فضل عشر ذي الحجة
مِن حكمة الله تبارك وتعالى ورحمته تفضيلُ بعض الأيام على بعض, وبعض الشهور على بعض, وبعض الأماكنِ على بعض؛ لتوفيرِ أسباب نيلِ البركات والخيرات، وجعلها فرصاً للتزود من الطاعات, والفوز بأعلى الدرجات, فلا يكاد ينتهي موسم طاعة إلا وجاء بعده آخر؛ تجديداً لنشاط الإنسان، وإبعاداً للملل، وها هو شهر رمضان ما كاد ينتهي حتى جاءت الست من شوال، ثم ها هي العشر من ذي الحجة، والحج إلى بيت الله الحرام, ثم يأتي عاشوراء، وهكذا.
وكلامنا في هذا المقام حول أفضل الأيام وهي العشر من ذي الحجة وأعمالها:
- فهذه العشر قد جمع الله تبارك وتعالى فيها أمهات العبادات من صلاة، وصيام، وحجّ، وصدقة.
- وفيها يُرفع علم التوحيد بالتكبير فيها والتلبية لمن كان حاجاً.
- والعمل في هذه العشر أفضل من العمل فيما سواها لحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه)), قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ((ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)) رواه البخاري برقم (926)، وفي رواية أبي داود وغيره وصححه الألباني ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء )). قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (2/460): "وفي الحديث تعظيم قدر الجهاد، وتفاوت درجاته، وأن الغاية القصوى فيه بذل النفس لله، وفيه تفضيل بعض الأزمنة على بعض، كالأمكنة، وفضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة، وتظهر فائدة ذلك فيمن نذر الصيام، أو علَّق عملاً من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يوماً منها تعين يوم عرفة، لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة", وعن جابر رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ قال: ((من عُقر جواده، وأهريق دمه)) 1 .
- ومن فضلها أن الله تبارك وتعالى أقسم بها في كتابه الكريم فقال الله تبارك وتعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} سورة الفجر (12) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/651): "المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف", ونقل البخاري رحمه الله في صحيحه (1/329) عن ابن عباس رضي الله عنهما تعليقاً أنه قال: {واذكروا الله في أيام معلومات} أيام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق, وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، وكبر محمد بن علي خلف النافلة", قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح (2/460): "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهي الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج, ولا يتأتى ذلك في غيره".
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره (3/291): "وبالجملة فهذا العشر قد قيل إنه أفضل أيام السنة كما نطق به الحديث، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير، لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه, وقيل: ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي ذاك أفضل، وبهذا يجتمع شمل الأدلة" أ.هـ.
أيهما أفضل عشر ذي الحجة أو العشر الأواخر من رمضان؟
نترك الإجابة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فقد سُئل رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (25/154) عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، أيهما أفضل؟ فأجاب: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة", وقال ابن القيم الجوزية رحمه الله في بدائع الفوائد (3/683): "وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافياً كافياً، فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة, وفيها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم التروية, وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإحياء التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر, فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة" أ.هـ.
وقد دلّ حديث ابن عباس رضي الله عنه, وحديث جابر رضي الله عنه؛ على أن العمل الصالح في عشر ذي الحجة أحب إلى الله، وأفضل عنده من العمل نفسه لو عُمل في غيرها من الأيام، وأن العبادة فيها أزكى عند الله تبارك وتعالى وأعظم أجراً من نفس العبادة لو فُعِلت في غيرها من أيام العام، بل دلّت هذه الأحاديث على أن العمل فيها وإن كان مفضولاً؛ فإنه أعظم أجراً، وأزكى عند الله، وأحبّ إليه من العمل في غيرها وإن كان فاضلاً، ولا أدل على ذلك من كون العمل فيها أعظم من الجهاد في سبيل الله الذي يتضمن قطف الرؤوس، وإزهاق النفوس، وإسالة الدماء، والذي هو من أفضل الأعمال، وذروة سنام الإسلام, فالعمل في هذه العشر أفضل من سائر الأعمال في غيرها، وأفضل من أنواع الجهاد كلها إلا النوع الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم, وإذا كان الأمر كذلك، وعلمت أيها المسلم أن الله يحب العمل في هذه الأيام ويباركه ويزكيه؛ فعليك أن تجتهد في هذه الأيام، وتحرص على اغتنام كل لحظة من لحظاتها، وتعمّرها بأنواع الطاعات والقّربات التي تزيدك قرباً من ربك، وتكون سبباً لسعادتك ونجاتك في دنياك وآخرتك، فإن الأيام مراحل، وليس لك أيها الإنسان من عمرك إلا ما قضيته في طاعة ربك تبارك وتعالى، فإنك تجده أحوج ما تكون إليه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم قال الله: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (سورة المؤمنون:102-103).
ومن الأعمال المباركة الفاضلة التي يندب إليها في هذه العشر:
الأول : أداء الحج والعمرة ، وهو أفضل ما يعمل ، ويدل على فضله عدة أحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم : (( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )) رواه البخاري. وغيره من الأحاديث الصحيحة .
الثاني : صيام هذه الأيام أو ما تيسر منها – وبالأخص يوم عرفة – ولاشك أن جنس الصيام من أفضل الأعمال وهو مما اصطفاه الله لنفسه ، كما في الحديث القدسي : (( الصوم لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي ))رواه البخاري. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله ، إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً )) متفق عليه . وروى مسلم رحمه الله عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده )).
الثالث : التكبير والذكر في هذه الأيام . لقوله تعالى : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } وقد فسرت بأنها أيام العشر ، واستحب العلماء لذلك كثرة الذكر فيها لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن أحمد رحمه الله وفيه : (( فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد )). وذكر البخاري رحمه الله عن ابن عمر وعن أبي هريرة رضي الله عنهم انهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر ، فيكبرون ويكبر الناس بتكبيرهم . وروى إسحاق رحمه الله عن فقهاء التابعين رحمة الله عليهم أنهم كانوا يقولون في أيام العشر : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد. ويستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق والدور والطرق والمساجد وغيرها ، لقوله تعالى : {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ }. ولا يجوز التكبير الجماعي وهو الذي يجتمع فيه جماعة على التلفظ بصوت واحد ، حيث لم ينقل ذلك عن السلف وإنما السنة أن يكبر كل واحد بمفرده ، وهذا في جميع الأذكار والأدعية إلا أن يكون جاهلاً فله أن يلقن من غيره حتى يتعلم ، ويجوز الذكر بما تيسر من أنواع التكبير والتحميد والتسبيح ، وسائر الأدعية المشروعة .
الرابع : التوبة والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب ، حتى يترتب على الأعمال المغفرة والرحمة ، فالمعاصي سبب البعد والطرد ، والطاعات أسباب القرب والود ، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه )) متفق عليه.
الخامس : كثرة الأعمال الصالحة من نوافل العبادات كالصلاة والصدقة والجهاد والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك فإنها من الأعمال التي تضاعف في هذه الأيام .
السادس : يشرع في هذه الأيام التكبير المطلق في جميع الوقت من ليل أو نهار إلى صلاة العيد ويشرع التكبير المقيد وهو الذي بعد الصلوات المكتوبة التي تصلى في جماعة ، ويبدأ لغير الحاج من فجر يوم عرفة ، وللحجاج من ظهر يوم النحر ، ويستمر إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق.
السابع : تشرع الأضحية في يوم النحر وأيام التشريق ، وهو سنة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين فدى الله ولده بذبح عظيم ، ( وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبّر ووضع رجله على صفاحهما ) متفق عليه.
الثامن : روى مسلم رحمه الله وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضّحي فليمسك عن شعره وأظفاره )) وفي رواية (( فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي )) ولعل ذلك تشبهاً بمن يسوق الهدي ، فقد قال الله تعالى : {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وهذا النهي ظاهره انه يخص صاحب الأضحية ولا يعم الزوجة ولا الأولاد إلا إذا كان لأحدهم أضحية تخصه ، ولا بأس بغسل الرأس ودلكه ولو سقط منه شيء من الشعر.
التاسع : على المسلم الحرص على أداء صلاة العيد حيث تصلى ، وحضور الخطبة والاستفادة . وعليه معرفة الحكمة من شرعية هذا العيد ، وأنه يوم شكر وعمل بر ، فلا يجعله يوم أشر وبطر ولا يجعله موسم معصية وتوسع في المحرمات كالأغاني والملاهي والمسكرات ونحوها مما قد يكون سبباً لحبوط الأعمال الصالحة التي عملها في أيام العشر.
العاشر : بعد ما مر بنا ينبغي لكل مسلم ومسلمة أن يستغل هذه الأيام بطاعة الله وذكره وشكره والقيام بالواجبات والابتعاد عن المنهيات واستغلال هذه المواسم والتعرض لنفحات الله ليحوز على رضا مولاه والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. 2