الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:-
فإنما الأعمال بالنيات، ولكل إنسان ما نوى، وهنا مسألة في الإمامة في الصلاة وهي: ما حكم اختلاف النية بين الإمام والمأموم؟ بمعنى: هل يجوز أن يصلي الإمام الفرض وبعده المأموم يصليها نافلة، أو العكس.. هذه مسائل مشهورة ومذكورة في كتب الفقه.. وسنأخذ المسألة بالبيان والتوضيح..
المسألة الأولى: ما حكم اقتداء المتنفل بالمفترض؟! توضيح السؤال: لو صلّى الإمام صلاة فرض كالظهر مثلاً، والمأموم بعده يصلي نفلاً؛ لأنه قد صلّى الظهر في مكان آخر هل يصح ذلك؟
اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض، وهو قول الثوري والأحناف والشافعية والحنابلة، بل قال عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة: ( فأما صلاة المتنفل خلف المفترض فلا نعلم في صحتها خلافاً)1.
أدلتهم على ذلك: ما رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم –: (كيف أنت إذا كان عليك أمراء يميتون الصلاة) أو قال: (يؤخرون الصلاة عن وقتها؟) قلت: ما تأمرني؟ قال: (صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة). وهذا واضح وصريح في الدلالة.
وما رواه أبو داود والترمذي وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أبصر رجلاً يصلي وحده، فقال: (ألا رجل يتجر على هذا فيصلي معه فقام رجل فصلى معه)2 والدلالة هي أن الرجل كان يصلي فرضاً بدليل تأخره وصلاته وحده، وصلاة الرجل المتطوع خلفه إنما هي نافلة.
وعن يزيد بن الأسود - رضي الله عنه – أنه صلّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – صلاة الصبح فلما صّلى رسول - صلى الله عليه وسلم – إذا هو برجلين لم يصليا، فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال لهما: (ما منعكما أن تصليا معنا)؟ قالا: قد صلينا في رحالنا، قال: (فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه، فإنها لكما نافلة). رواه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني وصححه ابن السكن وابن حبان3. والدلالة: أنه أمرهما أن يصليا مع الإمام نافلة مع اختلاف النية.
القول الثاني: لا يجوز أن يصلي المتنفل خلف المفترض: وبه قال الحسن البصري، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة الرأي.
ودليلهم: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا ركع فاركعوا..) رواه البخاري ومسلم. ووجه الاستدلال أنه نهى عن الاختلاف على الإمام، ومن الاختلاف أن يكون المأموم متنفلاً والإمام مفترضاً.
الراجح:
بعد النظر والتأمل في القولين وأدلة كل منهما ظهر أن القول الأول هو الراجح والصحيح، في أن المتنفل يجوز له الائتمام بالمفترض، وذلك لصحة الأدلة وصراحتها.
ويرد على أصحاب القول الثاني بأن النبي - صلى الله عليه وسلم – نهى عن الاختلاف عن الإمام في الأفعال الظاهرة بدليل تفسيره الاختلاف بعد ذلك بقوله: ((إذا ركع فاركعوا..)) إلخ.
ولو فرض أن النهي عام فإن تلك الأحاديث تخصصه كما هو مقرر في علم أصول الفقه.
المسألة الثانية: (العكس) ما حكم اقتداء المفترض بالمتنفل؟!
للعلماء فيها قولان:
الأول: جواز ذلك، وهو قول طاووس، وعطاء، والأوزاعي، حكاه عنهم ابن المنذر، واختاره الإمام الشافعي وأصحابه، وهو رواية عن أحمد، وهو اختيار ابن قدامة المقدسي في المغني، وابن تيمية في الفتاوى والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في فتاويه.
أدلتهم: عن جابر - رضي الله عنه – ( أن معاذاً كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم – عشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة). رواه البخاري ومسلم.
وهذا واضح الدلالة: فإن معاذاً كان يصلي بقومه نفلاً وهم يصلون خلفه فرضاً.
واستدلوا أيضاً بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم – بأصحابه صلاة الخوف حيث جاء في إحدى صفاتها أن النبي - صلى الله عليه وسلم – صلّى بهم جماعتين صلّى بالأولى ركعتين ثم سلم، ثم صلّى بالجماعة الثانية ركعتين وهي في حقه نفل؛ لأن الفرض قد قام به أولاً.
ولهم أدلة أخرى كثيرة...
القول الثاني: لا يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل: وهو قول الحسن البصري، والزهري، ويحي بن سعيد الأنصاري، وربيعة الرأي، وهو مذهب الحنفية، ومذهب المالكية، كما نص عليه خليل في مختصره، وهو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد، واختارها أكثر أصحابه.
ودليلهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه..) إلخ.
والراجح بعد النظر والتأمل هو القول الأول لصحة الأدلة وصراحتها.
ويرد على القول الثاني بأن الحديث فيه النهي عن الاختلاف في الأمور الظاهرة.. كما سبق.
ولو فرض أن النهي عام فإن أحاديث الباب هذا تخصصه كما هو مقرر في علم أصول الفقه.
الخلاصة:
ونصل في خاتمة بحثنا هذا إلى أنه يجوز للمتنفل أن يقتدي بالمفترض والعكس صحيح.. كما ثبتت بذلك الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والله تعالى أعلم.. وهو الموفق للصواب..