وللظالمينَ أمثالُها.
قريةً مضروبةً مثلًا ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ﴾، وانظر لا مفسرًا ولا مُؤَوِّلًا؛ وإنما مُصْغِيًا بسمعِ القلبِ لِـجَرْسِ كلمةِ (الرغد): ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا (رَغَدًا) مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾.
اللهُ ربُّ العالمينَ يضربُ لنا المثلَ في القرآنِ تِلْوَ المثلِ: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾[الأعراف:68].
لو أنَّ الناسَ أطاعوا ربَّ الناسِ على يدِ خيرِ الناسِ - صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ -؛ لأكلوا مِنْ فوقِهِم ومِنْ تحتِ أرجلِهِم، ولأتاهُمُ الرزقُ رغدًا مِنْ كلِّ مكان.
إلا أنَّهم لَمَّا كفروا باللهِ ربِّ العالمينَ، وأبدلوا النعمةَ كفرانًا، ولم يُقْبِلُوا على اللهِ ربِّ العالمينَ بالشكرانِ؛ أذاقَهمُ اللهُ ربُّ العالمينَ بعضَهُم بأسَ بعضٍ، وأنزلَ اللهُ ربُّ العالمينَ عليهم السُّخط، كما بَيَّنَ اللهُ ربُّ العالمينَ في غيرِ ما آيةٍ في القرآنِ العظيمِ، وفي غيرِ ما حديثٍ يأتي عن سبيلِ النبيِّ الكريمِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
وانظر عن النبأِ المضروبِ في كتابِ اللهِ ربِّ العالمينَ لِأُمَّةٍ ظاهرةٍ قاهرةٍ: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾[سبأ:15].
﴿كَانَ لِسَبَإٍ﴾، وسبأٌ هذا أبو عشيرةٍ مِنَ العشائرِ العظيمةِ, انتشرتْ في الجزيرةِ كُلِّهَا بعدُ، منهم: الأوسُ والخزرجُ في يَثْرِبَ - في مدينةِ النبيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو أبوهم الأعلى، ومنهم: غسَّانُ في الشامِ، ومنهم: خُزاعةُ في تِهَامَةَ مِنْ أرضِ الحِجَازِ، وغيرُ هؤلاء كثير من جُذام وعامِلة ولَـخْم، وغيرِ هؤلاءِ مِنْ قبائلِ العربِ.
كلُّ هؤلاءِ في جنوبي اليمن، يضربُ اللهُ ربُّ العالمينَ لنا بِهِمُ المثلَ؛ لأنَّ اللهَ ربَّ العالمينَ - كما سيأتي إنْ شاءَ اللهُ ربُّ العالمينَ - جعلَهُم أحاديثَ؛ لكي يتناقلَ الناسُ تلك الأحاديث جيلًا مْنْ بعدِ جيلٍ؛ ليرَوا العِبرةَ، وليتلمَّسُوا الموعظةَ, وأنَّ الناسُ إذا أطاعوا اللهَ ربَّ العالمينَ؛ كفاهم كلَّ شيءٍ، وأتاهُمُ النصرُ مِنْ عندِ اللهِ ربِّ العالمينَ.
وإذا كفروا نعمةَ اللهِ ربِّ العالمينَ؛ أذاقهُمُ اللهُ ربُّ العالمينَ - بما قدمتْ الأيدي - ذُلًّا، وخسفًا، ومسخًا، وعذابًا، وتقتيرًا، وقوتًا لا يأتي إلا بالكَدِّ والكَدْحِ والنَّصَبِ، وربما لا يأتِي بحالٍ! - نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ -.
﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ﴾ في جنوبي اليمن ﴿آيَةٌ﴾ - أي: علامةً ظاهرةً بينةً لكلِّ مَنْ كانَ له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيدٌ -، ﴿جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾؛ وذلك أنَّه كان عندَهُم وادٍ متسعٍ، وعلى فَمِ الوادي جبلانِ عظيمانِ، وكان السَّيْلُ ينزلُ غزيرًا مِدرارًا؛ فيسيرُ مِنْ بينِ السَّدَّيْنِ، حتى إذا ما أتَى إلى الوادي تشتَّتَ؛ فلم ينتفعوا به شيئًا، فَهُدُوا - بأمرِ اللهِ ربِّ العالمينَ - إلى إقامةِ سَدٍّ بين هذينِ الجبلينِ هو: سَدُّ مَأْرِب, كما قالَ اللهُ ربُّ العالمينَ في محكمِ التنزيلِ.
ثمَّ إنَّ اللهَ ربَّ العالمينَ جعلَ بعد ذلك النعمةَ الظاهرةَ: ﴿جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ على هذا الجبلِ وذاك، على سفحِهِ، وحوالَيْهِ، وعلى قمَّتِهِ، وفي بطنِ الوادي.
وانظر إلى قولِ اللهِ ربِّ العالمينَ في وصفِ النعمةِ: ﴿كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ موحِّدينَ للذي أنعمَ عليكم بما أنعمَ عليكم مِنَ النِّعَمِ الظاهرةِ والباطنةِ، ﴿وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾.
وللمفسرينَ في قولِ اللهِ ربِّ العالمينَ: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ كلامٌ طويلٌ لا يَفْرُغُ بحالٍ.
فمن ذلك: أنَّ البلدةَ كان مناخُها معتدلًا جدًّا، حتى إنَّه لا يُرَى فيها ذبابٌ ولا بعوضٌ ولا براغيث ولا هوام في الأرضِ بحالٍ، ثمَّ إنَّ المناخَ أعدلُ ما يكون، وأجَلَى ما يكون، وأصفَى ما يكون، كأنما أَتَتْ ذلك المكانَ - بِقَدَرِ اللهِ ربِّ العالمينَ - نفحةٌ من جناتِ عدنٍ, بنسيمٍ وهواءٍ وخضرةٍ واخضرارٍ، ثمَّ بِخُلُوٍّ مِنْ كُلِّ ما يُنَغِّصُ.
وشيءٌ آخر: أنَّ المرأةَ كانتْ تأخذُ مِكْتَلًا أو زِنْبِيلًا على رأسِهَا مما تُجْنَى فيه الثمارُ، ثمَّ تسيرُ بهذا المِكْتَلِ على رأسِهَا تحتَ الأشجارِ لا تُكَلِّفُ نفسَهَا مَؤونةَ قطفٍ ولا بحثٍ على قِطافٍ؛ وإنَّمَا تسيرُ تحتَ الأشجارِ فتتساقطُ الأثمارُ, فإذا خرجتْ مِنْ ذلكَ الوادِي أو خرجتْ مِنْ تلكَ الجنةِ أو مِنْ ذلكَ البستانِ وَجَدَتْ مِكْتَلَهَا قَدْ أَرْبَى وزادَ على مِلْئِهِ بما لا يُوصَفُ ولا يُقَدَّرُ؛ بعطاءٍ مِنْ عندِ اللهِ ربِّ العالمينَ.
﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾، والعبدُ مهما وَصَلَ ومهما أُنْعِمَ عليه لا بدَّ أنْ يَتَلَبَّسَ بالذنبِ؛ فيأتي قولُ اللهِ ربِّ العالمينَ: ﴿وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾، غفورٌ لكم إذا ما وقعتم في المعصيةِ بِغَلَبَةِ نفسٍ، وأُخْذَةِ شبهةٍ وشهوةٍ، ثم عدتم ورجعتم وندِمتم على ما فعلتم، عند ذلك تجدوا ربَّكم غفورًا رحيمًا كما أخبرَ اللهُ ربُّ العالمينَ في محكمِ التنزيلِ.
فماذا صنعَ هؤلاء؟ ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾[سبأ:16-17].
﴿فَأَعْرَضُوا﴾ فانظر ماذا صنعَ ربُّكَ بهم: سَلَّطَ عليهم الجُرُذ، سَلَّطَ اللهُ ربُّ العالمينَ عليهم الفئرانَ؛ فأخذت الفئرانُ تَنْخُبُ في أصلِ هذا السدِّ الترابي، ثم جاءَ السيلُ - ﴿سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ - بما يحملُ مِنْ حجارةٍ, وبما فيه مِنْ قوةٍ واندفاعٍ؛ فأطاحَ وأذهبَ بقيةَ السدِّ مما لم تقوَ عليه الفئرانُ؛ فأغرقَ اللهُ ربُّ العالمينَ عليهم واديَهم، ثمَّ إنَّ الماءَ انحسرَ، ثمَّ إنَّ منسوبَهُ انحدرَ؛ فلم يبلغْ قمةَ جبلٍ ولا سفْحَهُ، وعادت الجنتان كما وصفَ اللهُ ربُّ العالمينَ في التبديلِ.
حتى ما آتاهم ربُّهم - ربُّنا سُبْحَانَهُ - في هذا التبديلِ مِنْ شيءٍ كانوا يتمنونَهُ عندما وقعَ عليهم ما وقعَ قَلَّلَهُ اللهُ ربُّ العالمينَ: ﴿ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾، شجرٌ له شوكٌ وليس له مِنْ ثمرٍ، والأثلُ معروفٌ وهو الطُّرَفَاء، وأما السِّدر فهو شجرُ النَّبْقِ المعروف، وهو أعدلُ وأحلى ما كان عندهم عند التبديلِ.
وانظر إلى النعمةِ التي غُيِّرَت؛ لأنَّهم أعرضوا عن دِينِ اللهِ ربِّ العالمينَ، ولم يشكروا اللهَ ربَّ العالمينَ، ولم يحسنوا أداءَ عبادةِ اللهِ ربِّ العالمينَ كما ينبغي، وكذلك الشأنُ في كلِّ حينٍ وحالٍ.
﴿وَشَيْءٍ﴾ وهكذا بهذا التنكيرِ الذي يفيدُ التقليلَ والتحقيرَ، ﴿وَشَيْءٍ مِّنْ سِدْرٍ﴾ وهذا التبعيضُ الذي يأتي قبلَ قولِهِ ﴿سِدْرٍ﴾، ﴿مِّنْ سِدْرٍ﴾، ﴿وَشَيْءٍ مِّنْ سِدْرٍ﴾، ثم أتى بالتقليلِ؛ فيا لله! من هذا التغيير والتبديل.
وللظالمين أمثالُها - نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ -.
إنَّ أقوامًا يغترونَ بالنعمةِ الظاهرةِ، ويظنونَ أنَّ الحالَ يدومُ مَعَ المعصيةِ، وهذا وهْمٌ وكذبٌ؛ فإنَّ اللهَ ربَّ العالمينَ لا يُحابي أحدًا، واللهُ ربُّ العالمينَ لا يَمُتُّ إليه أحدٌ بنسبٍ ولا قَرَابَةٍ ولا صِهْرٍ - تَعَالَى وَتَنَزَّهُ سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ -.
الكلُّ عبيدٌ على قانونِ العبوديةِ يسيرونَ، فإنْ أتَوا بقانونِهَا ولوازمِهَا وملزوماتِهَا؛ آتاهُمُ اللهُ ربُّ العالمينَ الفضلَ في الدنيا والآخرةِ، وإنْ أعرضوا عن دِينِ اللهِ ربِّ العالمينَ؛ أملى لهم ظاهرًا، حتى إذا أخذهم لم يُفْلِتْهُمْ، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِـمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَـمْ يُفْلِتْهُ» كما صَحَّ عنه صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
بل هو معنى قولِ اللهِ ربِّ العالمينَ: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَـهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾[الأعراف:182-183، القلم:43-44]؛ فاللهُ ربُّ العالمينَ مِنْ قانونِهِ الكوني ومِنْ سُنَنِهِ الكونيةِ العاملةِ في دنيا الناسِ أنك إذا رأيتَ العبدَ يُعْطَى النعمةَ فلا يزيدُ على النعمةِ إلا معصيةً للهِ ربِّ العالمينَ؛ فاعلم أنما هو استدراجٌ مِنَ اللهِ ربِّ العالمينَ، وأنَّ أخْذَهُ آتٍ وشيكٌ لا محالةَ - نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ -.
عبادَ الله! إنَّ اللهَ ربَّ العالمينَ أجرى على فِمِ النبيِّ الكريمِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حديثًا مِنْ أحاديثِهِ العظيمةِ - وكلُّ أحاديثِهِ عظيمةٌ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَخِّصُ لنا ما نحنُ فيه، وهو ما رواه ثَوبانُ، وأخرجَهُ عنه أحمد عن النبيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قالَ: «يُوشِكُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا - وفي روايةٍ: عَلَى قَصْعَتِهَا -» هَلُمُّوا هَلُمُّوا إِلَى هَذَا الطَّعَامِ.
فالأممُ كما يقولُ النبيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: - والحديثُ مِنْ دلائلِ نبوةِ النبيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو لم يكن في هذا الزمانِ مِنْ آيةٍ وعلامةٍ على صدقِ نبوةِ النبيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هذا الحديث لكفَى وشَفَى، وقادَ قلوبَ أقوامٍ بِأَزِمَّتِهَا إلى سواءِ الإيمانِ, وإلى سواءِ الصراطِ المستقيمِ. يقولُ النبيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ منذُ عقودٍ متطاولاتٍ، ويأتي بيانُهُ الكريمُ مُتَحَدِّرًا في ظلالٍ وندى يطرقُ سمعَ الزمانِ لِتَصْغَى إليه أفئدةٌ مؤمنةٌ باللهِ ورسولِهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُوشِكُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا -أو: عَلَى قَصْعَتِهَا-».
أَكَلَةٌ وضعوا قصعةً بطعامٍ بَيْنَ أيديهم يدعو بعضُهم بعضًا: هَلُمَّ هَلُمَّ إلى الطعامِ الهنيء.. والناسُ يأتونَ إلى هذا الأكلِ الذي يُساغُ أو لا يُساغُ.
والرسولُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي لنا بالمثلِ المحسوسِ: الأممُ ستتداعى عليكم - يا أمَّةَ محمدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! - كما تتداعى الأكلةُ إلى قصعتِهَا؛ فتصيرونَ فريسةً - كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فريسةً لأكلةٍ يتداعونَ، يدعو بعضُهم بعضًا، لا يكفي أن يُلِمَّ أحدُهُم بمائدتِهِ فيأكلَ منها ما يشاء مكتفيًا بما يأكلُ من هذا الزادِ سواءٌ كان حلالًا أم كان حرامًا؛ وإنما يدعو بعضهم بعضًا: هلمَّ هلمَّ إلى هذا الطعامِ.
فتُوشِكُ الأممُ أنْ تتداعى على أمةِ محمدٍ فريسة صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، كما وصفَ النبيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
فقالَ قائلٌ: «أَوَ مِنْ قلةٍ نحنُ يومئذٍ - يا رسولَ اللهِ -؟ فقال: لَا؛ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ»، والغثاءُ: هو ما يحملُهُ الماءُ إذا ما جَرَى مما يجرِفُهُ مما لا قيمةَ له مِنْ زَبَدِ الماءِ المتطايرِ، ومِنْ قَشِّ الأرضِ وحصَاهَا الذي يمكنُ أنْ يسبحَ هكذا صافيًا متأرجحًا مَعَ نغماتِ ماءٍ منسابٍ، فهذا هو الغثاءُ، بل إنَّ الغثاءَ يحملُ فيما يحملُ جِيَفَ حيوانات نَفَقَتْ ورممَ وجثثَ قططٍ وكلابٍ أُزْهِقَتْ أرواحُهَا، كلُّ ذلك يُحْمَلُ غثاءً يحملُهُ السيلُ.
«أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ الْـمَهَابَةَ مِنْكُمْ مِنْ قُلُوبِ أَعْدَائِكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ. قيل: وما الوهَنُ - يا رسول الله -؟ قال: كَرَاهَةُ الْـمَوْتِ، وَحُبُّ الدُّنْيَا»، أو قال: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْـمَوْتِ».
والحديثُ كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطَبَّقٌ على الأمةِ كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ؛ فصلى اللهُ وسلمَ على مَنْ أرسلَهُ اللهُ ربُّ العالمينَ بجوامعِ الكَلِمِ.
يقولُ لنا النبيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ» وكأنَّهُ مَثَلٌ مضروبٌ لكلِّ معاملةٍ رِبَوَيَّةٍ فيما يأخذُ به الناسُ في أصنافِ المعاملاتِ.. «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَأَخْذَتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكْتُمُ الْـجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ؛ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
وصَدَقَ النبيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كلِّ ما قال، الأمرُ كما وصفَ المختارُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وما مِنْ سبيلٍ إلى رفعِ الذُّلِ عن الأمةِ إلا بالعودةِ إلى دِينِ اللهِ ربِّ العالمينَ.
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّـهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾[الحج:41].
وانظر إلى هذا القانونِ العظيمِ فيما يأتي مِنْ عندِ اللهِ ربِّ العالمينَ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ﴾.
انظر إلى المؤكداتِ الظاهرةِ والباطنةِ؛ بالقَسَمِ المضمرِ والإتيانِ بواوِهِ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ﴾.
ثمَّ بإدخالِ اللامِ المؤكِّدةِ، ثم بالنونِ المشدَّدَةِ المُثَقَّلَةِ التي تأتي لتوكيدِ الأمرِ وتأكيدِهِ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ﴾.
ثمَّ انظر إلى التوكيدِ المعنويِّ في قولِ اللهِ ربِّ العالمينَ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾؛ فهذا مؤكِّدٌ معنوي: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، ما دامَ اللهُ ربُّ العالمينَ هو القويُّ العزيزُ فلا بدَّ أنْ ينصرَ اللهُ ربُّ العالمينَ مَنْ ينصرُهُ لا محالةَ.
ثم انظر إلى قولِ ربِّك: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ﴾.
لم يقل: الذين إنْ مكنَّاهُم في الأرضِ أقاموا مسارحَ الفنِ, ودورَ البطالةِ, ومشاربَ الخمورِ!!
لم يقل: الذين إنْ مكنَّاهُم في الأرضِ عاثوا فيها فسادًا!!
وإنما شَخَّصَ ربُّكَ ووصفَ مع التشخيصِ دواءَ الداءِ: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّـهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾[الحج:41].
وانظر إلى هذا التذييلِ في قولِ ربِّك تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَلِلَّـهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾؛ لأنَّهُ ربَّما قال إنسانٌ: كيف بنا ونحن فيما نحن فيه مِنْ ضعفٍ ومِنْ قِلَّةٍ ومِنْ فقرِ ذاتِ يدٍ أنْ نقاومَ أممَ الأرضِ ممن أوتوا بسطةً في العلمِ والجسمِ؟
فتحًا عليهم، لا فتحًا بهم، ولا فتحًا لهم؛ وإنما فتحًا عليهم، حتى إذا ما استتمَّ لهُمُ الأمرُ ظاهرًا أخذَهُمُ اللهُ ربُّ العالمينَ أخذَ عزيزٍ مقتدرٍ.
وللظالمين أمثالُها.
ربما أَتَى هذا الخاطرُ في خاطرِ إنسانٍ يسبحُ فيه ويجول؛ فيأتي التذييلُ في الآيةِ العظيمةِ: ﴿وَلِلَّـهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾؛ لأنَّ الأمرَ كلَّهُ للهِ ربِّ العالمينَ، ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾[المدّثر : 31].
فما على الناسِ إلا أنْ يتوبوا للهِ ربِّ العالمينَ، وإلا؛ فالجميعُ في سفينةٍ واحدةٍ، وويلٌ لمَنْ أرادَ أنْ يَخْرِقَ السفينةَ ليُغْرِقَ أهلَهَا - ربَّنَا لا تؤاخذْنَا بما فعلَ السفهاءُ منَّا -.
على المستوى القليلِ اليسيرِ تجدُ الرَّجُلَ يُكَلِّفُ نفسَهُ العناءَ لكي يشهدَ جُمُعَةً مِنَ الْـجُمَعِ؛ فيجلسُ في الحرِّ، ويجلسُ في الزحامِ، يجلسُ متضايقًا مِنْ مرضٍ ربما أَلَمَّ به أو لم يُلِمَّ، ثم لا يخرجُ مِنَ الجمعةِ بشيءٍ!!
إمَّا أنْ يضحكَ يمينًا أو يسارًا!! وإمَّا أنْ يعبثَ مع هذا أو يكلمَ ذاك!!
ويقولُ النبيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبَكِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ - يخطب على المنبر -: أَنْصِتْ؛ فَقَدْ لَغْوَتَ، وَمَنْ لَغَا فَلَا جُمُعَةَ لَهُ»، بل يقولُ أبعدَ من هذا: «وَمَنْ مَسَّ الْـحَصَى فَقَدْ لَغَا».
(فَشَلٌ) على المستوى اليسيرِ، و(فَشَلٌ) على المستوى الكبيرِ؛ حتى تُسَلَّطَ على الأمَّةِ عصابَةٌ هي شرذمةٌ قليلةٌ حقيرةٌ، هي أحقرُ مَنْ في الأرضِ؛ بما قدمتْ الأيدي، وبما اجترحتْ الضمائرُ، وبما اعْتَمَلَ مِنْ سوءٍ في النِّيَّاتِ.
توبوا للهِ وأحْدِثُوا للهِ توبةً، وإلا؛ فإنَّ الكلَّ في سفينةٍ واحدةٍ، وسيغرقُ الجَمْعُ كُلُّهُ لا محالةَ إنْ لم يتدارك اللهُ ربُّ العالمينَ الْـجَمْعَ برحمته؛ فاللهمَّ! تداركنا جميعًا برحمتِكَ، إنَّكَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولَكُم.
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له هو يتولَّى الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
أما بعدُ - عبادَ اللهِ! -:
فإنَّهُ لا بُدَّ مِنَ العودةِ إلى اللهِ ربِّ العالمينَ، وإنْ لمْ يعدْ الناسُ إلى ربِّ الناسِ في هذه الأمةِ المرحومةِ؛ سامَهُمُ اللهُ ربُّ العالمينَ سوءَ العذابِ حتى يرجعوا إلى دِينِ اللهِ ربِّ العالمينَ؛ ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾[محمد:38]، ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ﴾[الزمر:7].
(غثاءٌ).. ما يفعلُ ربُّكَ بالغُثَاءِ؟!
إنَّ اللهَ لا يحبُّ إلَّا الرجال؛ ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ﴾[النور:36-37]، لم يقل: غُثاءٌ، ولم يقل: عِيالٌ؛ وإنَّمَا قالَ: رجالٌ.
﴿مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ﴾[الأحزاب:23]، لم يقلْ: ذكورٌ - أيضًا -؛ وإنَّمَا قالَ: رجالٌ، بِمُقَوِّمَاتِ الرُّجُولَةِ.
اللهُ ربُّ العالمينَ ينصرُ بمَنْ يشاءُ بما يشاءُ وقت ما يشاءُ وكيف ما يشاءُ.
في مسندِ أحمد بكلامٍ يُرْفَعُ إلى موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ عن بعضِ التابعينَ، قَالَ موسى لربِّهِ: يا ربِّ، أنتَ في السماءِ ونحنُ في الأرضِ؛ فكيف لنا أنْ نعرفَ غضبَكَ مِنْ رِضَاكَ؟ فأوحى اللهُ إليه: يا موسى، إذا استعملتُ عليكم خيارَكُم فهذا علامَةُ رضائِي عنكم، وإذا استعملتُ عليكم شِرَارَكُم فهذا علامةُ سُخْطِي عليكم.
النبيَّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لم يُحَابِهِ ربُّهُ ولا أصحابَهُ، وانكسروا في أُحُدٍ انكسارًا ظاهرًا؛ لأنَّهم خالفوا أمرَ النبيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والنبيُّ وَسَطَهُم، بل انكسرت رَبَاعِيَتُهُ - وهي سِنٌ مِنْ أسنانِ النبيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجُرِحَ شِقُّهُ - أي: جنبُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودخلتْ حَلْقَةٌ مِنَ الْـمِغْفَرِ - أي: مِنَ الْـخَوْذَةِ - في وَجْنَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، ولم يداوَ الجُرْحُ إلا بقطعةٍ من حصيرٍ أُحْرِقَتْ، أتتْ بها فاطمةُ فأحرقتْهَا، ثم جعلتْ رمادَهَا في جُرْحِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
خَالَفُوا أمرَ اللهِ، وعَصَوا أمرَ رسولِ اللهِ؛ فأذاقَهُمُ اللهُ ربُّ العالمينَ ما أذاقَهُم؛ لا يُحَابِي ربُّكَ أحدًا.
هذه الأمةُ المرحومةُ يُسَلِّطُ اللهُ ربُّ العالمينَ عليها اليومَ شرذمةً قليلةً حقيرةً مِنْ أحقرِ أهلِ الأرضِ، لا وزنَ لهم ولا قيمةَ ولا خطرَ، إلا في الكيدِ والدَّسِ والإيضاعِ بَيْنَ المؤمنينَ, وأمَّا لو كان المسلمونَ على قلبِ رجلٍ واحدٍ، واتحدوا - مع حسابِ فروقِ التوقيتِ في كلِّ بلدٍ - أنْ يقولوا في وقتٍ واحدٍ في ثانيةٍ واحدةٍ: (الله أكبر)؛ لانهارت على رؤوسِهِم.
ولكنَّ القلوبَ تفرقتْ، والهممَ خارتْ، والعزائمَ قد فُلَّتْ؛ وإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون.
وكلٌّ يبحثُ - كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن دنياه، وأمَّا البذلُ لدِينِ اللهِ فأمرٌ مخفيٌّ، بل موؤودٌ، بل معدومٌ - نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ -.
أنْ يرسُمُوا محمدًا صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في صورةٍ لا تليق - والقرآنَ كذلك -، فإنَّ هذا ليس هو أولَ ما أتَوْا به من مثلِ ذلك؛ لقد قالوا في مريمَ، وقالوا في المسيحِ ما قالوا، بل لقد قالوا في ربِّ العزةِ - سُبْحَانَهُ - ما قالوا.
ومَنْ نَظَرَ في العهدِ القديمِ - وهو كتابُهُمُ المُقَدَّسُ بزعمِهِم! - عَلِمَ عِلْمَ ما أقولُ؛ إنَّهم لَيَصِفُونَ ربَّهُم - لا يصفونَ اللهَ، تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الظالمونَ؛ بل هو معبودُهُم هم – (يَهْوَه) ربُّ الجنود، ربٌّ متعطشٌ للدماءِ، ربٌّ كالحُ الوجْهِ، عبوسُ المنطقِ، لا يأتي منه خيرٌ بحالٍ، يتوعدُ وينقمُ، ويأتي بالرعدِ، ويأتي بكلِّ ما يمكنُ أنْ لا يكونَ فيه رحمةٌ بحالٍ - وليسَ كذلك اللهُ ربُّ العالمينَ، تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الظالمونَ عُلُوًّا كبيرًا -.
أنْ يأتي آتيهم بمثلِ ما أَتَى به أَمْرٌ لا قيمةَ له ولا خَطَرَ:
وما كلامُ الأنامِ في الشمسِ إلا أنها الشمسُ ليسَ فيها كلامُ
وَلَوْ أَنَّ كُلَّ كَلْبٍ عَوَى أَلْقَمْتَهُ حَجَرًا قَدْ أَصْبَحَ الصَّخْرُ مِثْقَالًا بِدِينَارِ
ولكنَّ الشأنَ - كلَّ الشأنِ - في المسلمينَ؛ أنتم أمةٌ غيرُ منتجةٍ، كُلُّ قطاعاتِكُم مستهلِكة:
قِطَاعُ التعليمِ يستهلكُ لا ينتجُ، وقطاعُ الصحةِ يستهلكُ لا ينتجُ، وقطاعُ الحُكْمِ المحلي يستهلكُ لا ينتجُ، كُلُّ قطاعاتِ هذا البلد تستهلكُ ولا تنتجُ.
وما مِنْ أحدٍ يريدُ أنْ ينتجَ شيئًا، ما مِنْ أحدٍ يريدُ أن يستخرجَ مِنْ باطنِ الأرضِ شيئًا، حتى الرَّجُلِ الذي كان قديمًا يَفْلَحُ الأرضَ ويدأبُ على إخراجِ نعمةِ اللهِ ربِّ العالمينَ منها أصبحَ اليومَ يصبحُ في جملةِ أيامِهِ صريعَ سهرِهِ أمامَ ذلك الجهازِ المشؤومِ يُفسدُ أخلاقَهُ, ويحيدُ به عن نهجِ اللهِ ربِّ العالمينَ المستقيمِ.
الشأنُ فيكم أنتم؛ ليس الشأنُ فيهم هم، ليس الشأنُ شأنَهُم؛ وإنما الشأنُ فيكم أنتم، وليسَ معالجةُ الأمرِ تكونُ بإحداثِ مظاهرةٍ، ولا بثورةٍ مؤقتةٍ؛ فكلُّ هذا باطلٌ مِنَ الباطلِ لا يأتي بشيءٍ؛ وإنما هو نمطُ حياةٍ يتغيرُ على نهجِ النبيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابًا وسُنةً مِنْ غيرِ ما إفراطٍ ولا تفريطٍ، مِنْ غيرِ ما غلوٍّ ولا تقصيرٍ؛ بل بالنهجِ الأوسطِ، بِوَسَطِيَّةِ النبيِّ محمدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بوسطيةِ الإسلامِ، بعدمِ الأخذِ بالشغبِ، ولا بإحداثِ الهرجِ، ولا بالأخذِ بالفتنِ؛ بل بالإقبالِ على أنْ تكونَ منتجًا بحقٍّ.