التوبة
المقدمــة
أَغرَقت الحياة المدنية الحديثة بوسائلها المختلفة حياة الناس، وملأتها بالشبهات والشهوات والمعاصي والسيئات، حتى أصبح المرء يقع في الذنوب رغم أنفه بعدما تكاثرت المغريات بالشرور وقلَّت البواعث على الخيرات فأصبحت القلوب بحاجة إلى من يوقظها والنفوس بحاجة إلى من يبث العزم واليقظة في جوانبها ومن ثم فإن العودة إلى الله سبحانه وتعالى وتوثيق الصلة به هي المخرج من كل ما يحيط بالإنسان من مغريات وشهوات كما أن التوبة الدائمة إلى الله سبحانه وتعالى أصبحت ضرورة ملازمة للإنسان ليكفِّر بها عن الذنوب التي تلاحقه ويلاحقها، في هذه الحلقة نتناول أهمية التوبة وضرورتها وفضلها ووجوبها ومقوماتها وأركانها كما نتعرض لثمراتها ومكاسبها وأثرها على الإنسان في الدنيا والآخرة وذلك من خلال حوارنا مع فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي.
إلى أعلى
المقدم
فضيلة الدكتور .. في البداية لو نظرنا إلى واقع الناس نجد كما أشرنا في المقدمة، المغريات والشهوات والشبهات أصبحت تحيط بالإنسان في كل ما يراه في الحياة، هل هذا الأمر سببه أيضاً المدنية الحديثة أم أنها طبيعة الحياة الدنيا منذ أن خلق الله الإنسان أن يجد المغريات تجذبه دائماً إلى المعاصي والبعد عن الله.
القرضاوي
لقد خُلق الإنسان وفيه استعداد للخير واستعداد للشر، وخُلق على طبيعة مزدوجة كما نرى في خلق آدم، قبضة من الطين ونفخة من الروح، فالطين يدفع به إلى الأسفل والروح تنـزع به إلى الأعلى وهناك صراع بين هذين النموذجين أو هاتين الركيزتين في النفس الإنسانية، فأحياناً الإنسان يغلب طينه وينـزل إلى الأسفل ويكون كالأنعام أو أضل سبيلاً، وأحياناً ترقى به الروح ونفخة الروح فيصبح كالملائكة ولذلك حينما تحدث الله عن النفس قال (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) فالنفس مُلهَمة بطبيعتها الفجور والتقوى، الاستعداد للفجور والاستعداد للتقوى، عندها استعداد لأن ترقى واستعداد لأن تهبط، لذلك كان على الإنسان أن يُغالب نفسه، الله سبحانه وتعالى أراد أن يكون هذا النوع من المخلوقات نوعاً مختاراً، لم يخلقه كالملائكة مفطوراً على الطاعة (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) ولم يخلقه كالبهائم أو السباع يفعل ما توصيه الغريزة إنما هو إنسان عنده عقل وعنده إرادة وعنده حرية الاختيار، فلذلك الإنسان لابد أن يجاهد نفسه ولو استجاب لغرائزه وللمغريات الأخرى ومن هذه المغريات أن الإنسان سُلِّط عليه الشيطان، قال أحد الصالحين:
إني بليـت بأربـع يرميـنني
| بالنبـل عن قـوس له توتيـر
|
إبليس والدنيا ونفسي والورى
| يا رب أنت على الخلاص قدير
|
إلى أعلى
المقدم
فضيلة الدكتور في ظل هذه المغريات، ما هي في تصورك أسباب انغماس الناس أيضاً في الشهوات؟
القرضاوي
أنا أقول أن الإنسان بطبيعته ميَّال لأن يخطئ والله خلقه هكذا ولذلك في الحديث "كل بني آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوابون" وأول إنسان وهو أبو البشر آدم أخطأ وأكل من الشجرة المنهي عنها وقال الله تعالى (وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) فإذا كان آدم قد أخطأ فلا عجب أن يخطئ بنوه فهي وراثة من قديم، الإنسان بطبيعته ممكن أن يخطئ ممكن أن يستجيب لغرائزه ونفسه الأمارة بالسوء ممكن أن يستجيب لشيطانه، ممكن أن يستجيب لشياطين الإنس الذين يغرونه، ممكن يستجيب لزينة الدنيا وزخرفها، ممكن هذا كله يحدث، في عصرنا طبعاً أضيفت أشياء جديدة وهي كثرة المغريات بالشر وكثرة العوائق عن الخير وكثرة الأدوات وقوتها، زمان الذي كان يهدم بماذا؟ يهدم بفأس أو معول الآن يهدم بلغم، ممكن عمارة من 80 دور بلغم أن يجعل عاليها أسفها في لحظات، فالهدم في طريق الإنسان إلى الخير وتعويق الإنسان عن الطاعة وإغراء الإنسان بالمعاصي في عصرنا أصبح هذا أمر وخصوصاً العولمة؛ عولمة الشر عولمة المعاصي، الدعوة إلى الإباحية إلى المادية إلى نسيان الآخرة إلى الاستغراق في متاع الدنيا، أصبح هذا هو الأمر السائد ولذلك كان على الإنسان أن يقاوم مقاومة شديدة، ويجاهد نفسه مجاهدة غلابة، حتى ينتصر على نفسه وعلى شيطانه، والله تعالى يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).
إلى أعلى
المقدم
معنى ذلك أن التوبة هي المخرج الرئيسي للإنسان لكي يستطيع أن يقاوم هذه المغريات الدائمة وهذه الذنوب التي ـ كما أشرنا في المقدمة ـ يرتكبها الإنسان رغم أنفه شاء أم أبى، أهمية التوبة هنا وضرورتها في ظل هذا الواقع؟
القرضاوي
معنى كلمة توبة في اللغة العربية، تاب يعني رجع، فالإنسان بالمعصية يشرد عن ربه، يشرد عن الطريق المستقيم، بالتوبة يرجع إلى الفطرة السوية، ويرجع إلى الحالة الطبيعية، ويصطلح على الله عز وجل فمن أجل هذا كانت التوبة ضرورية حتى يستقيم الإنسان مع نفسه ومع فطرته ومع أمر ربه ويعيش متكيِّفاً تكيُّفاً سليماً لأن العاصي في الواقع المعصية ليست فقط تضر الإنسان في آخرته تضره في دنياه قبل آخرته، الذين يعصون الله تبارك وتعالى يضيعون الصلوات ويتبعون الشهوات ويقترفون المنكرات وينتهكون الحرمات، هؤلاء ليسوا أسوياء، ليسوا مستريحين في حياتهم، إنهم يشعرون في داخل أنفسهم بعدم الاستقامة مع الحياة، يشعرون دائماً بالضيق، يشعرون دائماً بعدم الرضا عن النفس، فهم في حاجة إلى أن يصلحوا أنفسهم، التائب هذا استقام مع نفسه واستقام مع ربه، واستقام مع فطرته، وعمل لدنياه وآخرته لم يخسر شيئاً، التائب لم يخسر شيئاً بالعكس هو يكسب لنفسه هذه الاستراحة النفسية والسكينة.
إلى أعلى
المقدم
لكن يا فضية الدكتور الواقع يزيّن غير ذلك، الشيطان يزيّن للإنسان المعصية، الناس المنغمسون في الشهوات أيضا تزين لهم الشهوات وهم يزينونها للناس ويعتقد كثير من الناس أن هؤلاء يعيشون في نعيم وهؤلاء يعيشون في سعادة وبالتالي تجد بعض الناس لا تُقبِل على الذنب لأنها لا تستطيع أن تصل ولا تستطيع أن تحقق هذا، كيف يتوازن هذا مع ما ذكرته فضيلتك الآن من أنه فعلاً الغارقون في الذنوب هم في حقيقة الوضع تعساء ويشعرون بالتعاسة ليس بالسعادة؟
القرضاوي
هذا هو الواقع وهذا يظهر في مناسبات معينة، يظهر عندما يخفق الإنسان في أي شيء في الدنيا، يعني لا تجد عنده أي صلابة، لا يستند على ركن ركين ولا إلى حصن حصين، لو أخفق في تجارة وخسرت تجارته، لو أخفق في حب واحدة كان يحبها، لو فشل في امتحان سرعان ما يذهب لينتحر والعياذ بالله، لو كان غنياً فافتقر يجد الذين كانوا يصاحبونه ويسهرون معه في السهرات وفي المخدرات وفي المسكرات هؤلاء انفضوا عنه تماماً، وعاش وحيداً مستوحشاً، إذن حياة المعصية هذه حياة لا قيمة لها لأنها حياة إذا قسناها بالمقاييس الصحيحة تكون حياة ليس لها وزن، الحياة الحقيقية هي حياة الطمأنينة بالاستقامة والطاعة والإيمان، وهذه هي التي قال فيها بعض الصالحين: "نحن نعيش في سعادة لو علموا بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف" أي من فضل الله أن الملوك لا يعرفون قيمتها فتركونا نستمتع بها دون أن ينافسونا عليها، هذه هي السعادة الروحية هي التي قالتها أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب لعمر حينما تغاضبا يوماً فقال لها: لأُشقِيَنَّك، قالت له: لا تستطيع لأنه لو كانت سعادتي في مال لحرمتني منه، أو في زينة لقطعتها عني ولكني أرى سعادتي في إيماني وإيماني في قلبي وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربي، فهذه هي السعادة التي يحسها التائبون إلى الله، والذين وضعوا أيديهم في يد الله إنها السكينة التي قال الله فيها (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) إنها الطمأنينة (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
إلى أعلى
المقدم
لكن بعض الناس الذين غرقوا في المعاصي والسيئات وقضوا فيها سنوات طويلة يكادوا ييأسوا من رحمة الله ويقولوا أن كم الذنوب الذي وقعنا فيه والكبائر التي قمنا بارتكابها والمعاصي أكبر من أن نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى ونطلب منه أن يغفر لنا هذا الأمر خاصة إذا كان هذا الأمر يتعلق ليس بخطأ الإنسان تجاه نفسه، وإنما تجاه العباد وتجاه الآخرين أيضاً، يقول كيف أستطيع أن أرد هذه الحقوق، فيظل منغمساً فيما هو فيه فما هو الموقف في هذا؟
القرضاوي
هذا خطأ من غير شك وهذا من موانع التوبة، التوبة لها بواعث ولها موانع، ومن موانع التوبة أن تستحكم الذنوب في حياة الإنسان وتُطبِق عليه، ويشعر باليأس ويقول أنني عشت طول حياتي مرتكباً للمنكرات مقترفاً للكبائر غارقاً في أوحال الذنوب ولو نزلت في المحيط الهادي لن يطهرني، بعض الناس يظن هذا وهذا خطأ من غير شك، ليس هناك ذنب يعظم على عفو الله عز وجل مهما كان، الله تعالى يقول (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) الذنوب جميعاً بالتوبة حتى الشرك حتى الكفر، لأن الإنسان إذا كان مشركاً وكافراً وتاب يتوب الله عليه (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) والله تعالى قال للمؤمنين (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)، (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) فالتوبة تجُّب ما قبلها ومنها التوبة من الشرك والتوبة من النفاق والتوبة من الكبائر والتوبة من الصغائر، التوبة من كل ذنب حتى المنافقين ربنا سبحانه وتعالى قال (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين) ولكن بشرط أن يتوبوا فباب التوبة مفتوح للجميع، كل ما في الأمر أن تكون توبة صادقة توبة خالصة، توبة نصوحاً كما عبر القرآن الكريم لأن بعض الناس يظن التوبة مجرد كلام يُقال وبعض الناس يأتي للمشايخ ويقول له توِّبني يا سيدنا الشيخ.
إلى أعلى
المقدم
نعم ولهذا نحن نسأل ما هو شكل التوبة النصوح كما قال الله سبحانه وتعلى وما هي أركان التوبة التي يرجو الإنسان من خلالها أن يكون الله سبحانه وتعالى قد غفر له ذنوبه؟
القرضاوي
التوبة لها أركان أو مقومات ولها شروط، وأركان التوبة الأساسية ثلاثة: ركن الندم فمن مقومات التوبة يوجد مقوِّم نفسي وهذا كما قال الإمام الغزالي يتكون من علم وحال وعمل. علم وهو الجانب المعرفي في التوبة الإنسان يعرف خطأه وأنه سلك مع الله سلوكاً غير لائق ويعرف آثار هذه الذنوب وآثار المعاصي في دنياه وفي آخرته وعلى نفسه وعلى صحته وعلى أخلاقه وعلى أسرته وعلى أولاده يعرف هذا ويعرف مقام الله عز وجل ويعرف حاجته إلى التوبة هذا الجانب المعرفي، والجانب المعرفي يترتب عليه جانب وجداني ويسميه الإمام الغزالي الحال وهذا الذي نقول عنه الندم فبعد أن يعرف الإنسان هذا يترتب عليه أن يندم، إذا انتبه القلب إلى آثار المعاصي ندم الإنسان، هذا الندم هو شعور توتر يحس به الإنسان بلذعة تلذع كأنها نار تحرقه احتراق داخلي، ربنا حدثنا عن نفسية التائبين في سورة التوبة فقال (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا) هذه حالتهم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت على سعة الدنيا تهيأ له كأنها أصبحت كرة صغيرة وضاقت عليه نفسه وظن ألا ملجأ من الله .. لابد من هذه الحالة النفسية هذا الشعور بالحسرة والحزن على ما فات وما فرط في جنب الله، هذا الشيء الأول، بعد ذلك يؤثر هذا في ناحية أخرى وهي ناحية العزم والتصميم بالنسبة للمستقبل، ندمت على ما فات لابد من العزم على إصلاح ما هو آت، لا يكفي أن أكون زعلان وحزنان ومتحسر على ما مضى، لابد أن يؤدي هذا إلى أنني لن أعود إلى المعصية أبداً، قالوا: كما لا يعود اللبن إلى الضرع إذا خرج منه، فهو لابد أن يكون ساعة التوبة مصمماً على ألا يعود إلى هذا الذنب أبداً، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى هناك جانب عملي بعد ذلك، بعد الجانب الوجداني والإرادي، يوجد جانب عملي وهو أن يُقلع بالفعل عن المعصية وهذا الجانب العملي له فروع منها أن يستغفر الله تعالى بلسانه: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) ومنها أن يغير البيئة ففي الحديث الصحيح "إن رجلا قتل 99 نفساً وذهب إلى عابد وقال له: أنا قتلت 99 نفساً فهل لي من توبة؟، فقال له: ليس لك من توبة أبداً فقتله وأكمل به 100 نفس، ثم ذهب إلى عالِم فقال له: قتلت مئة نفس فهل لي من توبة؟ قال له: ومن يحول بينك وبين التوبة ولكن اترك البلد التي أنت فيها واذهب إلى بلدة صالحة أخرى" معنى هذا أن الإنسان عليه أن يغير البيئة، الشِلَّة القديمة لابد أن يغير أصحاباً بأصحاب، وإخواناً بإخوان هناك أناس يدعونه إلى الخير إذا رآهم رؤيتهم تدله على الخير، كلامهم يحث على الطاعة، مصاحبتهم تغريه بتقوى الله، فلازم يغير البيئة، ومن ناحية أخرى قال صلى الله عليه وسلم "واتبع السيئة الحسنة تمحها" وكما قال الله تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئات) فعليه أن يغير السيئة بحسنة، يبدل السيئة بالحسنة وخصوصاً حسنة من جنسها، فلو كان يعُقُّ والديه فعليه أن يبالغ في برِّهما، كان يقطع أرحامه عليه أن يصل الأرحام، كان يغتاب الناس عليه أن يذكر حسناتهم، كان يقرأ الكتب الغير مفيدة فعليه أن يقرأ كتاب الله ويقرأ الكتب الإسلامية، كان يشتغل مذيع للضلال، عليه أن يشتغل مذيع للصدق وللخير، كان يؤلف كتب تضلِّل الناس عن الله فعليه أن يؤلف كتب ترد الناس إلى الله وتدعو الناس إلى الله، فالسيئة يعمل حسنة من جنسها، فهذه هي أركان ومقومات التوبة، ليست مجرد أن يقول تبت إلى الله ورجعت إلى الله وندمت على معصية الله.
المقدم
التوبة سلوك فعلي وليست مجرد توبة لسانية أو كلمات يرددها الإنسان.
القرضاوي
نعم هي سلوك ناتج عن وجدان وعن توتر وعن هذا الندم وهذا العزم يتبعه سلوك، فإذا صدقت التوبة لابد أن يتبعها سلوك ولذلك القرآن يقول (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى) ويقول (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً * إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً) فلابد من التوبة من تجديد الإيمان فالتوبة تجدد الإيمان لأن الذنوب تخدش الإيمان فلابد أن نرمِّم هذا الإيمان بالتوبة وهو إيمان يتبعه عمل للصالحات.
المقدم
فضيلة الدكتور حدثتنا عن أركان التوبة، ولتحقيق هذه الأركان لابد لها من شروط حتى تصل لله سبحانه وتعالى هذه التوبة وتدوم على الإنسان أيضاً ما هي أهم شروط التوبة؟
القرضاوي
أهم شروط التوبة أن يرد الإنسان المظالم، فليس معنى التوبة أن يقول الإنسان تبت إلى الله، وقد أكل حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل وجمع الملايين من هنا ومن هناك ويظن أنه بمجرد ما يتوب إلى الله أن كل هذا انتهى .. لا، حقوق العباد هذه لابد أن ترد إليهم (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) وخصوصاً الحقوق المالية، الحقوق الأدبية كأن يكون اغتاب واحد أو شتمه أو تكلم في حقه أو مثل ذلك، بعض العلماء كان يقول أن عليه أن يذهب إليه ويقول والله أنا اغتبتك في المجلس الفلاني وقلت عنك كذا وكذا، وأرجو أن تسامحني، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والمحققين قالوا أن هذا لا فائدة منه بل يوغر صدره وهو ما كان يعلم هذا، فإذا كان يعلم يذهب له ويقول له سامحني فيما قلت عنك إنما إذا لم يكن يعلم فلا داعي لأن يثير همه وقلقه على شيء ما كان يعرفه، يستغفر فيما بينه وبين الله عن هذا الأمر ويدعو له ويذكره بالحسنات كما كان يذكره بالسيئات في المجالس التي كان يذكره فيها بالسوء، إنما المشكل هو الحقوق المالية، لأن الذنوب نوعان، ذنوب فيما بين الله وبين الإنسان، وذنوب فيما بين الإنسان وما بين الآخرين من عباد الله، وهذه هي الأخطر، الإنسان لو كان يشرب الخمر وتاب إلى الله فمضرَّتُه على نفسه وجنى على نفسه وخصوصاً إذا كان يشرب من ماله ولم يسئ إلى الآخرين ولم يأخذ مال من آخرين ولم يعتدِ على أحد، إنما المشكل فيما إذا كان إنساناً أخذ أموالاً من الناس بغير حق نهباً أو اختلاساً أو سرقة أو رشوة أو ظلماً أو من تجارة في الحرام أو كان يغش الناس يأتي ببضائع فاسدة ويبيعها للناس على أنها صالحة، أو أطعمة ملوثة بالإشعاع، فالناس التي تتاجر في مثل هذه الأشياء ويتاجر في المخدرات، وهناك أناس تكسب الملايين من وراء هذه الأشياء ثم يقول تبت إلى الله ويروح يحج، والله لو حجيت ألف مرة هذا لا ينفع، لابد أن ترد هذه الحقوق ولو تجردت ولم يبقَ معك فلس واحد، فإذا كان يعرف المظلومين مثلاً واحد ضم أرض لناس آخرين إلى أرضه وهي ليست حقه فيذهب ويقول لهم سأرجع لكم أرضكم، لو أخذ من ناس ألف ريال مثلاً وهو يعرف أنه قد أكل على هذا الشخص هذا المبلغ قديماً، ولكن قيمة هذه الألف قديماً يرى كم تساوي حالياً فقد تكون هذه الألف ريال قديماً تشتري بيت والآن لا تساوي شيء، يردها بمقدار اليوم حتى يكون عادلاً، إذا لم يكن يعرف الذين ظلمهم، مثلاً واحد تاجر وعاش طول عمره يظلم الناس في هذه التجارة، ظلم الآلاف المؤلفة، فماذا يفعل هذا وكذلك واحد ظلم الناس ومات هؤلاء الناس، إذا ماتوا يرجع الحق إلى ورثتهم، دوَّر على ورثتهم لم يجد لهم ورثة ففي هذه الحالة عليه أن يتصدق عن هؤلاء الذين ظلمهم فإذا أقروا يوم القيامة بهذه الصدقة لهم ثواب الصدقة، وإذا قالوا: نحن نريد أموالنا وليس صدقة فيعطيهم من حسناته، وربنا يقبل منه هذه الصدقة إن صحت توبته، المهم أنه لابد أن يرد الحق أو يستحلَّهم، الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أنه "من كانت له مظلمة عند أحد فلابد له أن يتحلَّل منها" أي يروح ويقول له: أحلَّني من هذا يعني تنازل عن حقك لي اعف عني، اسقط حقك، فأنا لا أقدر أن أسدد لك هذا، فخذ ثواب فيَّ وسامحني فإذا سامحه فبها، لم يسامحه فالله سبحانه وتعالى أهل لأن يرضي عنه خصومه يوم القيامة، إذا تاب توبة نصوحاً، إذا لم يتب فإن هؤلاء الخصوم سيأخذون من حسناته، لأن يوم القيامة ليس هناك دنانير ولا دراهم ولا ريالات ولا جنيهات، يوجد حسنات وسيئات، اعطينا حقنا، ومن أين أُحضر لكم، والله اعطِنا من حسناتك، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته حتى يفلس، النبي صلى الله عليه وسلم سماه المفلس، كل ماله من صلاة وصيام وحج وكل شيء انتهى، أخذه الخصوم ثم بقي بعض الناس يقولون: يا رب لازال لنا حقوق عند هذا الرجل ولم يعد لديه حسنات، فيقول الله تعالى: ضعوا من سيئاتكم على سيئاته خففوا عنكم أنتم من أوزاركم وضعوا عليه حتى يرمى به في النار والعياذ بالله، المهم أنه لا يضيع حق في هذا اليوم، فالإنسان بدل أن يحدث له هذا يحاول هو إما أن يرد الحقوق إذا استطاع أو يسترضي الخصوم، وإذا لم يرضوا عليه أن ينوي أنه كلما جاءه شيء يسدد، دين عليه يحسبها فيقول مثلاً: والله أنا راتبي 3000 في الشهر، فأصرف 1000 وأعطي 2000 للخصوم، أو 1500 لي و 1500 لهم أو 2000 لي و 100 لهؤلاء، طول ما هو عايش يسدد في هذا الدين ويكون أمر يهمّه وليس أمر على هامش حياته، بل يجب أن يحمل ثقل هذا الأمر فهذا لابد منه حتى تُقبل التوبة.