حيرةٌ الفنانِ المسلم
وبين تحريمُ الفن التشكيلي أو الحذر من الوقوعِ في الحرامِ عند بعض علماء الدين(28) وبين الانطلاق والإبداع وحرية الفكرةِ عند الفنان، يقف الفنان المسلم الملتزم حائراً. فهو يخاف أن يخالفَ الشريعةِ ويُتَهم بالالحادِ خاصةً في الفترات والقرون المواضي عندما كانت المجتمعات الإسلامية تعيش حتى وقتٍ قصيرٍ في الأمية والاحتلال الغربي. الأمر الذي جعلَ بعض المتنورين من الفنانين يعانون من التجاهلِ والترحيب في المجتمع الذي يعيشون فيه. والعديد من الفنانين آثر الابتعاد أو اللجوءِ الى مناطقَ آمنةٍ فنياً مثل الخط العربي والزخرفة الاسلامية أو تصوير غير ذواتِ الأرواحِ. وأخذت المجتمعاتُ الاسلاميةُ فترةً طويلةً من الزمنِ إلى أن بدأت تتقبل فكرةَ دور العرضِ الفنيةِ والمجسمات العملاقة واستقبال الفن الآخر من مجتمعات مختلفة. رغم أن البلادَ الإسلاميةَ في فترات ازدهارها وقوتها كانت قد استقبلت الآخر من الحضارات القديمة وامتزجت واستفادت وأضافت ليس فقط في مجالِ العلمِ وإنما كذلك في مجال الفنون.
وعلى طول البلاد الاسلامية وعرضها هناك تفاوت في حرارة استقبالِ الفن التشكِيلي والنفور منه (خاصة النحت). ذلك يعتمدُ على الوعي الثقافي والاجتماعي والانفتاح السياسي والاقتصادي على الآخر. هذا بالإضافة الى محاولةِ التجديد الفكري وإعادة قراءة النصوص الشرعية بما يتواكب وروح العصر. وهذا ربما يسبب ضعف المستويات الفنية وقلة التجربة مقارنة بالفكر الغربي أو حتى المدارس الآسيوية والأفريقية التي تصالحت أديانها مع الفن التشكيلي أو تحررت من القيود والأعراف الثقافية والاجتماعية. هذا لا يمنع أن يلحظ المرء تفوقا ملحوظا في ما يُعْرَفُ بالفنون الاسلامية والمتعلقة بالخط العربي والمنمنمات والتجريدات المعمارية.
الإسلام فـي الشرق الأوسط
قبل التفرُّس في الصورِ المقدمةِ من الشرق الأوسط الى معرضٍ يعبر عن «الإسلام في الشرق الأوسط» ضمن مشروع أكبر همُّه خلقَ «أرضيةٍ مشتركة» للتفاعل مع المسلم في بيئات مختلفة وتقديمه للعالمِ الاسلامي والغربي؛ افترض الباحث أن كل فنان اشترك في هذا المشروع كان أمام تحدٍ كبير. وتعرَّض كلُ فنانٍ لسؤالٍ جوهري عن كيفية التعبير عن «الإسلام» في لوحات فنية. يبدو أن الكلمةَ كبيرةٌ وتشمل بين دفتيها صوراً شتى ومعارف مبنية على إرثٍ ثقافي وحضاري واجتماعي واقتصادي وحتى سياسي وأيديولوجي لكل من يحاول التفكير في التعبير عن الاسلام في مشاهد مختصرة مصورة؛ أو إعادة عرض المظاهر الإسلامية في أعمالٍ فنية.(29) وتساؤلات ربما تكون قد مرَّت على أذهانِ المشاركين في هذا العمل.
دعونا نتخيل كيف يكون الاسلامُ في الشرقِ الأوسط؟ من هو المسلم في هذه البلدان؟ وهل يختلف عن المسلمين في شرق آسيا أو شمال أفريقيا أو في الغرب مثلا؟! ماذا يعني الإسلام في بلادٍ مسلمة كالشرق الأوسط؟ ثم كيف يعرِّف المسلمُ بنفسه بصريا؟ كل هذه أسئلة دارت في الذهن قبل الشروع في الحديث عن مشروع «أرضية مشتركة» الذي تبناه المجلس الثقافي البريطاني وقام بتطبيقه على المملكة المتحدة واندونيسيا، وماليزيا وبنجلاديش والآن في الشرق الأوسط. كما يفترض الباحث أن هذه الأسئلة المقلقة هي أكثر صعوبةً من تلك البلدان التي قد يتميز فيها «المسلم» بلباسٍ أو بمسكنٍ أو مأكلٍ. فالرقعةُ الجغرافيةُ التي يُفتَرض أن يغطيها الفنانون هي التي شهدت ميلاد الدين الإسلامي؛ فالإسلام لا يمثله أقلية (كالمملكة المتحدة) أو أنه قادمٌ وافدٌ على بلاد شرق آسيا (اندونيسيا وماليزيا). كما أن الأمرَ يزدادُ صعوبةً في أن الشرقَ الأوسطَ ليس بلداً واحداً (مثل المملكة المتحدة أو اندونيسيا) ولكنه اقليم يشمل عدة دول.(30)
«أرضٌ مشتركة» وليس «بلدٌ مسلم» هي الفكرةُ التي حاول معظم الفنانين التعبير عن تجاربهم الفنية في هذا المشروع. فهناك «وجوه بملمح واحد» تحاول فيه الفنانة نهى أسد التعبير عن الميلِ «الى التواصل» في المجموعة التي اختارتها لتمثل مشروعها. فهناك البائعُ والمشتري والحارس والبناء والمرأة وكل يحتاج الى الآخر «وحتى المقاعد تحتاج إلى من يجلس عليها». هذا الخليط من الثقافات والديانات في بلد واحد تفترض الفنانة أنه «يخلق احتراما متبادلا وسلوكيات جيدة دائمة». وهو ليس شرطا، اذ ليس من الضرورة أنّ التنوع والاختلاف يؤدي الى سلوكيات جيدة «بمجرد اتفاق الأفراد على التجمع في مكان واحد وزمن واحد وتحت غطاء واحد».(31)
وفي مشروعٍ آخر «ليس للبيع» يحاول فيه الفنان أنس الشيخ - بتقنية عالية - استخدم فيها فن الفيديو التفاعلي، أن يصرخ بصمت رافضا التبعية للآخر القوي حضاريا ومعرفيا؛ حيث يقول: «ربما نتحمل مسؤولية فهمنا لرسالة الاسلام وروح العقيدة السمحاء ربما نتحمل مسؤولية ضعفنا أمام الآخر ربما نتحمل مسؤولية ابتعادنا كثيرا وكثيرا عن حضارة الآخر ولكننا بالرغم من كل ذلك فنحن لسنا للبيع».(32)
وفي «الهوية الجديدة» يقترب الفنانان حسن مير وابراهيم القاسمي من مشروع نهى أسد ومشروع أنس الشيخ في محاولة التعبير عن ما يطلقون عليه بـ«الهوية الجديدة». ففكرة التنوع والتحول الاقتصادي والتقني والدخول في عالم العولمة المتسارع ليتم بذلك تهميش التراث البشري المتراكم. وبالتالي فنحن أمام مشروع يحكي قصة التبعية «للقوى العظمى» وهي ليست مقتصرة على العالم الاسلامي فحسب، وانما هي سمة العصر عبر العولمة أو فكرة «الواحد». فهم «ضد أي فكرة أو حركة تسعى الى طمس الذاكرة والذوق والثقافة والأهم الهوية...».(٣٣)
وفي حين كانت «الهوية» هي الأكثر بروزا في المشاريع الفنية الثلاثة، فإن مشروعي «من الظلام الى النور» لأمل العاثم و«إشارة الى المستقبل» لمنال الضويان يقتربان أكثر من معاناة المرأة العربية؛ أو لنكن أكثر تحديداً «المرأة الخليجية» من الأعراف والتقاليد العربية التي تصبح جزءاً من حياة المجتمعات الإسلامية. ففي عملها المركب باستخدام الفيديو تقول العاثم عن المرأة التي غاصت في «بحر الظلمات وانغمرت فيه، بزغت الى عالم جديد مبددة كل ما حولها من قيود وظلمات لتسلك طريقا اختارته بنفسها وأضرمت النار لتنير لها الحياة ولتستمد منها قوة تعينها على مواصلة الطريق، وأحرقت فيها كل معنى للتخلف والانكسار والاندحار والعبودية».(34)
هذه النبرة التفاؤلية التي تتغنى بها العاثم عبر استخدامها لرموز النخلة والنار والتصوير الليلي لبحر الظلمات، نجد - في المقابل - القيود والسواد في معظم صور منال الضويان رغم بريق الأمل والتفاؤل للمستقبل الذي يمكن قراءته من خلال عيني العارضات.(35)
أما بشرى المتوكل فرغم محاولة تصوير بعض مظاهر العبادات الإسلامية «الصلاة» في إيقاعات متفاوتة عبر المجاميع الكلية، فإنها كذلك في تجربة أخرى تمثل الممارسات والتقاليد الاجتماعية وقيود المرأة، حيث تقول: «...فالاسلام متغلغل في عمق الممارسات والتقاليد الاجتماعية والثقافية لدرجة أن المرء في بعض الأحيان لا يستطيع أن يميز بين ما هو ديني وما هو تراثي بل أن الأمر يصل أحيانا الى حد إلصاق بعض الممارسات بالإسلام بينما الإسلام في حقيقته قد أتى لإلغائها».(36)
وفي تجربة تكاد تكون متفقة فيما سبقها من أطروحات الفنانات الثلاث في الطرح وطريقة التعبير عن الإسلام في الشرق الأوسط يطرح كميل زكريا فكرة «عربية قومية» كذلك تتمحور في الزواج وضعف المرأة في اختيار شريكها ممزوجة بالقدرية الاسلامية. يعبر عن ذلك بطريقة فنية راقية «فوتومونتاج» مازجاً طرق البحرين وأزقتها بالخط العربي الذي تارة ما يكون مقطعا من سورة قرآنية، ومرة أغنية لعبدالحليم حافظ أو لأم كلثوم.(37)
من خلال ما سبق من مشاهد قام بتصويرها فنانون من الشرقِ الأوسط يظل التساؤل قائماً : هل تم تصوير الإسلام كمظاهرَ مجتمعية ؟ يمكن القول بعد مراجعة كل أطروحات الفنانين وأعمالهم أن الإسلام بالشكل الذي تم تصويره في المملكة المتحدة وأندونيسيا وماليزيا لا نجده هنا. فهو لا يمثل - كما عبر عنه هؤلاء الفنانون- هاجساً كبيراً. إلا أن الملاحظ هو «غياب الهوية» وانصهار العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية العربية لتطفو على السطح أكثر من المظاهر الإسلامية ؛ مع الاعتراف بصعوبةِ الفصل أحياناً بين القضايا المجتمعية والدينية فهي تختلف من مجتمع اسلامي إلى آخر. كما يحسب لكريم استلهام روح التراث من المكان العربي الممزوج بطابع إسلامي (سورة مريم) أو القومية العربية (مقاطع من أغنيات لعبدالحليم حافظ وأم كلثوم).
الهوامش
١- في العهد القديم سفر التثنية ٧٢ «ملعون الانسان الذي يصنع تمثالا منحوتا او مسبوكا رجسا لدى الرب عمل يدي نحات ويضعه في الخفاء». تاريخ الزيارة ٠١/١١/2005. وفي الفكر النصراني مرت الكنيسة بنفس العلاقة الجدلية حول فكرة الفن وتقبله كونه يلهي المصلين عن العبادة والخشوع في الصلاة، انظر: مراد، بركات، علاقة الفن بالفلسفة والديانات قبل الاسلام (التاثير والتاثر)، موقع اليكتروني تاريخ الزيارة ٠١/١١/2005. وفي سفر الخروج ، الاصحاح ٠٢ (آيات ٣-٥) «لا يكون لك آلهة اخرى امامي. لا تصنع لك تمثالا لا منحوتا ولا صورة ما عما في السماء من فوق وما في الارض من تحت، لا تسجد لهن ولا تعبدهن لاني انا الرب الهك».
٢- انظر منتصر، خالد. الاسلام والفن التشكيلي، موقع: ، تاريخ الزيارة ٠١/١١/ 2005، مراد، بركات، مرجع سابق.
٣- انظر مراد، بركات، مرجع سابق.
٤- سورة الشورى، آية ١١، القرآن الكريم.
٥-قال ابن سيدة في تعريف الصنم : هو ما ينحت من خشب ويصاغ من فضة ونحاس ، والجمع أصنام . وقيل عن الصنم : هو ما كان له جسم أو صورة ، وما لم يكن له كذلك فهو وثن . وقد روى ابن عباس عن الأعرابي : الصنمة والنصمة الصورة التي تعبد . وقال ابن عرفة : ما اتخذوه من آلهة فكان غير صورة فهو وثن . وروى عن الحسن أنه قال : لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه [ لسان العرب: مادة(صنم)] انظر كذلك:
٦- انظر بعض فتاوى الفن التشكيلي في، تاريخ الزيارة ١١/12/2005، فتوى الشيخ أبوعمر العتيبي، لجمعية دار البر 2005
fuseaction=Portal.show،
Page&pageId=122&id=32&DoWhat=ShowAnswer
تاريخ الزيارة ١١/12/2005
٧- انظر مراد، بركات، مرجع سابق.
٨- آية 13، سورة سبأ، القرآن الكريم.
٩- آية ٥١، سورة البقرة، القرآن الكريم.
٠١- الآيات 11-14 سورة الإنسان، القرآن الكريم
١١-كتاب الكافي: الجزء الثالث، باب الصلاة في الكعبة وفوقها.
12- تاريخ الزيارة 18/12/2005
13- المذاهب الاسلامية المعروفة.
14- جمعية دار البر، موقع الكتروني:
pageId=122&id=32&DoWhat=ShowAnswer
تاريخ الزيارة ٩/12/2005.
15- الشيخ أحمد الخليلي، مفتي عام سلطنة عمان، مجلة العدسة، نشرة تصدرها اللجنة الاعلامية لجماعة التصوير بجامعة السلطان قابوس، الاثنين ٣/٤/2000، ص: ٤.
16- فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء المجلد الأول 18 من 114، (فتوى804) من موقع الكتروني: نداء الايمان، تاريخ الزيارة: ٣١/١١/2005.
17- رواه البخاري ومسلم
18- فتاوى ابن باز انظر
المنتدى الإسلامي
(أنظر الى توقيعك والى الصورالتى فى بيتك)
19-جهود آل البيت عليهم السلام في الدعوة إلى الله الشيخ/ حسن الحسني موقع: صحوة الشيعة
تاريخ الزيارة ٣/١١/2005
20- منتديات باب البحرين
باب الــفـــكــــر الإســلامــــي
من فقه عاشوراء السيد الخوئي، المسائل الشرعية، الجزء الثاني تاريخ الزيارة ٢١/١١/2005.
١٢.- السيد علي السيستاني «منهاج الصالحين«، عبدالهادي الحمود ، الموقع الرسمي للشيخ الموقع
تاريخ الزيارة ٢١/12/2005
٢٢- المرجع السابق
23- رواه البخاري ومسلم
24- د. مراد هوفمان
التصوير والفن في الإسلام من موقع
تاريخ الزيارة ١١/١١/2005
25- المرجع السابق
26- انظر البشير محمد المهدي (2000)
ما هي حقيقة الفن؟ وما هو جوهره؟ وما موقف الإسلام منه؟، موقع الموسوعة الاسلامية، 2000 alblagh ، تاريخ الزيارة: ٩/12/2005
27- هيام السيد (2005) «بعض خصائص الفنون الاسلامية» من موقعالزيارة12/١١/2005
28- د. مراد هوفمان، التصوير والفن في الإسلام من موقع
تاريخ الزيارة 15٥١/١١/2005
٩٢- يعتقد الباحث أن العمل الفني ما هو إلا محاولة إعادة عرض ما حولنا من أفكار ومعتقدات ومشاهدات ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مرآة كاملة للمجتمع كما يظن البعض. للمزيد أنظر: :
Hall, Stuart (1981)
The Determinations of News Photographs
InCohen, Stanley & Jock Young (Eds.) The Manufacture of News: Social
. Problems, Deviance and the Mass Media. London: Constable, 226-43
30- حسب تقسيم المجلس الثقافي البريطاني فإن اقليم الشرق الأوسط يشمل دولة الإمارات العربية المتحدة، مملكة البحرين، المملكة العربية السعودية، سلطنة عمان، دولة قطر، دولة الكويت، الجمهورية العراقية والجمهورية اليمنية
31- اطروحة نهى أسد، دولة الإمارات العربية المتحدة.
32- أطروحة أنس الشيخ، مملكة البحرين.
٣٣- أطروحة حسن مير وابراهيم القاسمي، سلطنة عمان.
24- أطروحة أمل العاثم، دولة قطر.
25- أطروحة منال الضويان، المملكة العربية السعودية.
26- أطروحة بشرى المتوكل، الجمهورية اليمنية.
37- أطروحة كميل زكريا (الشرق الأوسط كندا).