بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إسهامات المسلمين فى مجال العقيدة
كان للمسلمين- وما زال- دورٌ متفرِّد ومتميِّز فى جانب العقيدة والتصوُّر العقدى؛ فبينما ذهبت الأمم والحضارات السابقة والمعاصرة إلى تصوُّرات شتى تجاه خالق الكون والإله المعبود، فإن المسلمين أفردوا الله بالعبودية والوحدانية، وخصُّوه بالخَلْقِ والأمر، وكان ذلك أعظم إسهامٍ قُدِّم للإنسانية مطلقًا، وخاصَّة حين نعلم دور العقيدة وأثرها الحاسم فى النهضة الحضارية.
فى مقابل أوهام وخرافات وضلالات التصوُّر الاعتقادى للأمم السابقة، وأمام عقلية العالم يوم بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إسهام المسلمين بعقيدة التوحيد- تلك العقيدة التى عُدَّت منحة الإسلام للإنسانية- لم ولن تنال الإنسانية مثلها إلى يوم القيامة.
ففى عقيدة الإسلام أن هذا العالم ليس بلا مَلِك، بل له مَلِك واحد، وهو خالقه وصانعه وحاكمه ومدبِّره، له الخلق والأمر كله، وله الحكم (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) (الأعراف:54) ولا يحدث فى هذا العالم شىء إلا بأمره وقدرته، وأن العلَّة الحقيقية لوجوده هى إرادته وقدرته، وأن هذا الكون كله خاضع له فى كونه ووجوده، ومنقاد له وطوع أمره (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْض) (آل عمران:83) وعلى المخلوقات التى تملك إرادة واختيارًا أن تخضع له (أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) (الزمر:3).
فلأنه هو الذى خَلَق الكون كله وخَلَق العباد كلهم، فهو الوحيد الذى يجب أن يَتَوَجَّه إليه الخلقُ بالعبادة.
ولقد أقام الإسلام الحُجَّة البالغة على أن الله هو الذى خَلَق، وأقام أيضًا الحجة البالغة على أنه ليس هناك إله غيره؛ فقال تعالى فى سياق إيراد الحجة العقلية المنطقية: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء:22) وتحدَّى الناس بكل قوَّة فقال: (قُلْ أَرُونِىَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (سبأ:27).
والحقيقة أن هذا المنطق كان مُقْنِعًا جدًّا، حتى إن أهل الأرض تلَقَّفُوه بالقَبُول والاقتناع، ودخل الناس فى دين الله أفواجًا.
ويُخْطِئ هنا من يظن أن العرب المسلمين انتشروا فى العالم فانتشر الإسلام وانتشرت عقيدة التوحيد لكثرة العرب، ويخطئ أيضًا من يظنُّ أن العرب المسلمين قهروا الناس على دخول الإسلام واعتناق التوحيد بقوة السيف والسلاح، ولنا أن نُرَاجِع تاريخ العالم.
فالعرب المسلمون كانوا قلَّة، وكان سلاحهم ضعيفًا كيفًا وكمًّا، وكانت إمكاناتهم الاقتصادية والعسكرية محدودة للغاية، ومع ذلك قَبِل العالم فى ذلك الوقت أن يترك ديانة البلاد والأمم والحضارات القوية المتحضرة ويدخل فى دين هذه القلَّة البسيطة.
ولعلَّ السؤال المتبادر إلى الذهن هنا هو: لماذا كان ذلك؟ ولماذا كان هذا القبول؟
وتكمن الإجابة فى أنه دين مُقْنِعٌ، وأنها عقيدة تتوافق تمامًا وتتماشى مع الفطرة ومع المنطق، تلك العقيدة التى فطر الله الناس عليها فى عبادة واحدٍ أحدٍ، دون منازع أو شريك.
ولنا أن نتساءل الآن:
* مَنْ قهر العرب أصلاً أن يدخلوا فى الإسلام، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا فى غاية القلَّة والضعف؟
* مَنْ قهر المصريين وأجبرهم على دخول الإسلام؟ وهل يُعقل أن يستطيع ثمانية آلاف جندى أن يقهروا شعبًا عريقًا كشعب مصر تجاوز عدده وقت الفتح ثمانية ملايين نسمة؟ مع العلم بأن مصر كانت واقعة تحت الاحتلال البيزنطى، وكانت الإمبراطورية البيزنطية آنذاك فى غاية القوَّة.
* مَنْ قهر أهل فارس أصحاب الأعداد الغفيرة والتاريخ الطويل على أن يتركوا عبادة السنين ويعتنقوا الإسلام؟
* ومن قهر أهل شمال إفريقيا والأندلس وأفغانستان وباكستان وماليزيا وإندونيسيا والأتراك وغيرهم؟
* بل مَنْ قهر العالم الآن على دخول الإسلام؟ مع أن الجميع يشهد أن المسلمين فى حالة أضعف بكثير من الآخرين، وليس مجرَّد دخول بسيط، بل إن الإسلام أسرع الديانات نموًّا فى العالم الآن.
فالحقيقة التى لا مراء فيها أن حُجَّة الله بالغة، ودين الله لا ثغرة فيه ولا خطأ؛ ولذلك لا يمكن لأحد أن يقرأ عنه أو أن يعرفه إلاَّ ويعلم أنه الحقُّ؛ سواءٌ اتَّبعه أم لم يتَّبِعْه.
والحقيقة الأخرى أن إسهام المسلمين فى ذلك التصوُّر العقدى لم يقف تأثيره على مَنْ أسلم فقط، بل إنه أفاد غير المسلمين فى وضوح الرؤية العقدية الحقيقية عندهم، وذلك فى ناحية التوحيد.
ولا يخفى أن الأثر العقلى الأوَّل الذى يترتَّب من هذه العقيدة على الإنسان هو أن العالم كله تابع لمركز ونظام واحد، ويرى الإنسان فى أجزائه المنتشرة ترابطًا ظاهرًا، ووحدة فى القانون، ثم بعد هذه العقيدة يستطيع الإنسان أن يأتى بتفسير كامل للحياة، وأن يُقَوِّمَ فكره وعَمَله فى هذا الكون على حكمة وبصيرة.
ولا ريب أن الإيمان بإله واحد قادر، يُخَلِّص الفكر من تخبُّط التعدُّدية فى الآلهة التى لا تستقيم مع الفطرة السليمة، ويُطْلِق قوى النفس والبدن المؤمنة بالله- المسيطر على مجريات الحياة والكون، ومَنْ تتعلَّق بيده سبحانه مقادير الخَلْقِ- المتوكِّلة عليه نحو العمل والنشاط، مرتكنة إلى أن هناك ربّا للكون يرى كل ما يدور بين جنباته، ويُثِيبُ المحسن إحسانًا، ويُعَاقِبُ المسىء إن لم يكن فى الدنيا ففى الآخرة، فلا يضيع إحسان، ولا يُهْضَمُ حقٌّ عنده.
ولا ريب أيضًا أن أهمَّ آثار هذه العقيدة فى المجتمع تتبدَّى حين نريد أن نؤسِّس مجتمعًا نظيفًا، تسوده العدالة، وتحكمه الفضيلة، وتختفى منه الجريمة، وتُظَلِّلُه الطمأنينة، ويتعاون أفراده على كل ما فيه خيره وصلاحه، فحين نريد ذلك ينبغى أن نؤسِّس المجتمع على العقيدة الإسلامية التى هى الدِّعامة الأولى لبناء المجتمع، وعلى هذا الأساس رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأوجد المجتمع الفاضل، وتكوَّنت الأُمَّة الإسلامية التى دانت لها الدنيا من مشرقها إلى مغربها.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوى: "نحلَّت العقدة الكبرى، عقدة الشرك والكفر، فانحلَّت العقد كلها، وجاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاده الأوَّل، فلم يَحْتَجْ إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهى، وانتصر الإسلام على الجاهلية فى المعركة الأُولَى، فكان النَّصر حليفه فى كل معركة.. نزل تحريم الخمر والكئوس المتدفِّقة على راحاتهم، فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمِّظة والأكباد المتقدة، وكُسِرَتْ دنان الخمر، فسالت فى سِكَكِ المدينة كلمة واحدة اجتثت عادة متأصِّلة فى القوم، ورثوها كابرًا عن كابر (فَهَلْ أَنتُمْ مُنتَهُونَ) (المائدة:91) قالوا: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا.. بينما حاولت أمريكا أن تُحَرِّمَ الخمر، واستعملت جميع وسائل المدنية الحاضرة؛ كالمجلات، والجرائد، والمحاضرات، والصور، والسينما لبيان مضارِّها، وأنفقت ما يزيد على 60 مليون دولارٍ ضدَّها، وطَبَعَتْ حوالى عشرة بلايين صفحة، وتحمَّلَتْ لتنفيذ القانون حوالى 250 مليون دولار، وأَعْدَمَتْ ثلاثمائة نفس، وسَجَنَتْ ما يزيد على نصف مليون، وصادرت من الممتلكات بحوالى أربعمائة وأربعة ملايين دولار، ومع هذا لم يزدد الشعب الأمريكى إلاَّ معاقرة للخمر؛ ممَّا اضطر الحكومة إلى إباحتها سنة 1933م، والسبب بسيط؛ أن التنفيذ للأوامر لم يكن ناتجًا عن الاعتقاد".
وعلى هذا تكون حضارة الإسلام قد أغنت الإنسان بعقيدة صافية نقية، سهلة، سائغة، حافزة للهمم، باعثة للحياة، فتخلَّص من كل خوف ووَجَلٍ، وصار لا يخاف أحدًا إلاَّ الله، وعَلِمَ عِلْمَ اليقين أنه وحده سبحانه هو الضارُّ والنافع، والمعطى والمانع، وأنه وحده الكفيل لحاجات البشر، فتَغَىَّر العالم كله فى نظره بهذه المعرفة الجديدة، والاكتشاف الجديد، وصار مصونًا عن كل نوع من العبودية والرقِّ، وعن كل رجاء وخوف من المخلوق، وعن كل ما يُشَتِّتُ البال ويُشَوِّش الأفكار، فقد شعر بوَحدة فى هذه الكثرة، واعتبر نفسه أشرف خَلْق الله، وسيد هذه الأرض، وخليفة الله بها، يُطيع ربه وخالقه، وينفِّذ أوامره، ويحقِّق بذلك هذا الشرف الإنسانى العظيم، والعظمة الإنسانية الخالدة، التى حرمتها الدنيا منذ زمن بعيد.
إنها الحضارة الإسلامية التى أتحفت الإنسانية بهذه التحفة النادرة- عقيدة التوحيد- التى كانت مجهولة، مغمورة، مظلومة، مغبونة أكثر من أى عقيدة فى العالم، ثم ردَّدَ صداها العالم كله، وتأثَّرت بها الفلسفات والدعوات العالمية كلها فى قليل أو كثير، فاضطرت بعض الديانات الكبيرة التى نشأت على الشرك وتعدُّد الآلهة وامتزجت به لحمًا ودمًا أن تعترف- ولو بصوت خافت- وهمسة فى الآذان- بأن الله واحد لا شريك له، وأُرْغِمَتْ على تأويل معتقداتها المشركة تأويلاً فلسفيّا، يُبَرِّئُها من تهمة الشرك والبدعة، ويجعلها متشابهة بعقيدة التوحيد فى الإسلام، وبدأ رجالها وسَدَنَتُهَا يَسْتَحْيُون من الاعتراف بالشرك، ويخجلون من ذِكْرِه، وأُصيبت هذه الأنظمة المشركة كلها بمُرَكَّبِ النقص والشعور بالصغار والهوان.. فكانت هذه التحفة أغلى التحف التى سَعِدَتْ بها الإنسانية بفضل إسهام حضارة الإسلام وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
أ. د. راغب السرجانى