بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
العلم بالقرآن الكريم
لا يستطيع المتهيئ للفقه أن ينال رتبة الاجتهاد إلا بشروط بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه. أما المتفق علي، فهو ما يأتي:فالقرآن هو كتاب الإسلام، والمصدر الأول لتشريعه وتوجيهه، وهو ـ كما قال الشاطبي ـ كلية الشريعة ـ وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر المسلمة، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) [النحل:89]. فلا بد من معرفته لأن من لم يعرف القرآن لم يعرف شريعة الإسلام.
وقد ذكر الغزالي هنا تخفيفين:
أحدهما: أنه لا يشترط معرفة جميع الكتاب، بل ما يتعلق بالأحكام منه، قال: وهو مقدار خمسمائة آية.
ووافق الغزالي على هذا التقدير القاضي ابن العربي، والرازي وابن قدامة والقرافي وغيرهم.
واعترض على الغزالي ومن وافقه هنا من عدة أوجه:
أولا: أن آيات الأحكام أكثر من ذلك، فقد نقل عن الإمام عبد الله بن المبارك تقديرها بتسعمائة آية. وقيل أكثر من ذلك.
وعلق الشوكاني على تقدير الغزالي بقوله:
"ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر، للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك بل من له فهم صحيح، وتقدير كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال".
"قيل: ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والالتزام".
"وقد حكى الماوردي عن بعض أهل العلم: أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان، أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية".
ثانيا: ما ذكره العلامة القرافي من أن استنباط الأحكام إذا حقق لا تكاد تعرى عنه آية. فإن القصص أبعد شيء عن ذلك، والمقصود منها الاتعاظ.. وكل آية وقع فيها ذكر عذاب أو ذم على فعل كان ذلك دليل تحريم ذلك الفعل، وكل ما تضمن مدحا أو ثوابا على فعل، فذلك دليل طلب ذلك الفعل وجوبا أو ندبا.
وقال الطوفي الحنبلي: "قل أن يوجد في القرآن آية لا يستنبط منها شيء من الأحكام".
ثالثا: ما قاله العلامة الحنفي ابن أمير الحاج: "إن تمييز آيات الأحكام من غيرها متوقف على معرفة الجميع بالضرورة.
فهناك كثير من الموضوعات تثار في جوانب شتى من الحياة، يستدل على جوازها أو منعها من القرآن الكريم.
ومنذ سنوات حينما ثار الجدل بين بعض العلماء وبعض حول صعود الإنسان إلى القمر، كان منهم من يمنع ذلك مستندا ـ في زعمه ـ إلى الآيات التي تشير إلى حفظ السماء: (وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا) [فصلت:12].
وكان آخرون يستدلون على إمكان ذلك وجوازه شرعا بمثل قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) [سورة الرحمن:33].
قالوا: والسلطان هنا هو سلطان العلم!
والذين توسعوا في التفسير (العلمي) للقرآن، ومحاولة استخراج القوانين والحقائق العلمية من بين آياته، كانوا يستدلون بمثل قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام:38].
والإمام الغزالي حاول أن يستدل على شرعية تعلم المنطق وصحته بآيات استنبطها من القرآن العزيز.
وهذه الآيات قد لا يسلم لمن استدلوا بها على الجواز أو المنع، ولكن المجتهد عليه أن يحيط بها، ويكون له في فهمها رأي مستقل، موافق أو مخالف.
ومثل ذلك ما ثار من نحو نصف قرن حول ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى وما استشهد به المؤيدون والمعارضون من آيات تشهد لهم، وتسندهم في دعواهم، وجلها أو كلها من القرآن المكي، وهي بمعزل عن آيات الأحكام المعهودة.
والذي أرجحه: أن يكون للمجتهد اطلاع عام على معاني القرآن كله هذا مع توجيه عناية خاصة إلى الآيات التي لها صلة وثيقة بالأحكام. وهذه يلحظها المجتهد وإن كانت بين ثنايا القصص والمواعظ، ولهذا رأيناهم ذكروا في آيات الأحكام ما يؤخذ من قصة الخضر مع موسى عليه السلام، مثل جواز ارتكابه أخف الضررين تفاديا لأشدهما، ومنه خرق السفينة حتى يجدها الملك الظالم معيبة فلا يأخذها غصبا.
وما ذكره في قصة يوسف من الجعالة والكفالة: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) [يوسف:72].
ومشروعية بعض صور الحيلة لتحقيق أغراض مشروعة، كما صنع يوسف مع أخيه.
ونحن في عصرنا نجد في قصة يوسف من الدلالة على مشروعية التخطيط الاقتصادي لمواجهة الأزمات من العمل الدائم على زيادة الإنتاج: (تزرعون سبع سنين دأبا) [يوسف:47]، وتنظيم الادخار (فما حصدتم فذروه في سنبله) [يوسف:47]، وتقليل الاستهلاك (إلا قليلا مما تأكلون) [يوسف:47]، والإشراف عليه (يأكلن ما قدمتم لهن) [يوسف:48] وهكذا.
ومثل ذلك ما نجده في قصة ذي القرنين.
والتخفيف الثاني: الذي ذكره الغزالي هنا: أنه لا يشترط فيما يطلب معرفته من الآيات حفظها عن ظهر قلب، بل يكفي أن يكون عالما بمواضعها بحيث يطلب فيها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة.
ولا ريب أن حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب أولى، ويجعل صاحبه أقدر على استحضار الآيات المطلوبة في موضوعه بدون معاناة تذكر، ولكن قد وجدت اليوم فهارس تعين غير الحافظ على استحضار ما يريد في موضوعه بسهولة، وحسبنا هنا "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" والفهارس الموضوعة للقرآن مثل كتاب "تفصيل آيات القرآن الكريم" وإن كان لا يشبع النهم.
معرفة أسباب النزول
ومما يدخل في العلم بالقرآن الكريم: العلم بأسباب نزوله، فإن العلم بها يلقي ضوءا على المقصود بالنص القرآني، وإن كان الراجح عند الأصوليين أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
يقول الإمام الشاطبي في "موافقاته":
"معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطب أو المخاطب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام، لفظه واحد، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال: وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة كل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد، ومعنى معرفة السبب هو معرفة مقتضى الحال، وينشأ عن هذا الوجه.
الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع.
ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيدة عن إبراهيم التيمي، قال: "خلا عمر ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم نزل وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا، قال: فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال، فعرفه، فأرسل إليه، فقال أعد علي ما قلت، فأعاده عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه".. قال الشاطبي:
وما قاله صحيح في الاعتبار، ويتبين بما هو أقرب.
فقد روى ابن وهب عن بكير: "أنه سأل نافعا: كيف كان رأي ابن عمر في الحروية؟ قال: يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين" فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.
وروى "أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس، وقال قل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس: مالكم ولهذه الآية؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) – إلى قوله: (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) [آل عمران:187،188]" فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان.
وقد عنى المفسرون بأسباب النزول ودونوها في كتبهم، كما أفردها بعضهم بكتب خاصة مثل كتاب الواحدي، وكتاب "لباب النقول بأسباب النزول" للسيوطي.
ولكن مما ينبغي التنبيه عليه هنا: أن كثير من أسباب النزول لم تثبت صحتها وجملة الصحيح منها قليل جدا.
معرفة الناسخ والمنسوخ
ومما عنى به الأصوليون في معرفة القرآن: العلم بالناسخ والمنسوخ منه، حتى عده بعضهم شرطا مستقلا، وإنما شددوا في ذلك حتى لا يستدل بآية على حكم، وهي في الواقع منسوخة غير معمول بها!
ولا بد من التنبيه هنا على بعض الحقائق الهامة
أولا: أن بعض المؤلفين أكثروا من القول بالنسخ في القرآن، حتى قال من قال منهم أن آية السيف نسخت أكثر من مائة آية في القرآن! ويقابل هؤلاء من أنكر النسخ بالكلية في القرآن مثل أبي مسلم الأصفهاني الذي يحكي قوله الفخر الرازي في تفسيره، ويظهر منه في بعض الأحيان الميل إليه.
وبين هؤلاء وهؤلاء من توسط في الأمر، مثل السيوطي الذي أوصل الآيات المسنوخة إلى عشرين، والمتأمل فيها يجد أكثرها لا نسخ فيه.
ولهذا أوصلها الإمام الدهلوي إلى خمس آيات فقط.
ونحا الشيخ الخضري في كتابه "تاريخ التشريع" هذا النحو.
ثانيا: أن النسخ في لغة السلف أعم من النسخ في اصطلاح المتأخرين، كما نبه على ذلك كثير من المحققين مثل ابن القيم والشاطبي وغيرهما.
فقد ذكر الشاطبي في "الموافقات": أن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين: فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جئ به آخرا، فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به.
وهذا المعنى جاز في تقييد المطلق، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمل هو المقيد، فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ، وكذلك العام مع الخاص، إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ، إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الحكم الأول، والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق، فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني، لرجوعها إلى شيء واحد.
ولابد من أمثلة تبين المراد: فقد روى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) [الإسراء:18] إنه ناسخ لقوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) [الشورى:20] وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق إذ كان قوله: (نؤته منها) مطلقا ومعناه مقيد بالمشيئة، وهو قوله في الأخرى (لمن نريد) وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ.
وقال في قوله: (والشعراء يتبعهم الغاوون) إلى قوله: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) هو منسوخ بقوله: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا) الآية!
قال مكي: "وقد يذكر عن ابن عباس في أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء إنه قال: (منسوخ) قال: وهو مجاز لا حقيقة، لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه، بينه حرف الاستثناء أنه في بعض الأحيان الذين عمهم اللفظ الأول: والناسخ منفصل عن المنسوخ رافع لحكمه، وهو بغير حرف" هذا ما قال. ومعنى ذلك أنه تخصيص للعموم قبله، ولكنه أطلق عليه لفظ النسخ، إذ لم يعتبر فيه الاصطلاح الخاص.
وقال في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) [النور:27] أنه منسوخ بقوله: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة) الآية [النور:29] وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء، غير أن قوله: (ليس عليكم جناح) يثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة.
وقال في قوله: (انفروا خفافا وثقالا) [التوبة:41] إنه منسوخ بقوله (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) [التوبة:122] والآيتان في معنيين، ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك: أن لا يجب النفير على الجميع.
وقال في قوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول) [الأنفال:1] منسوخ بقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) [الأنفال:41] وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله: (لله والرسول).
والخلاصة: إن أكثر ما أطلقوا عليه "الناسخ والمنسوخ" يدخل في باب: العام والخاص، أو المطلق والمقيد، أو المبهم والمبين ونحو ذلك، فيجب على المجتهد أن يكون على علم به. فلا يفتي بأن كل مطلقة مثلا عدتها "ثلاثة قروء" أخذا بقوله تعالى في سورة البقرة: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [البقرة:228] غافلا عن قوله تعالى في سورة الطلاق: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال..) (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) [الطلاق:4] فهذه خصصت تلك بغير الآيسات والصغيرات وذوات الأحمال.. وهكذا.