عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول
ونحيطكم علما ان هذا المنتدى مجانى من أجلك أنت
فلا تتردد وسارع بالتسجيل و الهدف من إنشاء هذا المنتدى هو تبادل الخبرات والمعرفة المختلفة فى مناحى الحياة
أعوذ بالله من علم لاينفع شارك برد
أو أبتسانه ولاتأخذ ولا تعطى
اللهم أجعل هذا العمل فى ميزان حسناتنا
يوم العرض عليك ، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
شكرا لكم جميعا
۩۞۩ ::ادارة منتدي المركز الدولى ::۩۞۩
منتدي المركز الدولى
۩۞۩ منتدي المركز الدولى۩۞۩ ترحب بكم
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول
ونحيطكم علما ان هذا المنتدى مجانى من أجلك أنت
فلا تتردد وسارع بالتسجيل و الهدف من إنشاء هذا المنتدى هو تبادل الخبرات والمعرفة المختلفة فى مناحى الحياة
أعوذ بالله من علم لاينفع شارك برد
أو أبتسانه ولاتأخذ ولا تعطى
اللهم أجعل هذا العمل فى ميزان حسناتنا
يوم العرض عليك ، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
شكرا لكم جميعا
۩۞۩ ::ادارة منتدي المركز الدولى ::۩۞۩
منتدي المركز الدولى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدي المركز الدولى،منتدي مختص بتقديم ونشر كل ما هو جديد وهادف لجميع مستخدمي الإنترنت فى كل مكان
منتدى المركز الدولى يرحب بكم أجمل الترحيب و يتمنى لك اسعد الاوقات فى هذا الصرح الثقافى
اللهم يا الله إجعلنا لك كما تريد وكن لنا يا الله فوق ما نريد واعنا يارب العالمين ان نفهم مرادك من كل لحظة مرت علينا أو ستمر علينا يا الله
موضوع: سيرة نبي الله يوسف عليه السّلام الجمعة 30 نوفمبر - 7:14
سيرة نبي الله يوسف عليه السّلام سيرة نبي الله يوسف عليه السّلام سيرة نبي الله يوسف عليه السّلام سيرة نبي الله يوسف عليه السّلام سيرة نبي الله يوسف عليه السّلام مقدّمة: سورة يوسف هي أوّل سورة حُملت من مكّة إلى المدينة (قاله الزّركشي في البرهان وكذا ابن كثير في أسد الغابة عن ابن اسحاق) ,قدم بها أبو مالك رَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ العَجْلَانِ (*) بعد أن بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم العقبة. (*ويكنّى أيضا أبو رفاعة وهو نقيبٌ, عقبيٌ بدريٌ، شهد العقبة الأولى والثانية، وكان نقيب بني زريق,قتل يوم أحد شهيدًا).
ومن أراد أن يقف على أخبار نبيّ الله يوسف عليه السّلام فليقرأ هذه السورة ولينيخ المطايا عند آياتها وعجائبها, ويتدبّر كلام أهل العلم متأمّلا ما خطّوه من الحكم والعبر التي فتح الله عز وجل عليهم بها, يحفظها ويفهمها ويُمعن النّظر فيها, ففي ذلك الخير الكثير لكلّ مسلم عامّة ولطالب العلم خاصّة . فمن اكتفى بكلام الله عز وجل وصحيح خبر رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمه وتدّبره يستغني عن كلّ شيء سواه من الإسرائيليات وكلام أهل الكتاب وغيرهم, ورحم الله شُريْح القاضي إذ قال: "...فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر".
قال عز وجل في مطلع سورة يوسف: "ألر* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " يخبر الله جلّ وعز عن كتابه العزيز أنّه بيّن بيانا تامّا, جليُّ الألفاظ والمعاني, يُفصح عن المُبهم ويفسّره ويضرب الأمثال لتعيَها أّذنٌ واعية. وهو في جلالته وعزّه وبيانه كاف عن سواه من الكتب, وعن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : " كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ وَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ "(البخاري وغيره) قال ابن السّعدي رحمه الله: "واعلم أن الله ذكر أنه يقص على رسوله أحسن القصص في هذا الكتاب، ثم ذكر هذه القصة وبسطها، وذكر ما جرى فيها، فعلم بذلك أنها قصة تامة كاملة حسنة، فمن أراد أن يكملها أو يحسنها بما يذكر في الإسرائيليات التي لا يعرف لها سند ولا ناقل وأغلبها كذب، فهو مستدرك على الله، ومكمل لشيء يزعم أنه ناقص، وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا، فإن تضاعيف هذه السورة قد ملئت في كثير من التفاسير، من الأكاذيب والأمور الشنيعة المناقضة لما قصه الله تعالى بشيء كثير."
وأنزله الله تعالى باللسان العربي الذي هو أشرف الألسنة وأفصحها ليعقل آياته أولو الألباب, فكلّما ازداد القارئ علماً وفهما في كتاب الله عز وجل زاده الله إيمانا ورفعة. فهو كتاب عربيّ ليس كسابقه من الكتب السّالفة إذ لم يسبقه كتاب بلغة العرب فيما نعلم. "فأنزل سبحانه وتعالى أشرف الكتب بأشرف لسان, على أشرف الرسل, بسفارة أشرف الملائكة, في أشرف البقاع, وابتدئ إنزاله في أشرف الشهور ]ونزل كاملا إلى السّماء الدّنيا في أشرف ليلة[, فكمل من جلّ الوجوه" (ابن كثير بتصرّف من غير المعكوفتين)
قال جلّ وعز: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ" قصّ: أي أخبر وأورد, وأصلها: قصّ الأثر أي تتبّعَ مواقع الأقدام ليَعْرِفَ منتهى سير صاحبها. ولا يُسمى المَقصوصُ قصصاً إلاّ إذا كان فيه تتبّع أحداث الخبر على علم من النّقلِ. وهذا القصص أوحاه الله عز وجل لنبيّه صلى الله عليه وسلّم قرآنا يُتلى إلى يوم القيامة, منّة وفضلا منه عزّ وجل ليهدي به العباد إلى السّعادة الأبديّة والفوز العظيم في الدّارين وهذا نظيرُ قوله عز وجل: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ." "والغفلة : انتفاء العلم لعدم توَجّه الذهن إلى المعلوم,ونكتة جعله من الغافلين دون أن يوصف وحده بالغفلة للإشارة إلى تفضيله بالقرآن على كل من لم ينتفع بالقرآن فدخل في هذا الفضل أصحابه والمسلمون على تفاوت مراتبهم في العلم" (التحرير والتنوير).
وأمّا القاصُّ فهو الملك جلّ وعلا, يقُصّ أحسنَ القصص المتناهية في الحُسن بما تضمّنته من كمال الكلام والنّظم والبيان, وإعجاز أسلوبه وما تضمّنته من العبر والحكم, وجاء عن سعد بن أبي وقّاص أنه قال:" أنزل القرآن على رسول الله ، فتلا عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { الر تلك آيات الكتاب المبين } إلى قوله : { نحن نقص عليك أحسن القصص }" (صحّحهُ الألباني). ثمّ قصّ الله عز وجلّ خبر نبيّه يوسف وأبيه عليهما السّلام وإخوته, قال عزّ وجل: "إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ" وهذه رؤيا رآها يوسف عليه السّلام في منامه وأخبرها أباه يعقوب عليه السّلام لما علم أنّ للرؤيا تعبيرا, وقد ثبت عندنا عن أبي رُزيْن العقيلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، وهي على رِجْلِ طائرٍ ما لم يُحدّث بها ، فإذا حدّث بها وقعت " وأحسبه قال : " لا تحدث إلا حبيبا أو لبيبا" رواه التّرمذي, وفي رواية أبي داود ، قال : " الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعْبَر ، فإذا عُبِرَت وقعت " . وأحسبه قال : " ولا تقصها إلا على وادٍّ أو ذي رأي " كأن الرّؤيا معلّقة بالطير السريع طيرانه لا تستقر قرارا كالشيء المعلق على رِجْلِ طائر لا يستقر تأويلها حتى تعبر, قال النووي : يشبه أنه يراد به أنه إذا أخبر بها من لا يحبه ربما حمله البغض والحسد على تفسيرها بمكروه فيقع على تلك الصفة ، فإن الرؤيا على رجل طائر ومعناه : أنها إذا كانت تحتمل وجهين ، ففسرت بأحدهما. قال الشيخ الألباني في الصّحيحة: "الحديث صريح بأن الرؤيا تقع على مثل ما تعبر ، و لذلك أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن لا نقصها إلا على ناصح أو عالم ، لأن المفروض فيهما أن يختارا أحسن المعاني في تأويلها فتقع على وفق ذلك ، لكن مما لا ريب فيه أنذلك مقيد بما إذا كان التعبير مما تحتمله الرؤيا و لو على وجه ، و ليس خطأ محضا و إلا فلا تأثير له حينئذ و الله أعلم."(انتهى). و قد أشار إلى هذا المعنى الإمام البخاري في " كتاب التعبير" من صحيحه فقال : " باب من لم يرَ الرؤيا لأوّلِ عابرٍ إذا لم يصب". وكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلمّ يقصّون رؤياهم على حبيبهم وقرّة أعينهم عليه الصلاة والسّلام فيَعْبُرُها لهم. وفرّق في الإخبار عمّا رأى بين الكواكب والشّمس والقمر لاختلافها عن الكواكب الأخرى لمن يراها. وكانت هذه الرّؤيا إحسانا وفضلا من الله عزّ وجل على نبيّه لينبّهه بعلوّ شأنه في الدّنيا والآخرة وأنّه سوف يصير به الحال إلى أن يخضع له أبويه وإخوته جميعا ويسجدوا له إكراما وتشريفا, وذلك ممّا يحصل له من اجتباء الله عز وجل له واصطفائه ونبوّته. فعبّر يعقوب عليه السّلام الرّؤيا لابنه البارّ يوسف عليه السلام وقدّم بين ذلك ألاّ يُخبر بها أخوته صيانة له ولهم من أن ينزغ الشّيطان بينهم ويشعل نيران الغيرة والحسد, قال عز وجل : "قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" هكذا عبّر يعقوب عليه السّلام الرّؤيا, أي: بأنّ الله عزّ وجل سوف يجتبيك ويتمّ نعمته عليك وعلى آل يعقوب بالعلم والعمل والرّفعة المنزلة الشّريفة كما سبق منه عز وجلّ أن تفضّل بهذه الآلاء على أبويك إسحاق والخليل إبراهيم عليهما السّلام, وهذا والله لهو الفضل المبين, نسأل الله من فضله وعطاءه. ووجّه يعقوب عليه السّلام نصيحة الأب لابنه الحبيب أن يُخفي هذه الرّؤيا عن إخوته لما عَلِمَهُ من الحسد الذي ينزغ الشّيطان به بين إخوته, فيعمدوا إلى مُدبّر فيحتالوا له الحيل ويبغوا له الغوائل ف-"الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ", فأمره بالبُعد عن الأسباب التي تجعل الشيطان يوقع بين الإخوة خاصّة والنّاس عامّة. ثمّ ذيّل الآية بقوله : "إنّ ربّك عليم حكيم" وهكذا هو دأب الصالحين في تعليم أبناءهم أسماء الله عز وجل وصفاته, ليحفظوها ويحْيوْا بها, فإن يعقوب عليه السّلام كانت حياته كلّها لله عز وجل يعلّمه اللهُ تعالى من الكتاب والحكمة ثمّ يُعلّمها النّاسَ وأبناءَه ليرثوا العلم من بعده ويحملوه إلى من بعدهم, قال عز وجل: "أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" وقولهم: "إلهك" أي: الله عز وجل الذي علّمتنا أسماءه وصفاته فأحببناه وعبدناه معك في حياتك ولم نشرك به طرفة عين, هو الله جل وعزّ الذي كنت تتوكّل عليه على جميع أحوالك وتدعوه رغبا ورهبا وفي كلِّ حياتك وترجوه, فنحن لن نعدل عن عبادته من بعدك أبدا, فلتقرّ عينُك. قال اللهُ جلّ وعز: "لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ" وهذه الآية فيها من التّشويق للقارئ والسّامع أن يتأهّب فيُرعي قلبهُ لما سيأتي من أحداث هذه القصّة البالغة في الحسن غايته, فإنّ فيها العِبر والمواعظ الجسيمة لكلّ مُستخبرٍ عن قصّة نبيّه يوسف وإخوته, فإنّ فيها الخبر الذي يستحقّ أن يَسأل عنه كل ساعٍ لمعالي المطالب. قال اللهُ جلّ وعز: "إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ " ابتدأ جل وعز في ذكر اجتماع إخوة يوسف على تدبير أمرٍ يكونُ فيه إبعادُ يوسف عليه السلام عن وجه أبيه يعقوب وذلك لِما تراكم في قلوبهم من الحسد والغيرة من يوسف عليه السلام وأخيه لاختصاصهم بحبّ يعقوب لهم دون سائر أبنائه مع إقرارهم أنّه نالوا حبّ الوالد لهم بقولهم "أحبُّ" لكنّهم جازفوا في تغليط أبيهم في ميل قلبه بالمحبّة ليوسف وأخيه مع أنّه –بزعمهم- ليس هناك دواعي لذلك التّفضيل والاختصاص, بل نحن-بزعمهم- أولى بهذا الحبّ منهم لكوننا عصبة ملتأمة, رجاءُ الانتفاع فينا أقربُ منهما ولا نرى أيُ موجب لاختصاصهم بالحبّ دوننا. ولم يعلموا أنّ يعقوب عليه السلام كانت عندهُ موجبات أهل التّقوى والعُبودية لحبّ ابنيه أشدّ من اولائك, وسيُظهر الله عز وجل ذلك لهم بعد أن يقضي أمراً كان مفعولا, عندها يعلمُ إخوة يوسف أنّ هذا التّفضيل في المحبّة من قبل أبيهم كان لأسباب تتعلق بحبّ الله عز وجل ليوسف عليه السّلام واجتبائه واصطفائه بالرّسالة والشرف وعلوّ المنزلة في الدنيا والآخرة دون كثير من النّاس, الذين قال فيهم عز وجل: "قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى". " اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ" أي: غيّبوهُ عن أبيكم بأن تقتلوهُ أو تُلقوه في أرض سحيقة بعيدة حتى تستفردوا أنتم بقلب أبيكم فيُقبل عليكم بالمحبّة والشفقة بعد أن كان مشغولا بحبّ غيركم. ثمّ سَلّوْا أنفسهم بعزم التّوبة بعد أن يقترفوا الذنب ليهونَ عليهم اقترافهُ. ولا شكّ أن هذا ,رحمك الله, من تسويل الشّيطان لابن آدم حين تراودهُ نفسه باقتراف الذنوب والمعاصي, فيُزيّنُ له العملَ السيّء وينصب أمام عينيه المخرج من سخط الله عز وجل بالتّوبة بعد فعل الذنب فكأنه يَمكرُ السّيئة ويحتال لها ويمنّي نفسه الأماني ويُعطيها المُسكّنات, فيظنّ المسكين أنّ الأمر يكون بهذه السّهولة ولا يدري أنّ للذنبِ آثارٌ وعقوبات أشد من قرضٍ بالمقاريض وضرب بالسّيوف, نسأل اللهَ السّلام والعافية. فائدة: قوله تعالى: "قوماً صالحين" يومئُ إلى أنّهم عزموا التّوبة قبل الفعل ثمّ منّوْا أنفسهم بأن صلاح الحال سوف يكون صفة من مقوّماتهم وسجيّة لهم لا ينفكون عنها أبدا. فصرف الله عز وجل الإخوة عن التّدبير لقتل وليّه يوسف فأجمعوا على أمر آخر يحصل به المقصود وهو إبعاده عن أبيه قال الله عز وجل:"قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ" فأشار إليهم أحدهم أنّ القتل أعظم إثما وجرما, ولكن إن كنتم فِعلاً قد عزمتم على تغييب يوسف عن أبيه فأنا أرشدكم إلى سبيل أقوم من قتله, فأشار إليهم أن ألقوه في قعر الجُبّ وظلمته, والجُب هي البئر التي لم تُطوَ (وقيل: وكانت ممّا وُجد لا ممّا حفرهُ النّاس, وقال الفرّاء أنّ وسطها واسع), فتجيء السّيّارة فتتناوله ويذهبوا به بعيداً عن أبيه وبذلك يحصل المطلوب من غير اقتراف الذنب العظيم. قال أهل العلم: وهذا أحسنهم وأمثلهم رأياً وأقربهم إلى التّقوى إذ اقتصد في الانتقام واكتفى بما يحصلُ به القصد والغرض دون إفراط وإسراف في الإثم. فانظر رحمك الله إلى إنصاف أهل العلم في هذه القضيّة إذ لم يُفوّتوا تبيين أفضلية رأي هذا الأخ على رأي خلاّنه فأبرزوه من بين رُكام المؤامرة والكيد بنبيّ الله يوسف عليه السّلام, وإن كانوا مجتمعين بأجمعهم على إبعاد يوسف عليه السّلام عن أبيه بغير حق إلاّ أن تخفيف الضّرر محمود بلا نزاع. قال الله تعالى: "قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ" ظاهر هذه الآيات أنّ يعقوب عليه السّلام كان يحبس يوسف عليه السّلام من الخروج مع إخوته إلى البرّ لخوفه عليه من أن يمسّه سوء من إخوته أو غيرهم, وأنّه لا يأمنُ عليه إخوته في حفظه ومداومة حراسته. فقدّموا دعاوى يُريدون بها كسر هذا المانع والإرباع على أبيهم في تسليمهم يوسف عليه السلام, فادّعوا قائلين لأبيهم إنّه ليس هناك موجبٌ أن تخاف على يوسف ونحن إخوته نبذل له النّصح ببذل الإخلاص له بالمحبّة والشفقة والحفظ, فأرسله بصحبتنا في الغدِ يروّح عن نفسه, يرتع ويلعب وهو في ذات الآن يكون تحت أنظارنا ورعايتنا فلا يغيب عنّا طرفة عين. وإنّما أرادوا بكلّ هذه الدّعاوى, التي تلبس قناع المحبّة والشّفقة, تليين قلب الوالد وتنشيط الدّوافع في نفسه ليُرسل يوسف عليه السّلام معهم وإزالة الخوف عنه منهم.
يتبع...
‗۩‗°¨_‗ـ المصدر:#منتدي_المركز_الدولى ـ‗_¨°‗۩‗
دموع مراقبة
عدد المساهمات : 30 تاريخ التسجيل : 30/10/2010
موضوع: رد: سيرة نبي الله يوسف عليه السّلام الجمعة 30 نوفمبر - 7:15
فائدة في معنى كلمة "يرتع": الرّتعُ هو الأكل والشّربُ رغداً في الرّيف وهو مكان الخضرة والمياه, ويقال الرّتعُ التّنعم كما في حديث أُمّ زَرْع: في شِبَعٍ ورِيٍّ ورَتْعٍ أَي تَنَعُّمٍ. وقيل: الرّتعُ هو السّعيُ والجريُ بانبساط (لسان العرب). فأظهر يعقوب عليه السّلام لبنيه مدى حبّه ليوسف عليه السّلام قائلا: " قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ" فلا يطيقُ أن يغيب يوسف عنه طرفة عين لفرط محبّته له لِما علم فيه من الخير العظيم وشمائل النّبوة, فخاف عليه السّلام أن ينشغلوا برميهم وسبقهم عن يوسف عليه السّلام فيخلو به الذئبُ فيجترّئ عليه ويهاجمهُ لِما تَحسُّهُ من ضعف يوسف عليه السلام عن دفاعها وصغر سنّه, وفي هذا المعني قال الرّبيع بن ضبع الفزاري يشكو ضعف شيخوخته: "والذئب أخشاه إن مـررت بـه *** وحدي وأخشى الرّياح والمطرا". وطبيعة الذّئاب أنّها إذا أسالت الدّم من خصمها ورأيتهُ استأسدت عليه ولربّما مزّقته إرباً ومن خلقها الاحتيال والنّفور. فأجابوا أبيهم مستبعدين ما تخوّفه على يوسف عليه السّلام قائلين: "لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ" فوصفوا أنفسهم بالخسران ونفي الفتوّة والقوّة ومقوّمات الرّجال إن فرّطوا في حفظهم لأخيهم الذي زعموا محبّته أمام أبيهم خاصّة أنّهم جماعة واحدة على قلب رجل واحد كما زعموا. فاستبطنوا الإهلاك والإبعاد وأظهروا الصّلاح الودّ فحينئذ سمح يعقوب عليه السّلام بإرسال مهجة قلبه يوسف عليه السّلام معهم واستجاب لمُرادهم في أن يصحبهم إلى البّر. قال عز وجل: "فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ *وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ" فلمّا استجاب يعقوب عليه السّلام لمُراهم بعد أن راودوه عن يوسف عليه السّلام بالدّعاوى المُزيّفة انطلقوا بأخيهم إلى البرِّ بعيداً عن والدهم الشّفيق, وقد كانوا قد اجتمعوا على إلقائه في أسفل الجُبّ, نفّذوا مكرهم فيه وحقّقوا مُبتغاهم من إبعاد يوسف عليه السّلام عن وجه أبيه إلاّ أن الأخرى التي راموا لها لم تتحقّق لهم بل كان الأمر بخالف ما جال في خاطرهم, إذ ازدادت محبّة الأب لابنه حين فقده فصار كلّ شيء يُذكّره بيوسف عليه السّلام حتى قال أبناءه معاتبين له: "تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ". ولمّا ألقيَ يوسف عليه السّلام في البئر أوحى الله عز وجلّ إليه يُسلّيه ويطمئن قلبهُ أنّ العاقبة للمُتّقين, فسوف يأتي يوم تُسفرُ لهم عن ماضيهم هذا وفعلتهم العظيمة التي لم يُراعوا فيها قلبَ أبيهم النبيّ وما سيحلُّ به من الحزن والأسف عليك وتخبرهم بما تجرّؤوا به على إلقائك في هذا الجبّ المظلم حيث لا جليس ولا أنيس وأنت الأخُ لهم من أبيهم أصغرهم وأضعفهم قوّة, كلّ ذلك لم يحرّك فيهم شفقة ولا رحمة, فاصبر فإنّ الله جلّ وعزّ غالبٌ على أمره. ولمّا أتمّوا مكرهم بيوسف وفعلتهم المكيدة رجعوا إلى أبيهم عشاء يبكون دليلا لهم على صدق ما سوف يدّعونه لأبيهم, ولاحظ رحمك الله, كيفّ عبّر سبحانه عن تباكيهم بلفظة "يبكون" , كأنّهم اصطنعوا بُكاء يتشابهُ عليك بالبكاء الحقيقي, ولا تجدُ هذا التّمويه إلاّ عزيزاً نادراً, فكيف وقد جاءوا أباهم بعد مغيب الشمس حيث إذا اطّلعت عليهم شقّ عليك التّفرس في وجوههم لترى ملامح الكذب والتّصّنع, فأتقنوا التّباكي واختيار الوقت. " قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ" أنظر كيف أظهروا الأسف والجزع متلبّسين بالتّباكي والحزن مخاطبين أباهم بنداء الأبّوة "يا أبانا" تأليفا لقلبه عليهم يَقصّون عليه الكذبَ بأوضح عبارة, زاعمين أنّهم ذهبوا يتسابقون بينهم إمّا بالجري على الأرجل أو بالرّمي والنّضال وتركوا أخاهم يوسف عليه السّلام عند أمتعتهم راحة لهُ لصغر سنّه وضعف قوّته, فابعدهم التّسابق عن مكان أخيهم حتّى حُجِبَ عنهم, فجاء الذّئبُ في غيبهم وتجرّء عليه فقتله وأكل منه, ثمّ أتبعوا يوثّقون صدق حديثهم بقولهم: "وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ" أي: وما نراك بمُصدّق لنا على كلّ حال وإن كان ما قصصناهُ عليك هو الحقّ, وهو كذلك, فنحن نعذرك في تكذيبنا إذ أنّ الذي كنت تخشاهُ قد وقع. وأدلوا ببيّنة على صدق حديثهم أن جاءوا بقمص يوسف عليه السّلام الذي خرج معهم فيه وقد لطّخوه بدم مكذوب بكونه دم يوسف يوهمون أنّ الذئب أكل يوسف وتلطّخ قميصه بهذا الدّم المزعوم. (فائدة: قال تعالى: "وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ" وأمّا ما ذكر من أنّ الدم المكذوب دم الغنمِ فلا دليل عليه وكذلك ما ذكر أنّهم جاءوا بقميص غير ممزّق فكانت آية ليعقوب عليه السّلام أن كشف مكرهم, فبعيد جدا إذ لا يعزُبُ عنهم مثل ذلك وهم عصبة. وعلى أيّ حال فلا يوجد بين أيدينا خبر صحيح عن تلك الكيفيات وقد تقدّم الكلام عن مثل هذه المسائل في أول السّورة فلتُراجع.) إلاّ أن هذا الاختلاق لم يَرُج على نبيّ الله يعقوب عليه السّلام فردّ عليهم مُطّمئنا نفسه على الصّبر مُستعينا بالله عز وجل على ذلك: "قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ" فأبطل عليه السّلام دعواهم الفاسدة قائلا بتصرّف: "بل قد زيّنت لكم أنفسكم أمراً قبيحاً للتّفريق بيني وبين حِبّي يوسف, فأمّا أنا فسأصبر صبراً جميلاً غير مُصاحب للجزع والقلق, بل أصبرُ صبرَ الرّاضي بقدر الله عز وجل مؤمن بحكمته في كلّ ابتلاء ومحنة, مسلّم أمري لأحكم الحاكمين, مُستعلياً عن الشّكوى إلاّ إليه مُستعيناً به سبحانه على ما تدّعونه من الافتراء والكذب", فهو عليه السّلام لم يلتفت إلى بُكائهم وما جاؤوا به من الدّلائل الكاذبة لِما رأى من القرائن والسّوابق ما يدلّ على صدق ما آل إليه, فإنّ مثل هذا لا يَرِج على أولي الألباب. (فائدة: قال الألوسي في روح المعاني وكذا السّيوطي في الدرر النثور: أخرج ابن المنذر عن الشعبي رضي الله عنه قال : جاءت امرأة إلى شريح رضي الله عنه تخاصم في شيء ، فجعلت تبكي ، فقالوا : يا أبا أمية ، أما تراها تبكي؟ فقال : قد جاء اخوة يوسف أباهم عشاء يبكون.). قال الله عز وجل مُخبرا عمّا جرى ليوسف بعد إلقائه الجبّ: "وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ" مكثَ يوسف عليه السّلام في ذلك الجبّ ما شاء الله عز وجل حتى جاءت قافلة تُريد البئرَ, فأرسلوا من يستقي لهم الماء, فلمّا أرسل الدّلوَ في البئر لنزع الماء تعلّق به يوسف عليه السّلام وأشعر بنفسهِ أنّه أسفل البئر فلمّا رآهُ الواردُ استبشر وابتهج لعثوره ونادى مُخبراً بقيّة السيّارة قائلا: "يا بُشرى هذا غلام" وذلك لأنّ مثل هذا في بيعه مَرْبَحاً مُحقّقا وإن كان قليلاً كما سيأتي, فأسرعوا في إخفائه بينهم وكتموا أمرَهُ حتّى لا يطلبوهُ أهله فينتزعوه منهم, فجعلوه معهم وقد جعلوه بضاعة يعرضوه للبيع حال وصولهم أرض قومهم. ثم قال عز وجل: "وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ" أي أنّ الله عز وجل محيط بكل ما يحدث, وأنّه يُمضى ذلك كلّه لحكمة أرادها سبحانه وتعالى فأفعاله لا تنفك عنها الحكمة أبداً وإن كان ظاهر الأمر ما يُكره إلاّ أنّ العاقبة للمُتّقين, ففي عثور السّيارة على يوسف عليه السّلام آية تدلّ على لُطف الله عز وجل بأوليائه الصالحين إذْ سخّر له من ينزعه من تلك الظلمة والوحشة. قال الله جلّ وعزّ " وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ" فما لبثوا أن باعوه لرجل من مِصْرَ بثمن قليل قال عز وجلّ عنها أنّها "دراهم معدودة" فلم يقدروا قدر نفائس الأشياء, وكانوا غير راغبين في إغلاء ثمن يوسف عليه السّلام, فوصفهم الله عز وجل أنّهم "كانوا فيه من الزّاهدين" أي من صِنْفِ أولئك الزّاهدين الذين يكون عندهم الشيء النّفيس الغالي فيبيعونه بأقل من الثمن الذي يستحقّه وذلك لعدم تمييزهم بقدر البضاعة التي ظفروا بها. (فائدة: الضمير في قوله تعالى "وشروهُ" عائدٌ على السيّارة في أصح التّفاسير بدلالة النّص عليه دلالة واضحة واستقامة المعنى مع الآيات التي قبلها والتي بعدها وهذا ما اختاره قدوة المُفسّرين قتادة رحمه الله تعالى, ولا يُعدلُ عنهُ إلى أنّ الضميرَ عائدٌ على إخوة يوسف إلا بخبر يقين من الكتاب أو السّنة, ولا خبر, ومن قال بذلك زعم أنّهم حين جاءت السيّارة كانوا قريباً منه فسارعوا إلى نسبه لهم كعبد أبق وباعوه للسيّارة, وهذا تكلّف مع النّص وقولُ غَيْبٍ يحتاج إلى توثيقٍ يقوم به, والمطلوبُ هو الوقوف حيث وقف النّص) "وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" ووصّى الذي اشتراهُ زوجتَهُ أن تُحسنَ إقامتهُ في البيتِ وذلك لِما توسّمَ فيه من الخير والفلاح والمَنفعة في جميع أمورهم, فيعودُ أثر ذلك الإحسان عليهم أن يُعينهم في معيشتهم وجميع أمورهم أو أن يستمتعوا فيه باتّخاذه ولداً لهم يُحبّونه كحُبّ الوالدين لأبنائهم ويتمتّعوا بِبِرِّهِ لهم وببذل الإحسان إليهم. وستُبيّنُ الآيات المُقبلة أنّ الرّجل الذي اشتراهُ هو "عزيزُ مِصر", أي: له مَكانة شريفة في حاشية المَلِكِ لذلك قال جلّ وعزّ بعدها: "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" فبإنجائهِ من الجُبّ وبيعهِ بثمن بخسٍ ولطف الله عز وجل به أن اشتراهُ عزيزُ مصر واطمأنّ له وأوصى به زوجته لِما توسّم فيه من كمال العقل والفهم والمنفعة, فكلّ ذلك مُقدّمة لتمكين الله عز وجل ليوسفَ في الأرض وتعليمه تعبير الرُّؤى يتميّزُ بها في تلك البلاد, وستكون له سُلّماً لنيل منزلة شريفة في أرض مِصر كما سيأتي. ثمّ بيّن عز وجل أنّه يدبّر الأمور كيف يَشاء, لا راد لقضائه فهو الغالبُ على قدّره وأرادهُ, لا يُنازعهُ في ذلك أحد, مُنجز وعدهِ رُسله وإنْ كان يَخفى ظهور ذلك لكثير من النّاس وذلك لقصر إحاطتهم بالحِكم الباهرةِ والعواقب الحميدة. ثمّ تتابعت السّنون على ذلك الأمر حتّى بلغَ يوسف عليه السّلام كمال قوّته المعنويّة والحسّية فاستكمل عقلُه وخلقتهُ, ليمُنّ الله عز وجل عليه بالنّبوةِ والرّسالة ويُعلّمهُ ممّا يشاء ليكون رسولاً نبيّا وعالماً ربّانيّا وزادهُ علمًا أنْ علّمهُ من تأويل الأحاديث, قال عزّ وجل: "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" فكان ذلك كلّه جزاء ليوسف عليه السّلام على تمام إحسانهِ اتّجاه ربّه عزّ وجل في العبادة واتّجاهِ عباده الله ببذل النّدى وكفّ الأذى والنّصح لهم, وقد قال عزّ وجل: "وهل جزاءُ الإحسان إلاّ الإحسان". (فائدة: قوله عز وجل "بلغ أشدّهُ", ربّما تُقدّر بأربعين سنة لقوله عزّ وجل في سورة الأحقاف: "حتى إذا بلغ أشدّه وبلغَ أربعين سنة" فعطفَ المُفصّل على المُجملِ لبيانِ معنى شدّةِ البلوغ, وكان بَدْأ الوَحيِ على النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلّم حينَ بلغ هذا العُمر فكأنّ فيه تمامُ العقلِ وكمال الخلقةِ ليتحمّل أحمال النّبوة والرّسالة , والله تعالى أعلم) قال جلّ وعز: "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ" وقد جرت سُنّة الله عز وجل في أوليائه أن يُمتحنوا ويُبتلوا ليزدادوا ثباتًا وحبًّا لربّهم, فبعد أن منّ الله عز وجلّ على وليّه يوسف عليه السلام في إخراجه من الجبّ ودخوله بيت العزيز فأحسنَ مثواهُ وأوصى به أهلَهُ وترعرع في عزّة وأمْن وأمان وبلغ أشدّهُ وجاوز سنّ البلوغ, وبدت ملامحُ الجمالُ والبهاء عليه, أعجبت به سيّدتهُ ورغبت به عن زوجها, فألقى الشّيطان شِراكُه بين يديها ووقعَت فيه, فعزمت على مُراودةِ فَتاها عن نّفسه, فانتهزت فرصة الخلوةَ به في وقت غيابِ زوجها عن البيت, فخلت بذلك النبيّ الأبيّ, وهيّأت الأسباب المُعينة على فعلِ مُرادها السّيء, فما كان منها إلاّ أن غلّقت الأبواب, وهي أشدُّ من مجرّد الإغلاق, إذ أن الزّيادة في مَبنى الكلمة تَزيد في المعنى, أي أنّها عمدت إلى كلّ الأبواب فأحكمَت إغلاقها, وأقبلت إلى يوسف عليه السّلام تدعوهُ إلى نفسِها قائلة: "هيْتَ لك" أي- هَلّمَّ لك, أقبِل إليَّ ولا تتردّد فإنّه لا يمنعُك منّي أحد. سُبحان الله العظيم, تأمّل يا رحمِكَ الله هذا الموقف, شابٌ عزبٌ في كامل فتوّته, ومن كان كذلك يكون أكثر اندفاعًا في طلبِ هذا الأمر من غيره, ثمّ أنّه كانَ عبدًا يفعلُ ما يُأمرُ به من أسيادهِ ليَحْظى بالقربُ والإحسانِ منهم, فإذا ما أبى أن يَفعل الأمرَ يُهدّدُ بالسّجن والعذاب المُهين, ولا تَنْسى أنّ السّيدة هي التي تُراودهُ وتَطلبُ منه أن يفعلَ بها الفاحشة, فإذا ما نظر حوله رأى أن كلّ شيء قد هُيأ لأجل ذلك وانقطعت جميع المَوانع التي ربّما تحول بينهُ وبين ما تُريده سيّدته, فجميع هذه المُقتضيات تُناديه تقول: "هيتَ لك". لكنّ يوسف عليه السّلام دفعَ كلَّ ذلك وحطّمهُ أمام تلك السّيدة قائلاَ: "معاذ الله" يَلجأُ بها إلى الرّكنِ الشّديد يحتمي به ويعوذ من سخطهِ والوقوع في ما يُغضبه عزّ وجل, فانظر كيْف قدّم الإلتجاء إلى ربّه عز وجل قبل كلّ فعلٍ لردِّ الفاحشة عن نفسه وهو نبيّ مُجتبى مَعصوم عن الكبائر قبل النّبوة وبعدها, لتعلمَ أيّها الغالي, أنَّك لن تُفلحَ في ردَّ الشيطان وكيده ومحاربته وإن كُنت كثير العبادة غزير العلم, إلاّ بالاستعانة به سُبحانه فهو الأنيسُ في الغربة والنصيرُ في القلة والمعينُ في الأزمة والملاذ في الوحشة. ثمّ أتبعَ يُذكِّر المرأةَ بزوجها لعلّها ترتدع وتنزجرعن فعلَتها وذكرَ لها نعمة الله عز وجلّ عليهِ أن صيّر له زوجها فاشتراهُ واحسنَ مثواهُ, فكيْف أقابل هذا الإحسان من الله عزّ وجل فأخونَ من أمِنَني في بيته على حُرماته من أهلٍ ومال وأحسنَ مثوايَ! إنّ ذلك من أعظم الظّلم الذي يترتّبُ الهلكة الحقيقية في الدّنيا والآخرة. (فائدة: الضمير في كلمة "إنّه" يجوز أن يكون عائدا على الله جلّ وعلا فيُنسبُ الإحسانُ في الآية إليه, ويجوز أن يكون عائدًا على عزيز مصر, ويمكن الجمعُ بينها في ما قدّمتهُ بأن يكون الإحسانُ كلّه من اللهُ أن صيّر العزيز ليُحسن مثواهُ, والله تعالى أعلم). إلاّ أن هذا الزّجرُ والتّذكير تلاشى أمام رغبت المرأةِ في فعل المعصية واستحواذ الشيطان على قلبها, فهمّت به عازمة على ما مُرادها مُعرضة عن مُمانعة يوسف عليه السّلام من ذلك, فأمّا يوسف عليه فقد منّ الله عز وجل عليه أن استجاب له وآواهُ إلى حصنه المنيع فكفاهُ وأراهُ من الآياتِ والدّلائل التي تقتضي منه خشية الله عز وجل والفرارِ منهُ إليه سُبحانه فصَرَف الله عنه السّوءَ أن يخونَ من أكرمَ مثواهُ وأحسن إليه في بينه, وصرفَ عنه الفاحشة, وبيّن سُبحانهُ أنّ كلّ ذلك من أجلِ أنّهُ من عبادهِ المُخلصين الذي أخلصهم الله عز وجل لنفسِه وعصمَهم وحفظهم وجعلهم خيارَ خلقه يُهتدى بهم ويُقتدى. (فائدة: اختلف أهل العلم في تفسير معنى قوله تعالى: " وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ" فلتُراجع, لكنّ الذي تطمئنُّ إليه النّفسُ هو ما قاله أبو عبيدة مَعمرُ بن المُثنّى التّيمي, كما روى عنهُ أبو حاتم السِّجسْتاني فقال: "كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله : "ولقد همت به وهم بها" الآية قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير ، أي تقديم الجواب وتأخير الشرط ، كأنه قال : ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ." قدم الجواب على شرطه للاهتمام به" (انتهى), والآيات المُتقدّمة تؤيّد ذلك فكيف يستقيم أن يقول عليه السّلام: "مَعاذ الله إنه ربّي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون" يُبدي ثباتهُ واعتصامّهُ بالله عزّ وجل ويزجُرُ المرأة عن مُرادها القبيح, ثمّ يَخطُرُ في باله أن يُقْدِمَ على فعل الفاحشة سواء كان بفطرته أو غير ذلك؟!, هذا الأمرُ لا يلتئِمُ مع ذي إنصافٍ, إذ كيفَ يزجُرُ المرءُ الصالحُ غيرَهُ عن فعل القبيح ثمّ يخطرُ في باله أن يفعلُه في نفس الآن؟!, هذا مُحال, والله تعالى أعلم). قال عزّ وجل: "وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ" فلمّا رأى يوسف عليه السّلام عنادها وإصرارها في فعل الفاحشة تفلّتَ منها وتوجّهَ مُسرعًا إلى البابِ يفتحهُ ليخرج وامرأةُ العزيز تجري وراءه تريدُ منعَهُ من الخروج, فما كان مِنها إلاّ أن أمسكت بقميصهِ من الخلف تُريد منعهُ من الهروب وهو يأبى عليه السّلام فشقّتهُ لشدّةِ المُلاحة بينها, فكان الشقّ من دُبرٍ لأنّه عليه السلام كان مُعرضًا عنها وهي وراءهُ تريد منعهُ من الفِرار. فجعلا يستبقان نحو البابِ فما هو إلاّ أنْ فُجئا بالعزيزِ أمامَ أعينهما عند البابِ, فرأى هذا المنظر أمامهُ فكأنّهُ كرهَ ما رأت عيناها, فبادرت امرأةُ العزيزِ تُبعِدُ الشّبهاتِ عن ذهنِ زوجها وتُشعرهُ بأنها مُخلصة له بالحُبِّ ولا زالت, فلا يخطرُ في بالهِ ما كان على الحقيقة, فبادرت قائلة دون تلعثمٍ : "مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" فلم تذكر مُقدّماتٍ لتُشعرَ أنّ مُراودة يوسف لها أمرٌ مفروغ منهُ أصلا, فابتدأت بطرحِ أصنافِ العقوبات ليَحكم بها العزيز على يوسف عليه السّلام, فما أن استتمّ خطابُ المرأة حتّى بادرَ يوسف بتبرئة نفسه قائلًا: "هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي", فأصبح العزيز أمامَ أمرٍ لا يستطيع قطعَ الحكم فيه, فمنّ الله عزّ وجلّ على يوسف عليه السّلام إن يُصيّر في هذه القضيّة من يُبيّن براءتهُ وهذا من تمام لطفِ الله عزّ وجل بأصفيائه المُحسنين, فابتدرَ شاهدٌ من أهلِ المرأة يشهَدُ على قرينةٍ بيّنة في الفصل في هذه القضيّة, وهذه القرينة هي جهة شقِّ قميصِ يوسف عليه السّلام, فيَشْهَدُ الشّاهِدُ "إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ" لأنه لو أرادها هو عن نفسها وكانت مُمانعة لذلك أقبلَ عليها يُمسكها بشدّةٍ وهي تدفعهُ عنها فشقّت قميصهُ من هذا الجانب, (أو أنّها أمسكتهُ لتقبضَ عليه حتّى يجيء زوجها- وهذا المعنى بعيدٌ والله أعلم),"وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ" وهذا يكونُ كما وقعَ حقيقة, وذلك أنه أراد الهروب فأمسكت بقميصه من خلفهِ فقدّتهُ," فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ" فكأنّ الشاهِد أراد أن يَجيء ببيّنةٍ تدلّ على صدقها فوجدَ عكسَ ذلك, وظهرت براءة يوسف عليه السّلام وكَذِبُ المرأة وافترائها عليه. (فائدة: قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: روى ابن جرير بإسنادٍ رجاله ثقات عن ابن عباس أن الشاهد كان رجلا ذا لحية. وقال أيضًا:ثم إن ظاهر القرآن في قصة الشاهد أنه كان رجلا لا صبيا في المهد.) فلمّا رأى العزيزُ ذلك, وكان هو الحاكم على هذه القضيّة, قال لزوجهِ:"إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ" أي إنّهُ من الاحتيالُ والخُبث في التدبير للتّوصلِ إلى براءتك واتّهامِ نبيّ الله يوسف عليه السّلام, ومن جنسِ كيدِ النّساءِ الّاتي على شاكلتك, وما أكثرهنّ, فإذا كِدْنَ كِدْنَ كيْدًا عظيمًا, يُصبحُ الحليم أمامهُ حيرانًا لصعُوبةِ كشفِ الحقيقة ومعرفة الحقّ من غيرهِ اتّجاه هذا الكيدُ والاحتيال. وانظر إلى حِلْمِ العزيز على امرأتهِ حين خاطبها بصيغة الجمع وذلك تخفيفًا في مُؤاخذتها لِما يَراهُ من المصلحة في ذلك, وقيلَ فعلَ ذلك لشدّة حبّه لمرأته, واللهُ أعلم. ثمّ وجّه الخطابَ ليوسف عليه السّلام قائلًا: " يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا" لِما عَلِمَ العزيزُ من كمال عقلهِ وإرادته الخيْر والسّترِ على أهلِ البيتِ الذين آووه وأحسنوا إقامته, مع أنّهم أساؤوا لهُ مرّة فهو لا ينسى جميلهم وإحسانهم إليه, فأمرهُ أن لا يلتفت لِما كان من امرأتهِ ويكتُمه ويحفظ أسرارَ بيتهِ ويُحافظ على ستر عرضهِ, ثمّ قال لزوجِهِ راجيًا منها الخيرَ والإصلاحَ بعد ما ارتكبتهُ من هذه الأفعال القبيحة والكيدِ العظيم, قال: "وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ" فأمَرها بالاستغفار من ذنبها وألّا تعود لمثلِ ذلك أبدًا لأنّها باقترافها كلّ ما كادتهُ صارت من أهل الخطيئة, فجعلها من زمرةِ الذين خطِئوا تخفيفًا ثانيًا في مُؤاخذتها. ثمّ تتابعت الأيّام وتسرّبَ هذا الأمرُ إلى نساءِ المدينة حتّى صِرْنَ يلغن فيه, فجعلنَ يلمنَ امرأة العزيز على مُراودتها لخادمها المملوك, قال الله عز وجل مُخبرًا بذلك: "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" أي يعبنَ على امرأة العزيز ويقلنَ: هذه امرأةٌ كبيرة القدر, امرأةُ العزيز ذو منزلة شريفة عند الملك, كيف تُراودُ فتاها الذي تملكه تحت يديها عن نّفسه, إذن لقد بلَغ حبُّه شَغافِ قلبها وهو حجابه وغِلافه فغلب عليهِ واخترقه حتّى تمكّن من قلبها, فما نراها إلّا أنّها جانبت الصوّاب وفُتنت بِحُبّ هذا الفَتى وهي من هي في شرف المنزلة والجاه. قال عزّ وجل: "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" ولمّا استفاضَ الكلامُ وبلغَ كلّ مبلَغ, سَمعت به امرأةُ العزيز فدفعها ذلك لأن تُلقي المَلامة عن نفسِها فدعتهُنّ إلى بيتها لتُحقّق ذلك الأمر, ولكنّ النّسوة أردنَ بهذا الكلام إغراء امرأة العزيز بعرضِ يوسف عليه السّلام عليهنّ ليَرَينَ جمالَ ذلك الفتى الذي تُراودُه عنّ نفسِه وهي من هي في شرف المنزلة بينهّن. لذلك سمّى الله عز وجل فِعل النّسوة من كلامٍ ونقلِه حتّى يصِلَ إلى امرأة العزيز مَكرًا لأنّه يُضمرُ التوصّل إلى أمرٍ يَخفى على من يسمَعه. فأرسلت إليهِنّ تدعوهنّ إليها بحُجّة الضّيافة, وأرادت من وراءِ ذلك أن تُريهنّ يوسف عليه السّلام لتُبيّن للنسوة أنّها معذورة في حبّها له, فمَكَرت مَكرها هي كذلك, فيتحصّلُ من هذا مَكران, كلٌ أضمر بفعلهِ أمرًا لتحقيق مُراده, وهذا التّوجيه في معنى المَكر من قبلِ الطّرفين يؤيّدهُ الحديث الصّحيح الذي روتهُ عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ثقل (أي من المرض) جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت: فقلت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت: فقلت لحفصة قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر فقالت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس"(متفق عليه وهذه رواية مُسلم) وقوله صلى الله عليه وسلّم: " إنكن صواحب يوسف" أي: مِثلهن في إظهار خلاف الباطن وذلك أن عائشة علّلت هذه المُراجعة بقولها: "لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا وإلا أني كنت أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر"(متفق عليه). فلمّا علِمت امرأة العزيز باستجابة دعوتها وقدومهّن هيّئت لهنّ الفُرشَ والوسائد ونحوها ليتكّئن عليها وقرّبت إليهنّ الضّيافة من أنواع المآكل والمَشارب, فلمّا حضرن وجلسنَ في مُتكئهنّ آتت امرأة العزيز كلّ واحدةٍ منهنّ سكينًا يستعملنها في تقطيع وتقشير المآكل, وكان هذا مكيدةً منها ليكون بُرهانًا لها وحجّة عليهنّ واضحة في ما بعد, وانتظرت امرأة العزيز الوقت المُناسب, فدعت يوسف عليه السّلام أن يخرجُ عليهنّ في جماله وبهائه وحُسنِ خِلقته "وقد أعطيَ عليه السّلام شطر الحُسن"(مُسلم), فلمّا بدى لهنّ بُهرنَ به وأكبرنَ شَأنه وقدْرَهُ ودُهشنَ ممّا رأت أعيُنهنّ وأخذنَ يحزُزنَ أيدينّ بالسّكاكين من الذّهول, فلم يتمالكنَ أنفُسهنّ وقلنَ قول امرأة واحدة: "حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ" ومعنى "حاش لله" أي: تنزيهًا وبراءةً لله من هذا, وهذا كقول بعضهم حين يرى ما يُدهشه أو يُعجبهُ "سبحان الله" أو "الله أكبر" ونحوه. فأتبعنَ مُعلّلات على قولهنّ "حاش لله" بأنّ هذا الفتى يَبعُدُ أن يكون بشرًا مثل جنسهِ لجماله وحُسن خلقته, بل هو من جنس الملائكة لا غير, لِما وَقَعَ في الأذهانِ أنّ الملائكة متّصفة بالجمال والحُسن, وأكّدن أنّهُ ملك طيّبٌ زكِي. فلمّا حصلَ منهنّ العُذر لامرأة العزيز قالت لهنّ: "فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ" أي: ها قد وقعتنّ فيما كنتنّ تلمنني فيه, وتبيّن لكنّ أنّني معذورةٌ في حبّي إياهُ ومُراودتي له. ثمّ أبانت لهنّ من محاسنه الباطنة وعفّته عن الفاحشة ونزاهته عن السّوء, فقالت: "وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ" فاعترفت لهُنّ بالحقيقة وصدّقت قولهنّ فيها, وقالت: نعم أنا قد راودّتهُ عن نفسه وقد علمتنّ من مكانتي وحسبي بينكنّ وجمالي وحُسني, إلاّ أنّهُ لم يستجب لمُرادي وأصرّ على الامتناع واستمسك بعفّته لنفسه وأمانتهِ على حُرمةِ سيّده. ثمّ أتبعت مُهدّدةً ليوسف عليه السّلام بمَسمعٍ منهنّ: "وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ" فتوعّدته بالسّجنِ والصَّغارِ إن لم يستجب لمُرادها. فلمّا رأى يوسف عليه السّلام إصرارَ امرأة العزيز على المُراودة, وأنّ الأمر قد عمّ وطمّ لمّا صرنَ النّسوة في مضمار المُراودة معها, ولِما رأى من صواحِبها من الكيْدِ ما رأى, علِم عليه السّلام أنّ الحلّ للنّجاةِ من هذه الفتنة هو الحبسُ الذي يحصلُ به التغيّيب عن تلك النّسوة, فما كان منهُ عليه السّلام إلّا أن التجأ لربّه عز وجل بالدّعاء فقال: " رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ" فأحبّ السّجن وفضّلهُ على الوقوع في الفاحشة والخيانة, على ما فيه من التّخلي عن رغد العيش في بيت العزيز والتّحوّلِ إلى مُعاناةِ الألم والوحدة, إلّا أنّ ذلك هان عليهِ من أن يستجيب لتلك النّسوة. ثمّ توسّل إلى ربّه بافتقارهِ إليه وأن لا يكِلهُ إلى نفسه طرفة عين, فأتبعَ متضرّعًا إليه:"وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ" وهذا هو كمالُ الافتقار إلى الله عزّ وجل, وهو الاعترافُ بالضّعف الذي جُبلَ عليه المرؤ, فلا سبيلَ له إلى النّجاة من الفتن والمحن إلّا بالاعتصام بحبل الله عز وجل. فتأمّل يا رحمك الله, هذه المُناجاة من نبيّ الله يوسف عليه السّلام لربّه عزّ وجل أن لا يُخلّي بينهُ وبين نفسه الأمّارة بالسّوء, لأنّه يعلم أن الصّبوَ والميل إلى مُراد النّسوة لا يُكون إلّا من جاهل مَغبونٌ خاسر, إذ باع جنّة عرضها السّماوات والأرض بلذّة فانية, هذا هو الشّقاءُ بعينه, فمع علمِه عليه السّلام أنّ الاستجابة لفعل الفاحشة من تلك النّسوة إنّما هو فعل الجُهّال, إلّا أنّه يعلمُ أيضًا أنّه لا حول له ولا قوّة تُنجّيه من ذلك إلّا بالله عزّ وجل. فكما هي سُنّة الله في عباده المُحسنين, الذين تعرّفوا إليه بالرّخاء وخشوهُ في السّر والعلانية, أن يسمعَ دعائهم ويَستجيب لمُرادهم ويسلّمهم من كلِّ آفاة تخدشُ في كمال منزلة عبوديّتهم, قال عزّ وجل: "فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" فاستجاب الله عز وجل لدُعائهِ لِما علِمَ من صالحِ نيّتهِ وصدقه مع الله وصدقِ إيثارهِ لِما عندَ الله على ما يدعونه إليه, ولعلمِه عزّ وجل بِضَعفِ الإنسان أمامَ المِحَنِ والفتن, فنجّاهُ الله عز وجل منها وصَرَفَها عنه, وهذا من تمامِ منّته جلّ وعزّ على أصفيائه المُجتبين. "ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ" بعد ما جرى من أحداثٍ بين امرأة العزيز ويوسف عليه السّلام وبانت براءته وعفّته وصار النّاسُ يخوضون في هذا الحديث, أجمعَ أصحابُ الأمرِ والشّوى حول العزيز أن يخمدوا تفشّي الخبر في المدينة بأن يسجنوا يوسف عليه السّلام لفترة زمنيّة مُبهمة. "وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ" ولمّا دخل عليه السّلام السّجن, وافق دخوله فتيانِ شابّان, فأقبلا عليه يَقصُّ كلٌّ منهما رؤيا رآها في منامه, وذلك لِما عهدوا عليهِ من حُسنِ السّمتِ وكمال العقلِ والسّلوك, وسيماتِ تأويل الأحاديث, فاستمعَ يوسف عليه السّلام لحديثهما, فذكر الأول أنّه رأى فيما يرى النائم أنّه يعصِرُ الخمر ويصنعهُ, ورأى الآخر أنّ الطّير تأكلُ خُبزًا موضوعًا على رأسه, وذيلوا الحديث بالثّناء على يوسف عليه السّلام رجاءَ تأويل رؤياهم, "قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا" فقدّمَ يوسف عليه السّلام بين يدي تأويله لرؤياهما وعدَهُ بذلك, ووقّت لهما ميعادًا قريبَ الأجَلِ وهو مجيءُ الطّعامِ المُعتاد لأهل السّجون, وأراد بذلك عليه السّلام أن تطمئنّ له قلوبهما ويلزما الحديث معهُ حتّى يُخبرهما بتأويل رؤياهما, لأنّ ذلك أدعى للانتباهِ لما يُريدُ أن يدعوهم إليه ألا وهو التّوحيد ونبذ عبادة الأوثان. فمهّد لذلك ببيان أصلِ تحصيل ذلك العلم وَبَدْءِ إنعامه فقال: "ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي" أي أنّ هذا كلُّه من العلمِ الذي تفضّل الله عز وجلّ عليّ به إحسانًا منهُ وإنعامًا, وأشارَ عليه السّلام أنّ هذا العلم هو من بعضِ العلمِ الذي علّمهُ ربّه عز وجل, وهو علمُ النبّوة والرّسالة. فانظر إلى فنّ الدّعوة إلى الله عزّ وجل من هذا النبيّ الأبيّ, إذ جعلَ هذا التّمهيد استدراجًا وتخلّصًا إلى دعوتهما لعبادة الله وحده, وهذا من أنفعِ السُّبُل في هداية الخلقِ, ويزيدُ ذلك رونقًا أن يكون في قلوب المَدعوّين سابِق مودّة لك.
يتبع...
‗۩‗°¨_‗ـ المصدر:#منتدي_المركز_الدولى ـ‗_¨°‗۩‗
دموع مراقبة
عدد المساهمات : 30 تاريخ التسجيل : 30/10/2010
موضوع: رد: سيرة نبي الله يوسف عليه السّلام الجمعة 30 نوفمبر - 7:16
ثمّ شرَعَ عليه السّلام بدعوة الفتيانِ إلى التّوحيد والإخلاصِ إلى الله في العبادة, فقال: "إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ" فبيّن عليه السّلام أنّ هذا العلمَ الذي أسبغهُ الله عليه كان جزاءً له أن أحسَنَ في عبادة ربّه عزّ وجل, وتركَ دينَ قومٍ كفروا بالله تعالى, أي تبرّأ من دينهم ولم يدخلْهُ أصلًا, بل كان عليه السّلام قد رُبّيَ في بيتِ النّبوةِ على التّوحيد من الصّغرِ وترعرعَ على ذلك, ثمّ بيّن دين الله عز وجل الذي هو عليه فقال: "وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ"وهذا يُبيّن شدّة اتّباعِ يوسف عليه السّلام لآبائه الأنبياءِ واقتفاءِ آثارهم, فسمّاهم للفتيان وعرّفهم بأسمائهم وقدّم في ذكرهم الخليل إبراهيم عليه السّلام الذي إليه تعودُ ملّة التّوحيد, والذي تنازعَ فيه النّاس من يهودٍ ونصارى ومُشركين, كلٌّ يدّعي أنّه أولى به من غيرهم, ولكنّ يوسف عليه السّلام صرّح لهم أنّ أباهُ إبراهيم لم يكن كذلك, بل كان حنيفًا مُسلِمًا, وما كان من المُشركين, وكذلك آبائه إسحاق ويعقوب, كلّهم ورثوا النّبوةَ عن إبراهيم عليه السّلام, ثمّ ورّثوها لمن بعدهم, ومنهم يوسف عليه السّلام فلم يُبدّل ولم يُحرّف, بل عمِلَ بوصيّة آبائه في حياتهم وبعد موتهم كما تقدّم معنا. ثُمّ أَرْجعَ كلّ هذا الفضلِ المبين إلى الله عزّ وجل, فمنهُ التّفضل والنّعم وإليه يعود, وليس هناك أعظمُ ولا أكبر من نعمة التّوحيد, لذلك قال: " ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ" فالفضلُ من الله عزّ وجلّ أن جعلني وآبائي من عباده المُوحّدين, وكذلك من أفضاله ونعمائهِ سُبحانه وتعالى على النّاس أن أرسل إليهم رُسُلًا منهم يدعونهم إلى رحمة الله ورضوانه ويخرجوهم من الظلمات إلى النّور, إلّا أنّ أكثر النّاس أمامَ هذا التّفضل والإحسان من الله, لا يشكرون, لأنّ شُكر مثل هذه النّعمة لا تكون إلّا باتّباعِ الرّسل وحُبّهم ومُلزمة غرزهم. فانظر يا رحمك الله إلى هذا السّياقِ المُشبعِ بالتّرغيب للفتيين بأنّ فضل الله عزّ وجل ليس مقصورًا على أناسٍ دون آخرين, بل إنّ فضلهُ وإحسانه سبحانه وتعالى سابغ واسع, وإنّما يُنالُ الشّرف والعزّ في الدّنيا والآخرة بإخلاص العبادة لله عزّ وجل وحدهُ الذي لا سبيلَ لتحقيقه إلّا باتّباعِ رسل الله جلّ وعز. ثمّ أتبع عليه السّلام يذكرُ بُطلانِ الآلهة التي يعبدوها من دون فقال: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" فخاطبهم بوصفٍ يَجلبُ المودّة بينهم حتّى يركنا إلى كلامه ويُشعرهما أنه لهما ناصحٌ أمين, فخاطبهما بصفة الصحبة والمُعاشرة في السّجن (فائدة: وكذلك تنبغي أن تكون دعوتك للنّاس, أن تُخاطبهم بصّفة تلبسُ حلّة المودّة التي تربط بينك وبينهم, كالنّسب أو الإقامة, أو صحبة السّفر ونحوها, حتّى تُشعرهم أنك حريص عليهم إلى ما تدعوهم إليه). ثمّ شرعَ في ذكر صفاتِ الله عزّ وجلّ المُستحقّ للعبوديّة وحده بادِئًا بنفيِ الرّبوبية والألوهيّة عن آلهتهم التي يعبدونها من دون الله عزّ وجل, إذْ أنّها متفرّقة مُتشتّتة, هذا من ذهبٍ وهذا من حجارة وذاك من خشب, وهي مُتباينة لا تضرُّ ولا تنفع, هل هي خيرٌ أم من الله الواحدِ في ذاته وصفاته وأفعاله؟!, هل هي خير أم الله الواحد الذي تفرّد بالخلقِ والملك التّدبير, الذي يُعطي ويمنح, ويعفو ويصفح, بيده خزائن السّموات والأرض؟! هل هي خيرٌ أم الله القهّار الذي قهر كلّ شيء لا يخرج شيء عن سلطانه؟! بل الله جلّ وعلا هو المُتفرّد بالألوهيّة والعِبادة لما اتّصف به صفات الكمال والجمال فلهُ كمال الخَلْقِ والملك وكمال التصرّف والتّدبير.
ثمّ قال: "مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" يخبرهُم عليه السّلام أن هذه الآلهة التي يعبدون ليس لها من خصائصِ الرّبوبية والألوهية شيء بل كسوتُموها أسماءً واتخذتموها آلهة ليس لكم في ذلك من الله بُرهان ودليل, بل إنّ الله عز وجل أمرَ أن تُفردوهُ بالعبادة وتُخلصوا له بالطّاعة, وليس لأحدٍ أن يقول على الله عزّ وجلّ ما لا يعلَم أو أن يُشرّع من تلقاء نفسهِ بل إنّ الحُكمَ يرجع إلى الله وحدهُ فهو المُنفردُ بتشريع الشّرائع وسنّ الأحكام التي توصلُ العبادَ إلى محبّة الله ومرضاته والاستقامة على أقوم السّبل التي اعوجاج فيها, "وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" أي لا يعلمون حقيقة التّوحيد لاتباعهم أهواء آبائهم الوثنيين ، الذين اتخذوا لأنفسهم أربابا متفرقة ليس لها من خصائص الربوبية أدنى نصيب. ثمّ لمّا فرغ عليه السّلام من بيان الهداية وإقامة الحُجّة, شرع في تأويل رؤياهما, قال:"يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ" وهذا تأكيد من يوسف عليه السّلام أن الرُّؤيا لا بُدّ واقعة على الوجهِ الذي أولّها لهما, فالأوّل سَيَؤول به الحال إلى أن يكون ساقي المَلك وأمّا الثاني فسوف يُصلبُ فتأتي الطّير فتأكُل من لحم رأسه وشحمه وهذا ما عَبّر به عن الخبز الذي رآهُ فوق رأسه. " وقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ " ثمّ أمّلَ يوسف عليه السّلام أن يخرُج ممّا هو فيه بأن طلب من الذي ظنّ أنّه سينجو من السّجن ويُقَرَّب إلى الملك أن يذكرَ حاله عند سيّده بأن يُطلقه من السّجن ويستعملهُ في شؤونه ومنفعته, إلّا أنّ الشيطان أنسى ذلك الرّجل أن يذكرَ أمرَ يوسف عليه السّلام عند الملك فلبِث في السّجن من ثلاث إلى تسع سنين, فكان ذلك من جملة مكايد الشّيطان في الصّد عن سبيل الله, إذ ما دام يوسف عليه السّلام في السّجن فإن دعوتهُ للتّوحيد ستبقى مقصورة على السّجناء, محجوبة عن النّاس, ولو شاء الله ما كان ذلك, ولكن قدّر اللهُ وما شاء فعل, وذلك أنّ الله عز وجل أراد أن يُخرجَ يوسف عليه السّلام من السّجن بسببٍ آخر يكون فيه ارتفاع شأنه وإعلاء قدره، ألا وهو: رؤيا الملك. فتأمّل رحمك الله, بَذْلَ الشّيطان في الصدّ عن سبيل الله وسَعيه في سدّ طرقِ الهداية على النّاس بأن يحبس أولياء الله أن يبرزوا لعبادهِ بأيْمانهم بصّائرٌ من ربّهم يُخرجوا بها العباد من ظلمات الجهل والشّقاء إلى نور الهُدى والسّعادة, لكن المؤمن الحقّ يكون على يقين أنّ بذل الشيطان في إضلال النّاس وسدّ طرقِ الهداية عنهم إنّما هو كيْدٌ ضعيفٌ هزيلٌ أمامَ همّتهِ في بذل الدّعوة للنّاس وتبين سُبل الاستقامة والهدى, كيف لا يكون كذلك وهو يعلمُ أنّ الذي ينصره ويُؤيّده هو ربّ العالمين, الذي بيده قلوب العباد يُقلّبها كيف يشاء. فلا يمنعنّك رفضُ الناس لدعوتك أن تَرْكَنَ إلى اليأس, وإن طالت المُدّة وقلّ المُستجيبون, أو تفرّق عنك من صاحبوك في أوّل الطّريق, فاعلم أنّك الجماعة ولو كُنتَ وحدك, ولك في أنبياء الله تعالى عليهم السّلام الأُسوةُ الأسمى في ذلك. قال عزّ وجل: "قَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ" وكذلك قضى الله عز وجل أن يظلّ يوسف عليه السّلام في السّجن صابرًا مُطمئنّا بتقدير الله له, وفي يومٍ رأى المَلكُ رُؤيا عجيبة غريبة لأهل المَعرفة في تأويل الرُّؤى, رأى ذلك الملكُ في ما يرى النّائم سَبع بقرات سمان قويّات يَأكُلنها سبعُ بقراتٍ هزيلاتٍ ضِعاف, ورأى سَبعَ سُنبلات خضرٍ وسبعًا أخر يابسات (يُقالُ: أسْبَلَ الزرع إذا خرج سُنبُله وسُمّي بالسُّنبل لامتداده). فعرَضَ الملكُ هذه الرّؤيا على حاشيتهُ المُقرّبين أولي المَعرفة بتأويل الرّؤى لعلّهُ يجد من يعبُر رؤياهُ, إلّا أن الملأ عجزوا عن ذلك ورمَوْها بأنّها أضغاث أحلام أي: أخلاط من أحلام مُشتبهةٍ كاذبة لا تنبِّئُ عن صدقٍ (والأضغاث: هي الحزمةُ من أخلاط الحشيش والنّبات), وقالوا: ما هذه برؤيَا حتّى نعبُرها بل هذه أخلاط أحلام لا تأويل لها, ونحنُ – كما عهدتَ علينا– لا نعبّر إلّا الرّؤى. وهذا يُشعِرُ أنّ الأنفة والعُجب قد أخذت منهم كلّ مأخذ إذ اتّهموا رؤيا الملك بأنها ليست بشيء لتكون لهم حُجّة في اعتذارهم عن تأويلها وليستقرّ شرف منزلتهم عند مَلِكِهِم فلا يَظن فيهم العجز عن تعبير رؤياهُ فيستبدلَ بهم أو يستغني عنهم. وكان بين أولئك الملإ الفتى الذي نجى من السّجن وهو الذي أوصاهُ يوسف عليه السّلام أن يذكره عند مَلِكهِ, فذكّرهُ الله عز وجلّ وأنطقهُ ليَقضي اللهُ أمرًا كان مَفعولًا, قال عز وجلّ: "وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ" فتذكّر هذا الفتى ما كان من يوسف عليه السّلام في السّجن من إحسانٍ له ولصاحبه وما علِمه منه حُسنِ تأويل الأحاديث, وتذكّر وصيّة يوسف عليه السّلام له أن يذكره عند ملكه, فلم يجد أحدًا أحرى بتعبير هذه الرّؤيا من يوسف عليه السّلام, فاستأذن من الملك وحاشيته أن يُرسلوه إلى من سيَعبر هذه الرّؤيا بلا ريب. وظاهر الآية, والله أعلم, أن الفتى لم يُسمِّ الرّجلَ للملك والحاشية - وهو يوسف عليه السّلام – الذي سيُقابلهُ ويستفتيه في الرّؤيا ليُفاجئهم بصدقِ يوسفَ عليه السلام بعد وقوع ما سيُخبر به, وهذا يدلّ على أنّ الفتى كان موقنًا بأنّ يوسف عليه السّلام لن يعجز أمام تأويل رُؤيا المَلك لِما أنبأهُ من أنّ هذا العِلمَ إنّما علّمه إيّاهُ ربّه الواحد القهّار, ولِما رَأى من يقينِه وثباتِه على الدّين القيّم الذي دعاهم إليه وحَزْمِهِ في دعوتِه واستقامته. وهذا يرجعُ أيضًا إلى الثّقة التي بثّها يوسف عليه السّلام في قلب ذلك الفتًى طوالَ مُكثه معه في السّجن, فاجعل لكَ نصيبَ فهمٍ وتدبّر من هذه النّكتة, فيا له من سِلاحٍ نادرٍ عزيز.
فانطلقَ ذلك الفتى متيمّمًا ذلك السّجن الذي فيه صاحبهُ الوَفيّ المُحسن, فلمّا قابلهُ عَرضَ عليه رُؤيا المَلك فقال: "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ" سُبحان الله, أنظر كيف ابتدأ الخطابَ مع يوسف عليه السّلام بأن ناداهُ بالصدّيق مع أنّ مُدّة الفراقِ بينها بين ثلاث سنين إلى تسع, ومع ذلك فلا يزالُ يذكرُ إحسانَهُ وصدقَهُ في أقواله وأفعالهِ وإخلاصِ بذل النّصيحة له. فلمّا كلّمهُ قصّ عليهِ رُؤيا الملك وطلبَ منه أن يُخبرهُ بتأويلها ليَحملها إلى الملك وينبّئ بها النّاس لعلّ ذلك يكون فيه إظهار لقدرك وما تحمله من العلم فيكون فيه خَلاصُك من السّجن. فشرعَ يوسف عليه السّلام بتأويل هذه الرّؤيا قائلًا: "تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ*ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ*ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ" أي – تجتهدون في الزراعة خلال السبع سنوات القادمة بلا انقطاع ولا كلل, ففسّر سبع البقرات السّمان بسنيِّ الخِصْبِ, ثمّ ما حصدّتم وجمعتم من ثمراتٍ فدعوه في سُنبُله ليكون أسلم له من إصابة السوس, وادّخِروهُ ولا تأكلوا منهُ شيئًا إلّا قليل القليل, ففسّر السّنبلات الخُضر بما حصدوه وخزّنوهُ من الثّمرات, ثمّ بعد أن تتمّ السّنون الخِصاب يأتي من بعدها سنون سبع شِداد جدوب قحط, تأكلون فيها ما جمعتم في سنيِّ الخِصبِ إلّا يسيرًا ممّا تدّخرون, ففسّر سبع البقرات العجاف بالسّنين الشّداد وسبع السُنبلات اليابسات بما ادّخروهُ للسّنين الشّداد, ثمّ بشّرهم بعام مُخصب يأتي بعد السّنين الشّداد تكثر فيه الخيرات ويُنجّيهم الله عز وجل من الشّدة إلى الرّخاء, فيكثرُ في ذلك العامُ الغيث وتُخرجُ فيه الأرضُ أقواتها على غير العادة فيعصرون فيه الزّيت والأعناب ونحوها, ويَحْلِبون الألبانَ لكثرةِ الخير الذي سينفع الله به العباد والبلاد والدّواب. وهذه البشارة ليست بيّنة في الرّؤيا إلّا أن يوسف عليه السّلام قد عَلم من سنن الله عزّ وجلّ حصول اليُسر بعد العُسر وأنّ الرّخاءَ والتّنفيس لازمٌ بعد انتهاء مُدّة الشّدة والكرب. فلمّا رجعَ السّاقي إلى الملك وأخبرهُ بتعبير الرّؤيا فرح به فرحًا شديدًا وتاقت نفسهُ أن يَرى صاحبَ هذا التّأويل العجيب والاستنباط الغريب لا سيّما بعد أن أخبرهُ السّاقي عن أخلاقه وإحسانه إليه في المدّة التي قضاها معهُ في السّجن, يقول الله عزّ وجل في ذلك: "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ*ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ" فأرسل الملك رسوله إلى السّجن ليُخرجَ يوسفَ ويُأتي به إليه يُكلّمه, فلمّا جاءه الرّسول أبى يوسف أن يَخرجُ حتّى تُبانَ براءته ممّا نسبوهُ إليه من التّهم في عرضه وعفّته ونزاهته, وليتبيّن أن دخوله السّجن إنّما كان ظُلمًا وعدونًا. وليُبرّأ ساحته من أي شائبة يُمكنُ أن يُعيّره النّاس بها بعد خروجه, فامتنع يوسف عن الخروج مع الرّسول وأمرهُ أن يطلبَ من الملكِ بأن يُحضر النّسوة الآتي قطّعن أيديهنّ في متكأِ امرأة العزيز ويسألهنّ عن خبرهِ ويصدقنَه القول. ولم يذكر يوسف عليه السّلام امرأة العزيز صيانة لشرف العزيز, وأبهمَ فِعلَ النّسوة من المُراودة له لألّا يتقدّم بين يدي ظهور الحقائق من النّسوة أنفسهنّ فإنّه أدعى في بيان الحقّ وإبطال الباطل. ثمّ جعل علم الله عز وجل بما وقع عليه من الكيد مِنهن مُغنيا عن التصريح, وفي ذلك بيانُ صبر يوسف عليه السّلام وأناته إلى أن ينجلي الحقّ وتظهر براءته جليّا, لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف ، لأجبت الداعي"(متفق عليه). فلمّا أحضرهنّ الملك سألهنّ عن شأنهنّ في مراودة يوسف عليه السّلام عن نّفسه, فنفيْنَ المُراودة مُطلقًا بقولهن: "حاش لله" ثمّ برّأنَ يوسف عليه السّلام بطهارته وعفّته عن الميل إلى السوء والفاحشة ممّا علمن من خِصالِه الحميدة وتمامِ كرامته ونزاهته, لكنّ الأمر لمن ينجلِ بعدُ لذلكِ انبرت امرأةُ العزيز لتُجلّي الحقّ وتُظهره وتستأصِل الباطل وتَمحقه, فقالت: "الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ" أي – بان الحقّ وظهرَ بعد خفائه وثبتَ, فما عاد للباطلِ ههنا محلًّا ولا موئلًا, أنا الآن أقرُّ وأعترفُ بذنبي فإنّي قد راودتّهُ عن نفسه فأبى واستعفف, وإنّه لصادقٌ في كلّ ما أخبر به. ثُمّ أتبعت قائلة: "ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ" أي- وهذا الإقرارُ منّي على تنزيه يوسف من كلّ تُهمة أقولهُ الآن وأعترف به ليَعلمَ أنّي لم أخنهُ في حالِ غيابهِ عن هذا المَحضر فأنسبُ إليه ما لم يكن. وذلك أنّ كيد الخائن لا يدوم ولا يُسدّد بل يَصرفهُ الله عز وجلّ عن أوليائه الصالحين, ويكيدُ لهم فيجعل العاقبة لهم ويتبيّن أمر الخائن وينكشف. ثمّ قالت أنّها برغمَ هذه التّزكية لا تُبرّأ نفسها من الوقوع بالذّنب ومن المُراودة والحرص على إيقاعِ يوسف في الفاحشة, فقالت: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ" وذلك أنّ النّفسَ تتحدّث وتتمنّى وتأمرُ صاحبها بالسّوء وارتكابِ المحظور, إلّا من رّحمه الله عز وجلّ عصمهُ من ذلك, وحصلَ عنده من دواعي الخوف من الله عز وجل والعزوف عن معصيته ومُخالفة أمره, فإنّ الله عزّ وجلواسعُ المغفرة, كثير العفو والصّفح لمن تجرّأ على مُخالفته واقتراف نهيه ثمّ اعترف بذنبه وتاب إلى بارئهِ وأناب و-"رحيم" بعبادهِ, يُوفّقهم إلى التّوبة ويقبلها منهم ثمّ يفتح لهم سُبل الأعمال الصّالحة ويُحبّبها إليهم ويكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان. "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ" ولمّا بانت براءةُ يوسف عليه السّلام للنّاس وتحقّقت لدى الملك, أمرَ بإحضارهِ من السّجن ليخصّه نفسه ويقرّبه ويجعلهُ من أهل مشورته لمِا ظهرَ له من علمِه وحكمته وخلقهِ وتحقّق نزاهته وعفّته وما جرى له في محنتهِ مع النّسوة في صبره على الأذى وتحمّله المشاق, وازداد ذلك وعَظم حينَ مثلَ يوسف عليه السلام بين يديه وكلّمهُ فرأى من حُسن تعبيرهِ وأدبِ مُحاورته وفضلهِ وكمالِ عقله وأدبه, فأصبح عند الملك في مكانةٍ شريفة وأمانة تامّة, وعرضَ عليه إعانتهُ في شؤونِ مملكته, فسألهُ يوسف عليه السّلام أن يولّيه التّصرف في خزائن أرض مصر, وهي الأمكنة التي تُخزن فيها الأموال والحبوب ونحوها, وعلّل على ذلك بقوله: "إنّي حفيظ عليم" أي- أمين على ما في الخزائن حافظ لها من جميع الوجوه, عليم بكيفية تدبير شؤونها في الإعطاء والمنع. فذكر ما فيه مدحًا لنفسهِ ترغيبًا للملك وتنشيطًا له لتوكيل الأمور إليهِ. ووصفَ نفسهُ عليه السّلام بهاتين الصّفتين, أعني الحفظُ والعلم, لانّهما جامعتان للخصال المطلوبة في الولاية والتّصرف في شؤون الرّعية, وقابلهما بقول الملك: "مكين أمين" فالمكانة لا يُرام إليها إلُا إذا كان طالبُها مُتّصف بالقوّة والحزم فَجَمَعَها عليه السّلام في صفة الحفظِ, وأمّا الأمانة فتقتضي الحكمة والعدل وكذا الحِلم فجَمعَها عليه السّلام في صفة العلم, فتأمّل. (فائدة: وذلك لمّا سأل بنو اسرائيل نبيًّا لهم أن يبعث لهم ملكًا يُقودهم في الجهاد, بعث الله عز وجل لهم طالوت وكان فضلهُ على غيره أن زادهُ الله عز وجل بسطة في العلم والجسم, وهما صفتا القوّة والعلم). فلم يسأل عليه السلام مالا لنفسه ولا عَرَضًا من متاع الدنيا, بل كان همّه الإصلاحَ في الأرض والأمر بالمعروف النهي عن المُنكر وصلاحُ الرّعية, ونحن لا نشكّ أن همّ يوسف عليه السّلام من وراء هذا الطّلب هو بذلُ الهدى للنّاس والدعوة إلى التّوحيد فمِثل هذا لا يَغيبُ عن ذهنِ أيّ مؤمن فكيف بساداتهم؟!. ثمّ أجملَ الله بيانَ فضله على نبيّه عليه السّلام إلى هذا الحين فقال: "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ".
يتبع...
‗۩‗°¨_‗ـ المصدر:#منتدي_المركز_الدولى ـ‗_¨°‗۩‗
دموع مراقبة
عدد المساهمات : 30 تاريخ التسجيل : 30/10/2010
موضوع: رد: سيرة نبي الله يوسف عليه السّلام الجمعة 30 نوفمبر - 7:17
فكان ثمرةُ ما مضى من المِحَنِ والابتلاءات والأسباب المُتقدّمة أن مكنّ الله عزّ وجل ليوسف عليه السّلام في الأرض يتصّرف فيها حيث أراد, فعلت منزلته في النّاس ووسّع الله عز وجل عليه بعد ضيق وفرّج عليه بعد كرب وأسبغ عليه من نعمه المتوالية فهيّأ له ما يرغدُ به عيشه وتطيبُ نفسه, وما كان هذا الأمرُ أن يُقضى إلّا برحمة الله وفضله التي يَحظى بها كلّ مُحسن, فبإحسانهِ بلغَ عليه السّلام ما بلغ, وله في الآخرة حسنة هي خيرٌ من الدّنيا وما فيها, وهي الجنّة التي لا ينفد نعيمها ولا تنقضي مُدّتها, وهذا الأجرُ ليس مقصورًا على نبيّ الله يوسف عليه السّلام بل هو لكلّ من آمن بالله عزّ وجل وحقّق التّقوى وخشي الله حقّ خشيته فامتثل أمرهُ ونهيه وعظّمه وراقبهُ في السّر والعلانية وتذلّل له بالطاعة محبّة وتعظيمًا. فنبّه الله عزّ وجل على أنّ ما عندهُ لأوليائه الصّالحين من الثواب خيرٌ ممّا أعطى يوسف عليه السّلام في الدّنيا من تمكينه له في أرضِ مِصر, فأمثال هؤلاء لا يُبالون ما فاتهم من حظوظ الدّنيا وزينتها, فإن أعطوا منها شكروا وبذلوه ابتغاءَ وجه الله, وإن لم يُعطوْا صبروا ورضوا واحتسبوا, فقد علموا أن مسراهم فيها ساعة لزمانِ, فليس لهم مُبتغىً إلّا رضى الله عز وجل وحده. وتتابعتِ الأيّام والسّنون ويوسف عليه السّلام يتولّى خزائن الأرض ويُحسن تدبيرها على أكمل وجهٍ, فجبا من الثّمار والأطعمة ما كان في السبعِ الخصب, ثمّ دخلتِ السّنون الشّداد وانتشر القحط في مصر وما حولها من البلاد حتّى وصل مساكن آل يعقوب عليه السّلام, وبدأ النّاسُ يتوافدون إلى مصر يبتغون الميرة, وبعثَ يعقوب عليه السّلام أبناءه لأجل ذلك, ويقدّر الله عزّ وجل أن يلتقي يوسف عليه السّلام بهم لأوّل مرة بعد سنين وقد صار رجلًا عليه رونقُ الإمارة والرّئاسة وأبهةِ المُلك, ولم يخطرُ ببال أحدهم أن هذا هو أخوهم الصّبي الذي رموهُ في الجبّ وبيعَ بدراهم معدودة قد صار إلى ما هو إليه, وأمّا هو عليه السّلام فإنّهُ عرفهم أوّل ما رآهم لأنّه فارقهم وقد كانوا رجالًا ولم تتغيّر ملامحهم ولا حالهم, يُخبر عن ذلك الله عز وجلّ ويقول: "وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" فلمّا جهزّهم عليه السّلام ووفّاهمُ الكيل وزوّدهم بما يحتاجون إليه في سفرهم, وحمّل لهم ما طلبوه من الميرة , وكان عليه السّلام لا يكيل لأحدٍ أكثر من حِملِ بعير وهذا من حُسنِ تدبيره وسماحة تصرّفه, سألهم عن حالهم فأخبروه أن لهم أخًا قد خلّفوه عند أبيه - يعقوب عليه السّلام-, فأمرهم بالإتيانِ به في المرّة القابلة مُرغّبًا لهم في ذلك بما أراهم من حُسن تجهيزه واستضافته وإنزاله لهم وهذا معنى قوله:"أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ", ثمّ أتبعَ التّرغيب بالتّرهيبِ مُتوعّدًا لهم بمنعِهم من الميرة والإنزال في المرّة القابلة إذا قدموا من غير اصطحابِ أخيهم معهم. فأعطوهُ الميثاقَ على أن يُكلّموا أباهم بأن يُرسل معهم أخاهم الأصغر ويَجتهدوا في انتزاعِه منه وأكّدوا له ذلك بقولهم: "وإنّا لفاعلون" – أي وإنّا لقادرون على ذلك حريصين عليه من غير تقصير ولا توانٍ ولا تعاظم, وذلك ليُبدوا له صدقهم فيما يقولون. ثمّ أمر فتيانه (وهم غلمانه ومن يعمل تحت يده من الخُدّام), أن يُعيدوا لإخوتهِ البضائعَ(وهي بمثابة الثّمن) التي جاؤوا يمتارون بها ويجعلوها في رِحالهم (ما يوضع على البعير من مَتاع الرّاكب) من غير أن يُشعِروهم بذلك, فإذا انقلبوا إلى أبيهم وفتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم قد رُدّت إليهم فيَحملهم ذلِكَ على الرّجوعِ ليَمتاروا ثانية, فيُقال أنّ سبب ردّ بضاعتهم إليهم ليكون ذلك تحفيزًا لهم إلى الرّجوعِ إليه ثانية وكذلك ليزدادوا ترغيبًا في إحسانهِ إليهم, وقيل أنّه استقبحَ أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطّعام, وقيل لعلمِه عليه السّلام أنّهم لا يقبلون الطّعام إلّا بالثّمن فيحملهم ذلك على الرّجوع, والأوّل أقرب وأوجه لتتمّة الأحداثِ بعدها, والله أعلم. "فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ*قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" ولمّا انقلبَ إخوة يوسف عليه السّلام إلى أبيهم أخبروهُ أنّه سيُمنعُ منهم الكيل إن لم يُرسل معَهم أخاهم, وقالوا: فأرسله معنا نكتل ولا تخش عليه فإنّا له حافظون من أن يصيبه مكروه. فردّ عليهم يُذكّرهم بعبارتهم القديمة في حقّ يوسف عليه السّلام وأنّ العهودَ قد تشابهت فلا يُستبعد أن الإيفاء بها مُتشابهٌ أيضًا, فقال: كيفَ لي أن أثقَ بكم وقد جرّبتُ عليكم ذلك فلم أجني منه إلّا الخيانة بالعهود والضّمانات, فإني لا أثق بحفظكم ولا بالتزامكم ولكن أفوضُّ أمري إلى الله فهو سُبحانه خير من حفظ ولطف ويرحمُ من وَكلَ أمورهُ إليه وصدق بالاعتماد عليه, فأسأله سبحانه أن يُسبغ عليّ من رّحماته ويحفظ لي ولدي ويردّهُ إليّ. وفي ذلك إشعارٌ أنّ يعقوب عليه السّلام لن يرفض أن يرسل ابنه معهم إذا أرادوا الرّجوع ثانية لأجل الميرة. "وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ" أي لمّا فرّغوا متاعهم الذي جاؤوا به من الميرة فوجئوا بوجود بضاعتهم التي دفعوها مُقابل الميرة, فعلموا أنّ هذا من إحسانِ العزيز(يوسف عليه السّلام) وكرمه لِما عهدوه عليه, فتوجّهوا بالخِطابِ لأبيهم قائلين: يا أبانا, أيّ شيءٍ نَطلب بعد هذا الإحسان الجميل؟! وفّى لنا الكيْل وردّ إلينا ثمنَ الطّعام, فإذا رجعنا بها أخرى مِرنا أهلنا وزوّدناهم بما يحتاجون من الطّعام, ونحفظُ أخانا ممّا تخاف عليه ونزداد بهِ كيْلَ بعير عمّا كان في المرّة السّابقة فإنّ ذلك كيلٌ يسير سهل على العزيز فإنّا وجدناهُ مُحسنًا سخيًا, حريصًا على البذل. وأرادوا بهذا تطيّيب خاطر أبيهم وتشجيعه على إرسال أخيهم معهم, فبقولهم : "ونزدادُ كيل بعير" أكّدوا لأبيهم حفظهم لسلامة أخيهم من كلّ سوء بضمانِ ازدياد الكيل بحضوره. فقبل ذلك يعقوب عليه السّلام وشرّط عليهم أن يعطوه موثقًا من الله وهو اليمين بأن يحلفوا به سبحانه بأن يردّوا أخاهم إليه إلّا أن يأتكم أمرٌ لا تستطيعون دفعه وتُغلبوا عليه أو أن تهلكوا جميعًا. فلمّا أعطوه الميثاق على ذلك ذكرّهم أن الله عزّ وجل هو الشهيد على هذا الميثاق الموكول إليه, مطّلع رقيب لا تخفى عليه خافية فيُجازيكم بإيفاء عهدكم إذا وفّيتُموه أو يُعاقبُ من خاس في عهده وفجر في الحلف به. ثمّ أوصاهم وقال: "يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ" وذلك أنّه خاف عليهم العين لكونهم أحد عشر رجلا لرجل واحد, وكانوا أهل جمال وكمال وبهاءٍ وبسطة, وهذا من الأخذ بالأسبابِ لتجنّبِ العين فإنها حق تستنزل الفارس عن فرسه (كما قال ابن كثير), ثمّ قال: فإنّي لا أدفع عنكم ضررا ولا أجلب إليكم نفعا بتدبيري هذا ، بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة(الشوكاني), وردّ الأمر إلى الله عز وجل فليس يُنجي حذر من قدر. قال الزجاج وابن الأنباري : "لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم ", فالأسبابُ مُجرّدة مأمورٌ بها العبد مع تعلّقه بربّه الذي بيده ملكوت كلّ شيء وصدق الاعتماد عليه, لذلك قال: "عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ" لينبّه أولاده ويوصيهم بالتّوكل على الله عز وجل. "وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" أي لمّا دخلوا مصرَ من أبوابٍ مُتفرّقة إعمالًا بنصيحة أبيهم الشّفيق لم يمسّهم سوء ممّا خافه يعقوب عليه السّلام, وما كان دخولهم هذا يُغني عنهم من الله عز وجل من شيء ولا يردّ قدره ولا قضاءَه بل لو أن الله عز وجل لم يقدّر سلامتهم ما سلموا, ولكن حاجة كانت في نفس يعقوب عليه السّلام أنفذها وهي النّصح لأبنائه والشّفقة عليهم أن يمسّهم مكروه, وما أقدم يعقوب عليه السّلام على هذا العمل إلّا أنّ الله عز وجلّ علّمه بما أوحى إليه من الحكمة التي تخفى على كثير من النّاس. قال قتادة والثّوري في قوله تعالى: "لذو علمٍ لما علّمناه" أي لذو عملٍ بعلمه. ثمّ دخل أبناء يعقوب عليه السّلام للقاءٍ ثانٍ بأخيهم يوسف عليه السّلام لكن هذه المرّة برفقة أخيهم الصّغير, فلمّا رآهُ يوسف عليه السّلام أراد أن يُبقيه عندهُ حتّى يحكمَ الله عز وجل, فآواهُ إليه خلسة من غير دراية من إخوته وأسرّ إليه: "إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" فأذهبَ عنهُ الحُزنَ وأبدلهُ فرحًا واستبشارًا, وأخبرهُ بما يُريدُ فعلهُ حتّى يكون سبَبًا في إبقائه عنده كما يدلّ عليه كلام الله عز وجل. وأجرى يوسف عليه السّلام الأمور على طبيعتها من الاستضافة وإيفاء الكيل والمُعاملة لإخوته إلّا أنّه جعل صواع المَلِك في مَتاعِ أخيه دون شعورهم ليجعل ذلك ذريعة في إبقاء أخيه عنده. (والسّقاية: وهي المَشربة, وهي صواع الملك كما سيأتي وهو الإناء الذي كان يَشرب فيه الملك ويُكالُ به الطّعام), قال عزّ وجل: "فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ" فلمّا أذنوا بالرّجوع وساروا بقافلتهم وفارقوا يوسف عليه السّلام, نادى مُنادٍ ,بأمرٍ من يوسف عليه السّلام, أن قِفوا! فإنّكم مُتّهمون بالسّرقة, فرجعَوا مُقبلين على المُنادي ومن بحضرتهم مُتعجّبين من الأمر, يسألونهم : "ما الذي فقدتموهُ" وفعلهم هذا يُشيرُ لكلّ من رآهم أنّهم جزمًا براء من السّرقة, إذ من شأن السّارق أن ينطلق بسرقته ويخلّص نفسه. فزعموا أنّهم يفقدون صُواع المَلك ويتّهمون أحدهم فيه, ثمّ رغّبوهم في تعاونهم معهم في إخراجه أنّ من يستخرجه من مكانه المُخبّأ يكافئوه بحمل بعير من الطّعام يضمنهُ ويكفله كبيرهم, فدفعوا ذلك كلّه واستنكروه وحلفوا بالله عز وجل أنّ الكل في أرض مصر قد علِمَ من سيرتهم الحسنة ومُعاملتهم ما يدلّ على عفّتهم وتقواهم ونزاهتهم عن الرّذائل ممّا اتّهموهم فيه, قال فتيان يوسف عليه السّلام: فإن تبيّن أنّكم كاذبون في ادّعائكم هذا وتأكدّ لدينا أنّ سارق الصّواع فيكم, فكيف يكون جزاؤه عندكم؟ فأجابوا: جزاء السرقة للصواع أخذ من وُجد في رحله فهذا هو جزاؤه حتمًا "كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ". إذ كان الأمر في شرعة يعقوب عليه السّلام أنّ السّارق يُسْتَرَقّ فيُصبح مملوكًا لمن سَرق منه. وهذا الذي أراده يوسف عليه السّلام, فإنّ المُتأمّل في سياق الآيات لهذا الموقف يتبيّن له أنّ خطاب الفتيان لأبناء يعقوب عليه السّلام كان بتوجيهٍ من يوسف عليه السّلام حتّى يَخلص إلى التّحاكم لشرعة أبيه وضمّ أخيه إليه. لهذا رجَع الضّميرُ في الآيات التي بعدها إلى يوسف عليه السّلام مع أنّ الذي سيُبادر بالفعل هم الفتيان, وذلك لرجوع الفعل إلى آمره فكأنّه هو الذي ينفذّه. فأمر يوسف عليه السّلام بتفتيش رحالهم حتّى يتبيّن الأمر, فبدأ بتفتيش أوعية إخوته العشرة وأخّر متاع أخيه ثمّ استخرها منه وذلك تمويهًا ودفعًا للتّهمة أن يكون فعل ذلك قصدًا فتورد عليه الشّبهات. قال عز وجل: "فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" كذلك كاد الله عز وجل لوليّه يوسف عليه السّلام ما سبق حتّى يُخلص أخاه من إخوته ويضمّه إليه فضلًا من الله ومنّة عليه, فما كان له أن يأخذ أخاه إليه جزاءً بما سرق بحسب حكم المَلك وقضائه, ولكنّ الله عز وجل سبّب الأسباب لذلك واقتضت مشيئته أن يَرضوا بحكم شرعتهم في من وُجد الصّواع في رحله ليتمّ كيد الله عز وجل وتدبيره ليوسف عليه السّلام, فإنّ الله عز وجل يرفع من يشاء مَراتب ودرجات في العلم على غيره كما رَفع نبيّه يوسف عليه السّلام فآتاهُ الحكمة النّبوة وعلّمه ممّا يشاء, فإنّ كل عالم فوقه من هو أعلم منه بفضل الله عز وجل حتّى ينتهي العلم إلى العليم الخبير, قال قتادة رحمه الله تعالى: "منه بدئ ، وتعلمت العلماء ، وإليه يعود" قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ" فلمّا سُقط في أيديهم ولُبستهم التّهمة عدلوا إلى تبرئةِ أنفسهم فزعموا أنّ أخاهم الذي سَرق سَلَكَ مَسلك أخيه –وهو يوسف- من أمّه من قبل, فلا يَبعدُ أن يسرق دوننا. قال الشوكاني في التّفسير: "واختلف اهل التفسير في هذه السّرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام, فقيل: إنه كان ليوسف عمة هي أكبر من يعقوب ، وكانت عندها منطقة إسحاق لكونها أسن أولاده وكانوا يتوارثونها فيأخذها الأكبر سنا من ذكر أو أنثى ، وكانت قد حضنت يوسف وأحبته حبا شديدا ، فلما ترعرع قال لها يعقوب : سلمي يوسف إلي فأشفقت من فراقه واحتالت في بقائه لديها ، فجعلت المنطقة تحت ثيابه وحزمته بها ، ثم قالت : قد سرقت منطقة إسحاق فانظروا من سرقها ، فبحثوا عنها فوجدوها مع يوسف فأخذته عندها كما هو شرع الأنبياء في ذلك الوقت من آل إبراهيم . وقيل إن يوسف أخذ صنما كان لجده أبي أمه فكسره وألقاه على الطريق تغييرا للمنكر .وحكى الواحدي عن الزجاج أنه قال : الله أعلم ، أسرق أخ له أم لا ؟ وحكى القرطبي في تفسيره عن الزّجاج أنه قال : كذبوا عليه فيما نسبوه إليه .قلت (الشّوكاني) : وهذا أولى ، فما هذه الكذبة بأول كذباتهم" (انتهى كلامه). فلما سمع ما رموهُ وأخاه من البهتان أثّرت في نفسه إلّا أنّه عليه السلام تحمّلها وكظم غيظه ولم يُجبهم وأعرض عن زجرهم ومُعاقبتهم وأسرّ في نفسه قائلًا: بل أنتم أشرّ حالة ومنزلا ممن نسبتم إليه السّرقة فإنّ ماضيكم المشحون بالمكائد بيوسف وأخيه يشهد عليكم, والله يعلم أنّهما بريئان ممّا نسبتم إليهما من السّرقة, ويعلم سبحانه كذب ما تصفون فهو العليم بالسرّ والعلانية. (ويُحتمل أنّ الإسرار موقوف على إجابتهم بواضح العبارة فيما اتّهموه به فقط, وأن قوله: "قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ" قاله على مسامعهم وأراد به التّعريض, فيكون المعنى المُتبادر لهم: لا تعتذروا بهذا العذر الواهي فإنّ سرقتكم هذه مُدبّرة باتّفاق منكم, والله أعلمُ بصدقكم فيما ادّعيتموه أو بكذبكم). ثمّ بدأوا يستعطفونه ويترقّقون له أن يسرّح أخاهم ويُبدَله بواحدٍ منهم ليرجعوا به إلى أبيهم الذي أخذ عليهم الميثاق أن يردّوه إليه سالمًا, فاستلطفوا بالعبارة أن وصفوه بما يليقُ به توطئة لمطلبهم, فقالوا:"يا أيّها العزيز" إنّ لهذا الذي أخذتَ أبًا شيخًا قد بلغَ الغاية في السنّ والكِبَر لا يستطيع أن يصبرَ على فراق ولده الصغير فأبدله بواحدٍ منّا فإنّ له منزلة في قلب والدهِ ليست لأحدٍ منّا, وما نراك إلّا مُنجز لنا ما طلبنا فإن الإحسان من رداء خُلقك ولم نعهد عليك إلّا خيرًا فإن مثلك لا يصدر منه ما يسوء أبا شيخًا كبيرا لا يطيق فراق ولدهِ الصغير. فردّ عليهم يوسف قائلًا: "مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ" أي – أعوذ بالله أن أفعلَ ذلك, إنّا لا نأخذ أحدًا بذنبِ غيره أبدًا فإن ذلك من الظلم والجور الصّريح. فاعتذر عليه السّلام أن يستجيب لمطلبهم لأنّه يقتضي ظلم من يُأخذ مكانه, حتّى وإن كان راضيًا, لفواتِ مُعاقبة الجاني, فإن من تمام العدلِ أن لّا يُعاقب إلّا صاحبُ الذنب. ثمّ انظر رحمك الله إلى تحرّز يوسف عليه السّلام من الكذب إذ قال:"من وجدنا متاعنا عنده" ولم يقل: "من سرق متاعنا".
يتبع...
‗۩‗°¨_‗ـ المصدر:#منتدي_المركز_الدولى ـ‗_¨°‗۩‗
دموع مراقبة
عدد المساهمات : 30 تاريخ التسجيل : 30/10/2010
موضوع: رد: سيرة نبي الله يوسف عليه السّلام الجمعة 30 نوفمبر - 7:18
ثمّ قال سُبحانه: "فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ" فلمّا سُدّت عليهم مسالك استجابة مطلبهم واستيأسوا من يوسف عليه السّلام أن يسرّح أخاهم انفردوا حال كونهم مُتناجين فيما بينهم, فتصدّر الكلامَ أكبرهم (إمّا أن يكون كبيرهم في الرّأي والعلم والعقل أو كبيرهم في السّن, وأيًّا كان فالغالب المُشاهد أن أكبر الأخوة سنّا يُرجع إليه في الرأي وتكون الكلمة الأخيرة بين إخوته راجعة إليه لنضج عقله وعظم مسؤوليّته على غيره), فقال لهم مذكّرًا: لقد علمتم الميثاق والعهد من الله الذي أخذهُ أبونا علينا بأن نحفظ أخانا وظكلا نرجع إليه إلّا وهو معنا, وقد فرّطنا بيوسف من قبله, فها قد اجتمع علينا الأمران, فأمّا أنا فلا أطيق أن أواجه أبي في كلّ هذا حياءً منه وخجلًا, وسأظلّ مقيمًا في أرض مصرَ ولن أفارقها حتّى يأذن أبي في الرّجوع إليه راضيًا عنّي, أو يحكم الله لي بأن أعود لوحدي أو مع أخي. ثمّ وصّى إخوته أن لا يقيموا معه بل يرجعوا إلى أبيهم ويخبروهُ بحقيقة ما لاقوهُ. فإنّا قد شهدنا على ما رأيناهُ من استخراج الصّواع من رحل أخينا فأخِذَ بسرقته, وقد بذلنا في تخليصهِ حتّى نأتيك به على ما أعطيناك من ميثاق الله عز جل, ولو كنّا نعلم الغيب ما جهدنا إرسالك أخانا معَنا, فقد صارت الأمور على وجه غير مُتوقّع وليس لنا في ذلك يد, وإن كنتُ في ريب من خبرنا, فسأل القرية (أي في أرض مصر) التي نزلنا فيها والقافلة التي رافقتنا في سفرنا فإنّهم شاهدون على صدق ما أخبرناك به, وأمّا نحن فلا نخبرك إلّا بالصّدق وبحقيقة ما وقع. فلّما رجعوا إلى أبيهم, مُفارقين أخاهم الكبير في مصر, أخبروه بالخبر....فلم يُصدّقهم وردّ عليهم كما ردّ عليهم حين فرّطوا في أخيه يوسف عليه السّلام من قبل و-"قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" أي – بل زيّنت لكم أنفسكم أمرا أردتموه لأن ابني هذا لا يسرقُ أبدً, فأمّا أنا فسأصبر صبراً جميلاً غير مُصاحب للجزع والقلق, بل أصبرُ صبرَ الرّاضي بقدر الله عز وجل مؤمن بحكمته في كلّ ابتلاء ومحنة, مسلّم أمري لأحكم الحاكمين, مُستعلياً عن الشّكوى إلاّ إليه, راجيًا منه أن يردّ عليّ أولادي الثلاثة جميعًا فهو وحده العليم الذي لا تخفى عليه خافية, فهو العليم بحالي من اخلاص اللّجوء إليه واضطراري إلى تفريجه, وهو العليم بحبّي لأبنائي الغائبين عنّي, وأنّي لا اقدر على فراقهم, وهو سُبحانه الحكيم في قضائه وتدبيره. "وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ" ثمّ أعرض نبيّ الله يعقوب عليه السّلام عن بنيه وقْد هيّج حزنَه على ابنين أحزانه القديمة على يوسف وذكّرته هذه المُصيبة بالمُصيبة الأولى قبل سنين كثيرة, فتراكمت عليه الأحزان والكروب, فتولّى عنهم قائلًا: "يا أسفى على يوسف" فكأنّه عليه السّلام يُنادي على تلك الأحزان القديمة قائلًا لها: احضري فهذا أوان حضورك...وانقلب سوادُ عينيه بياضًا وضعفَ بصره (وقيل عَميت عيناه) من الكمد وشدّ الحزن على أبنائه وخاصّة يوسف الذي أوجب كثرة البُكاء, حابسًا كلَّ هذا الحزن في قلبه لا يبثّه لأحدٍ من الخلق. وهذا الذي أظهره من البُكاء والقول هي الرّحمة التي فطر الله الأبَ عليها اتّجاه أبنائه, وما قاله يعقوب عليه السّلام هو بمثابة الاسترجاع في شرعتنا, فعن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال: لم يُعط أحد غير هذه الأمة الاسترجاع ، ألا تسمعون إلى قول يعقوب ، عليه السلام: "يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم".(رواه عبد الرّزاق) فلمّا رأوهُ بنوه على هذه الحال رقّوا له رقّة شديدة وتعجّبوا منه قائلين: والله إنّك لا تَزالُ تذكر يوسف ولا تفتر من حبّه حتّى تكون دَنف البدن والعقل أو تكون من الميتين. فدفعَ ذلك كلّه وأجابهم قائلًا: قولوا ما شئتُم فأنا لستُ أشكو همّي وحاجتي وحزني إلّا إلى ربّي لا لأحدٍ سواهُ, فإنّي أعلم من لطفه وإحسانه ما لا تعلمون, فهو سُبحانهُ لا يُضيعُ أجر المُحسنين, فحُسن ظنّي به أن يردّهم إليّ جميعًا ويقرّ عيني بهم. ثمّ قال لبنيه:"يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" فحثّهم على أن يتحسّسوا خبر يوسف عليه السّلام وأخيه ويطلبوهُ في أرض مِصر, ويكون رجاءهم وثقتهم بالله عز وجل كبيرة فإنّ ذلك يَورثُ الاجتهاد والسّعيَ في تحقيق المطلوب, وألّا يقنطوا من تفريج الله عز وجل ما هم فيه من الكرب والحزنِ رغم طولِ الغياب والفِراق, فإنّه لا يقطع الرّجاء من رّبه إلّا من جحدَ قدرتَه, بخلاف المؤمن فهو على يقين وثقة من رّبه أن يُفرّج همّه وينفّس كربه فيسعى في التماس الأسباب مُتوكّلا على ربّه في تيسيرها لعلمه بعظيم صُنعه وخفيّ ألطافه. فانطلق الأبناء عاملين بنصيحة أبيهم وخرجوا إلى أرض مصر يمتارون ويلتمسون خبر يوسف وأخيه, قال عزّ وجل: "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ" أي – لمّا صاروا إلى مِصر دخلوا على العزيز ليمتاروا مرّة ثالثة, فكلّموه قائلين: يا أيها العزيز, جئنا إليك راجين إحسانك بأن تُشفق علينا في ما أصابنا وأهلنا من الضّر والجوع وشّدة وقحط والحاجة وقد جئناك ببضاعة قليلة رديّة زَيوف لا تُنفق ظانّين بك أحسن الظنون فاقبلها منّا على أنّها بضاعة جيّدة وأتمم لنا الكيلَ كما عهدنا ذلك من جودك وكرمك فتتصدّق علينا وزدنا عن الواجب فإنّ الله عز وجل يجزي المُتصدّقين في الدّنيا والآخرة بالفضل والثّواب. قال ابن كثير رحمه الله: "لمّا ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب ، وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه ، مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة ، فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته ، وبدره البكاء ، فتعرف إليهم (يقال: إنه رفع التاج عن جبهته ، وكان فيها شامة (عَرَفُوه بها)) و-"قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ" قال لهم على وجه التقريع والتّوبيخ: هل تذكرون قبيح فعلكم بيوسف وأخيه إذ فرّقتم بينهما وأدخلتهم على ابيكم الهموم والأحزان حتّى آل إلى ما هو إليه الآن. ووصفهم بالجهل حال فعل تلك القبائح, قال الشّوكاني رحمه الله تعالى: " نفى عنهم العلم وأثبت صفة الجهل ، لأنهم لم يعلموا بما يقتضيه العلم ، وقيل : إنه أثبت لهم صفة الجهل لقصد الاعتذار عنهم وتخفيف الأمر عليهم ، فكأنه قال : إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر وقت عدم علمكم بما فيه من الإثم وقصور معارفكم عن عاقبته ، وما يترتب عليه...". وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: "والظاهر - والله أعلم - أن يوسف ، عليه السلام ، إنما تعرف إليهم بنفسه ، بإذن الله له في ذلك ، كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك ، والله أعلم ، ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر ، فرج الله تعالى من ذلك الضيق". فلمّا سمعوا ذلك منهُ تنبّهوا وفهموا أنه لا يصدرُ مثل هذا الخِطاب إلّا من أخيهم يوسف عليه السّلام, فاستعظموا الأمر واستغربوه بأن يكون هذا الشّخص هو ذاك الأخ الصّغير الذي ألقوه بالجبّ, ف – "قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" أي – وهذا أخي الذي فرّقتم بيني وبينه قد منّ الله عز وجلّ علينا بكلّ خير في الدنيا والآخرة فجمع شملنا بعد طول مدّة وأفرغ علينا صبرًا على ما ابتلينا به حتّى مكّن لنا في الأرض ورفع قدرنا, فإنّه من سلك سبيل الإحسان وارتدى لِباسَ التّقوى فاجتنب ما حرّم الله عز وجل وصبرَ على المصائبِ والابتلاءات وعلى أوامر الله عز وجل أن يمتثلها فلن يُضيع الله عز وجل أجره أبدًا بوعده لعباده المُحسنين وجوده وكمال إحسانه وكرمه. فردّوا عليه..."قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" أي – ظهر لنا ما فضّله الله عز وجل بك علينا من النّبوة والعلم والحلم والخلق والسّعة والمُلك وقد كنّا في غاية الإساءة لك, مُذنبين في حقّك وفي صنعنا اتّجاهك. فأجابهم عليه السّلام أنّ اليوم يومُ الصّفحِ والمُجاوزة فقال: لا ألومكم اليومَ على شيءٍ ولا أعيّركم بذنبكم ولا أأنّبكم على إساءتكم ولكن أصفح عنكم - ثمّ زادهم - وأدعو الله عز وجل لكم بالمغفرة والسّتر ... والرّحمة والعفو ... فإنّه سُبحانه أرحم الرّاحمين, حليم على عباده رؤوف بهم ... يتجاوزعن مُسيئهم ويُجازي مُحسنهم بعطاياهُ التي لا ساحل لها. وهذا هو نهاية العفو والاحسان الذي آتاهُ اللهُ خواصّ عباده من خلقهِ من الأنبياءِ ومن حذا حذوهم. ثمّ قال يوسف عليه السلام لاخوته: "اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ " وذلك بعد ما علِم من حال أبيه وما آل إليه من الحزن الشديد والكمد والبكاء الذي أذهب بصره (بعضه أو كلّه) دفع لهم قميصهُ الذي عليه ريحَهُ وأمرهم أن يَذهبوا به إلى الأبِ الحزين الذي امتلأ صدره شوقًا لِلُقيا حبيبَ فؤاده يوسف ثمّ يُلقوه على وجهه ليَشمَّ أثَر رِيح حبيبه التي فيها عِلاج الحزن والكمد فتتراجع إليه روحه حينئذٍ ويرجع إليه بصره بإذن الله عز وجل, وهذا من أعلام نبوّة يوسف عليه السلام وما منّ الله عز وجل عليه بالعلم الجزيل والعطاء الجميل. فإذا هم فعلوا ذلك فلا بدّ بعدها من اللّقيا والاجتماع, فأمرهم أن يأتوا بأبيهم وأهلهم جميعًا من الأزواج والعشيرة والذّراري ويقيموا عنده في أرضِ مصر ليزيل الله عز وجل عنهم الشّدة وضيق العيش فيحصل لهم جمع الشّمل والخير والدّعة. فانطلق الأبناءُ بقميص يوسف عليه السّلام راجعين إلى أبيهم حاملين له البُشرى الكُبرى ... فمَا هم إلّا أن جاوزوا أرضَ مِصرَ وفارقوا حدودها حتّى هاجت ريحٌ فحملت ريح قميص يوسف من مسيرة سبع أو ثماني ليال إلى يعقوب عليه السّلام وهو في أرض كنعان كما قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما, فشعرَ بها النبيّ الأبيّ وأخبر بذلك من حضره في مجلسه وقال: "إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ" يعني لولا أن تتهمونني في السّفاهة وذهاب العقلِ والخرف وترمونني بالجهلِ لهِرَمي وكبَر سنّي لقلتُ لكم أنّي أشمّ ريح ابني يوسف ... قال قتادة رحمه الله تعالى: ]ثم[ ردّوا على والدهم بكلمة غليظة ، لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ، ولا لنبي الله عليه السلام :"قالوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ" أي لا تزال تائهًا في بحر حبِّه لا تدري ما تقول (قاله السّعدي رحمه الله). "فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" فما هو إلّا أن قدم حامِل البُشرى إلى يعقوب عليه السّلام وألقى القميصَ على وجهه فعادَ إليه بصره فورًا وقال لمن حوله الذين اتّهموه بالفَنَدِ ويتعجّبون من أمرهِ: ألم أقل لكم أنّي أعلم من الله ما لا تعلمون حيث أحسنتُ الظنّ به وكنتُ موقنًا بلُقيا يوسف وأنّ الله سيقرّ عيني به ويُزيل الهمّ والحزنَ عن قلبي. فاعترفوا حينئذٍ بذنوبهم وخطاياهم اتّجاهه واتّجاه أبنائه طالبين منهُ أن يدعو الله عز وجلّ لهم بالمغفرة وستر الذنوب, فأجابهم لذلك ووعدهم أن يفعل ورجا من ربّهِ أن يستجيب دُعاءهُ فيهم فهو الغفور الرّحيم, ورُويَ عن ثلّة من السّلف كابن مسعود، وإبراهيم التيمي، وعمرو بن قيس، وابن جريج أنّ يعقوب عليه السّلام أخّر الدّعاء إلى السّحر لأنه أرجى للإجابة. "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" قال عبد الرّحمن السّعدي رحمه الله تعالى (بتصرُّف): فلمّا تجهز يعقوب عليه السلام وأولاده وأهلهم أجمعون، وارتحلوا من بلادهم قاصدين يوسف في بلاد مِصرَ وصلوا إليه, فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه وضمّهما إليه، واختصهما بقربه، وأبدى لهما من البر والإكرام والتبجيل والإعظام شيئا عظيما، وقالَ لجميع أهله: ( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) من جميع المكاره والمخاوُف، فدخلوا في هذه الحال السارة، وزال عنهم النصب ونكد المعيشة، وحصل السرور والبهجة. ورَفعَ أباه وأمّه عندهُ على سرير الملك الذي هو مجلسه الخاص وأجلسهُما عليه, وخرّ الأبوان والإخوة جميعًا له جميعًا سُجّدًا على وجه التشريف والإكرام والتحيّة, فلمّا رأى ذلك يوسف عليه السّلام تذكّر رؤياهُ في صغره وقال لأبيه أمام الجميع: يا أبتِ هذه رؤيايَ التي رأيتُ في صغري حين رأيت أحد عشر كوكبا والشمس المقمر لي ساجدين, قد حقّقها ربّي ولم يجعلها أضغاث أحلام, وقد أحسن بي إحسانًا كثيرًا لا يوصف, فقد أخرجني من السّجن بعد بضع سنين ورفعني إلى مكانةٍ عالية بين أهل مِصر, ثمّ جاء بكم من البادية إلى مصر وجمعني بإخوتي وألّف بين قلوبنا بعد أن أفسد الشيطان بيني وبينهم, فهو سُبحانه لطيفٌ في صنيعه رفيقٌ بعباده, إذا أرد شيئًا هيّأ أسبابه وسهّلها من طرقٌ لا يهتدي إليها كثير من العِباد وقال عمرو بن أبي عمرو : اللطيف الذي يوصل إليك أرَبك في لطف. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ) الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها، وسرائر العباد وضمائرهم، ( الْحَكِيمُ ) في وضعه الأشياء مواضعها، وسوقه الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها. (قاله ابن كثير والسّعدي بتصرّف). ثم ختم جلّ جلاله سيرة نبيّه يوسف بدعوات تُخبت لها قلوب المُحبّين وترفرف لها أفئدة المتقين, ففيها الثناء والرّجاء, يُثني نبيّ الله يوسف على ربّه ويحمده على آلائه المتتابعة ونعمة الجسيمة ويرجو ميتة سوية وولاية عليّة, ويسأل ربّه جل في علاه كما هداهُ وألحقه بركب المرسلين في الدنيا أن يتوفاه على الاسلام ويلحقه بركب الصالحين الأبرار في دار المُقامة دار القرار, فقال: "رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" __________________ "أَيُّهَا الْطَّالِبُ عِلْمًا ائْتِ حَمَّادَ بْنَ زَيْدِ فَاسْتَفِدْ حِلْمًا وَعِلْمًا ثُمَّ قَيّدْهُ بِقَيْدِ" الإمام المُبارك بن المُبارك
‗۩‗°¨_‗ـ المصدر:#منتدي_المركز_الدولى ـ‗_¨°‗۩‗
دموع مراقبة
عدد المساهمات : 30 تاريخ التسجيل : 30/10/2010
موضوع: رد: سيرة نبي الله يوسف عليه السّلام الجمعة 30 نوفمبر - 7:19
‗۩‗°¨_‗ـ المصدر:#منتدي_المركز_الدولى ـ‗_¨°‗۩‗
شعبانت المدير
عدد المساهمات : 3838 تاريخ التسجيل : 01/10/2010
موضوع: رد: سيرة نبي الله يوسف عليه السّلام الجمعة 30 نوفمبر - 7:35