3-سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء السؤال التالي:
ما حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول تعظيمًا له عليه الصلاة والسلام؟
فأجابت اللجنة بما يلي:
تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم واحترامه إنما هو: بالإيمان بكل ما جاء به من عند الله، واتباع شريعته عقيدة وقولًا وعملًا وخلقًا، وترك الابتداع في الدين، ومن الابتداع في الدين الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم (67).
وقالت اللجنة في فتوى أخرى:
الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم بدعه: لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله لنفسه، ولا أمر بفعله، ولم يفعله أحد من الصحابة ي له، وهم أحرص الناس على تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، والخير كله في اتباع هديه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»(68).
حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم :
إنَّ محبَّة النبي صلى الله عليه وسلم أصل من أصول الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده»(69)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»(70).
قال ابن رجب: «محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان، وهي مقارنة لمحبة الله ﻷ، وقد قرنها الله بها، وتوعد من قدّم عليهما محبة شيء من الأمور المحببة طبعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24].
ولما قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلَّا من نفسي فقال: «لا يا عمر، حتَّى أكون أحبَّ إليك من نفسك» فقال عمر: والله أنت أحبُّ إليَّ من نفسي، قال: «الآن يا عمر»(71).
ولا تتم هذه المحبة إلَّا بالطاعة، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وعلامة ذلك تقديم محبة الرسول على محبة كلِّ مخلوق، وذلك فيما إذا تعارض طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أوامره وداعٍ آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة؛ فإن قدَّم المرء طاعة الرسول وامتثال أوامره على ذلك الداعي كان دليلًا على صحة المحبة.
وإنما تنشأ هذه المحبَّة عن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة كماله وأوصافه وعظم ما جاء به، ولا سبيل إلى المحبَّة إلا بالطاعة، ولا سبيل إلى طاعته إلا بالمتابعة.
ومحبة الرسول كما يقول ابن رجب على درجتين:
إحداهما فرض: وهي ما اقتضى طاعته في امتثال ما أمر به من الواجبات، والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات، وتصديقه فيما أخبر به من المخبرات والرضى بذلك، وأن لا يجد في نفسه حرجًا مما جاء به، ويسلم تسليمًا، وأن لا يتلقى الهدى عن غير مشكاته، ولا يطلب شيئًا من الخير إلَّا مما جاء به.
والدرجة الثانية فعلٌ مندوب إليه: وهي ما ارتقى بعد ذلك إلى اتباع سنته وآدابه وأخلاقه والاقتداء به في هديه وسمته وحسن معاشرته لأهله وإخوانه، وفي التخلق بأخلاقه الظاهرة في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وفي جوده وإيثاره وصفحه وحلمه واحتماله وتواضعه، وفي أخلاقه الباطنة من كمال خشيته لله ومحبته له، وشوقه إلى لقائه ورضاه بقضائه، وتعلق قلبه به دائمًا، وصدق الالتجاء إليه، والتوكل والاعتماد عليه، وقطع تعلق القلب بالأسباب كلها، ودوام لهج القلب واللسان بذكره، والأنس به، والتنعم بالخلوة ومناجاته، ودعائه وتلاوة كتابه بالتدبر والتفكر.
وكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل الخلق في المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان أكمل الخلق محبَّة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هو رضي الله عنه ولا غيره من الصحابة وهم أكمل الناس حبًّا للنبي صلى الله عليه وسلم يقيمون احتفالًا بيوم مولده غ، ولا رأوا أن ذلك دليلًا على الحبِّ.
فليس الحب دعوى باللسان وإلا لادَّعاه كلُّ أحد، قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: قال قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد، إنّا نحبُّ ربنا، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] فجعل اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عَلَمًا لحبه، وعذاب لمن خالفه»(72).
وقد جاء في تفسير هذه الآية أنها نزلت في وفد بني نجران من النصارى، وأنه أمرٌ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول لوفد نجران الذين قدموا عليه من النصارى: إن كان الذي تقولونه في عيسى من عظيم القول إنما تقولونه تعظيمًا لله وحبًّا له فاتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك عهد عيسى ؛ إليكم(73).
لماذا نحب النبي صلى الله عليه وسلم ؟
1- موافقة مراد الله تعالى في محبته، فقد اتخذه سبحانه خليلًا وهو أحب الخلق إليه وأثنى عليه وأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم، فكان لزامًا على المسلم أن يحبه صلى الله عليه وسلم.
2- مقتضى الإيمان: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينًا أن من مقتضى الإيمان حب النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين»(74).
3- لشدة محبته صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته: فقد وصفه ربه {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم : تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم:36] الآية، وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي»، وبكى، فقال الله عز وجل: «يا جبريل اذهب إلى محمد، وربُّك أعلمُ، فسلهُ ما يُبكيكَ؟»، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلمُ، فقال الله: «يا جبريلُ، اذهب إلى محمدٍ، فقل: إنَّا سنُرضيكَ في أُمتِكَ، ولا نسُوءُكَ»(75).
4- لبذله جهدًا كبيرًا في دعوة أمته وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
دلائل محبته صلى الله عليه وسلم ومظاهر تعظيمه:
1-تقديم النبي صلى الله عليه وسلم على كل أحد:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم ألا يقدم عليه أي شيء مهما كان شأنه.
2-سلوك الأدب معه صلى الله عليه وسلم:
وذلك بأمور:
أ- الثناء والصلاة والسلام عليه لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ب- التأدب معه عند ذكره بألا يذكر إلا مقرونًا بالنبوة أو الرسالة كما قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63].
جـ- الأدب في مسجده وكذا عند قبره وترك اللغط ورفع الصوت.
د- توقير حديثه والتأدب عند سماعه وعند دراسته كما كان يفعل سلف الأمة وعلمائها في إجلال حديثه صلى الله عليه وسلم.
3-تصديقه فيما أخبره به:
وهذا أصل من أصول الإيمان.
4-اتباعه صلى الله عليه وسلم وطاعته والاهتداء بهديه:
فطاعة الرسول هي المثال الحي والصادق لمحبته ولهذا قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
5-الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم:
فهذا من علامات المحبة وقد سطّر الصحابة أروع المثل وأصدق الأعمال في الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم وفدوه في حياته صلى الله عليه وسلم بالمال والأنفس والأولاد في المنشط والمكره.
ومن وسائل الدفاع عنه بعد وفاته:
1- نصرة دعوته ورسالته بكل ما يملك المرء.
2- الدفاع عن سنته بحفظها ونشرها وتنقيحها ورد الشبهات عنها.
3- نشر السنة وتبليغها بين الناس.
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حقًا ومن المتبعين لسنته غير مبتدعين في الين ممتثلين أمره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
_______الهوامش________________
(1) المصنف (7/26).
(2) ابن ماجة (1599)، وهو صحيح، انظر: السلسلة الصحيحة، رقم (1106).
(3) حاشية السندي على ابن ماجة (1599).
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (55).
(5) الصحيح في اللغة (1/238)، المصباح المنير (1/216)، المفصل في تاريخ العرب (15/275).
(6) هذا كان في الجاهلية أما بعدما جاء الإسلام تغيرت هذه المفاهيم الجاهلية وحفظت الدماء إلا بموجب ما تقتضيه الأحكام الشرعية من قصاص ونحوه.
(7) انظر: القاموس المحيط، (ص:928)، تاج العروس (21/34): ربع، ولسان العرب (8/99): ربع.
(
صحيح مسلم (2804).
(9) السيرة النبوية لابن هشام (1/183).
(10) الفصول في سيرة الرسول لابن كثير (ص:9).
(11) الرحيق المختوم (ص:45).
(12) سيرة ابن هشام (1/183)، والفصول في سيرة الرسول (ص:9).
(13) دلائل النبوة للبيهقي (1/175).
(14) دلائل النبوة للبيهقي (1/176).
(15) انظر لهذا الأدب الرفيع والخلق الجميل والجواب اللطيف لله درك من متفوه.
(16) دلائل النبوة لأبي نعيم (1/178).
(17) سبل الهدى والرشاد (1/335-336).
(18) الرحيق المختوم (ص:45).
(19) الطبقات الكبرى (1/102).
(20) دلائل النبوة (1/126).
(21) صحيح السيرة النبوية (ص:14)
(22) السيرة النبوية الصحيحة (1/98-101).
(23) ابن هشام (1/ 184-185).
(24) محمد رسول الله (1/159).
(25) محمد رسول الله (2/423).
(26) الهجرة النبوية المباركة (ص:205).
(27) لطائف المعارف (ص:114).
(28) ابن ماجة (1599)، وهو صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة، رقم (1106).
(29) تفسير القرطبي (2/176).
(30) أخرجه مسلم (103).
(31) أخرجه الترمذي (3618)، وابن ماجة (1631)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3861).
(32) سبق تخريجه.
(33) تفسير القرطبي (2/176).
(34) رواه البخاري رقم (437)، ومسلم رقم (530).
(35) رواه أبو داود، رقم (5134).
(36) الاعتصام للشاطبي (1/494).
(37) شرح صحيح مسلم (12/16).
(38) المرجع السابق.
(39) المرجع السابق.
(40) الخطط (1/490).
(41) أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام لمحمد بخيت، (ص:44-45).
(42) أحسن الكلام (ص:52)، والإبداع في مضار الابتداع لعلي محفوظ (ص:126).
(43) نقلًا عن ابن كثير في البداية والنهاية (11/387).
(44) أحسن الكلام (ص:52).
(45) أخذها عن حكام بني عبيد.
(46) مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي (681-682).
(47) الإنصاف (ص:362) مطبوعة ضمن مجموعة رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي.
(48) حول الاحتفال (ص 24-31).
(49) أخرجه أحمد (21677)، وأبو داود (5230).
(50) أخرجه أحمد (11936).
(51) رواه أبو داود (4806)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4021).
(52) في مواهب الجليل (2/406).
(53) الديباج المذهب في أعيان المذهب (ص:71).
(54) (ص:14).
(55) (ص:29-30).
(56) المواهب اللدنية (1/135-136).
(57) المورد الروي (ص: 97).
(58) سبقت الإشارة إليه.
(59) القول الفصل (ص:654).
(60) أخرجه البخاري (107)، ومسلم (2).
(61) أخرجه مسلم في المقدمة (ص:9).
(62) من الملف العلمي للمولد النبوي بموقع المنبر المنبر - الصفحة الرئيسة
(63) رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
(64) رواه مسلم برقم (867).
(65) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ بن باز ـ رحمه الله ـ (4/289).
(66) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ (2/297)، فتوى رقم (350).
(67) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم (3257).
(68) المصدر السابق، فتوى رقم (5005).
(69) مسلم (44).
(70) أخرجه البخاري (15)، ومسلم (44).
(71) أخرجه البخاري (6630)، فتح الباري لابن رجب (1/48).
(72) أخرجه ابن جرير في تفسيره (3/232).
(73) تفسير ابن جرير (3/232).
(74) رواه البخاري رقم (15)، ومسلم رقم (45).
(75) رواه مسلم (346).