الاخطبوط
هذه رؤياي أقصها عليكم, وأنا لا أذكر بأي عين رأيتها, فإن للإنسان عيونا غير التي في رأسه, ولا أجزم أني كنت نائما, فإن ما نراه اليوم في اليقظة أغرب من عالم الحلم:
أخذتني سِنة, فرأيت أخطبوطا ماردا يطل على الناس من عل, ذميم الخلقة منتن الريح, له عينان تقذفان الشرر, وآلاف الأذرع التي تحيط بما بلغته من أنحاء الأرض, كان منظر جثته الجاثمة على البلاد يرهب الفؤاد.
استجمعت القوى واستعصمت بالمولى ثم رفعت رأسي سائلا:
"من أنت وما بال الناس يروحون ويجيئون ولا يفزعهم مرآك ولا تشمئز أنفسهم من طلعتك؟"
نظر إلي الأخطبوط وقال بصوت رخيم في غنج أصوات الغانيات اللاتي يدعوهن أهل الزمان فنانات:
"إن العيب في ناظريك, إنهم لا يكترثون لأنهم يرونني بعين الهوى, فيرون ما لا ترى, إنهم يرونني في صورة الفنانات القديرات, ملكات الجمال, ذوات القدود الرشيقة, والقسمات المليحة, والأصوات الرخيمة,
ألم تتعرف على صوتي؟
أنا إمام هوليود, أنا شيخ الفنانين, أنا لقنتهم وعلى عيني صنعتهم, أنا بارع في التمويه والتخييل,
وإنما رأيتني على صورتي الأصيلة لحداثة عهد بصرك بآيات القرآن.
تسأل من أنا؟ أنا صنيعة إبليس, أنا يمناه, أنا هامانه.
انظر إلى رأسي قد حشيت كفرا ومكرا, انظر إلى فكري وثقافتي تجد فيه كل نحلة عوجاء وكل مذهب أجرب.
لقد صيرت بعبقريتي الكفر كله ملة واحدة منصهرة, لا تكاد تميز فيها بين النصرانية واليهودية والبوذية والحلولية والداروينية واللادينية,
كلها ههنا وأشار إلى رأسه الخبيث.
هل ترى ذراعي هاته الجميلة الزاهية: انظر كم لونا فيها, انظر إلى المطربش والمعمم,
و الدلايلاما والقسيس, والشيخ والزنديق,
والأحبار والرهبان, وعباد البقر وسدنة الأوثان,
كلهم تحت يدي أسوقهم سوق الأنعام."
اعتدلت جالسا و سألته: "عجبا لكن فيم اجتماعهم وهم على هذا التباين العجيب؟"
فأجابني متبجحا: "إنها إحدى حسناتي العظيمة وأيادي البيضاء, إنه مؤتمر حوار الأديان..."
قاطعته مستغربا: "وكيف استطعت أن تَنظم هؤلاء جميعهم في سلك واحد على تضارب مذاهبهم؟"
مد الأخطبوط إحدى أذرعه قائلا: "انظر إلى هذه الذراع التي هي أكبر من غيرها وأشد بأسا, ألا ترى كيف استطالت حتى أحاطت بالأرض إلا قليلا؟
إنها ذراعي التي أبذر بها الكفر بذرا, وأنثره في الأرض نثرا, إنها دين من غير دين, وملة بلا ملة, وعقيدة بلا عقيدة, ألا ترى كيف آلفت بها بين العابد وقاتل معبوده, وبين المؤمن والمعتدّ بإلحاده؟ إنها ورقتي الرابحة,
إنها العلمانية وبلسان الفرنسيس اللائكية, ولا تقوم إلا على عمود واحد, هو فصل الدين عن الحياة,
وحتى يحلو في الحلوق مر مذاقها, أرش عليها بعض المحسنات والمحليات,
من قبيل تعزيز الحريات وحفظ حقوق الأقليات ونبذ الصراعات والاشتغال بالمهمات والإعراض عن الخلافات والأمور الثانويات.
و لكي ينطلي أمرها على أهل الإسلام من كل عربي فصيح اللسان, اشتققت لها من العلم اسما,
فالعلم اسم رنان, يتردد صداه في الآذان, ريثما يتسلل سمها إلى القلوب,
وكيف يشق علي أن ألبس على هذه الملة العالمية لبوس العلم وقد زينت لبني جلدتك من قبل أن الربا فائدة, وأن الخمر شراب الروح,
وأن العهر فن, وأن المهرج الحقير أستاذ قدير, وأن العالم الناصح متعصب متزمت, وأن الكفر فكر لا يليق كبح جماحه بالقيود؟"
سألته: "وكيف تستدرج الناس بعدما أقمت فيهم ملتك الجهلانية التي سميتها زورا بالعلمانية؟"
فأجابني مزهوا بنفسه:
"ما أسهل الأمر, إنما أتسلل إلى كل بيت جديد يفتتحه صاحبه فأقول له:
"أعطنا عقلك وروحك, لا تتعب نفسك في التفكير والنظر والتدبير فذاك أمر يطول,
نحن نهديك السبيل, سبيل الرشاد والحضارة, والفن والحداثة,
إياك أن تسمع لأهل دين أي دين,
دع الأمر لنا, نحن نخبرك بكل شيء: منشإ الكون, معنى الحياة, ماذا تلبس, ماذا تأكل, ماذا تعمل, كيف تقضي وقتك,
نحن نأتيك بكل مثير و جديد, ونحذرك من كل بال و قديم, نحن نلج بك عالم الموضة و التجديد, ونخلصك من التقليد,
نحن نرسم لك نموذج الرجل, ونموذج المرأة, نحن نخبرك ماذا وكيف وأين ينبغي أن تكون,
فنحن كما سترى نعرف كل شيء, لعلك تتساءل الآن: كيف نستطيع ذلك كله؟ حسنا: نحن نصنع القدوة,
كل ما نحتاجه, أن تعطينا عقلك وأن تسلمنا روحك, وأن ترهن لدينا نفسك,
نحن نحشوك بما ينفعك, نعدك أن الأمر هين فإن مذهبنا في التعليم ميسر لا يكاد يحتاج جهدا يذكر,
ما عليك إلا أن تسلم لنا و تسترخي."
أدرك الأخطبوط حيرتي فاستمر يتكلم في حماسة:
"لك أن تقول إننا أسسنا جامعة دولية للتعليم عن بعد تدخل كل بيت, لا يهم إن كنت في اليابان أو جزر القمر, حتما سنصل إليك, فإننا نحظى بقوة هائلة, انظر إلى عينيّ."
ولما تمعنت في عيني الأخطبوط وجدتها تضم ملايين الشاشات الإلكترونية, حينها فهمت المراد, إنه الإعلام عامة, والتلفاز خاصة, إنه الجامعة الدولية التي تنطق بكل لسان وتدخل كل مكان ولا يكاد يخلو من لغطها بيت إنسان, إنها إذن عين الأخطبوط التي يُري منها عبيده باطله المزوق و يسوقهم حيثما شاء كالأغنام, بعدما سلسلهم بالمسلسلات والأفلام.
سألته مستدرجا: "التلفاز؟ أليس وسيلة ترفيه وتزجية للوقت؟ "
فأجابه: "بلى, وهذا ما يجعله أكبر معلم في خدمتنا, فكل ما نطلبه منك أن تسترخي وتسلمنا زمام عقلك, ونحن نتكفل بالباقي."
بدأت معالم المكر الشيطاني تتبدى شيئا فشيئا, فسألته أستزيده:
"فمن وهبكم عقله وروحه طائعا, وأسلس لكم القياد مختارا, أفتخلون بينه وبين حياته يحياها كما يملي عليه هواه؟"
فحرك الخبيث رأسه قائلا:
"كلا, نحن لا نرضى من عبدنا بذلك, فإنما نريده لنا كله لا بعضه, فإن أسلمنا عقله واطمأن إلينا قلنا له:
"أعطنا مالك." فنحن نعلم أن المال عصب الحياة, وبه قوام دعوتنا, فإن هو تردد أو مانع قلنا له:
"يا مسكين, أوَ تظن أنك تملك مالا أصلا؟"
لقد جمعنا منذ زمان بعيد ما في الأرض من مال, واستأثرنا دونكم بالذهب و الورِق,
ثم طبعنا بعد ذلك صحائف من ورَق نُسَكِّتكم بها كما تسكت الأمهات الصبيان بمصّاصات البلاستيك,
و ماذا يغني عنكم الورَق, والمال إما ذهب أو ورِق لو كنتم تعلمون؟"
تفكرت هنيهة في هذا المكر السيء و اللؤم الشديد, ثم سألته:
"وبم نلت في هذه الوجهة بغيتك؟"
فأجابني العدو متبخترا:
"بهذه الذراع الاقتصادية, ألا ترى ما لها من بريق ولمعان؟ ألا ترى كيف أحاطت بالأرض فما تركت من مكان؟
إنها ذراع الاقتصاد الربوي الذي استعبدنا به البشر عربا وعجما, ذكرانا و إناثا, وهل رأيت شارعا ليس فيه بنك أو شركة قرض أو تأمين؟
لقد زينا للناس بذراع الإشهار بيع أنفسهم و أهليهم في أكبر سوق نخاسة عرفتها الأرض,
و العجب أنهم غارقون في الدين وإن لم يستدينوا مالا على الحقيقة,
إنما خدعناهم بأوراق تقذف بها مطابعنا حتى صار لها في أعينهم بريق التبر."
عندها سألته:
"وكيف أوقعتموهم في هذا الفخ وأجريتم الربا في شيء خسيس كالورق؟"
فأجابني مزهوا بنفسه:
"نحن نقول لأحدهم: "أعطنا مالك" فيجينا بما نعلمه: "لا مال لي" ونكاد نجيبه:
"ونحن لا مال لنا إلا أنتم يا رقيق آخر الزمان." ولكنا نقول له:
"استدن منا, اقتن أرضا أو عقارا, اشتر أثاثا وسيارة, لا تدفع الآن فلسا واحدا, هاك بطاقة ائتمان, كل ما نريده منك توقيع."
فإذا وقع في الفخ وأطبقت عليه أذرعنا الربوية قلنا له:
"أما و قد وقَعت ووقَّعت, فأنت من الساعة ملكنا, فبهذا الصك بعتنا نفسك,
أنت لدينا أجير حقير, لا كلمة ولا ذمة لك, تغدو وتروح في خدمتنا,
أنت قطعا لا تريد أن ينتهي بك الحال متشردا على قارعة الطريق,
إذن فاكدح و انصب لتسدد الفواتير المتراكمة, ولتدفع الأقساط القاسطة التي ما أن تظنها انتهت حتى تتكاثر كالفطر من جديد,
أنت ملك لنا, وبأمثالك ندير عجلة اقتصاد ربوي ليس فيه مال على الحقيقة إلا رغبة الأغبياء في رهن نفوسهم لدينا,
قطيع يسوقه أحبار الربا بعدما رباه التلفاز على إدمان الاستهلاك وعشق السفاسف وعبادة الصور والخيالات,
نحن نملأ حياتك بكثير من الكماليات و قطع البلاستيك و أنت تعطينا عمرك و ثمرة أيامك."
تراءت لي عند هذه الكلمات صور القطعان البشرية التي تتراكض في شوراع المدن الكبرى في هذا العالم كل يوم وقد أخذتها سكرة الدنيا وتذكرت تجار البورصة يتقافزون كأنما يتخبطهم الشيطان من المس, ثم سألت العدو:
"وكيف تضمن ألا يفطن الناس لأمرك يوما, فيعرضوا عن سبيلك ويكفروا بملتك, وينبغ منهم جيل يبغض الرق ويعشق الحرية؟"
استمع إلي الأخطبوط وهو يتبسم في مكر ثم أجابني:
"نحن لم ننته من تعبيد هذا المملوك لنا بعد, فما زال لديه شيء عزيز على نفسه لا يصح أن ندع له حق التصرف فيه,
بل لا يقوم أمرنا دون الاستئثار به لأنفسنا وصناعته على أعيننا,
إنه مستقبل دعوتنا, وغد دولتنا, إنه ولده وعقبه, فنحن نأتيه إذا رزق بمولود فنأمره:
"أعطنا ولدك, مالك لا تأمننا على فلذة كبدك؟ إنه مخلوق ضعيف, لا مناص من أن تخلي بيننا وبينه, نلقحه من كل داء, ونعلمه من جهل,
نحن نربيه لك ونهيئه للحياة التي تنفعه, على كل حال, لا خيار لك, فنحن نملك أن نجبرك على ذلك بذراعنا القانونية."
التفت إلي و سألني:
"هل تفكرت يوما في معنى "إجبارية التعليم"؟ أليس معناها أنكم لستم أهلا أن تربوا أبناءكم أيها العبيد, فلا مناص لكم من تسليمهم لنا طائعين أو مكرهين؟"
ثم تبسم قائلا:
"إلى هنا كادت حلقات نير العبودية تنطبق على عنق هذا المواطن الصالح المعولم المعلب,
إذ ما زالت له بقية باقية من حرية واختيار يدعوها سدنة ذراعنا القانونية بالخصوصية,
ونحن لا ندري كل ما يكون من أمر عبدنا في الخلوات,
فلنحكم قبضتنا على هذه الحلقة الأخيرة حتى يكون هذا المخلوق لنا خالصا لا يشاركنا فيه أحد,
لذا فنحن نقول له: "أعطنا حريتك, اذبح في محرابنا خصوصيتك, حتى يصير سرُّك عندنا علانية, وخلوتك جلوة,
أعطنا أو لا تعطنا فلا أمر لك البتة, فإنا قد بثثنا في كل زاوية آذاننا وأعيننا نتنصت ونتلصص عليكم, ألا ترون الكاميرات تحيط بكم من كل جانب, أليس عندك حاسوب و هاتف نقال وشبكة اتصال؟ أليس في جيبك بطاقة ائتمان؟ وأبشرك أيها العبد المطيع, فبشر من خلفك من القطيع,
أنا نوشك أن نزرع تحت جلودكم شرائح إلكترونية حتى لا يخفى علينا شيء من أمركم, وحتى يستوي لدينا همسكم وجهركم..."
قاطعته بصوت غليظ:
"لا تستبشر بالنصر يا وزير الشيطان قبل انفضاض الصفوف,
فإن الأيام دول, و ستريك الأيام ما كنت جاهلا,
و كيف تنتصر يا داعية الشيطان و بأيدينا كلام الرحمن؟"
حينها بدأ الاخطبوط المارد ينتفخ حتى كاد يسد الأفق, وهمّ أن يبطش بصاحبكم لولا أن تحرّكت منه الشفتان,
فسرعان ما انكمش حتى صار كالفأر, وولّى هاربا وله ظراط, ثم استيقظت وأنا أتلو آية الكرسي.