آثار تتبع الرخص
ومن آثار هذا المسلك الخطير من تتبع الرخص وأخذها الاستهانة بالدين، إذ يصير الدين بهذا الاعتبار كما ذكر الشاطبي في الموافقات، وقد تكلم بكلام جيد في هذا الموضوع، قال: يصير الدين سيالاً لا ينضبط ما دام أنه لم يبق شيء يمكن التحاكم والرجوع إليه، كما أن من آثاره السيئة الإعراض عن الدليل الشرعي من الكتاب والسنة.
ونحن نقول: نطالب الناس بالرجوع إلى الكتاب والسنة، لا إلى قول فلان أو علان لأن المطلوب هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، وهذا أمر يجب أن يقبل به كل مسلم قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].
مجاراة الظروف والخضوع لضغوط الواقع
أما الصورة السادسة والأخيرة: فهي مجاراة الظروف والعوائد الواقعة، والأوضاع المستقرة في مجتمعات الناس، وتطويع النصوص والأحكام الشرعية لها، مع مخالفة هذه الأشياء لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن للواقع ضغطاً على كثير من النفوس، فإن الإنسان بطبعه يحب أن يوافق من حوله، ويحب أن يقرهم على ما هم عليه، ويكره أن يواجههم بشيء يكرهونه، فلذلك إذا انتشر عند الناس أمر وشاع وذاع، واستقر في حياتهم، وأصبح جزءاً من واقعهم، قد يصعب على الإنسان أن يقول لهم هذا حرام، أو هذا لا يجوز، وبالتالي يذهب ليبحث عن مسوغ في تحليل هذا الحرام أو تجويزه، حتى يسلم من هذا الحرج الذي يجده في نفسه، أو الذي يظن أنه يحدثه للناس.
التيسير في الدين
أحب أن أؤكد على قضية التيسير في الدين والرخصة في الإسلام، وأن الإسلام فيه تيسير عظيم، ومن التيسير أن الله تعالى ما أغلق باباً إلى الحرام إلا وفتح باباً إلى الحلال، وكان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه إذا سئل عن مسألة يبين الحرام فيها ويبين الحلال أحياناً، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه، لما جاءوا إليه بتمر طيب فقال: {من أين هذا التمر؟ قال الصحابي رضي الله عنه: إنا نشتري الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، -أي أن هذا تمر طيب نأخذ منه صاعاً ونعطيه صاعين أو ثلاثة آصع من تمر رديء، وهذا رباً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عين الربا} ومعنى عين الربا أي: هذا لا يجوز لأن التمر لا بد أن يكون متساوياً، صاعاً بصاع، ولو كان هذا تمر مثلاً سكري أو بلحي، وذاك تمر من نوع آخر رديء، لابد أن يكون متساوياً فقال: وهناك خطر كبير جداً من مثل هذا المسلك الذي يتشبث به البعض وهو يتمثل فيما يأتي: {عين الربا عين الربا لا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً } يعني التمر الرديء بعه بالدراهم، ثم هذه الدراهم التي بعت بها، اشتر بها ما تشاء من التمر الطيب، فبين له المخرج أو البديل، كما يقولون بلغة العصر. ولا شك أننا بحاجة إلى علماء في الاقتصاد، وفي الإدارة، والاجتماع، وفي علم النفس، والسياسة، وإلى علماء في كل مجالات الحياة، يجمعون بين العلم بهذه التخصصات وبين أن يكون عندهم ثراء في العلوم الشرعية، بحيث يستطيعون أن يجعلوا هذه القضايا تحت المجهر الشرعي، ويصلوا فيها إلى نتيجة صحيحة، أو أن العالم الشرعي يستعين بمثل هؤلاء الخبراء في مجال تخصصاتهم، حتى يستطيع أن يتصور الأمور تصوراً صحيحاً، وأن يصل فيها إلى النتائج، وهناك -بحمد الله- مجامع فقهية وعلمية قد قطعت شوطاً لا بأس به في ذلك، مثلاً هيئة كبار العلماء في المملكة، والمجمع الفقهي في مكة وبعض المؤسسات خارج المملكة، قد يكون لها دور في ذلك وهي بداية.
على كل حال نرجو أن تتواصل حتى تحل مشكلات الأمة، على ضوء كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ترك الشدة على الناس أن لا نلزمهم أيضاً بمذهب معين، ما دام أن الدليل مع غيره، فلا نقول: اترك المذهب إلى مذهب آخر، لأنه أسهل وأيسر، وجدت مرة مجموعة من الناس عندهم وقف، هذا الوقف عبارة عن نقود، فمثلاً عندهم مائة ألف ريال، فسألتهم وقلت لهم: على أي أساس جعلتم المال وقفاً؟ قالوا: بحثنا فوجدنا في مذهب الإمام أحمد أنه جوَّز إيقاف المال فأوقفناه، فهل بحثتم في الآراء الأخرى، وبحثتم في الأدلة، وتوصلتم إلى قناعة أن هذا هو الحق؟ فلا بأس، أما إذا كان بمجرد ما علمت أنه يوجد عالم أفتى بهذا أخذت به، فهذا لا يصلح أبداً، فالمهم أن الدين فيه تيسير، وسماحة، وفيه فرص عظيمة جداً.
وهذا جانب من الرخص.
رخص الفقهاء
وهناك نوع آخر من الرخص وهي رخص الفقهاء، أي لكل مذهب تسهيل في مسائل، فمثلاً تجد في مذهب هذا حلال وهذا حرام، إذاً الحلال يعتبرونه رخصة، لكن في المذهب نفسه ممكن أن يحرم مسألة أخرى يبيحها المذهب الأول، وهكذا تجد بعض الناس يأتي إلى المذهب يأخذ ما فيه من الرخص، فكل ما فيه من تحليل في هذا المذهب يأخذه، وكل ما فيه من تحريم يتركه، ثم يأتي إلى المذهب الآخر فيأخذ كل ما فيه من تحليل، ويترك ما فيه من تحريم، وهذه أيضا مسألة خطيرة، فهي عبارة عن تلفيق مجموعة من الآراء بغير ضابط، إلا بمجرد أنها رخص، ليس فيها مشقة على النفس، ولا تكليف لكنها تناسب المزاج، وخاصة مزاج الكسالى والقاعدين، والذين لا يحبون أن يعملوا، ولا أن يخضعوا حياتهم لحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يصل الحال ببعض هؤلاء الذين لا يراقبون الله تعالى ولا يخافونه، أن يصنفوا مصنفات يجمعون فيها رخص بعض العلماء، وأن فلاناً رخص في كذا، وفلاناً رخص في كذا، فيجمعون في هذا كتباً وينشرونها عند العامة، حتى يتساهلوا في هذه الأمور، ويعجبني في هذا القصة التي ذكرها البيهقي وغيره. قال إسماعيل القاضي: دخلت على المعتضد وهو من أمراء بني العباس، فرفع إلي كتاباً لأنظر فيه وقد جمع فيه رخص بعض العلماء من غير تثبت ولا نظر ولا مقارنة ولا ترجيح، قال: فنظرت في هذا الكتاب ثم قلت: مصنف هذا الكتاب زنديق -هكذا يقول للخليفة- فسأله الخليفة لماذا؟ قال له: هذه الأحاديث التي ذكر لم تصح على ما رويت، فمن أفتى مثلاً بالمتعة لم يفت بإباحة الغناء والمسكر، وصاحب الكتاب قال لك: الغناء حلال، وأهل المدينة أباحوه، والمسكر حلال لأن أهل العراق أباحوه، والمتعة حلال لأن أهل مكة أباحوه، المتعة بالنساء وهي معروفة. وقال له: الذي أباح مثلاً النبيذ ما أباح الغناء، والذي أباح الغناء ما أباح النبيذ، والذي أباح المتعة ما أباح هذين، فكيف يأتي بترخيصات لهؤلاء جميعاً ويجمعها، وبالمناسبة المعتضد أمر بإحراق الكتاب هذا، ما دام أن مؤلفه زنديق، وهذا شأنه يحرق، ويقول بعضهم: ما أحوجنا إلى نار المعتضد لتحرق كتباً من هذا القبيل! وأرى أن هذا ليس بلازم، فحسبنا عقول هذه الأمة وأفهامها ومداركها ووعيها، فإنها هي النار التي سوف تحرق كل باطل ولن يصفو إلا الكلام الصحيح بإذن الله تعالى.
تتبع الرخص
صورة خامسة من صور القول على الله بغير علم تتبع الرخص: ولا أعني الرخص الشرعية، مثل الفطر للمسافر أو للمريض، أو القصر وما أشبه ذلك، فهذه يحب الله تعالى أن يأتيها الإنسان، كما في الحديث الصحيح: {إن الله يحب أن تؤتى رخصه} وقال الله عز وجل: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] وقال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {يسروا ولا تعسروا} فالدين هو دين اليسر وقال: {بعثت بالحنيفية السمحة}وهذا الدين فيه من الثراء والمرونة ما يجعله ملائماً مناسباً لكل وقت وكل بيئة، وكل وضع، وهذا ليس معناه أنه يخضع لها، لكنه يمكن أن يطبق في كل الظروف والأحوال، وفي الدين من السماحة والتيسير ما يعرفه المختصون، وليس معنى ذلك أنه كلما كان العالم أكثر منعاً وتحريماً كلما كان أوسع علماً، لا؛ بل العكس، فإن العالم الحقيقي أقرب إلى التيسير من غيره.
وكما قال سفيان الثوري رحمه الله يقول: إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة، فبين شيئاً فيه ترخص، وتسامح، وتيسير، وتسهيل على الناس، لكن ليس ذلك عن أي إنسان، إنما عن ثقة، عن إنسان يعرف أين يضع الرخصة وأين يضع العزيمة، وأين يضع اليسر والشدة، قال: إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة، أما التشديد فيعلمه كل أحد، يقول مثلاً في التشديد: كل شيء هذا حرام هذا حرام هذا لا يجوز، فهذا كل إنسان قد يحسنه.
يقول سفيان: عن العالم أنه الذي يميز ويعرف، خاصة في أشياء كثيرة جديدة جدت في واقع الناس وفي حياتهم، وأصبح كثير من الناس يتساءلون عن حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ليس الصواب ولا المنهج السليم أنا نأتي ونقول كلما جاء شيء جديد وقفنا ضده، وقلنا: هذا لا يجوز وهذا حرام وهذا كذا وهذا كذا، بل والحمد لله قد وهب الله علماءنا في هذه البلاد قدراً طيباً حتى إن أحدهم لينظر في هذه الأشياء ويميز، ما يقبل منها فيقبله، وما يرد منها فيرده، وفق أصول وضوابط لا تتغير ولا تختلف.
إذاً الدين يسر وتيسير، وسماحة وتسهيل، وهناك من الأشياء في هذا الباب أمر يطول الحديث يطول عنه الآن، وقد سبق أن تحدثت عن هذا في أكثر من محاضرة، أو كتيب متداول في أيدي الناس.
خطر اتخاذ الخلاف حجة
وهناك خطر كبير جداً من مثل هذا المسلك الذي يتشبث به البعض وهو يتمثل فيما يأتي: المرحلة الأولى: اتخاذ الخلاف مخرجاً للتحلل من قيود الشريعة، فكلما قلنا شيئاً قالوا: هذا فيه خلاف.
وإذا رجع المرء إلىالكتب القديمة فما من مسألة عالباً إلا وسيجد فيها خلافاً شاذاً، أوخلافاً ضعيفاً، وسيجد فيها أقوالاً مهجورة ولو أردت أن أذكر لكم بعض الأقوال المهجورة، التي ذكرها بعض الفقهاء لتألمتم، حتى إني أذكر على سبيل المثال، أني قرأت يوماً من الأيام أن أحد من المتقدمين يقول: إنه إذا كان على أحد ديون كثيرة لإنسان، وما استطاع أن يسدده، فأراد أن يقدم نفسه عبداً رقيقاً لهذا الدائن مقابل الدين جاز له ذلك، أو كلاماً نحو هذا، وهذا لا يقول به أحد! وليس عليه أثارة من علم أو كتاب أو سنة وهذا معارض للأصول الشرعية، لكن وجد إنسان قال به، أو قد لا يكون قال به حقيقةً، لكنه نسب إليه أو فهم عنه خطأ، فلو ذهبنا نأخذ الأقوال الشاذة والضعيفة والمرجوحة فلن ننتهي أبداً، إذاً تحللنا من أحكام الشريعة كلها، ولم ننته من الخلاف حتى الآن.
هذه المرحلة الأولى، أنه لا يلزمنا إلا المجمع عليه.
وما لم يجمع عليه دعونا نأخذ منه ما نشاء.
خطورة قول حتى الإجماع فيه خلاف
المرحلة الثانية: وهي أن هؤلاء الذين كانوا يقولون: لا تحاكمونا إلا إلى المجمع عليه، سينتقلون بنا بعدها ويقولون لنا حتى الإجماع نفسه فيه خلاف، فهناك من العلماء من لا يقبل الإجماع، كما هو مذهب بعض الظاهرية، حتى بعض المتأخرين من الأصوليين قد لا يقولون بالإجماع.
فنحن معذورون أن نأخذ ما نرى، خاصةً إذا تصورنا أن من الناس من لا يفرقون بين عالم قديم وعالم معاصر، فلو جاء عالم معاصر برأي ينقض إجماعاً قديماً، اعتبروا هذا العالم حجة في نقض الإجماع، ولذلك يحتج بعضهم بعلماء متأخرين، كالشيخ محمد رشيد رضا، وهم علماء أفذاذ، ولهم منـزلة، ولهم آراء ناضجة، لكن لهم آراء -أيضاً- لا يوافقون عليها.
والمقصود ليس تقييم هؤلاء العلماء، لكن المقصود أن من الناس من لا يفرق بين عالم متقدم في وقت انعقد فيه الإجماع، أو كاد أن ينعقد، وبين عالم متأخر قد يأتي بقول ينقض إجماعاً سبقه، دون أن يكون هذا العالم اطلع على الإجماع، ولعلي أضرب لكم مثلاً، واعتذر عن هذا المثل، لأنه ليس المقصود المثال، لكنه وقع لي فأحببت أن أذكره، لأن قضيتنا أكبر من مجرد قضايا جزئية، كما يشير بعضهم، ويذكرون مثلاً قضية حلق اللحية أو الموسيقى، التصوير، أو وسائل الترفيه، أو غيرها من المسائل.
نقول: هذه كلها ليست هينة، لأن المراد كما قال الإمام مالك: ليس في الإسلام والدين والعلم شيء سهل، أو شيء هين إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] وحتى القضايا هذه لا نحكم فيها بالأمزجة أبداً، إنما نحكم فيها بما نعتقد أنه حكم الله ورسوله.
لكن مقصودي بالمثال أن أوضح كيف يفعل بعض هؤلاء في كتاب اسمه فتح المنعم، تكلم فيه عن أشياء في صحيح مسلم وعن موضوع حلق اللحية كمثال، يقول هذا المؤلف وهو معاصر: لما عمت البلوى بحلقها في البلاد الشرقية حتى أن كثيراً من أهل الديانة قلد فيه غيره، خوفاً من ضحك العامة عليه، لأن العامة في بعض البلاد قد يسخرون منه لأنه ملتحٍ، يقول: لاعتياد العامة على حلقها في عرفهم بحثت غاية البحث عن أصلٍ أخرج عليه جواز حلق اللحية، حتى يكون لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرم باتفاق.
انظر كيف التناقض يقول: حلق اللحية محرم باتفاق العلماء، ومع ذلك يقول: ذهبت أبحث عن أصل أخرج عليه جواز حلقها حتى أعطي الذين استحوا من العامة وحلقوا لحاهم، وثيقة تبيح لهم فعل هذا العمل.
فإذا كانت المسائل التي فيها خلاف، لا ننكر فيها ولا نتكلم عنها، ثم مسائل الإجماع ذاته فيها خلاف، فلا نتكلم فيها، فلم يبق عندنا إلا مسائل العقيدة، وحتى مسائل العقيدة سيستطيع هؤلاء أن يدخلوا فيها الخلاف مع بعض الفرق الضالة، من المرجئة، والجهمية، والقدرية، والخوارج، والمعتزلة وغيرهم، وبذلك يصبح الدين كله شيئاً عائماً سيالاً غير منضبط، لا تستطيع أن تقف منه على شيء، وقد لا يبقى إلا ما يعبر عنه البعض بأنه روح الدين ولب الدين، وما هو روح الدين؟ وأين وجدت هذه الروح واللب؟ وليت المتحدثين عن هذه المسائل من العلماء! وهيهات للعلماء أن يتحدثوا بمثل هذا الكلام، إذاً لهان الخطب، ولكن كما قيل: فلو أني بليت بها شمي خؤولته بنو عبد المدان لهـان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني وما أعجب شأن هؤلاء الناس! حينما يصل الحال ببعضهم إلى حد فقدان المنطق، وفقدان الموضوعية بصورة لا يستحون فيها من الفضيحة، فإذا قيل لهم رَأْينا في المسألة أنها حرام، قالوا: هذا يكفر الناس، سبحان الله! وقالوا: أنت تكفر الناس، أنت تعد هذه من أركان الإسلام، فتعتبر أن من يخالفك قد خرج عن الملة.
أين وجدتم هذا الكلام؟ ألا تخافون الله عز وجل! ألا تتقون وتستحون! ألا تخشون من فضيحتكم أمام الأمة، أن تنسبوا كلاماً غير صحيح، للذي يقول: إن هذا حرام فهو لا يعتبر أن فاعله أحياناً فاسقاً، فضلاً عن كونه كافراً، لأنه قد يكون ارتكب هذا المحرم بتأويل لمقتضى دليل شرعي فيكون الذي فعله غير آثم أصلاً، فضلاً عن أن يكون كافراً، فما معنى أن يقول: هذا حرام، فيقول: هذا يكفر الناس، أو أنت تعد هذا من أركان الإسلام، أو تعتبر من يخالفك في الرأي وخارجاً من الدين، خارجاً من الملة، أين الحوار الموضوعي؟ وأين المجادلة بالتي هي أحسن؟ وأين المنطقية وأسلوب الحديث في الهواء الطلق الذي نتحدث عنه كثيراً؟! فإذا قلت لهؤلاء: قال الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا لك: أنت أعلم من فلان ومن فلان حين تخالفهم؟ فإذا قلت: قال أهل العلم.
قالوا: أنت من المقلدين الجامدين، تتمسك بهذه الأقوال الجامدة وتحارب من أجلها.
الاعتقاد بأن الخلاف بحد ذاته حجة
الصورة الرابعة: وهي من أخطر الصور وأكثرها انتشاراً في هذا العصر، أن كثيراً من الناس -خاصة غير المتخصصين- يعتقدون أن الاختلاف بحد ذاته حجة، بمعنى أنهم يرون أن مجرد وجود عدة أقوال في مسألة حجة لهم في أنهم يأخذون من هذه المسألة ما شاءوا، فإذا كانت المسألة فيها قولان: قول يقول بالتحريم، وقول يقول بالإباحة، فهموا من ذلك أن المسألة هذه مباحة لأن فيها قولين، فيعتقدون أن الاختلاف ذاته حجة في الشرع.
وقد ابتلي المسلمون بطائفة كثيرة من هؤلاء الذين صوروا أن مجرد الاختلاف في مسألة ما، يبيح للمسلم أن يختار من هذه الأقوال ما يشاء، بالرغبة والمزاج والتشهي، وليس بالدليل الشرعي، فيرون الاختلاف دليلاً على الإباحة، كما ذكر ذلك الخطابي والشاطبي وغيرهم، منكرين على هؤلاء الذين يرون الاختلاف في مسألة دليلاً على الإباحة، ويعتمدون على ذلك في جواز فعل الشيء بأن فيه خلافاً.
الاحتجاج بالخلاف من باب الهوى
هؤلاء لا يعتمدون في الخلاف على البحث عن الدليل الشرعي من آية أو حديث، ولا على تقليد عالم اعتمدوا في تقليده، وإلا لقلنا لهم: أهلاً ومرحباً، فلو أن أحداً قال: إن هذه مسألة فيها خلاف، فأنا لن أقبل كلامك، نقول: من ستقبل؟ قال: أنا سوف أذهب وأبحث المسألة وأستقصيها من الكتب، وأصل إلى نتيجة، نقول: هذا مسلك حميد فلتفعل بشرط ألا تأتي بقول لم يُسْبَقْ إليه، وأن يكون مرادك في قلبك هو الوصول إلى الحق، وليس مجرد التشهي، أو اتباع الهوى، لا بأس بهذا.
وآخر قال: لن أسمع كلام فلان، نقول: من ستسمع؟ قال: أنا واثق بالعالم الفلاني وأقلده في هذه المسألة حتى قبل أن نعرف رأيه، نقول: لا بأس -ما دمت عامياً، لست من أهل البحث ولست طالب علم- أن تقلد عالماً تثق بعلمه وبدينه على أن تقلده في الرخصة والعزيمة، والتيسير والتشديد، فلا حرج في ذلك، لكن كونك تقول: بمجرد أن المسألة فيها أقوال، فأنا مأذون لي شرعاً أنني أختار على مزاجي وحسب رغبتي من هذه الأقوال ما أجد أن نفسي ترتاح إليه؛ فماذا يكون معنى الشرع على هذا الحال بهذه الصورة؟ لأننا نعلم أن الله عز وجل أمرنا عند التنازع بالرجوع إلى الكتاب والسنة، كما قال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59] فإن تنازعتم في شيء يعني من أمور الدين، فردوه إلى الله والرسول، فما كان فيه خلاف فليس الحكم أن آخذ ما أريد، وأنت تأخذ ما تريد، الحكم بيننا هو أن نرد الخلاف إلى الله، أي إلى القرآن، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني الرد إلى شخصه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته.
هذا هو الميزان، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، ومن لم يقبل هذا الميزان فقد بين الله حكمه بقوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر [النساء:59] فهذا هو الميزان، أما من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهذا يختار ما يشاء.
وفي بعض المواضع نفى الله الإيمان عمن لا يقبلون ذلك، كما في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت [النساء:60] وقال في آية أخرى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:48-49] يعني إذا وجد حكماً شرعياً يعجبه أخذ به، وإذا وجد حكماً لا يعجبه رفضه، وقال لك: إن المسألة فيها خلاف، أنتم تتشددون وتحجرون واسعاً، وتضيقون على عباد الله، هذا لا يصلح، ثم أصبح يتكلم عليك في هذا الباب، نقول: نعم فيها خلاف على العين والرأس، ونحن لا نفرض رأياً معيناً أبداً، لكن الشيء الذي نفرضه هو الضابط الذي ينبغي التحاكم إليه، وهو قول الله عز وجل: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:59].
أما التشهي في الشرع فهو لا يجوز، لأن الشرع إنما جاء لإخراج الناس عن شهواتهم النفسية وأمزجتهم الذاتية إلى شريعة الله، كما قال الله عز وجل: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الجاثية:18-19] وقال سبحانه وتعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] فما أنـزل الله شيء وأهواءهم شيء آخر، وأنت مطالب بالحكم بما أنـزل الله، وأهواؤهم تدعها عنك جانباً، ولا تلتفت إليها.
فالعامي أو السائل أو المستفتي إذا جاء للعالم يقول: أفتني في المسألة الفلانية، أو ما حكم الله ورسوله في المسألة الفلانية؟ فهو في الحقيقة يقول له: يا عالم أو يا إمام أو يا مفتي أخرجني من هواي، لأن العامي أصلاً يعرف هواه.
فعندما يسأله ما حكم شرب هذا الكأس؟ هو يعرف أن نفسه تشتهي هذا الأمر أو لا تشتهيه، وهو ما جاء يسأل العالم عن شهوته الذاتية أو عن مزاجه الشخصي، بل جاء يسأل العالم عن حكم رب العالمين، أو حكم سيد المرسلين في هذه المسألة. فمن غير الصحيح أن المفتي أو العالم أو الفقيه سيقول له: المسألة فيها قولان، وأنت اختر من القولين ما شئت، لأن معنى ذلك أنه رده إلى هواه، وهو ما لم يأت ليسألك عن هواه، لأنه يعرف هواه قبل أن يأتيك، إنما يريد حكم الله ورسول.
الخوض في مسائل بحجة أنها سهلة
الصورة الثالثة: من صور القول على الله بغير علم: الخوض في مسائل بحجة أنها يسيرة وسهلة، ولا تحتاج إلى أحد، وما أكثر ما يتسرع الناس في ذلك.
يجلس مجموعة قد يكونون أحياناً من العامة، وأحياناً من المثقفين، لكن ثقافتهم ليست قوية بحيث تؤهلهم إلى الكلام في مسائل شرعية، والوصول إلى نتيجة معينة فيها، والقضية ليست مجرد مدارسة ومباحثة، بل أحياناً يتوصلون إلى آراء وإلى نتائج معينة، ويقول لك: يا أخي! الأمر هذا سهل، ويسير.
ولله در الإمام مالك رضي الله عنه عندما سأله رجل عن مسألة فقال: لا أدري قال له السائل: إنها خفيفة ويسير وسهلة، فغضب الإمام مالك وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله عز وجل: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] فأصل مسألة "حلال وحرام" ليست مسألة سهلة، أنت تعبر عن حكم الشرع، فأنت مترجم لحكم الله ورسوله، وموقع عن رب العالمين، ولست تأتينا بشيء من جيبك الخاص حتى تتساهل في هذا الأمر إلى هذا الحد، أو تفرط فيه بحجة أو بأخرى.
حكم من تكلم بغير علم
أما من تكلم بغير علم فهو آثم حتى لو أصاب فإصابته عن طريق الصدفة والموافقة، وليس بمقتضى الطريقة الشرعية، ولذلك فهو آثم في الحالين كما جاء في الحديث: {من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ ولو أصاب} فإذا صح هذا الحديث فهو يخدم هذا الموضوع الذي نتكلم عنه، وعلى كل حال فلدينا حديث صحيح رواه ابن ماجة والإمام أحمد وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أُفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه}.
فهذا المفتي الذي تكلم بدون علم ولا تثبت ولا دليل شرعي، يحمل وزره ووزر من أضله بغير علم، يقول الله عز وجل: فمن أظلم مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:144] فمن تكلم في شأن دينيٍ بغير علمٍ فهو من أظلم الظالمين، فهو ظالم لنفسه وظالم لغيره، ظالم للأمة، ظالم للمجتمع، وإثمه موقوف عليه، وكذلك إثم من أضلهم بغير علم كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً.
وقال ابن الجوزي رحمه الله ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنـزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنـزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنـزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم.
يقول: وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ أي هو أولى من الطبيب الذي يتكلف الطب وهو لا يعرف ذلك.
وقد تحدث بعض الفقهاء الحنفية عن مفتٍ يسمونه "المفتي الماجن" وقال الإمام أبو حنيفة: هذا المفتي الماجن يجب الحجر عليه..
لأنه متلاعب بفتواه، يفتي وليس أهلاً للفتوى.
وبطبيعة الحال كون الإنسان يبحث في مسألة معينة، كطالب علم، أو إنسان عنده قدرة على الرجوع إلى الكتب، وبحث مسألة واستقصى أدلتها، والأقوال الموجودة فيها، ثم وصل إلى نتيجة، هذا ممكن؛ لأن الاجتهاد -كما يقول أهل العلم- يتجزأ، بمعنى أنه يمكن للإنسان أن يكون مجتهداً في مسألة واحدة بعينها، لأن هذا الاجتهاد هو الآخر له طريقه المعروفة.
شروط الإفتاء عند الإمام أحمد
ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: لا ينبعي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية، فمن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
ثانيها: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، بمعنى أن تكون أخلاقيات هذا المفتي أو هذا المتكلم في الشرعيات تجعله في موضع القدوة والأسوة، وتجعله فعلاً موضع الثقة في التعبير عن معاني الشرع وتوصيلها إلى نفوس الناس. الشرط الثالث: أن يكون قوياً على ما هو فيه، وعلى معرفته، بمعنى أن يكون عنده تمكن من المسائل الشرعية وقدرة على معرفتها والإحاطة بها.
الشرط الرابع: الكفاية وإلا مضغه الناس، ويقصد بالكفاية أن يكون مستغنياً عما في أيدي الناس. الشرط الخامس: معرفة الناس، أي: أن يعرف الناس وحيلهم وألاعيبهم، لئلا يغتر بأقوالهم أو مكرهم أو حيلهم ولذلك كان الأئمة يحتاطون في الفتيا لأنفسهم، ويمنعون غيرهم من الإفتاء بغير علم، حتى قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن شيخه يعني ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه قال: كان شديد الإنكار على هؤلاء، أي الناس الذين يتسرعون في الكلام والفتيا بغير علم، قال: فسمعته يقول يوماً من الأيام، قال لي بعض هؤلاء المتسرعين في الفتيا: أجعلت محتسباً على الفتوى؟! أي: هل أنت مكلف من قبل السلطان بالاحتساب على أهل الفتوى؟ لأنه كما هو موجود الآن، كان كل أهل مهنة لديهم مسئول مراقب من قبل الجهات المختصة فيقولون له: هل أنت مراقب من قبل الجهات المختصة على أهل الفتوى؟ فكان يقول لهم رحمه الله: أيكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب! يقرهم على ذلك فيقول: نعم أنا محتسب أمنع من ليس أهلاً من ذلك.
والغريب أن بعض هؤلاء الناس نسبوا لـابن تيمية رحمه الله أنه يجيز الاجتهاد حتى للعامي! ابن تيمية الذي كان يلاحق المتسللين الذين يتصدرون للفتوى وليسوا من أهلها، ويمنعهم ويُشَهِّر بهم، ينسب إليه بعضهم أنه يجيز الاجتهاد حتى للعامي، كيف يكون هذا؟! وإذا احتججت أو اعترضت على بعض هؤلاء قال لك: يا أخي! لا تحجر واسعاً، أليس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث المتفق عليه عن عمرو بن العاص وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} فيقول: أنا لا أعدم من إما من أجر واحد أو أجرين، فلماذا أنت منـزعج؟ ولماذا أنت منفعل؟ ولماذا تعترض علي في كوني أتكلم وأفتي وأقول بحسب علمي في مسائل الشرع، وأكتب ما تيسر من المباحث المهمة في هذا الباب؟ لماذا تمنعني من ذلك؟! والواقع أن ما في هذا الحديث لن يكون حتى يتوفر فيه شرطان: الشرط الأول: أن يكون أهلاً للاجتهاد، بعلم غزير، وخبرة وتاريخ، ودراسات كافية. الشرط الثاني: أن يبذل وسعه في الاجتهاد في المسألة التي تعرض عليه، فلا يكتفي بكونه مشهوراً مثلاً، أو معروفاً، بل يكون إلى ذلك إذا عرضت عليه مسألة، قلَّب فيها وجوه الرأي، ونظر وتأمل، وإن كانت تحتاج إلى بَحْث بَحَث أو تحتاج إلى سؤال سأل، حتى يستقصي الحق ثم يقول به، فإذا فعل هذا فلا إثم عليه، بل هو مأجور في الحالين، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.
دعوى الاجتهاد
الصورة الثانية: من صور القول على الله تعالى بغير علم هي دعوى الاجتهاد، وذلك أن الأمر لا يقتصر على مجرد الكلام في الشرعيات، بل يتعدى عند بعض الناس إلى أن يدعي أحدهم لنفسه أنه مجتهد، وأنه يملك حق الاجتهاد، وفي الواقع أننا لسنا ممن يغلق باب الاجتهاد، كما يقال: فلان يغلق باب الاجتهاد، لأن هذا يحجر على عقول الناس، لكننا نقول كما قال بعض الكتاب المعاصرين، قال: إن باب الاجتهاد لم يفتح ولكنه كسر كسراً، أي أنه أصبح مكسوراً يدخل فيه كل إنسان من تأهل للاجتهاد ومن لا يتأهل، وتسلل كثيرون ممن ليسوا أهلاً لهذا الأمر، وادعوا أنهم مجتهدون، وأنهم مأجورون معذورون أخطأوا أم أصابوا، لأنهم مجتهدون.
شروط الإفتاء
ولقد اشترط العلماء -رضي الله عنهم- شروطاً للفتوى، فضلاً عن الاجتهاد، لا تتوفر إلا في القليل.
من هذه الشروط مثلاً الإسلام، فالكافر أو المرتد هو فاقد للأهلية، وليس من حقه أن يتكلم في ذلك حتى يسلم إن كان كافراً، أو يعلن توبته إن كان مرتداً على الملأ، فحينئذٍ يسلك الطريق، ويبدأ يتعلم حتى يصبح أهلاً لما وضعه الله تعالى له.
الشرط الثاني: هو التكليف، فإن غير المكلف الذي لم يصل إلى درجة أن يكون مكلفاً شرعياً لا يفتي أيضاً. الشرط الثالث: هو العدالة، فالفاسق سواء أكان فسقه بقول أم كان فسقه بفعل أم كان فسقه باعتقاد، هذا لا تقبل فتواه، ولا يسمع قوله، وهذه الشروط الثلاثة التي هي الإسلام والتكليف والعدالة مجمعٌ عليها عند العلماء، أنه لا بد من توفرها في المفتي، أو في المتكلم في أمور الشرع.
وهناك شروط أخرى اختلفوا فيها منها الاجتهاد فبعضهم يقول: لا يقبل قول مفتٍ إلا أن يكون مجتهداً، ومعنى كونه مجتهداً أن يكون عالماً بالكتاب والسنة، عالماً بلغة العرب، عارفاً بأصول الفقه، عارفاً بالإجماع؛ لئلا يأتي بقول يناقض الإجماع وهو لا يدري، وكذلك أن يكون عارفاً باختلاف العلماء، حتى يستطيع أن يميز الاختلاف، ويأخذ بالقول الراجح ويترك القول المرجوح.
كما اشترط آخرون جودة القريحة، واليقظة، وكثرة الإصابة، والذكاء، وهو ما يعبر عنه الإمام الجويني وغيره، بأن يكون المفتي فقيه النفس، أي يكون عنده يقظة وانتباه وذكاء، بحيث يعرف حيل الناس، ويعرف ألاعيبهم ويعرف طرائقهم، ويستطيع أن يتوصل إلى الحق بأسلوب مناسب.
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
إن الله تعالى يقول في موضعين من كتابه: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] وأهل الذكر هم أهل العلم بالشيء، فالشرع يجعل التعرف على المسألة، من قبل أهل الاختصاص فيها، فإن كانت المسألة طبية فتسأل الأطباء فيها، وإن كانت المسألة لغوية تسأل فيها أهل اللغة، وإن كانت المسألة شرعية تسأل فيها أهل الشريعة، فهؤلاء هم أهل الذكر الذين قال الله تعالى عنهم: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل:43] وليس غيرهم، فلا تسأل الطبيب عن مسألة شرعية، كما لا تسأل الفقيه عن مسألة طبية بحتة، ولا تسأل الأديب أو الشاعر أو الصحفي عن ما ليس من اختصاصه من الشرعيات، مع احترامنا للأديب والشاعر والصحفي، وتقديرنا للدور الذي يؤديه في خدمة المجتمع وحماية الأخلاق وتأديب النفوس، متى كان على مستوى هذه الوظيفة التي يقوم بها والحمد لله والذين هم على مستوى هذه الوظيفة كثير، وفيهم خير كثير.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عاتب أصحابه في حديث صاحب الشجة، وهو رجل من الصحابة ذهب في غزوة فأصيب بشجة في رأسه، فأصابته جنابة، وأراد أن يسأل أصحابه ماذا يفعل، فأمروه بأن يغتسل، كما جاء في حديث من طرق، وقد حسنه بعض أهل العلم، والحديث في أبي داود وغيره، فاغتسل فمات من أثر الجرح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال} فالعاجز العيي الذي ليس عنده علم شفاؤه أن يسأل، فكان حق هؤلاء أن يسألوا إذ لم يعلموا، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى أن يسأل من يعلم، وكذلك في قصة العسيف، الذي كان عنده رجل فزنى بامرأته، وذهب أبو العسيف هذا يسأل الناس، وسأل أهل العلم فأخبروه، وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
فدل على أن الطريق الصحيح لجماهير الناس في معرفة الحلال والحرام هو أن يسألوا أهل العلم، وحين نقول تسأل أهل العلم فلا يعني هذا أنك قد أغمضت عينيك، فتعتقد وأنت أعمى، بل إذا كان عندك إمكانية وكنت إنساناً مثقفاً ولك قراءة، فإذا أفتى لك العالم بشيء، فناقشه فيما أفتاك، واعرض عليه قولا آخر سمعته، واسأله عن الدليل الذي احتج به، فلا مانع من هذا كله، لكن المهم أن تكون الفتيا، والكلام في المسائل الشرعية مضبوطاً محمياً محفوظاً، لا يملك أي إنسان أن يتكلم فيه دون قيد ولا شرط، ودون حسيب ولا رقيب.
فهذه صورة وهي صورة جراءة بعض الناس على الكلام في الشرعيات، من الإفتاء وغيرها، دون أن يتأهلوا لذلك، أو يملكوا العلم الذي يرشحهم لمثل هذا المنصب، والناس لا غنى لهم عن المفتين المتخصصين، الذين طالت دربتهم ومرانهم وممارستهم للكتب وللناس.
مثال على الإفتاء بغير علم
ألا نتذكر جميعاً ذلك المسكين، الذي كتب يوماً من الأيام في إحدى المجلات المشهورة، مقالات طويلة عنوانها (ليس كل ما في البخاري صحيح) ونظراً لأنه اكتفى فقط بأقل قدر من المطالعة، فقد جاء يوماً من الأيام إلى حديث رواه البخاري في صحيحه، وهو حديث عائشة رضى الله عنها قالت: {كان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض} يباشرها أي تمس بشرته صلى الله عليه وسلم بشرتها، وقد يستمتع منها بما هو دون الفرج، وهذا معروف، لكن الرجل فهم من المباشرة معنى الجماع، فذهب يضعف هذا الحديث ويقول: إنه غير صحيح، ولو كان موجوداً في صحيح البخاري، قال لأنه يعارض القرآن الكريم: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222].
فالذي يأخذ الأمور ببساطة دون أن يرجع إلى المصادر والشروح والأقوال والكتب المعتمدة، من السهل جداً أن يقع في مثل هذا الخطأ، بل فيما هو أشد منه، والعجب كل العجب من قوم يتسارعون إلى عرض آرائهم في الحديث النبوي مثلاً، تصحيحاً أو تضعيفاً، قبولاً أو رداً، أو عرض آرائهم في المسائل الفقهية تحليلاً أو تحريماً، أو استحباباً أو كراهة أو إباحة، وقد ينكر أحدهم حديثاً أو حكماً شرعياً قبل مراجعة الشروح، وقبل مراجعة أقوال العلماء فيه، في الوقت الذي يسخر هؤلاء فيه مر السخرية من غيرهم، مدعين أن هذا الغير تعلموا بين يوم وليلة وتكلموا! فقد أصبحنا نسمع كثيراً من ينتقد شباباً درسوا العلوم الشرعية في أسبوع أو شهر أو ثلاثة أيام وتكلموا في الشرعيات، يقولون: هؤلاء لا بصر لهم، ثم وجدنا أنهم هم أنفسهم يتكلمون في قضايا جليلة أو خطيرة، دون أن يكلف أحد نفسه ولا حتى ساعة واحدة يراجع فيها ما قاله أهل العلم في هذه المسألة، فضلاً عن يوم وليلة أو أيام أو أسبوع أو شهر!!
المسارعة في الافتاء بغير علم
الصورة الأولى: هي تسارع كثيرٍ من الناس، ممن قد يملكون جودة العبارة، ولكنهم لا يملكون العلم الشرعي الصحيح، على الهجوم والخوض في أمور الشريعة، دون تبصرٍ ولا روية، ودون أن يملكوا القدرة الكافية على ذلك، وقد يحتج بعض هؤلاء، بل كثير من الجهلة، يقول لك: يا أخي! الإسلام ليس فيه رجال دين ولا فيه كهنوت، وإنما هذا في النصرانية، فنقول: نعم ليس في الإسلام طبقة معينة اسمها رجال الدين، أو طبقة من الكهنوت، هي التي تملك وحدها حق تفسير الكتاب المقدس.
بل كل إنسان يملك ولكن بعد أن يستوفي الشروط، أي أن الطريق مفتوح، وليس مقصوراً على فئة معينة، لكن ليس معنى كونه مفتوحاً أنه كلأ مباح لكل أحد، ليس في الإسلام رجال دين أو كهنوت، ولكن في الإسلام علماء، يرجع إليهم في معرفة نصوص الكتاب والسنة ودلالاتها ومعانيها، والغريب أن الناس أيضاً يدركون هذا جيداً فيما يتعلق بمجالاتهم الدنيوية، فمثلاً المكتبات الآن تغص بألوان الكتب الطبية، وقد أصبحت الدوريات والنشرات والمجلات الطبية بالآلاف، بل ربما بعشرات الآلاف في أنحاء العالم، وهناك مراكز متخصصة في إعداد البحوث وطباعتها وتوزيعها، بحيث إن الطبيب المهتم يتابع أولاً بأول كل ما جَدَّ في عالم الطب، فهذه الكتب والمجلدات الهائلة، والمزودة بالصور والتقارير والأرقام والإحصائيات، والتي تتجدد يوماً بعد يوم، وتوافي المختصين أولاً بأول، هل أغنت الناس عن الذهاب إلى الأطباء؟ كلا، أم هل أغنت الناس عن فتح المستشفيات والمستوصفات والمراكز الصحية والوحدات الطبية ومراكز الأبحاث؟! كلا، بل لا يزال الناس يشعرون يوماً بعد يوم بمسيس الحاجة إلى مثل هذه المراكز والمستشفيات والوحدات؛ لأن هذه الأوراق وحدها لا تكفي ولا يستفيد منها أصلاً إلا الطبيب المختص.
أما عامة الناس ففائدتهم منها محدودة إلى حدٍ بعيد، قد يملكون فيها نوعاً من الثقافة التي تمكنهم من مناقشة الدكتور مثلاً، لكن أن يملكوا قدراً يمكنهم من كتابة الوصفات، ومعالجة الأمراض، فلا يكون هذا أبداً، وإلا لما كنا بحاجة إلى كليات الطب، ودراسات طويلة عريضة، ومراكز متخصصة وجهود ضخمة.
فكيف نتصور مثلاً أن وجود النصوص الشرعية في الكتب، سواء في القرآن أم في السنة، أك في كتب أهل العلم، أنه كافٍ للناس، وأنه من حق أي إنسان مسلم أن يتكلم في أي مسألة تخطر له، بمجرد أن يقف على نص يظن أنه يتعلق بهذه المسألة التي أشكلت عليه.
[center]آثار تتبع الرخص
ومن آثار هذا المسلك الخطير من تتبع الرخص وأخذها الاستهانة بالدين، إذ يصير الدين بهذا الاعتبار كما ذكر الشاطبي في الموافقات، وقد تكلم بكلام جيد في هذا الموضوع، قال: يصير الدين سيالاً لا ينضبط ما دام أنه لم يبق شيء يمكن التحاكم والرجوع إليه، كما أن من آثاره السيئة الإعراض عن الدليل الشرعي من الكتاب والسنة.
ونحن نقول: نطالب الناس بالرجوع إلى الكتاب والسنة، لا إلى قول فلان أو علان لأن المطلوب هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، وهذا أمر يجب أن يقبل به كل مسلم قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].
مجاراة الظروف والخضوع لضغوط الواقع
أما الصورة السادسة والأخيرة: فهي مجاراة الظروف والعوائد الواقعة، والأوضاع المستقرة في مجتمعات الناس، وتطويع النصوص والأحكام الشرعية لها، مع مخالفة هذه الأشياء لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن للواقع ضغطاً على كثير من النفوس، فإن الإنسان بطبعه يحب أن يوافق من حوله، ويحب أن يقرهم على ما هم عليه، ويكره أن يواجههم بشيء يكرهونه، فلذلك إذا انتشر عند الناس أمر وشاع وذاع، واستقر في حياتهم، وأصبح جزءاً من واقعهم، قد يصعب على الإنسان أن يقول لهم هذا حرام، أو هذا لا يجوز، وبالتالي يذهب ليبحث عن مسوغ في تحليل هذا الحرام أو تجويزه، حتى يسلم من هذا الحرج الذي يجده في نفسه، أو الذي يظن أنه يحدثه للناس.
التيسير في الدين
أحب أن أؤكد على قضية التيسير في الدين والرخصة في الإسلام، وأن الإسلام فيه تيسير عظيم، ومن التيسير أن الله تعالى ما أغلق باباً إلى الحرام إلا وفتح باباً إلى الحلال، وكان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه إذا سئل عن مسألة يبين الحرام فيها ويبين الحلال أحياناً، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه، لما جاءوا إليه بتمر طيب فقال: {من أين هذا التمر؟ قال الصحابي رضي الله عنه: إنا نشتري الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، -أي أن هذا تمر طيب نأخذ منه صاعاً ونعطيه صاعين أو ثلاثة آصع من تمر رديء، وهذا رباً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عين الربا} ومعنى عين الربا أي: هذا لا يجوز لأن التمر لا بد أن يكون متساوياً، صاعاً بصاع، ولو كان هذا تمر مثلاً سكري أو بلحي، وذاك تمر من نوع آخر رديء، لابد أن يكون متساوياً فقال: وهناك خطر كبير جداً من مثل هذا المسلك الذي يتشبث به البعض وهو يتمثل فيما يأتي: {عين الربا عين الربا لا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً } يعني التمر الرديء بعه بالدراهم، ثم هذه الدراهم التي بعت بها، اشتر بها ما تشاء من التمر الطيب، فبين له المخرج أو البديل، كما يقولون بلغة العصر. ولا شك أننا بحاجة إلى علماء في الاقتصاد، وفي الإدارة، والاجتماع، وفي علم النفس، والسياسة، وإلى علماء في كل مجالات الحياة، يجمعون بين العلم بهذه التخصصات وبين أن يكون عندهم ثراء في العلوم الشرعية، بحيث يستطيعون أن يجعلوا هذه القضايا تحت المجهر الشرعي، ويصلوا فيها إلى نتيجة صحيحة، أو أن العالم الشرعي يستعين بمثل هؤلاء الخبراء في مجال تخصصاتهم، حتى يستطيع أن يتصور الأمور تصوراً صحيحاً، وأن يصل فيها إلى النتائج، وهناك -بحمد الله- مجامع فقهية وعلمية قد قطعت شوطاً لا بأس به في ذلك، مثلاً هيئة كبار العلماء في المملكة، والمجمع الفقهي في مكة وبعض المؤسسات خارج المملكة، قد يكون لها دور في ذلك وهي بداية.
على كل حال نرجو أن تتواصل حتى تحل مشكلات الأمة، على ضوء كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ترك الشدة على الناس أن لا نلزمهم أيضاً بمذهب معين، ما دام أن الدليل مع غيره، فلا نقول: اترك المذهب إلى مذهب آخر، لأنه أسهل وأيسر، وجدت مرة مجموعة من الناس عندهم وقف، هذا الوقف عبارة عن نقود، فمثلاً عندهم مائة ألف ريال، فسألتهم وقلت لهم: على أي أساس جعلتم المال وقفاً؟ قالوا: بحثنا فوجدنا في مذهب الإمام أحمد أنه جوَّز إيقاف المال فأوقفناه، فهل بحثتم في الآراء الأخرى، وبحثتم في الأدلة، وتوصلتم إلى قناعة أن هذا هو الحق؟ فلا بأس، أما إذا كان بمجرد ما علمت أنه يوجد عالم أفتى بهذا أخذت به، فهذا لا يصلح أبداً، فالمهم أن الدين فيه تيسير، وسماحة، وفيه فرص عظيمة جداً.
وهذا جانب من الرخص.
رخص الفقهاء
وهناك نوع آخر من الرخص وهي رخص الفقهاء، أي لكل مذهب تسهيل في مسائل، فمثلاً تجد في مذهب هذا حلال وهذا حرام، إذاً الحلال يعتبرونه رخصة، لكن في المذهب نفسه ممكن أن يحرم مسألة أخرى يبيحها المذهب الأول، وهكذا تجد بعض الناس يأتي إلى المذهب يأخذ ما فيه من الرخص، فكل ما فيه من تحليل في هذا المذهب يأخذه، وكل ما فيه من تحريم يتركه، ثم يأتي إلى المذهب الآخر فيأخذ كل ما فيه من تحليل، ويترك ما فيه من تحريم، وهذه أيضا مسألة خطيرة، فهي عبارة عن تلفيق مجموعة من الآراء بغير ضابط، إلا بمجرد أنها رخص، ليس فيها مشقة على النفس، ولا تكليف لكنها تناسب المزاج، وخاصة مزاج الكسالى والقاعدين، والذين لا يحبون أن يعملوا، ولا أن يخضعوا حياتهم لحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يصل الحال ببعض هؤلاء الذين لا يراقبون الله تعالى ولا يخافونه، أن يصنفوا مصنفات يجمعون فيها رخص بعض العلماء، وأن فلاناً رخص في كذا، وفلاناً رخص في كذا، فيجمعون في هذا كتباً وينشرونها عند العامة، حتى يتساهلوا في هذه الأمور، ويعجبني في هذا القصة التي ذكرها البيهقي وغيره. قال إسماعيل القاضي: دخلت على المعتضد وهو من أمراء بني العباس، فرفع إلي كتاباً لأنظر فيه وقد جمع فيه رخص بعض العلماء من غير تثبت ولا نظر ولا مقارنة ولا ترجيح، قال: فنظرت في هذا الكتاب ثم قلت: مصنف هذا الكتاب زنديق -هكذا يقول للخليفة- فسأله الخليفة لماذا؟ قال له: هذه الأحاديث التي ذكر لم تصح على ما رويت، فمن أفتى مثلاً بالمتعة لم يفت بإباحة الغناء والمسكر، وصاحب الكتاب قال لك: الغناء حلال، وأهل المدينة أباحوه، والمسكر حلال لأن أهل العراق أباحوه، والمتعة حلال لأن أهل مكة أباحوه، المتعة بالنساء وهي معروفة. وقال له: الذي أباح مثلاً النبيذ ما أباح الغناء، والذي أباح الغناء ما أباح النبيذ، والذي أباح المتعة ما أباح هذين، فكيف يأتي بترخيصات لهؤلاء جميعاً ويجمعها، وبالمناسبة المعتضد أمر بإحراق الكتاب هذا، ما دام أن مؤلفه زنديق، وهذا شأنه يحرق، ويقول بعضهم: ما أحوجنا