نظرات في أسلوب العدول في النص القرآني نظرات في أسلوب العدول في النص القرآني نظرات في أسلوب العدول في النص القرآني
نظرات في أسلوب العدول في النص القرآني
المقدمة :
الحمد لله الذي شرفني بدراسة لغة القرآن وهداني إليها ، وأنعم عليّ بتدبر كلامه العظيم. والصلاة والسلام على سيد الأنام أبي القاسم محمد ، القائل ، (أعوذ بالله من علم لا ينفع). اللهم انفعنا بعلمنا واجعله نافعاً ، ولا تجعلنا نتشاغل بعلم لا ينفع ، أو لا يرضيك. وعلى آله الطاهرين وصحبه أجمعين وسلّم تسليماً كثيراً وبعدُ.
فطالما أوقفتني بعض التراكيب في أسلوب القرآن الكريم ، التي تبدو متقاطعة مع قواعد النحو ومقاييسه، متدبراً اياها ، فهداني الله تعالى إلى أنها عدولات عن النظام النحوي العقلي المنطقي الذي وضعه البشر ، وليست عدولات عن نظام ( لغة القرآن الكريم ) تنضوي على دلالات اعجازية وأسرار بيانية ولمحات فنية جمالية. فعزمت على دراستها في ضوء النظام اللغوي للقرآن الكريم المعجز، بعد تتبعه في عناصر اللغة ومكوناتها ولاسيما في المجالين النحوي ( التركيبي ) والبلاغي (الأسلوبي).
ملتزماً منهجاً يؤسس على التحقيق من الأسس التي بنى عليها النحاة والبلاغيون قواعدهما في دراسة العدول عن المعايير الللغوية، لا العدول في مفهومه الواسع لدى البلاغيين ولاسيما الأسلوبيون المعاصرون الذين عدّوا منه ما لا يتقاطع مع القواعد النحوية كما في علمي المعاني والبيان ، وما نطلق عليه بالانزياح الدلالي من تصوير واستعارات ومجازات دلالية وغيرها.
محدداً النصّ القرآني ميداناً لدراسة العدول من غير خلطه بالمستويات اللغوية المختلفة كالقراءات القرآنية المشهورة منها والشاذة ، واللهجات العربية ، والضرورات الشعرية، والغريب، والشاذ وغيرها مما نجده مختلطاً في الموروثين النحوي والبلاغي في ضوء مناهج عقلية دخيلة على أنظمة اللغة العربية تتقاطع مع الدلالة القرآنية أحيانا. وأدى الى نتائج تربك الباحثين وتنأى بهم عن الجادة العلمية الرصينة وتفقدهم الجهد والوقت ما لا يتناسب مع قيمة النتائج التي يصلون إليها، ذلك إن بعضهم بنى دراسته على الموروث من غير تحقيق ، أو قلد الحديث الغربي من غير ملاحظة خصوصية النصّ القرآني ، فدرسه في ضوء مناهج لغوية مستقاة من لغات وآداب وثقافات ومعتقدات تنأى كثيراً عن النصّ القرآني ونظامه اللغوي المتماسك. وأكره لغة القرآن على قبول مناهج حديثة دخيلة وقديمة تلجا الى التأويل والتقدير في الغالب.
لذا اتبعت منهجاً يُبنى على التتبع والشمول والتقصي والتحقيق والاستفادة من المناهج القديمة والحديثة بحسب طبيعة الموضوع لا التقليد والمتابعة ، مركزاً على فكرة الموضوع الرئيسة ، متجنباً المقدمات المكررة والإطالة والإسهاب ما أمكنني ذلك محاولاً الاجتهاد في مواضع عديدة مستفيداً من التراكم المعرفي الذي يشهده عصرنا وتيسير الاتصال بالمواقع العلمية مما كان معدوماً لدى علماء العربية القدامى. فقد سئل يونس بن حبيب عن علم ابن أبي اسحق الحضرمي قال: " لو كان في الناس اليوم من لا يعلم إلا علمه يومئذٍ لضحك به "([1]).
مناهج دراسة العدول :
إنّ الدراسات القرآنية الأولى كانت تفسّر العدول عن المعايير اللغوية، في النص القرآني على انه من أساليب العرب ومجازاتها وسننها وطرائقها في كلامها الذي نزل القرآن بها ذلك أنهم فهموا من التحدي الذي وجهه القران الكريم للعرب أن لغة القران هي لغة العرب نفسها من غير اختلاف وهو استدلال منطقي ، فكانوا يقارنون بينه وبين الشعر القديم الذي لم يسلم من الوضع إلاّ نادراً.
أما المنهج النحوي فيعنى بالشكل والاطراد العقلي المنطقي ونظرية العمل ويلجأ إلى التأويل والتقدير والتعليل العقلي في الغالب ، ويعالج ما يعدل عن الأصول النحوية التي قررها النحاة من صور الجملة الاسمية والفعلية وملحقاتها ورتبة كل مكّون من مكوناتها ، ليعيد العبارة إلى أصولها ، لكنه لا يعمد إلى التفاصيل الفنية للمعنى كما لدى البلاغيين في منهجهم الفني الذي يعنى بتفاصيل الدلالة إلاّ إنه اعتمد على المنهج النحوي في تقدير الأصول اللغوية المفترضة من أصل القاعدة وأصل الوضع وأصل المعنى.
إنّ لغة القران مبنية على نظام خاص بها ، نظام استعمالي واحد منتشر في كل مستوياتها : الصرفي والنحوي والبلاغي وغيرها. يزيدها ترابطاً وتماسكاً بين مكوناتها اللفظية وبين دلالاتها من جهات مختلفة ، من خلال انسياقها في ضوء نظام واحد متجانس متعلق بعضه برقاب بعض ، وأقصد بالواحد إنّ النظام الصرفي يشبه النظام النحوي وكلاهما يشبهان النظام البلاغي وهكذا كل أنظمة مكونات لغة القران يحكمها( نظام المشابهة ) و يربطها النظام نفسه ويشد بعضها الى بعض ، وهذا سبب روعة أسلوب القرآن وجماله وتماسكه وعذوبة نغماته وترابط دلالاته مما بهر السامعين ولا سيما المتذوقين.
أما البلاغيون فقد اقتبسوا ( أصلاً ، نموذجاً، معياراً) ، من المنهج النحوي يقيسون عليه العدول ، "هو إن الأصل في كل جملة أن يكون لها ركنان أساسيان: (مسند ومسند إليه) ، والأصل أن يكونا مذكورين ظاهرين لا محذوفين ولا مضمرين. وأخذوا بأصول متعلقة بالرتبة والتضام مثل: الأصل في الكلام ، الرتبة المحفوظة...والأصل في المسند إليه ان تتقدم والمسند ان يتأخر... وأصل الجملة الاسمية الثبوت والجملة الفعلية التجدد..."([2]) وهلم جرّا.
أطلقوا عليه: (الاستعمال الأصولي) و (أصل الوضع) و ( مقتضى الظاهر) وغير ذلك. وأطلقوا على الخروج عليه: (العدول عن اصل القاعدة او اصل الوضع).
سأتناول تفسير القدامى لظواهر العدول عن المعايير النحوية والبلاغية ,ثم رأي الدكتور تمام حسان لأنه بناه على التراث النحوي والبلاغي في تفسير ظواهر العدول عن المعايير النحوية واللغوية , وقد تبعه جل المعاصرين. ثم أذكر تفسيرا جديدا في ضوء النظام اللغوي للعربية.
إلا أن المتأخرين عدّوا الخروج عن القياس النحوي ومقتضى الظاهر من أسباب قوادح البلاغة والغموض والتعقيد اللفظي والمعنوي([3]) ، وقد التمس الدكتور تمام حسن العذر لهم بقوله: "إنّ من الغريب ان يجعل البلاغيون من عناصر فصاحة اللفظ عدم مخالفة القياس. ولعل التماس العذر للبلاغيين من هذا التجاوز الظاهري ان يقال: ان القياس الذي قصده البلاغيون غير القياس الذي تكلم عنه النحاة ، فقياس البلاغيين قياس المتأخرين على كلام المتقدمين ، أما قياس النحويين فهو قياس ما ورد في التراث مما لم يسمع على ما ورد في التراث مما سمع ، فالمقيس عند النحاة من الفصيح ، والمقيس عند البلاغيين من أدب المتأخرين"([4]).
ومهما يكن من أمر فإن موقف البلاغيين مضطرب من اتخاذ النحو أصلاً يقيسون عليه بلاغة الكلام وفصاحته ، فقد اشترط جلّهم لشروط فصاحة الكلام ان تكون جارية على العرف النحوي في تأليف الكلام([5]). ومنهم ابن الأثير على الرغم من رأيه السابق فهو له أكثر من رأي في هذا الأمر([6]).
تصنيف العدول:
ثمة نوعان من العدول: العدول عن ظاهر اللفظ والتركيب أي في المبنى ، والعدول عن ظاهر المعنى. الاول نُعنى به في هذه الدراسة ، والبلاغيون والنقاد أكثر عناية بالثاني ولاسيما في علم البيان في مباحث الحقيقة والمجاز والكناية والاستعارة والصور البيانية([7]).
وكذلك في علم البديع فانّ جلّ عنايتهم فيه كانت بوصف التركيب او الاسلوب وإعطائه اصطلاحاً لغوياً يدل على معنى الاسلوب كالإيهام والاطراد والانسجام والاقتداء والاستدراك والتقسيم والتنكيت والتجريد والتريد والجمع والتفريق والقلب وما لا يستحيل بالانعكاس والمواربة والتورية والمذهب الكلامي وفصل الخطاب والتضمين والحمل على المعنى والالتفات وغيرها. وقد ذكر الدكتور احمد مطلوب منها مئات مع التداخل والتكرار([8]).
فالتضمين لدى البلاغيين والنقاد([9]) دلالي يذكر ضمن السرقات الشعرية والاستعارة وسموّه ايضاً تسميطاً وتوشيحاً واقتباساً ، وهو يختلف عن التضمين لدى النحاة إذ اهتمامهم به من الناحية اللفظية.
اما في علم المعاني وهو الذي اتخذ النحو منطلقاً لمباحثه في تشخيص العدول فيعني كثيراً بالعدول الدلالي. فالاستفهام والامر والنهي والنداء وغيرها ، اصول تخرج الى معانٍ مجازية تستفاد من السياق والقرائن أي عدول دلالي. فالاستفهام مثلاً يخرج الى اغراض مجازية منها: الاستبطاء والتعجب والنفي والتقرير والانكار والتهكم والتحقير والتعظيم وغيرها.
اما مباحث الحذف والزيادة والتقديم والتأخير والتعريف والتنكير وغيرهما من مباحث علم المعاني ، فقد عدّوها عدولات عن أصل مثالي مفترض ومنها نفذوا الى ملامح جمالية واسلوبية. والذي نراه انها ليست عدولات إلا عن واقع لغوي مثالي مقترح لكثرتها في اللغة والعدول خروج عن المستوى المألوف وهي تراكيب لغوية مألوفة إلا انها تحوي ملامح اسلوبية ودلالات ثانية يعني بها البلاغي.
أي بما يستتبع التراكيب النحوية من دلالات (المعاني الثانية) ، وهي سر انفعال السامع ودهشته([10]) وهي ان "تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي لك ذلك المعنى الى معنى آخر"([11]). ويشترط لذوق ذلك والوقوف عليه ذائقة وموهبة فنية.
والعدول الدلالي هو الانزياح لدى المعاصرين في الغالب ، وقد اهتموا به أكثر من اهتمامهم بالعدول اللفظي.
ليس العدول الدلالي خروجاً عن النظام النحوي او الصرفي كما في العدول اللفظي ، كلاهما يؤدي معنى جديداً بليغاً. فإسناد الفعل الى غير فاعله الحقيقي كما في قوله تعالى ، (واشتعل الرأس شيباً) {مريم 5} تركيب مألوف يتفق مع النظام النحوي لكنه غير مألوف من الناحية الدلالية ، فالرأس لا يشتغل بالشيب ، لكنّ هذا التركيب الصحيح نحوياً المعدول دلالياً أدى معنى ثانياً بليغاً واسعاً لا يؤديه التركيب المألوف من الناحية الدلالية. فهو يدل على كثرة الشيب في الرأس وسرعة انتشاره.
وكقوله تعالى: ) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( (سورة البقرة:250) فقد توسع المعنى باختيار لفظه (أفرغ) وعبّرت تعبيراً فنياً بلاغياً جمالياً مؤثراً ينتبه له المتلقي لذلك أطلق الاسلوبيون على مثل ذلك منبهات اسلوبية واستجابات.
رأي الدكتور تمام حسان:
يرى الدكتور تمام حسّان: انّ الالتزام ب: (أصل الوضع) يعد أصولياً , يعتمد على القرائن. وربما لدواعِ أدبية وذوقية ونفسية ، ولإحداث تأثير معين يعدل عن الأصل فيصير (اسلوباً أدبياً) ذا تأثير. وهو عدول مقبول مستحب وذلك لان اللبس بتضافر القرائن وهي عنده: قرينة البنية ، وقرينة الرتبة ، والربط ، والتضام ، والإعراب ، والمطابقة ، والأداة ، والنغمة. حيث يسمح الترّخص في إحداها او أكثر إذا امن اللبس بتضافر القرائن الأخرى.
وضحّ ذلك بقوله: قد يجعل واحدة من القرائن زائدة على مطالب وضوح لمعنى لأن غيرها يُغني عنها فيكون الترخّص بتجاهل التمسك بهذه القرينة كالترخص في رفع الثوب ونصب المسمار في قول العرب: (خرق الثوبُ المسمار) أغنت قرينة التضام ، الى جانب قرائن أخرى كاسمية الفاعل ورتبته متأخراً عن الفعل وغيرها أمكن تجاهل دلالة الإعراب على المعنى النحوي.
واشترط للرخصة ان تكون مرهونة بمحلها فلا تصلح لان يقاس عليها ولا تبرر بها أخطاء المحدثين. وميّز بينهما وبين الضرورة فالأولى تقع في النثر اما الثانية ففي الشعر.
وعرّف الرخصة بأنها: "تركيب الكلام على غير ما تقتضي به القاعدة اتكالاً على أمن اللبس ، فان لم يؤمن اللبس نسب الكلام الى الخطأ لا الى الترخص"([12]).
فيعدل عن قرينة البنية عن استعمالها الأصلي بوسائل عدّه ، ذكر منها عدداً من ظواهر العدول هي: النقل والتضمين وتسخير اللفظ لتوليد المعنى الأدبي بواسطة جرسه او موقعه من الكلام- وتكرار اللفظ- والتنكير فالنقل كنقل المصدر الى استحالات فعل الأمر والموصولات من ما و اي الى معاني الشرط والاستفهام والاسم الجامد الى استعمال الاوصاف فيصير خبراً نحو (هذا رجلٌ) ونقل اللفظ من المعنى الأصلي الى المعنى المجازي ، وكتضمين الفعل اللازم معنى المتعدي والعكس واللفظ معنى لفظ آخر...([13]) وكذلك الحكاية والتنكير وتعميم الإشارة والموصل وإعطاء الضمير وظيفة أخرى كالشأن...
ويعدل عن قرينة التضام وهو مصطلح قديم استعمله استعمالاً حديثاً ، ويقصد بها الأصول التي جردها النحاة (الذكر ، الوصل ، الاختصاص نحوياً ومعجمياً...) وغيرها ويكون العدول عنها بـ (الحذف ، والفصل وفي عدم الزيادة وتجاهل الاختصاص والمجاز) كالفصل بين المتلازمين والاعتراض ويقصد بتجاهل الاختصاص كالحروف بدخولها على الأسماء او الأفعال وإضافة بعض الظروف الى الجملة الفعلية...
ويعدل عن قرينة الرتبة بالتقديم والتأخير وعن الإعراب بالجملة على الجوار والربط بالالتفات والتغليب وحذف الرابط وهكذا بقية القرائن بشرط ان يكون في أثناء الاستعمال الأدبي وامن اللبس أي الإفادة وسماه (العدول الاسلوبي) والذي لا يقاس منه أي الذي جاء في عصر الاستشهاد وليس بعده سماه (الرخصة) فميّز بينهما([14]).
وعرف الاسلوب العدولي بأنه "خروج عن اصل او مخالفة لقاعدة ولكن هذا الخروج وتلك المخالفة اكتسبا في الاستعمال الاسلوبي قدراً من الاطرّاد رُقيّ بهما الى مرتبة الأصول التي يقاس عليها..."([15]).
فكل قرينة من القرائن صالحة ان يترخص فيها وان يعدل عن الاعتماد عليها اما الترخص (فمغامرة فردية للفصيح من العرب القدماء لو تكررت من المعاصرين لحدث من قبيل الخطأ. وسرد أنواع العدول تحت هذا التفسير الشمولي وان كان يحمد له غربلة التراث مقسماً لظواهر اللغة في ضوء نظرة تكاد تكون شمولية.
ذكر الدكتور تمام حسان هذه الطروحات النظرية في اغلب كتبه وبحوثه منها (التمهيد في اكتساب اللغة العربية لغير الناطقين بها) وقد اشرنا الى كتبه الأخرى في الهوامش. وطبقها على النص القرآني في كتابه (البيان في روائع القرآن). وعلى النحو والصرف في كتابه (الخلاصة) ، وهو في نزوعه الى الجديد وتأثره بمناهج العرب كان اقرب الى الموروث والصق به من المناهج الغربية اسلوباً وافكاراً وطرحاً.
لقد كان الدكتور تمام حسان أكثر المعاصرين عناية بظواهر العدول. وقد تبعه كثير من المعاصرين. وقد افنى عمره على نظرية تفسير العدول نحوياً وبلاغياً لم تسلم من الافتراض العقلي على الرغم من نقده المنهج العقلي المعياري للنحاة والبلاغيين([16]) لاعتماده على نحو المتأخرين وكتب أصول النحو (العقلية) ولاسيما كتاب 0الانصاف في مسائل الخلاف) لابي البركات الانباري ، الذي اثبت البحث المعاصر عدم دقته في عرض مسائل الخلاف فضلاً عن مزجه بين النحو والمنطق والفقه والجدل وغيرها من العلوم العقلية([17]).
وتبعهم في الخلط بين مستويات اللغة: النص القرآني وقراءاته ، والضرورات الشعرية ، واللهجات والشواذ ، والأمثلة النحاة ، نحو: (خرق الثوبُ المسمارَ) و (أكل الكمثرى موسى) ، والشواهد المشكوك في روايتها ، بل اللغة اليومية المعاصرة احياناً لتأثره بالمنهج الوصفي الغربي الحديث ومحاولة تطبيق على العربية الفصحى([18]).
فهي محاولة وان بذل جهداً محموداً بها – نكيره- إنما هي تمثل وجهة نظره ، ولسنا ملزمين بالضرورة بالأخذ بها كما هي ، ذلك إننا نفسر العدول في ضوء نظام العربية.
لقد أراد د. تمام حسان من ذلك ان يجعل القرائن بديلاً من نظرية العامل للتخلص من المعيارية والشكلية وعدم الاهتمام بالمضمون والمعنى – كما يرى-([19]) في الموروث البلاغي والنحوي لكنها طريقة أعسر على المتعلمين عندما طبقها في كتابه (الخلاصة النحوية).
لقد توسع الدكتور تمام حسان بالقرائن وكان البلاغيون أكثر عناية بالقرينة الحالية او المقامية ، بل عدّوا البلاغة مراعاة هذه القرينة او ما سموّه بمراعاة مقتضى الحال او المقام ومطابقة الكلام لمقتضى الحال([20]) . لكن الدكتور تمام وضح هذه القرينة خير توضيح.
فالمقام عنده يضم "المتكلم والسامع والظروف والعلاقات الاجتماعية والأحداث الواردة في الماضي والحاضر ثم التراث والفلكلور والعادات والتقاليد والمعتقدات والخزعبلات([21]).
ان قضية الأصل والفرع ، او استصحاب الأصل والحال هي: أصل نحوي افتراضي منطقي استعمله ابن جني – وان لم يصرح به([22]). وقد صرّح ابو البركات الانباري بانه أخذه من أصول الفقه ، وهو اضعف أدلة النحو([23]). قال الدكتور عاطف فضل بان ابا البركات وضع هذه النظرية دون منازع وهي مسألة أصولية مطلقاً وقاعدة فقهية مطلقاً وفيها خلافات بين الفقهاء كثيرة([24]). فقد اختلفوا في حجية (استصحاب الحال) وضعفوها وردّوها ، بالنص القرآني والعقل والإجماع ، والاستقراء بالأخبار([25]).
واستصحاب الحال لغة: (طلب الصحبة) واستمرارها. اما اصطلاحاً فـ "إبقاء اللفظ على ما يستحقه في الأصل عند عدم دليل النقل عن الأصل"([26]).
وفي أصول الفقه: "ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل ، وهو قولهم: الأصل بقاء ما كان حتى يقوم الدليل على تغيير حاله"([27]).
فالمعنى الشرعي له هو "عدم نقض اليقين بالشك" ، قال الإمام علي (كرم الله وجهه) "لا ينتقض اليقين بالشك" وقوله: "من كان على يقين فشك فليمحص على يقينه فان الشك لا ينقض اليقين" ، "وإنما تنقضه بيقين آخر". وفي الأخبار: "كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام"([28]) ، لكن ما صلة ذلك بالنحو ونظام العربية. إلا انهم ربطوا استصحاب الحال بالمقام والحال ، والصلة بينهما في النحو والفقه غير جلية إلاّ بتكلف.
فهي قضية انحرف بها ابو بركات وجعلها منطقية معيارية بحتة. فالأصل فيها أوسع مما ضيقه ، حيث تلحظ نظام العربية مبني على أصول وفروع يحمل عليها لأن العربية ترجع الى أصول ثابتة كما تناولنا. فيقولون مثلاً الاسم أصل للفعل والحرف أنهما فرعان على الاسم لذا جعل التنوين دونهما ولأن الكلام لا يخلو منه دلّ على اصالته ويخلو منهما دلّ على فرعيتهما.
وان المشتق فرع عن المشتق منه لأنه "اقتطاع فرع من أصل"([29]). وغير ذلك ، فهل يمكننا القول بان الفعل والحرف عدول عن الأصل (الاسم) كما فسّروا العدول. اما قولهم (أضعف الأدلة فهو ينتقض بقولهم: (أحد الأدلة المعبرة) في النص الآتي:
لقد استعمل ابو البركات الانباري (استصحاب الحال) في الخلاف الجدلي الذي صنعه في عرض مسائل الخلاف بين البعد بين الكوفيين كما في خلافهم في (كم) بين التركيب والإفراد. ذهب البصريون الى انها مركبة وحجتهم "إن الأصل هو الإفراد ، والتركيب فرع ، ومن تمسك بالأصل خرج عن عهدة المطالبة بالدليل ومن عدل عن الأصل افتقر الى إقامة الدليل لعدوله عن الأصل واستصحاب الحال احد الأدلة المعتبرة"([30]).
وقالوا: "الاعتراض على الاستدلال بالاستصحاب بأن يذكر دليلاً يدل على زواله كأن يدل الكوفي على زواله اذا تمسك البصري به في بناء فعل الأمر ، فيبني ان فعل الأمر مقتطع من المضارع ومأخوذ منه ، والمضارع قد أشبه الأسماء وزال عنه استصحاب البناء وصار معرباً بالشبه ، فكذلك فعل الأمر ، والجواب ان بين ما توهمه دليلاً لم يوجد فبقي التمسك باستصحاب الحال صحيحاً".
ان تفسير المعاصرين للعدول – ومنهم الدكتور تمام حسان- في ضوء الاصل والفرع مأخوذ من قضية استصحاب الحال لدى المتأخرين([31]) ، وهي فكرة تهمل توجهاً اساسياً لدى بعض البلاغيين ممن يستنبطون من العدول اسراراً بلاغية ودلائل اعجازية.
نظرة في تفسير العدول:
إنّ العدول في النص القرآني ، ليس خروجاً أو خرقاً لنظام العربية كما يرى أكثر النحاة والبلاغيين ولاسيما المعاصرون إنما هو خروج على القياس النحوي لا الواقع الاستعمالي للنصّ القرآني، هو نظام العربية نفسه في أعلى درجاته الإبداعية البلاغية لتؤدي اللغة معاني لا تؤدى إلا في ضوء أنظمة العربية المختلفة: الصرفي والنحوي والبلاغي وغيرها. وهو أحد وجوه إعجاز القرآن وسرّ التحدي للبشر عامة الذين لم يبنوا لغاتهم على نظام مطّرد معجز.
وشرط تلمس هذا النظام وبناء هيكله ان تحدد الدراسة النص القرآني نفسه أنموذجا له من غير خلطه بالمستويات اللغوية الأخرى كالقراءات والحديث الشريف الذي خضع للوضع والدس عبر تاريخ طويل ، وكلام العرب من شعر ونثر وما يحوي من غريب وشاذ وضرورات ولحن وألغاز وغيرها.
ينماز نظام عربية القرآن بالحيوية والمرونة إذ يضيق ويتّسع بحسب الحاجة والمستوى اللغوي والمخاطِب والمخاطَب ونوع الخطاب وبحسب التطور الذي تخضع له اللغات فيستوعب التطور وما يصحبه من تغير لفظي ودلالي ، فيكون التطور في داخل النظام نفسه لتبقى لغة القرآن بمنأى عن التغيرات الزمانية والمكانية وتبقى الرسالة الإلهية كما أرادها الله تعالى خالدة ثابتة مع كل المتغيرات.
وكلما زاد حمل الكلام بعضه على بعض بُعداً بلغ دقةً دلالية وأدى أسرارا بيانية لا يفهما كل إنسان إلا المختصون باسلوب القرآن وأصحاب الذائقة الفنية كالزمخشري في تفسيره الكشاف.
ان سعة المعنى وتأثره بمؤثرات مختلفة ووضوحه وخفائه وتعقيداته وقوته وضعفه بحسب الرسالة التي يرسلها المبدع للتعبير عن تجربته النفسية وارتباطها بالمقامات والأحوال ، تتطلب نظاماً لغوياً مرناً يستوعبها ويعبّر عنها خير تعبير. وللتعبير عن المعنى وسائل عديدة واللغة بأنظمتها المتركبة خير وسائل التعبير عن المعنى ، ولاسيما نظام اللغة العربية وخير دليل على ذلك أنزل الله تعالى كتابه الكريم بها لتأدية معانٍ دقيقة وأسرار إلهية ، وإنشاء رسالة خالدة متحركة المعنى مع المتغيرات الزمانية والمكانية فوق الطاقة الاستيعابية للعقل الإنساني في بعض جوانبها ، والمعاني الروحية السامية المطّردة مع أنظمة الكون والحقيقة المطلقة ، وللتعبير عن الغيب الذي لم يطلع عليه الإنسان ، المتلقي المطلق في كل العصور للرسالة الخالدة. ولا تكفي المعرفة النحوية والبلاغية المعيارية لكشف عن نظام العربية.
هذه المعاني السامية يؤديها النظام البلاغي (الإبداعي-الاسلوبي) من أنظمة العربية التي تصدر من أسس وأصول واحدة ثم يتوسع فيها من خلال حمل الألفاظ والتراكيب والدلالات بعضها على بعض وتعلقها بعضها برقاب بعض وهذا من أهم مظاهر التوسع في المعنى والتصرّف بفنون القول.
لذلك قسّم من تناول الحمل على المعنى على قسمين قسم يتصل بالصناعة النحوية والصرفية او بالمباني والتراكيب كحمل النصب على الجر ، والجمع على التثنية وغيرها. وقسم يتصل بالأساليب كالحمل على المعنى والتضمين والتناوب وغيرها([32]) وهو دليل على ان نظام العربية واحد في المستويات اللغوية كلها ، مطرّد لا اختلاف فيه كما ان الكتاب العزيز لا اختلاف فيه.
قال ابن جني: "واعلم انّ العرب تؤثر التجانس والتشابه وحمل الفرع على الأصل"([33]) وقال: "اعلم انه ليس شيء يخرج من بابه الى غيره إلا لأمر كان وهو على بابه ملاحظاً له"([34]). وقال القزاز القيرواني: "كلام العرب أخذ بعضه برقاب بعض"([35]).
يتبع
‗۩‗°¨_‗ـ المصدر:#منتدي_المركز_الدولى ـ‗_¨°‗۩‗