ينسى الإنسان نفسه ,فيتمرد على من فطره وصوره وشق سمعه وبصره , ويغفل عن عظمة خالقه , وجلالة رازقه , يرى هذا الكون بما فيه وعليه خاضع لله, خاشع لمولاه, يتمتم بالتقديس له, ويلهج بذكره, ويسبح لمجده, ويترنم لشكره , ويشهد لوحدانيته. قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }.
فواعجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكـــــــــة وتسكينة أبدا شاهـــد وفي كل شيء له آيـــــة تدل على أنه الواحــــد وإذا كان للحيوانات عبودية , وانقياد لأمر الله جل جلاله , فإنه كذلك للنباتات وللجمادات عبودية وانقياد لأمر الله عز وجل كما ثبت ذلك في القرآن الكريم , وما صح من أحاديث رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
فإليكم صوراً من عبودية تلك النباتات والجمادات لله رب العالمين . علينا نحن البشر نتعلم منها الدروس :
1- فقد ثبت في القرآن الكريم أن النباتات تسجد لله سجوداً حقيقياً لا يعلم كيفيته إلا الله . قال تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (الرحمن:6).
2- والشجر يسمع أذان المؤذن ويشهد له يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم :" لا يسمعه جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر إلا شهد له ". السنن الصحيحة .
3- والشجر يلبي مع تلبية الحاج والمعتمر . قال صلى الله عليه وسلم :" ما من ملبيّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا ". السنن الصحيحة . وقد مر سابقاً أن الشجر يرتاح من موت الفاجر .
4- وثبت أن عذقاً شهد برسالة النبي صلى الله عليه وسلم . فقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" بم أعرف أنك نبي ؟! . قال :" إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة يشهد أني رسول الله ". فدعاه رسوا الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم . ثم قال : "ارجع" فعاد فاسلم الأعرابي ". السنن الصحيحة . وأما الجمادات فقد ورد ما يدل على عبوديتها وخشيتها منه فمن تلك الجمادات الحجر والجبال فقد ثبت في القرآن والسنة أنها تسبح وتسجد وتلبي وتسمع الأذان وقد مر دليل ذلك سابقاً .
5- ومن عجيب أمرها أنها تخاف من الله وتخشاه . قال تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(البقرة: من الآية74) قال القرطبي رحمه الله :"ما تروى حجر من رأس جبل , ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله ". وفي قصة موسى عليه السلام عندما طلب من ربه أن يراه قال الله له : (انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(لأعراف: من الآية143).
قال ابن القيم رحمة الله عليه وهو يتكلم عن الجبال :" هذا وإنها لتعلم أن لها موعداً ويوماً تنسف فيها نسفاً , وتصير كالعهن من هوله وعظمه . فهي شفقة من هول ذلك الموعد , فتنظر له . فهذه حال الجبال وهي الحجارة الصلبة , وهذه رقتها وخشيتها من جلال ربها وعظمته .. فيا عجباً من مضغة لحم أقسى من هذه الجبال , تسمع آيات الله تتلى عليها ويذكر الرب تبارك وتعالى فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب , فليس بمستنكر على الله عز وجل أن يخلق لها ناراً تذيبها إذ لم تلين بكلامه وذكره وزجره ومواعظه .
فمن لم يلين لله في هذه الدار قلبه , لم ينب إليه و لم يذبه بحبه والبكاء من خشيته فليتمتع قليلاً فإن أمامه الملين الأعظم وسيرد إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم " . أهـ ونختم بعبودية السموات والأرض . فهي تحزن وتبكي على فراق المؤمنين الصالحين قال تعالى بعد ذكره إهلاك فرعون وقومه : ({ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ،كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ، فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}) الدخان:25-26-27-28-29) ففي الآية إثبات للبكاء للأرض والسماء , وأنهما لا يبكيان على الكافرين . بل يبكيان على فراق الصالحين , وليس بالضرورة أن يكون هذا البكاء بدموع وأنين كحال الإنسان . ولكنه بكاء لا يعلمه إلا الله تعالى . قال ابن تيمية رحمه الله :" بكاء كل شيء يحسبه , قد يكون خشيته لله وقد يكون حزناً على فراق المؤمن " .أ. هـ .
وكما أن السماء والأرض لا تبكي على فراق الكافرين فإن الأرض كذلك قد لا تقبل أجسام بعض المنافقين للدفن لما قدموه من الكفر فتُنبذ أجسادهم خارجها . كما ثبت في مسلم:" أن رجلاً من المنافقين حفر له فدفنوه وأهالوا عليه التراب , فلما أصبحوا وإذا بالأرض قد نبذته على وجهها ! ثم عادوا فحفروا له فواروا .. فأصبحت الأرض وقد نبذته على وجهها فتركوه منبوذاً" . والحديث في مسلم صفات المنافقين في نبذ الأرض المنافق .