله عنها: «كان بشرًا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه»([12]).
التواضع في العمل:
ومن تواضع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) فيما يتصل بالعمل؛ أنه كان لا يستنكف أن يعمل في مهنة من المهن التي يعمل بها قومه.فعن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) بمر الظهران، ونحن نجني الكباث، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) عليكم بالأسود منه. قال: فقلنا يا رسول الله كأنك رعيت الغنم، قال: «نعم، وهل من نبي إلا وقد رعاها».( ([13]ولم يكن (صلى الله عليه وسلم) يكتفي بإصدار أوامره إلى أصحابه، وقد كان قادرًا على ذلك، لكن كان يعايشهم ويشاركهم، فحين قدم المدينة كان من أول أعماله أن قام ببناء مسجده بالتعاون مع أصحابه، فشاركهم في بناء المسجد. وفي غزوة الخندق حين غزته قريش، حمل التراب أثناء حفر الخندق، وقام بنقله مع صحابته بلا كلل أو تأفف.
أمره (صلى الله عليه وسلم) بالتواضع ونهيه عن المبالغة في المدح:
أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بالتواضع وحذّر من الكبر، فعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إن الله تعالى أوحى إليَّ: أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ, ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ"([14]). وحذر من أمراض القلوب، وخاصة من الكبر، فقال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»([15]). كما نهى أصحابه كذلك عن تبجيله كالملوك والقيام له، فقال: «من أحب أن يمثل له الناس قيامًا؛ فليتبوأ مقعده من النار»([16]), ويقول أنس: «لم يكن شخص أحب إلينا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهته لذلك».([17]) وكان يحذر أتباعه أن يقعوا فيما وقع فيه بعض غلاة النصارى من مبالغة تتجاوز القدر المشروع؛ فعن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله»([18]) . وحين وصفه أحد أصحابه بوصف فيه تفضيل له على غيره أنكر عليه ذلك؛ فعن أنس بن مالكٍ قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا خير البرية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ذاك إبراهيم عليه السلام». ([19])
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) أخرجه أحمد (506) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/155): رجاله رجال الصحيح، وحسنه الأرناءوط .
([2]) أخرجه أبو داود (2594) والترمذي (1702) وصححه الألباني.
([3]) أخرجه النسائي (1414) وقال شعيب الأرناءوط : إسناده صحيح على شرط مسلم.
([4]) أخرجه البخاري (6072).
([5]) متفق عليه: أخرجه البخاري (6247) ومسلم (2168).
([6]) أخرجه البخاري (6129) ومسلم (2150).
([7] ) أخرجه الطبراني (12/67) وصححه الألباني.
([8] ) أخرجه أبو داود (486) وصححه الألباني.
([9] ) أخرجه أبو داود (3770) وصححه الألباني.
([10] ) أخرجه الترمذي (2490) وقال: حديث حسن صحيح.
([11]) أخرجه البخاري (676).
([12]) أخرجه أحمد (25662) وصححه الألباني.
([13]) متفق عليه: أخرجه البخاري (3406) و مسلم (2050).
([14])أخرجه مسلم (2865).
([15])أخرجه مسلم (91).
([16])أخرجه أبو داود (5229) والترمذي (2755) وصححه الألباني.
([17])أخرجه الترمذي (2754) وصححه الألباني.
([18]) أخرجه البخاري (3445).
([19]) أخرجه مسلم (2369).