]حــق كـبار الـسـن
أحمد الله الكريم بمحامده الَّذي هو لها أهل ، أحمده تبارك وتعالى حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، أحمده جلَّ وعلا على عطاياه ومننه وآلائه وأفضاله ، أحمدُه جلَّ وعَلَا على أن هَدانا لهذا الدِّين العظيم ، ومَنَّ علينا باتِّباع سنَّة نبيِّه الكريم صلوات الله وسلامه عليه ، أحمدُه جلَّ وعَلَا على كلِّ نعمةٍ أَنْعَمَ بها علينا في قديمٍ أو حديثٍ، في سرٍّ أو علانيةٍ ، في خاصَّة أو عامَّة ، أحمده جلَّ وعَلَا حتَّى يرضى ، له الحمد أوَّلا و آخرًا ، وله الشُّكر ظاهرًا وباطنًا ، وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، ولا ربَّ سواه ، ولا خالقَ إلاّ هو عز وجل ، إلهُ الأوَّلين والآخرين ، وقيُّومُ السَّماوات و الأراضين ، وخالق الخلق أجمعين ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه ، وصفيُّه وخليله، وأمينُه على وَحْيِه ، ومُبلِّغُ النَّاس شرعَه ، وأشهد أنَّه ترك أمَّته على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعده إلاّ هالك ، أقام الحجَّة وأبان المحجَّة وأوضح السَّبيل ، وما ترك خيرًا إلاّ دلَّ أمَّته عليه ، ولا شرًّا إلاّ حذَّرها منه، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتَّى آتاه اليقين ، فصلوات الله وملائكتُه وأنبياؤه والصَّالحون من عباده عليه وسلَّم تسليمًا كثيرًا . أمَّا بعد :
فبادئ ذي بدء في هذا الملتقى الذي نسأل الله أن يعمَّه بالخير وأن يطرح فيه الخير والبركة في هذه السلسلة النافعة الماتعة ؛ سلسلة الحقوق ، بادئ ذي بدئ نسأل الله جل وعلا أن يثيب القائمين على ترتيب هذه السلسلة أعظم الثواب وأن يجزيهم خير الجزاء ، فإن الدال على الخير كفاعله ، وهي سلسلة مباركة موفَّقة النَّاس يحتاجون إليها حاجة ماسَّة ، والتذكير بها من أعظم ما يذكر به ؛ حقوق الله جلَّ وعلا ، وحقوق الرَّسول عليه الصلاة والسلام ، وحقوق الوالدين, وحقوق الأقارب والجيران , وحقوق كبار السِّنِّ ، إلى غير ذلك من الحقوق التي تنتظمها هذه السلسلة المباركة النافعة . وأرى أن القائمين على ترتيب هذا اللقاء وُفقوا كثيرا في اختيار هذه الموضوعات التي تنتظمها سلسلة الحقوق .
والتَّذكير بهذه الحقوق بوَّابةٌ للخير ودليلٌ للصَّلاح والفلاح ، والمسلم إذا ذكِّر تذكَّر ، وإذا دُلَّ إلى الخير اهتدى وسار، والله جلَّ وعلا يقول : ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات:55] ، فهذه المحاضرات بوابة خيرٍ في أداء الحقوق اللازمة الحقوق الواجبة المتحتمة على كل مسلم ، الحقوق التي لله ، والحقوق التي للرسول عليه الصلاة والسلام، والحقوق التي للوالدين ، وللعلماء ، وللجيران ، ولكبار السن ، وغيرهم .
وهنا يدرك المسلم جمال هذه الشَّريعة المباركة - شريعة الإسلام- دين الله تبارك وتعالى ، وأنَّ هذا الدِّين دين العدل ودين إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه ، قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾[النحل:90] ؛ ديننا دين العدل , والعدل : هو إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه ، وإذا أردتَ أن تكونَ عدلا فلا بُدَّ في ذلك من معرفة الحقوق حتَّى تعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فتكون بذلك عدلاً , وإلاّ فإنَّ فاقد الشَّيء لا يعطيه ؛ إذا كنت لا تعرف حقَّ الله عليك أو لا تعرف حقَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم عليك أو لا تعرف حقَّ الوالدين عليك أو لا تعرف حقَّ الجيران أو حقَّ كبار السِّنِّ أو غيرهم فكيفَ تعطيهم حقوقَهم ؟!, وكيف تكون عدلا ؟ فاقد الشَّيء لا يعطيه .
ولهذا كانَ من أهمِّ المهمَّات وآكد الواجبات العنايةُ بمعرفة الحقوق , وتكون عناية المسلم بهذه الحقوق وبمعرفتها من جهة قصد فعلِها وعبادةِ الله تبارك وتعالى بتحقيقها ، والتَّقرُّب إليه سبحانه وتعالى بتتميمها وتكميلها ، أمَّا أن تكون معرفةُ هذه الحقوق لمجرَّد المعرفة ولمزيد الاستطلاع وكثرة العلم أو نحو ذلك فهذا ليس مقصود العلم ، مقصود العلم العمل ، ولهذا يقول عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه : «يهتفُ العلم بالعمل، فإن أجابَه وإلاّ ارتحل» .
ولهذا عليك أيُّها المسلم أن تعلم أنَّ أمثال هذه المحاضرات والتَّوجيهات والمذاكرات هي إمَّا أن تكون حجَّة لك أو تكون حجَّة عليك ؛ حجَّة لك : إن اعتنيتَ بتطبيق ما تسمع وفِعل ما تُرشد إليه من الخير والحقِّ والصَّواب ، أو تكون حجَّةً عليك : إذا كان حظُّك من هذه العلوم والمعارف مجرَّد السَّماع (( والقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ ))كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا - معاشر الإخوة الكرام - يتطلَّب من كلِّ واحد منَّا أن يستحضر في قلبه نيَّةً طيِّبةً بينه وبين الله جلَّ وعلَا في سماعه لهذه الحقوق ؛ أن ينوي نيَّةً طيِّبةً في أن يقوم بهذه الحقوق وأن يتمِّمها ويكمِّلَها ويأتي بها على التَّمام والكمال, فيستمع وعنده نفسٌ مستعدَّةٌ للخير , لا أن تكون نفسه مُعرِضة أو متراخية أو متوانيةً فإنَّ مثل هذا لا يستفيد , أو تكون فائدته ضعيفة ؛ ولهذا نحن أحوج ما نكون في مثل هذا المقام إلى أمرين ذكرهما العلاّمة ابن القيِّم رحمه الله في كتابه «مفتاح دار السَّعادة» ألا وهما : «علمٌ يهديك، وهمَّةٌ عالية ترقِّيك» ؛ أمران من أهمِّ ما يكون: «علمٌ يهديك» : يهديك إلى طريق الحقِّ والصَّواب ، « وهمَّةٌ عالية ترقِّيك» : أي في دروب الخير وسُبُل الفضيلة، وإذا كان عند الإنسان علمٌ ولا همَّة له في العمل يكون علمُه حجَّة عليه. ولهذا كما أنَّنا نحتاج إلى العلم النَّافع فإنَّنا نحتاج أيضاً إلى الهمَّة العالية الَّتي بموجبها يقومُ الإنسان بأداء هذه الحقوق الواجبة والحقوق المتحتِّمة على كلِّ مسلم ومسلمة.
ثمَّ إنَّ من جمال شريعتنا الغرَّاء أنَّها شريعة جاءت بمكارم الأخلاق ومعاليها، وحذَّرت من رديء الأخلاق وسفسافها، شريعة كاملة، يقول عليه الصلاة والسلام : ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاقِ )) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاقًا ))، وقال عليه الصلاة والسلام : (( إِنَّ المؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ )) ؛ فحُسْنُ الخلق ممَّا دعت إليه هذه الشَّريعة ، دعت الشريعة إلى الأدب الكامل والخُلق الرَّفيع ؛ الأدب مع الله ، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومع عباد الله ، جاءت الشَّريعة بهذه الآداب المباركة ، الآداب السَّامية الرَّفيعة الَّتي منها يتجلَّى ويظهر متانة هذا الدِّين وكماله وتمامُه ورفعتُه، وأنَّه دينُ المحاسنِ في عقائده وعباداته وآدابه وأخلاقه ، وهذا الأمر لما فرَّط فيه بعض المسلمين - ولربَّما كثيرٌ منهم - ضعُف أثرُ إقبال النَّاس على هذا الدِّين من هذه الجهة ، وإلا لو قام أهلُ الإيمان بما يدعوهم إليه دينُهم من حقوقٍ وواجبات وآدابٍ ومحاسن وتجلَّت فيهم هذه الخصال وظهرت فيهم هذه الخِلال لكان هذا من أعظم بوَّابات الدَّعوة إلى دخول هذا الدِّين ، ولقد مضى على أمَّة الإسلام أوقاتاً كان النَّاس يدخلون في دين الله أفواجًا وجماعات مِن جهة ما يَرونه على أهل الدِّين من كمالٍ في أخلاقِهم وآدابِهم ومعاملاتِهم في جميع الجوانب ، وقد قرأتُ كلمةً للشَّيخ العلامة عبد العزيز بن باز - رحمه الله وأسكنه الجنَّة - يُقسِم فيها بالله يقول: «والله الَّذي لا إله إلا هو؛ لو بُيِّنت محاسن هذا الدِّين لغير المسلمين لدخلُوا في دين الله أفواجًا» ؛ لأنه من خلالها يدخلون هذا الدين .
وقد رأيتُ رجلا لقيتُه وتحدَّثْتُ معه من أهل الهند أسلمَ على يده ما يزيد على ألف رجل من الهنادكة ، وكلُّهم أسلموا على يديه فُرادى، ما دعا اثنين معًا وإنَّما دَعوتُه فرديَّة ، وطريقتُه في الدَّعوة أنَّه عنده إلمامٌ جيِّد بمحاسن هذا الدِّين وآدابه وكمالاته ثمَّ إذا لقيَ أحدَ الهنادكة جالساً وحده - وكان يتخيَّر في الغالب مَن يرى عليه الهمَّ والحُزن أو يرى فيه مشكلة معيَّنة - فيجلس معه ويسأله عن حاله وعن مشكلته وعن وضعه ، ثمَّ مِن ثَمَّ يذكر له بعضَ محاسن الدِّين ، ويقول لي : كثير من هؤلاء يكفيه رُبع ساعة أو نصف ساعة بحَدٍّ أكثر أُعدِّد له محاسن هذا الدِّين فيسألني كيفَ الدُّخول؟ وما السَّبيل إلى أن أكون من المسلمين ؟ فأعرِض عليه الإسلام ويُسلِم.
إنَّنا معاشر أمَّة الإسلام أمَّة محمَّد عليه الصلاة والسلام بحاجةٍ إلى أن نعرف نحن أوَّلا محاسنَ ديننا ، وننهلَ من معينِه العَذب ومَورده الصَّافي ، ونتفيَّئ ظلالَه ونرتوي من زُلاله ؛ فنتأدَّب بآداب الإسلام ، ونعتني بالأخلاق الَّتي دعانا إليها ربُّ العالمين ، ثمَّ إنَّنا نستشعر أنَّ هذه الأخلاق هي أمرٌ دعا إليه خالقُ هذا الكون وربُّ العالمين - الحكيم بخلقه العليم بهم سبحانه وتعالى - فنأتمر ونمتثل ونطيع ، ونحن نرجو في ذلك ثوابَ ربِّنا وموعودَه الكريم لمن قام بما أمره الله تبارك وتعالى به من حقوقٍ وواجباتٍ .
وهاهنا أيها الأخ الموفَّق لابدَّ أن تنتبه لأمر في غاية الأهمِّيَّة في باب الحقوق ؛ ألا وهو : أنَّ قيامك بهذه الحقوق وفِعْلَك لها هو أمرٌ تفعله طلبًا لثواب الله وانتظارًا لموعوده سبحانه وتعالى ، تكون هذه نيَّتك : ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ﴾ [الإنسان:9] تفعل البرَّ والإحسان قربةً وطلبًا لثواب الله سبحانه وتعالى ، وتنتظر به شيئًا يمنحه الله إيَّاك في الدُّنيا والآخرة من ثوابه المعجَّل ونعيمه المؤجَّل . وإيَّاك أن تكون في فعلك للبرِّ مساومًا ولا تُعطي إلا ما تُعطَى ، إن وُصِلت وَصَلت، وإن قُطِعت قطَعت ، لا تكن هذه صفتك ، قال أحدُ الصَّحابة : «إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي» إلى ماذا أرشده عليه الصلاة والسلام ؟ لم يرشده أن يعاملهم بالقَطيعة المذمومة مع أنَّهم يقطعونه! وإنَّما أرشده عليه الصلاة والسلام أن يصِلهم وإن قطعوه ، وقال: ((فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ المـَلَّ)) . فالمسلم يفعل ذلك ويرجو فيه ثواب الله سبحانه وتعالى وعظيم موعوده .
من محاسن هذه الشَّريعة ومن الحقوق الَّتي دعا إليها هذا الدِّين الحنيف: «حقوق كبار السِّنِّ» ؛ سواء كان هذا الكبير أبًا أو قريبًا أو جارًا أو مسلمًا أو غير مسلم ، فالكبَر له حقٌّ جاءت الشَّريعة بحفظِه ورعايتِه والقيامِ به ، لكنَّ هذا الحقَّ يعظُم ويكبُر من جهة ما احتفَّ به ؛ فإذا كان الكبير أباً أو جدًّا فالحق أعظم ، وإذا كان قريبًا يعظم الحقُّ، وإذا كان جارًا فإضافةً إلى حقِّه في كِبَرِ سِنِّه حقُّه في الجوار ، وإذا كان مسلمًا فمع حقِّ كبَر السِّنِّ حقُّ الإسلام ، وإذا كانَ غير مسلم فله حقُّ كبر السِّنِّ ، والشَّريعة جاءت بهذا حتَّى مع غير المسلمين يُحفظ حقِّ الكبير , ولربَّما يكون رعايتك لحقِّه سببًا لدخوله في هذا الدِّين في مراحل حياتِه الأخيرة ، فيرى سماحة هذا الدِّين ولطفَه ونُبلَه وجمالَه فيدخُل فيه من هذه الجهة - من جهة رعاية دين الإسلام لحقوق الكبار - لكن إن ضُيَّع حقَّ الكبير مع غير المسلم فإنَّ هذا قد يَحُولُ بينه وبين تقبُّل هذا الدِّين وقَبوله ، وهذا مَلْحَظٌ لا بدَّ من رعايتِه ؛ فحقُّ كبير السِّنِّ حقٌّ جاءت الشَّريعة بحفظه , وأمَر ديننا الحنيفُ بأدائه والقيام به ، بل ثبتَ في الحديث الصَّحيح أنَّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم قال : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا» ، ولاحظ ما دعت إليه الشَّريعة من خلال هذا الحديث: «يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» ، فالكبير له توقير واحترام ، وله منزلة وقدْرٌ ، وله شأنٌ يجب أن يُحفظ ويجب أن يُرعى ويجب أن يقام به ، فمن لم يوقِّر الكبير فليس منَّا ؛ وقوله عليه الصلاة والسلام : «ليسَ مِنَّا» هذا فيه أن من لا يوقِّر الكبير ولا يحترمه ليس على هدي النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام ولا على طريقتِه وليس قائماً بهديه وسنَّتِه صلواتُ الله وسلامه عليه ، بل الكبير يُوَقَّر ويُحترم ، ولربَّما كان هذا سبب عزٍّ ورفعةٍ , ولربَّما أيضاً كان هذا سبب هدايةٍ لهذا الكبير إلى الدِّين إن لم يكن مسلمًا.
واسمعوا إلى هذه القصَّة العجيبة الَّتي رواها أهل السِّير في قصَّة فتح النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام مكَّة : لما فتح عليه الصلاة والسلام مكَّة انطلق أبو بكر الصِّدِّيق إلى والده أبي قُحافة - وكان يومئذ لم يُسلِم بعد ، وكان رجلاً شيبةً غطَّى البياض شعرَ لحيتِه ورأسِه وكساه البياض - فانطلق إليه وأتى به ممسكًا بيده ودخل به إلى نبيِّ الله عليه الصلاة والسلام - وكان يومئذ أبي قحافة كافراً ليس بمسلم - فلمَّا دخل به إلى النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام ماذا قال صلى الله عليه وسلم ؟ قال: ((هَلاَّ تَرَكْتَ الشَّيْخَ حَتَّى آتِيَهُ )) يعني النَّبيَّ عليه الصلاة والسلام يذهب له في بيتِه ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم دخل مكَّة فاتحًا !! هذه الكلمة الآن لما يسمعها هذا الرَّجل المسنُّ الكبير أيُّ وقْعٍ يكون لها في نفسه ؟ وأيُّ أثرٍ يكون لها في قلبه ؟ والله إنَّها لتفتح القلبَ على مصراعيه , وتجعله قلباً متهيِّئا منفتحًا منشرحًا لما يُدعى إليه ، ولهذا وضع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: (( تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ الله؟)) ، قال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّك رسول الله» وأسلم .
فشريعتُنا جاءت بحفظ حقِّ الكبير ورعاية حقه وإن لم يكن مسلمًا ، فكيف إذا كان هذا الكبير مسلمًا ؟! فكيف إذا كان جارًا ؟ وكيف إذا كان قريبًا ؟ كيف إذا كان أبًا أو أمًّا ؟ فلا شكَّ أنَّ الحقَّ يعظُم ؛ لو كانَ والد الإنسان المسنُّ غيرَ مسلمٍ فالشَّريعة جاءت بحفظه ، بل حتَّى لو كان يدعو ابنه إلى الكفر جاءت الشَّريعة بحفظ حقِّه ؛ حقِّ الولادة وحقِّ كبر السِّنِّ، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان:15] ؛ فدينُنا دينُ المعروف ، ودين السَّماحة، ودين اللُّطف، ودين العدل ، ودين رعاية الحقوق والقيام بها ، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه .
قد جاء في الحديث الصَّحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من حديث أبي موسى الأشعري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ المسْلِمِ ، وَحَامِلِ القُرْآنِ غَيْرِ الغَالِي فِيهِ وَالجَافِي عَنْهُ ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المقْسِطِ)) هؤلاء الثَّلاثة إكرامهم من إجلال الله سبحانه وتعالى ، وأنت مطالبٌ أن تُجِلَّ ربَّ العالمين، وأن تُقَدِّره سبحانه وتعالى حقَّ قدره ، وإكرامك لهؤلاء - ذي الشَّيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، والحاكم المقسط، أي العدل - كلُّ ذلك من إجلال ربِّ العالمين سبحانه وتعالى ؛ ولاحظ الآن إذا كنت تكرم ذي الشيبة المسلم فأنت بإكرامك له تقوم بإجلال رب العالمين ، لأن من إجلال رب العالمين إكرام ذي الشيبة لأن الله جل وعلا دعاك إلى هذا الإكرام وأمَرك به وحثك عليه ورغَّبك فيه ؛ فإن قمت به قيامك به من إجلال الله، وإن قصّرت في هذا الواجب تَقصيرك في هذا الواجب تقصيرٌ في إجلال الله ؛ لأنَّ ربَّ العالمين دعاك إلى هذا الأمر لما فيه من الخَير والمصلحة والحُسن والكَمال والجَمال فإنْ قصَّرتَ فتقصيرُك ضعفٌ في قيامك بإجلال ربِّ العالمين، وقيامُك بهذا الإكرام هو من إجلالِك لربِّ العالمين ؛ فانظر إلى المكانة العالية والمنزلة الرَّفيعة الَّتي تبوَّأها هذا الحقُّ الَّذي هو حقُّ كبير السِّنِّ ذي الشَّيبة المسلم .
ونصوصُ شَرعنا المطهَّر ودلائل كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلوات الله وسلامه عليه في رعاية هذا الحقِّ والقيام به كثيرة جدًّا، يذكرُها أهل العلم في كتب الآداب ، ولو طالعت الكتابَ الفذَّ العظيم كتابَ «الأدب المفرد» للإمام البخاريِّ رحمة الله عليه أو غيره من كُتب أهل العلم في هذا الباب لرأيتَ من الأحاديث والنُّصوص الكثيرة الَّتي تدعو أهلَ الإيمان وعموم المسلمين إلى القيام بهذا الحقِّ العظيم ورعايته ، بل إنَّك تلمح في هذا الكتاب وفي غيره من كتب أهل السُّنَّة الأدب الرَّفيع والخُلق العالي الَّذي كان عليه جيل الصَّحابة ومنِ اتَّبعهم بإحسان مع كبار السِّنِّ مما سَيَمُرُّ معنا لمحاتٍ إلى بعضه وإشارة إلى طرفٍ منه إن شاء الله.
هُنا أيها الأخ الموفَّق نقف وقفةً لا بدَّ منها : إذا سمعنا بحقِّ الكبير ودعوة الشَّريعة للقيام به ورعايته يحتاج كلُّ واحدٍ منَّا إلى جملة من الأشياء يستَحضرها في نفسه ويستجمِعُها في ذهنه لتكونَ عونًا له في القيام بهذا الواجب ، وإلا يكون سماعُ الإنسان إلى أمثال هذا التَّذكير له تأثير مؤقَّت ، وأنا أُلْمِح هُنا إلى مشكلةٍ نعاني منها كثيرًا في حياتنا العمليَّة ، نحن نسمع مواعظ وتذكيرات مؤثِّرة جدًّا ، وتأثُّرنا بها يكون وقتيّ ، يشبِّهُهَا بعضُ الوعَّاظ بإبرة البَنْجِ ، تأثيرها وقتيٌّ ربَّما بعض النَّاس تستمرُّ معه أسبوع أو أَزْيَد أو أقلَّ ، ولا ينبغي أن يكون حالُنا كذلك ، بل ينبغي أن يكون حالنا مع ما نوعَظ به ونذكَّر به من أبواب الخير هو الاستدامة والمواصلة ، قال الله تعالى : ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لاتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء:66-68] . متى هذا ؟ ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ ﴾ . حالنا مع كثير من المواعظ أنَّ تأثيرَها فينا وقتيّ لأيَّام أو أسابيع . ولهذا يذكرون من الطَّرائف : أنَّ أحد النَّاس جاء إلى خطيب جامع حيِّه يلوم الخطيب قال له : أنتَ الآن منذ عشرين سنة وأنت تخطبُ فينا ماذا صنعت؟ ماذا قدَّمت؟ منذ عشرين سنة وأنت كلَّ جمعة تعتَلي المنبرَ وتخطب في أبواب كثيرة ومتعدِّدة ماذا صنعتَ ؟ فأجابه الخطيبُ على الفور : وأنتُم منذ عشرين سنة تستَمعون إليَّ ماذا فعلتُم؟ لأن مهمَّة الخطيب أن يبيِّنَ وأن يعظَ النَّاس وأن يذكُر لهم الآيات والأحاديث وآثار السَّلف ممَّا يكون عونًا لهم على الخير.
فأنتَ إذا سمعتَ الخير وهُدِيتَ إليه ودُلِلتَ عليه تحتاج إلى جملة أمور حتَّى يبقى هذا الخيرُ حياةً عمليَّةً تطبِّقها وتستديم تطبيقَها إلى أن يتوفَّاك الله جلَّ وعلا ، ففي بابنا - باب حقوق كبار السِّنِّ – أقول : نحتاج إلى جملة أمور ينبغي علينا معاشر الإخوة الكرام أن نستَحضرها في أنفسِنا حتَّى تكونَ عونًا لنا على القيام بهذه الحقوق واستدامة تطبيقِها إلى أن نلقى الله جلَّ وعلا ، ولعلِّي ألخِّص ذلك في جملة نقاط:
النقطة الأولى مما نحتاج إليه في هذا المقام : أن نعرف وأن نقف على الأدلَّة أدلة الكتاب والسُّنَّة الَّتي تدلُّ على أهمِّيَّة رعاية هذا الحقِّ العظيم - حقِّ كبار السِّنِّ - .
والأدلَّة لها وقعٌ كبيرٌ في النُّفوس المؤمنة والقلوب الصَّادقة، واللهِ! ثمَّ واللهِ! إنَّ قول نبيِّنا صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ المسْلِمِ )) هذه الكلمة والمقولة العظيمة من رسولنا عليه الصلاة والسلام لو كانت القلوب صافيةً ليس عليها كدرٌ وغشاوةٌ لهزَّت القلب هزًّا وأثَّرت فيه أبلغ تأثير ، (( إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ المسْلِمِ )) كلمة لها وقعٌ كبيرٌ على النُّفوس الصَّادقة والنفوس المؤمنة ، إكرامُك لذي الشَّيبة من إجلال الله هذا يدلُّنا على عظيم مكانةِ هؤلاء وكبير حقِّهم في شرعِنا . وقول نبيِّنا صلى الله عليه وسلم: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا )) له أثرٌ كبيرٌ في نفوس المؤمنين وقلوب الصَّادقين ، فنحن نحتاج إلى سماع هذه الأدلَّة وسماع هذه الأحاديث المباركة عن نبيِّنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه حتَّى يكون هذا السَّماع عونًا لنا على الخير ، والخير منازل ودرجات؛ أوَّل درجاته السَّماع ، ثمَّ الفهم ، ثمَّ العمل والتَّطبيق ؛ فهي مراحل يتدرَّج فيها العبد . ولهذا جاءت الشَّريعة بالحثِّ على لزوم مجالس العِلم وحضور مجالس العِلم ، لأنَّ مجالسَ العلم هي البوَّابة الَّتي من خلالها يدخل المسلمُ إلى الفضائل بجميع أنواعها والخيرات من أوسَع أبوابها ، فهذا الأمر الأوَّل.
الأمر الثاني: أن تستَعين بالله وتلتجئ إليه سبحانه وتعالى بأن يُعينك على القيام بهذا الحقِّ ، (( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ ، واسْتَعِنْ بِالله )) ، وفي القُرآن الكريم يقول الله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة:5] ، ويقول جلَّ وعلا: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [هود:123] ، فأنتَ تحتاج للقيام بهذه الأمور العَظيمة إلى عَون الله جلَّ وعلا، يقول نبيُّنا عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جَبل : (( يَا مُعَاذُ إِنِّي لاحِبُّكَ لا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ أَنْ تَقُولَ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ )) ؛ فإذا سمعتَ بالفَضيلة أو بابٍ من أبواب الخَير فاطلُب مِن الله أن يُعينك عليه ، وأن يُيَسِّره لك ، وأن يوفِّقك للقيام به ، وأن لا يَكِلَكَ إلى نفسِك .
الأمر الثالث من الأمور المعينة للقيام بحق كبير السن : أن تستَحضر - أيُّها المسلم الموفَّق – الثِّمار العظيمة والخَيرات العَميمة المترتِّبة على رعايتِك لهذا الحقِّ وقيامِك به في الدُّنيا والآخرة ، واللهُ تبارك وتعالى أعدَّ للقائمين بهذه الحقوق خَيراتٍ عظيمةٍ ونِعمٍ عديدةٍ في دُنياهم وأُخراهم ؛ وهذا البرُّ وهذا الخَير وهذا الإحسَان من أسباب سَعة الرِّزق في الدُّنيا ، وأن يُنسَأ للإنسان في أجله ، وأن يُبارك له في حياتِه ، وأن تَزول عنه المكدِّرات والهمُوم والأحزَان ، وأن تَنصرف عنه المصائب والمحنُ ، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنَّمَا تُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ ))، ويقول عليه الصلاة والسلام : (( ابْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ؛ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ )) ، فإذا كانَ حقُّ الكبير محافَظٌ عليه يقومُ أهلُ الإيمان به ويَرعَوْنَه ، فلا شكَّ أنَّ هذا من أعظم أسباب التَّيسير والبركة وانصراف الفِتن والمِحن والبَلايا عن النَّاس ، وأيضًا يكون سبباً للخيرات العظيمة والنِّعم المتوالية على العَبد عندما يلقى اللهَ سبحانه وتعالى ، ويبلغ المؤمن بحُسن خلقه درجة الصائم القائم ، فتبلغ الدَّرجات العالية والمنازل الرَّفيعة في الدَّار الآخرة بحُسْن خُلُقك ، ومِن الخُلُق الَّذي أُمِرنا به : الخُلق مع كبار السِّنِّ ؛ فهم أحقُّ وأَولى بالخُلق الكريم ، فهذا الأمر الثَّالث منَ الأمور المعينة في هذا الباب .
الأمر الرابع : أن تتذكَّر قاعدةً وأصلا دلَّ عليه نصوص كثيرةٌ في كتاب الله وسُّنَّة نبيه عليه الصلاة والسلام ألا وهو: « كَمَا تَدِينُ تُدَان» ، والله جلَّ وعلا يقول: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرَّحمن:60] ، وبالمقابل يقول سبحانه وتعالى : ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى ﴾ [الروم:10] ؛ فالإحسان جزاؤه الإحسان ، والإساءة جزاؤها الإساءة ، ولهذا جاء في حديث يُرفع إلى النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام وفي سنده كلامٌ أنَّه قال : «مَنْ أَهَانَ ذَا شَيْبَةٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ عَلَيْهِ مَنْ يُهينُ شَيْبَهُ إِذَا شَابَ» ، وهذا المعنى ورد في بعض الآثار عن السَّلف ، فقد جاء في بعض الآثار: «مَن أهانَ شَيبةً في سنِّه ، لم يمُت حتَّى يقيِّضَ الله عزَّ وجلَّ له من يُهينُه في كِبر سنِّه» ؛ وهذا دلت عليه عمومات الشريعة ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى﴾ و «كَمَا تَدِينُ تُدَان» ، فأنتَ إذا كنتَ ترعى حق الكبير وتحترم الكبيرَ سيجازيك الله سبحانه وتعالى من جنس إحسانك ، وسيأتي عليك يوم ستكونُ فيه كبير سن ، إن لم يتوفاك الله عز وجل قبل ذلك سيأتي عليك يوم تكونُ فيه كبير سن ضعيف بدن، ضعيفَ حواسّ وتحتاج ممَّن حولكَ أن يحترمُوك وأن يعرفُوا حقَّك ، فإذا كنتَ مضيِّعاً لحقوق كبارِ السِّنِّ في شبابكَ فستضيعُ عليكَ حقوقُك في كِبَرك «كما تُدين تُدان». وإذا كنتَ في شبابك ترعى حقَّ الكبار وتحترمُهم وتقومُ بحقوقهم ييسَّر الله تبارك وتعالى لك من يرعى حقوقَك في كبرك ، وهذه سنَّةٌ ماضيةٌ ومعلومةٌ ، والنَّاس يعرفونها في واقعهم وحياتِهم ، يعرفونها تمام المعرفة ويشاهدونها؛ يقولون فلان كذا وفلان كذا من أمور عرفوها وعاينوها ، فالإنسان عليه أن يتَّقي الله سبحانه وتعالى وأن يراقبه وأن يقوم بهذه الحقوق وأن يرعاها طلبًا لثوابه وفضله وإنعامه وإكرامه سبحانه وتعالى لعباده .
ثم أمر آخر خامس مما يعينك على هذا الباب : أن تتأمَّل الحالة المباركة الَّتي كان عليها سلفُنا الصَّالح مِن أدبٍ مع الكبار ، واحترام لهم ، وتوقيرٍ ، وتقدير ، وقيام بحقوقهم ، وأن ترعى ذلك الأمر الَّذي كان عليه سلفنا الصَّالح ؛ وأنت إذا طالعتَ كتب السِّير - سير الصَّحابة ومن اتَّبعهم بإحسان - تجد أخبارًا عذبةً وسيرةً عطرة كانوا يعيشونها , وتجد أنَّ شباب الصَّحابة وشباب التَّابعين في غاية الأدب وفي غاية الاحترام ، فإذا طالعتَ سِير الصَّحابة وسِير التَّابعين تتعلَّم من خلال تلك السِّير أدبَ الكبار ، لكن إن مضتْ حياتُك وانْصَرَمَتْ زهرةُ شبابِك وأنت مفتونٌ بمطالعة أخبار اللاعبين والفنَّانين وأشباه أولئك لا يمكن أن تتعرَّف على هذه الأخلاق الفاضلة والأخلاق النَّبيلة الَّتي كان عليها سلفنا والرَّعيل الأوَّل المبارك .
إذاً نحن نحتاج إلى مطالعةٍ لسيَر سلفنا الصَّالح حتَّى نزداد من الخير الَّذي كانوا عليه ، وقد قال شيخ الإسلام : «من كانَ بهم أعرف كان بهم أشبه» أو كما قال رحمه الله ؛ إذا كنت على معرفة بحال الصحابة كنت أشبه بهم ، لأنَّ التَّشبُّه بهم فرعُ معرفة حالِهم وأخبارهم ، ولهذا قيل:
كرِّر عليَّ حديثَـهم يـا حـادي فحديثُهم يجلو الفؤادَ الصَّادي
انظر إلى نموذج من نماذج كثيرة : النبي عليه الصلاة والسلام - كما جاء في الصَّحيحين - قال مرة للصحابة وقد أُتي بجمَّار نخلة وأكل منه عليه الصلاة والسلام فوضعه أمامه ثم قال للصحابة : (( أخبروني عن شجرة لا يتحات ورقها ولا ولا ولا - أي ذكر أشياء من صفاتها - جعلها الله مثلا للمؤمن )) أخبروني عن هذه الشجرة ، وكان أمامه جمار النَّخلة أكل منه ثمَّ سألهم هذا السؤال : أخبروني عن شَجرة لا يتحات ورقها ولا كذا ولا كذا ولا كذا ؟ ذكر من صفاتها، جعلها الله مثلا للمؤمن يشير عليه الصلاة والسلام إلى قوله تعالى في سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24)} يقول ابن عمر : (( فخاض الصحابة في شجر البوادي )) لأنها شجر قوية ومتماسكة ولا يتساقط منها ورق فانصرفت أذهانهم تماماً إلى أشجار البوادي لأنها هي التي في العادة تكون بهذه الصفة ، فأخذوا يذكرون له أسماء أشجار في البوادي ، يقول ابن عمر وهو من صغار الصحابة (( وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ ، وفي المجلس أبو بكر وعمر وأكابر الصحابة فاستحييت أن أتقدم عليهم وأن أقول بين أيديهم هي النخلة فسكت ، فلما انتهوا من ذكر ما ذكروه من أسماء الأشجار ، ولم يقل واحد منهم هي النخلة قال نبينا عليه الصلاة والسلام : هي النخلة )) وابن عمر كل هذه الفترة ماسك نفسه عن الحديث وأن يبوح بهذا الذي وقع في نفسه وكان هو الواقع هو الصواب الموافق للمثال ، ولكن أدبه واحترامه وتوقيره للكبار منعه من الحديث ، يقول ابن عمر : (( فلما خرجنا قلت لأبي : والله لقد وقع في نفسي أنها النخلة ، قال وما منعك أن تقول هي النخلة ؟ قال: مكانك ومكان أبي بكر )) يعني قدرك وقدر أبي بكر وجودكم جعلني أمتنع ، فقال عمر ((والله لئن كنت قلتَ ذلك أحب إلي من كذا وكذا )) يعني يحبُّ لو أنَّه قال ذلك . لكن هذا أدب عظيمٌ وعالي ورفيعٌ جدًّا كان عليه هؤلاء.
ولمــَّا تقرأ سيَرهم كان الواحد منهم – وهذا تنظره في أحاديث كثيرة ، ومنها جملة في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري – كان الواحد منهم إذا حدَّث كبيراً في السِّنِّ يناديه: يا عمّ ! ولا يكون عمَّه - ليس أخاً لأبيه ولا يكون قريبا له - ولكن احترامًا لسنِّه وقدره ومكانته يتحدَّث معه بلطفٍ وبأدبٍ جمٍّ ، ويبدأ الحديثَ معه بــ: يا عمُّ! بلطف وبوقار وبأدب ؛ هكذا كان الصَّحابة رضي الله عنهم . فنحن نحتاج إلى كلِّ هذه الأمور حتَّى تكون عونًا للمسلم بإذن الله تبارك وتعالى على القيام بهذا الحقِّ العظيم ورعاية هذا الواجب الكبير الَّذي دعانا إليه دينُنا الحنيف.
ثمَّ يأتي بعد هذا إلى جانب في غاية الأهمِّيَّة في موضوعنا ونحن نتحدَّث عن حقوق كبار السِّنِّ الَّتي دعا إليها دينُنا المبارك ، نحن نقول: الشَّريعة جاءت بحقوق كبار السِّنِّ ورعايتها والقيام بها ؛ ما هي حقوق كبار السن التي ينبغي على المسلم أن يقوم بها ؟ ما الحقوق التي علينا تجاه كبار السن ؟ هذا السُّؤال كبير في هذا الموضوع ومهمٌّ للغاية . وأتحدث عن بعض جوانب هذا الموضوع فيما بقي من وقت هذا اللقاء .
حقوق كبار السِّنِّ متعدِّدة وأنت تجدها مبثوثة في نصوصٍ كثيرة في كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلوات الله وسلامه عليه. وقبل هذه الحقوق أؤكِّد على أمرٍ أسلفتُ الحديث عنه ألا وهو : أنَّ حقَّ كبير السِّنِّ يَعظُم من جهات : إذا كان كبيرُ السِّنِّ أبًا أو جدًّا فحقُّه أعظم من حقِّ قريبٍ آخر , وإذا كان كبير السِّنِّ جارًا حقُّه أعظم من بعيد الدَّار , وإذا كان كبير السِّنِّ مسلماً فحقُّه أعظم من غير المسلم ، وهكذا . فإذًا الكبار كلُّهم يشتركون في أنَّ لهم في الشَّريعة حق، لكنْ هذا الحقُّ ومكانته ودرجته وقدره يتفاوت بما يحتفُّ بهذا الكِبَر من أمورٍ كالقَرابة والجِوار والإسلام ونحو ذلك، ولهذا ينبغي أن يُلاحِظ ذلك المسلم في رعايته لحقوق الكبار .
نأتي الآن إلى حقوق الكبار ما هي ؟ ونذكرها في نذكرها في نقاط :
النقطة الأولى : ما جاء في الحديث ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام : (( يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا )) : توقير الكبير ، وتوقير الكبير هذه كلمة عظيمةٌ لها معاني جليلة ورفيعة جدًّا ، الكبير يوقَّر يكون له وقار ومكانةٌ وقدر في النُّفوس ومنزلةٌ في القلوب , له احترامٌ وله إكرامٌ وله قدرٌ في قلوبنا ، وهذه منطلق وركيزة القيام بحقوق الكبير ؛ لأنَّ من لا يوقِّر الكبير لا يمكن أن يقوم بحقوقه ، فتوقيره حقٌّ له وهو في الوقت نفسه ركيزةٌ للقيام بسائر حقوقه وجميع واجباته، ولهذا جمَع ذلك عليه الصلاة والسلام بهذه الكلمة العظيمة , قال: (( لَيْسَ مِنَّا مَن لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا )) فتوقير الكبير بأن يكونَ له في قلبِك وقارٌ ومكانةٌ وتعرف له قدرَه ومكانتَه ومنزلتَه ، فهذا حقٌّ من حقوقه.
الأمر الثاني : ما جاء في الحديث الآخر, حديث أبي موسى الأشعري أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : (( إنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إِكْرَام ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ )) ؛ أن تكرمه بما تدلُّ عليه هذه الكلمة من معنًى : تكرمه بكلامك، تكرمه بعباراتك ، بلطفك، تكرمه بمعاملتك، تكرمه بتقديمه، بكلِّ ما تدلُّ عليه كلمة الإكرام من معنى تقوم بذلك تجاه الكبير .
الأمر الثالث : أن تبدأه بإلقاء السَّلام عليه (( يسلِّم الصَّغير على الكبير )) ؛ فإذا لقيتَ كبير السِّنِّ لا تنتظر أن يبدأك بالسَّلام ، بل سارع وبادر في إلقاء السَّلام عليه وتلقي عليه السلام بكلِّ أدب وبكل احترام وبكلِّ توقير وبلطف، وتراعي أيضًا حاله في كبر سنِّه ؛ إذا كنت تعرف من سمعه سلامةً وعدم ضعف تلقيه بصوت يسمعه ولا يؤذيه، وإذا كان بسبب كبر سنِّه ثقُل سمعه أيضاً تراعي ذلك ، إذا كنت تعلم من حاله ذلك تلقي عليه سلاماً يسمعه, فتلاحظ هذا وتبدأ الكبير بالسَّلام ولا تنتظر أن يبدأك بالسَّلام (( يُسَلِّم الصَّغيرُ على الكَبير ، والرَّاكبُ على الماشي )) كما جاءت بذلك شريعتنا المباركة . فهذا من حقوقهم .
ومن حقوقهم أيضا : أن يتركَ له البدءَ بالكلام وأن يقدَّمَ في الكلام , وهذا ممَّا جاءت به السُّنَّة , ويقدَّم في المجلس ، ويقدَّم في الطَّعام , فهذا من حقوقِهم ، ولهذا جاء في السُّنن في قصَّة عبد الله بن سهل ومحيِّصة بن مسعود في قصة ذهابهم إلى خيبر وكانت يومئذٍ صلح مع اليهود ، فدخل عبد الله بن سهل ومحيِّصة بن مسعود ثمَّ إنَّ أحدَ اليهود اعتدى على عبد الله فقتله ، فجاء محيِّصة فوجده في دمِه ولا يدري من قتله من هؤلاء !؟ فأخذه ودفنَه ، ثمَّ ذهب محيِّصة وحويِّصة ابنا مسعود وعبد الرَّحمن بن سهل أخو القَتيل إلى النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام ليذكرا له الخبر وليخبراه بما حصل ، فعبد الرَّحمن الذي هو أخو القتيل بدأ يتحدث عند رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فأراد أن يبدأ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَبِّرْ كَبِّرْ» ـ يعني يبدأ الكبير, فتحدَّث محيِّصة وحُوَيِّصة ابنا مسعود بالَّذي حصل ؛ الشاهد قوله: «كَبِّرْ كَبِّرْ» . وأيضا في قصَّة السِّواك وفي غير ذلك كان عليه الصلاة والسلام يراعي الكبير . فتوقير الكبير واحترامه وإعطاءه حقَّه في الحديث وفي الكلام هذا من جملة حقوقهم.
من حقوق الكبار : أن تعرف له وضعه - وهذه من الأمور الَّتي يجهلها كثير من الشَّباب - أن تعرف له وضعه من حيث الصِّحة ، من حيث ضعف البدن، من حيث ضعف الحواس ، تعرف أنَّ هذه مرحلة هو يعيشها مرحلة ضعف عام في بدنه , في صحَّته , في حواسِّه , وأنتَ إذا فسَح الله في عمُرك وأمدَّك ستمرُّ بمثل هذه المرحلة ، أنت الآن في قواك في سمعك وبصرك وبدنك ثمَّ سيؤول بك الأمر إلى هذه المرحلة مرحلة الضعف قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾ [الروم: 54] ، وقال: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ﴾ [الحج:5] فهذه مراحل حياة الإنسان. إذاً من حقِّه عليكَ أن تعرف حالتَه الصِّحِّية ، ووضعه النَّفسي ، ووضع حواسِّه ، بل إنَّ بعض النَّاس بسبب كبره ووهنِه وضعفِه وضعفِ حواسِّه ترجع تصرُّفاته إلى أشبه ما يكون بتصرُّفات الصَّغير فمثل هذا كيف تعامله ؟ يحتاج إلى أن تعرف الوضع النفسي والوضع الصحي الذي يعيشه الكبير فتراعي ذلك ، بينما الَّذي لا يعرفُ هذا الأمر تجده سُرعانَ ما يملُّ من الكبير ويسأم من معاملته ؛ لأنَّه لا يستشعر الحالَ ولا يستشعر الوضعَ الَّذي عليه الكبير . فأنتَ إذا استحضرتَ هذا المقام واستذكرتَه وعرفتَ أنَّه حقٌّ عليك وأنَّه واجبٌ يجب أن ترعاه فستقوم بهذا الواجب وترعاه على أتمِّ حال وأحسن ما يكون .
أيضا من حقوق الكبار : الدُّعاء لهم ؛ تدعو له بحسن الخاتمة ، تدعو له بطُول العمر في طاعة الله عز وجل ، تدعو له بالتَّوفيق والسَّداد ، تدعو له بأن يحفظه الله جلَّ وعلا وأن يمتِّعه، تدعو لهم بأن يكون ممَّن قال فيهم عليه الصلاة والسلام عندما سئل أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ )) مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ )) ، يقولون : إنَّ سليمانَ بن عبد الملك دخل مرَّةً المسجد ، فوجد في المسجد رجلا كبير السِّنِّ ، فسلَّم عليه قال: يا فلان تحبُّ أن تموت ؟ قال : لا ؛ قال: ولمَ ؟ - يعني ما الذي ترجوه وأنت الآن بهذا الوهن وبهذا الضعف ؟- قال: «ذهب الشَّباب وشرُّه ، وجاء الكِبَر وخيرُه ؛ أنا إذا قمتُ قلتُ: بسم الله ، وإذا قعدتُ قلتُ: الحمدُ لله ، وإذا أكلت قلت بسم الله ، وإذا طعمت قلت الحمد لله ؛ أنا أحبُّ أن يبقَى لي هذا» ، يعني أنَّه يريد أن يستمرَّ حامدًا ذاكرًا شاكرًا ، فشرُّ الشَّباب وما فيه من تسلُّط الشَّهوة والميل إلى الأحوال الرَّديئة هذه ذهبت وانتهت ، والآن أنا في خير الشَّيخوخة وبركة الشيخوخة ، فأنا أريدُ أن يبقى لي ذلك ، وهذا المعنى هو ما قاله عليه الصلاة والسلام : (( خيركم من طال عمره وحسن عمله )) ، فهو يعيشُ مرحلةَ دنوِّ الأجل وقُرب المفارقة للحَياة فيذكرُ اللهَ ويشكرُ الله ويحمد الله ويسبِّح ويهلِّل ويدعُو ، فيريد أن يبقى ذلك له . فالدعاء لهم بطول العمر وحسن العمل وحسن الخاتمة هذه من جملة الحقُوق الَّتي ينبغي أن يرعاها المسلم لهؤلاء الكبار .
على كلِّ حالٍ هذه جملة من اللَّفتات والإشارات حول هذا الموضوع الكبير الجليل - موضوع حقوق كبار السِّنِّ - وهو من الموضوعات الَّتي اهتمَّ بها أهل العلم وبيَّنوها، ولاسيما في كتب الآداب ، ووردت فيها من النُّصوص والأدلَّة والآثار النَّافعة عن سلف الأمَّة الشَّيء الكثير . وهذه إشارة ولفتات حول هذا الموضوع .
نسأل الله تبارك وتعالى أن يعمَّ مجلسنا هذا بالخير والبركة ، وأن يحقِّق فيه النَّفع والفائدة ، وأن يجعل ما سمعناه حجَّة لنا لا علينا ، وأن يوفِّقنا للعلم النَّافع والعمل الصَّالح ، ونعوذُ به تبارك وتعالى من علمٍ لا ينفع ، ونسأله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يبارك في كبار السِّنِّ من آبائنا وأقاربنا وجيراننا وعموم المسلمين ، وأن يحفظهم بحفظه ، وأن يتولاهم برعايته ، وأن يوفِّقهم بتوفيقه ، وأن يمُنَّ عليهم بحُسن الختام ، وطيِّب العمل ، وسديد القول، إنَّه تبارك وتعالى سميع الدُّعاء وهو أهل الرَّجاء وهو حسبُنا ونعم الوكيل . وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين .
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
للشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر -عفى عنه-