المبحث السادس : المدرك الفقـهي لبيـان حكـم نـازلة التمثـيل
لما لم نر فيها كلاماً لمتقدمي العلماء ، نظراً لأنها لم تدخل محيط العبادات ، ولم تنتشر في العادات ، صار تقليب النظر في تنزيلها على أي من أحكام التكليف على النحو الآتي :
1- هل التمثيـل : محرم لذاته تحريم غاية فيشمل جميع أقسامه وأنواعه سواء في العبادات أو العادات ؟
2- أم أن أصله الإباحـة ، والحكم عليه بحسب موضوعه ، فيتـنزل الحكم التكليفي عليه بحسب موضوعه ؟
3- أم الإباحـة لأصله وموضوعه ، والنهي لما يحف به من بعض المحرمات ، فيكون من باب تحريم الوسائل ؟
هذه هي القسمة التي يمكن تصورها للمدرك الفقهـي ، حتى يتسنى بيان موجبات الحكم الشرعي في ( التمثيـل ) .
واعلم أن القسم الثالث لا أعلم به قائلاً ولا أحسب له قائلاً من علماء الملة ، بل إن موجبات التحريم العارضة فيه هي زيادة لحكم الحضر ، سواء قيل لذاته أو لموضوعه . إلا أن القسم الثاني ينتظم الأقسام الثلاثة على التفصيل الآتي :
فيكون التمثيل في موضوع محرماً لذات الموضوع .
ويكون التمثيل في موضوع جائزاً ، ويحرم بحكم ما يحف به من أمور أخرى .
ويكون التمثيل في موضوع جائزاً ، ولا يحف به ما يرقيه إلى رتبه النهي .
وإذا كان الأمر كذلك ، فإلى سياق الأدلة الحكمية في قوالب ثلاثة :
الأول : أدلة تحريم التمثيل لذاته .
الثاني : أدلة تحريم التمثيل لموضوعه .
الثالث : أدلة تحريم التمثيل لما يفضي إليه .
توجيه تحريم التمثيل لذاته :
إذا علمت أن التمثيل منقطع الصلة بتاريخ المسلمين في خير القرون ، وأن وفادته إليهم كانت طارئة في فترات ، وأنه في القرن الرابع عشر الهجري استقبلته دور اللهو ، وردهات المسارح ، ثم تسلل من معابد النصارى ، إلى فريق ( التمثيل الديني ) في المدارس ، وبعض الجماعات الإسلامية . إذا علمت ذلك فاعلم أن قواعد الشريعة وأصولها ، وترقيها بأهلها إلى مدارج الشرف والكمال تقضي برفضه ، ورده من حيث أتى ، وهذا بيانها :
أولا ً : معلوم أن الأعمال ، إما عبادات أو عادات .
فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلا ما شرعه الله ، والأصل في العادات لا يحظر منها إلا حظره الله [url=#_ftn1][1][/url] .
وعليه : فلا يخلو التمثيل ، أن يكون على سبيل التعبد ( التمثيل الديني ) ، أو من باب الاعتياد ، على سبيل ( اللهو والترفيه ) .
فإن كان على سبيل التبعد ، فإن العبادات موقوفة على النص ومورده ، و ( التمثيل الديني ) لاعهد للشريعة به ، فهو سبيل محدث ، ومن مجامع ملة الإسلام قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد ) .
ولهذا فما تراه في بعض المدارس والجامعات من فرق ٍ للتمثيل الديني ، فإن في حقيقته ( التمثيل البدعي ) لما علمت من أصله ، وحدوثه لدى المسلمين خارجاً عن دائرة المنصوص عليه بدليل شرعي ، وأنه من سبيل التعبد لدى أهل الأوثان من اليونان ، ومبتدعة النصارى ، فلا أصل له في الإسلام بإطلاق ، فهو إذا ً محدث ، وكل أمر محدث في الدين فهو بدعة ، تضاهي الشريعة ، فصدق عليه حسب أصول الشرع المطهر : إسم ( التمثيل البدعي ) .
وأسوق إليك هنا أمرين مهمين :
أحدهما : هذا النوع من التمثيل ( التمثيل الديني ) إنما وجد في أمم الكفر ، لأنهم خواء ليس لهم شرع قائم يرجعون إليه ، أما أهل الإسلام فلديهم الشرع المعصوم من التبديل ( الكتاب ، والسنة ) فهم في غناء عن هذه الواردات ، قال الله تعالى : } وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً { الفرقان / 33
ثانيهما : إنما يحصل العدول عن هدي الكتاب والسنة إلى أمثال هذه الوفادات ، إذا ضعف أهل الإسلام عن تحمل العلم الشرعي ، وأعياهم تحمله ، والفقه فيه ، فيذهب بهم العجز والخواء كل مذهب ، وحينئذ تصادف هذه الواردات قلباً خالياً من نور العلم الشرعي الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتشرب هذه المحدثات .
وقد بلغ الحال بالمسلمين من التمثيل لعظماء الإسلام على خشبات المسارح ، من رجال القرون المتأخرة إلى القرون المفضلة ، إلى أنبياء الله ورسله ، إلى عوالم الغيب .
وقد ثبت بالمشاهدة في معقل من معاقل العلم الشرعي ، قيام تمثيلية دينية - زعموا - يمثل فيها مسلم دور مشرك بالله ، فيسجد لشجرة من دون الله ... لبيان فضل التوحيد ... وهكذا كما هو معلوم ومشاهد .
فنعوذ بالله من الحور بعد الكور ، ومن العماية بعد الهداية ، ومن الضلالة بعد الرشد .
وإن نشر الفضائل ، وإظهار عظمة الإسلام ، تلتقي فيها الوسائل مع الغايات ، بوقفها على منهاج النبوة ، وهذا منابذ لها ، أجنبي عنها .
وأما إن كان التمثيل في ( العادات ) ، فهذا تشبه بأعداء الله الكافرين ، وقد نهينا عن التشبه بهم . إذ لم يعرف إلا عن طريقهم ، والنهي عن التشبه بهم ( أمر بمخالفتهم ) ، وقد نهى الله سبحانه عن الخوض فيما يخوضون فيه ، فقال تعالى : } كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ { التوبة / 69.
والله تعالى قال لنبيه – صلى الله عليه وسلم - } إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ { الأنعام / 59 فقوله سبحانه } لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ { يقتضي البرآءة منهم في جميع الأشياء . والمتابعة في بعض الأشياء يكون التابع له من المتبوع في ذلك الشيئ .
وإذا كان الله قد برأ نبيه - صلى الله عليه وسلم - من جميع أمورهم ، فمن كان متبعاً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - حقيقة كان متبرئاُ منهم كتبرؤه - صلى الله عليه وسلم - منهم ، ومن كان موافقاً لهم كان مخالفاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدر موافقته لهم [url=#_ftn2][2][/url] .
قال ابن حجر الهيثمي م . سنة 974هـ - رحمه الله تعالى - في رسالته : ( الإعلام بقواطع الإسلام ) ص / 362 المطبوعة في آخر ( الزواجر ) :
( ومنها - أي من المكفرات - لو حضر جماعة ، وجلس أحدهم على مكان رفيع تشبيهاً بالمذكرين ، فسألوا المسائل وهم يضحكون ، ثم يضربونه بالمجراف .
أو تشبه بالمعلمين ، فأخذ خشبة ، وجلس القوم حوله كالصبيان ، فضحكوا ، واستهزؤا .
أو قال : قطعة من ثريد خير من العلم : كفر .
زاد في الروضة - يعني النووي - قلت : الصواب أنه لا يكفر ، في مسألتي التشبيه ) انتهى .
ولا يغتر بذلك ، وإن فعله أكثر الناس ، حتى من له نسبه إلى العلم ، فإنه يصير مرتداً على قول جماعة ، وكفى بهذا خسارة وتفريطاً ) انتهى .
ثانياً : لا يخلو ( التمثيل) أن يكون أسطورة متخيلة ، فهذا كذب ، والنفوس واجب ترويضها على الصدق ، ومنابذة الكذب ، والأساطير المختلقة المكذوبة ، تشرب النفوس الكذب ، وعدم التحرز منه .
وعن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال :
( ويل للذي يحدث فيكذب ، ليضحك به القوم ، ويل له ، ويل له ) . رواه أحمد ، والترمذي ، والحاكم .
أو أن يكون ( التمثيل ) حقيقة بتمثيل معين ، فهذا محاكاة ، والمحاكاة منهي عنها بإطلاق ، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال :
( ما أحب أني حكيت إنساناً ، وأن لي كذا وكذا ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن الجعد .
قوله : ( حكيت إنساناً ) أي : قلدته في حركاته ، وأقواله فهي غيـبة فعليه ، وهي كالغيبـة القولية في التحريم سواء . ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : ( وأن لي كذا ) أي : وأن لي على تلك المحاكاة ، وهذا من أدلة التحريم .
قال النووي - رحمه الله - في ( الأذكـار ) ( ص/ 490 ) ( ومن ذلك - أي الغيـبة - المحاماة ، بأن يمشي متعارجاًً ، أو مطأطئاً ، أو غير ذلك من الهيئات ، مريداً حكاية من يتنقصه بذلك . فكل ذلك حرام بلا خلاف ) إنتهى .
فظهر أن ( المحاكاة ) ، ( التمثيل ) مبغضة في الإسلام ، والمحاكاة فيها إيذاء في جميع الأحوال . إذ أن الطباع تنفـر من مشاهدة من يحاكيها حتى في مواطن المحمدة . وكم في هذا من هضم وإيذاء . وإن عشاق اللهو من العظماء والمترفين لا يمكن التجاسر بمحاكاتهم على ملاً من الناس ، ولو في مواطن الشجاعة والكرم ، فكيف تهدم حرمات ناس مضوا ، وبقي علينا واجب النصرة لهم بالإسلام ، فلننتصـر لحفظ حرمتهم ، والإبقاء على كرامتهم ( وكل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه ) ، فكيف إذا كان فيه مواقف من الإيذاء والسخرية والاغتياب ، والكذب عليه بقول ٍ وماقال ، وفعل ٍ وما فعل ؟
وإن السؤال ليرد على من يعتني بها ، وعلى من يستخرجها ، ويتلذذ بتمثيل غيره معيناً ، هل يرضى أن يُمثـل في مشاهدته ، وهو يتحدث مع زوجته ، أو قائم في صلاته ، أو في حال تلبسه بخطيئة ، أو في أي دور من أدوار حياته .
وفي ( الديارات ) للشايشتي ، ذكر عن الشاعر : دعبل الخزاعي م / 250هـ قوله :
( وما غلبني إلا مخنـث ، قلت له : والله لأهجونك ، قال : والله لئـن هجوتني لأخرجن أمك في الخيال ) انتهى [url=#_ftn3][3][/url] .
فانظركيف كان وسيلة للنكاية والسخرية والتشفي من أي شخص يُراد الإنتقام منه . فهو بالجملة يحوي مجموعة ( مفاتيح سوء ) توصل إلى مقصد يراد منها .
فيا لله كم في هذا من وثبات على حرمات أناس مضوا ، وكم فيه من جراءة على حرمتهم ، وإسقاط لها ، وتوهين لمكانتها ، والله المستعان .
ثالثاُ : المروءة من مقاصد الشرع ، وخوارمها من مسقطات الشهادة قضاء ، والشرع يأمر بمعالي الأخلاق ، وينهي عن سفـاسفهـا . فكـم رأى الراءون ( الممثل ) يفعل بنفسه الأفاعيل ، في أي عضو من أعضائه ، وفي حركاته ، وصوته ، واختلاج أعضائه ، بل يمثل : دور مجنون ، أو معتوه ، أو أبله ، وهكذا .
وقد نص الفقهاء " في باب الشهادة " على سقوط شهادة " المضحك " و " الساخر " و " المستهزئ " و" كثير الدعابة " . وهذا منتشر في كلام الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم .
وفي مجموع " فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية " :
( 32/255 – 256 ) سُـئل عن الرجل يتحدث بين الناس بحكايات كلها كذب ، فقال :
( وأما المتحدث بأحاديث مفتعلة ليضحك الناس ، أو لغرض آخر ، فإنه عاص لله ولرسوله . وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" إن الذي يحدث فيكذب ليُضحك القوم ويلٌ له ، ويلٌ له ، ثم ويلٌ له " .
وقد قال ابن مسعود : " إن الكذب لا يُصلح في جـد ٍ ولا هزل ، ولا يَعـد أحدكم صبيّـه شيئاً ثم لا يُـنجزه " وبكل حال ففاعل ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تردعه عن ذلك ) انتهى .
وعليه فلا يمتري عاقل ، أن ( التمثيل ) من أولى خوارم المروءة ، ولذا فهو من مسقطات الشهادة قضاء ، وما كان كذلك ، فإن الشرع لا يُـقرّه في جملته .
ومن المسلمات أن ( التمثيل ) لا يحترفه أهل المروءات ، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين .
رابعاً : الإسلام ينشد لأهله الترقي في مدارج الشرف ، والإبتعاد بهم عن إيجاد طبقة ساذجة ، دأبها اللهو ، والتفاهة ، ونشر هذا التدني في الأمة .
والتمثيل لا يمكن أن نرى في الإسلام عظيماً في خلقه ، ودينه ، وشرفه ، وكرامة أصله يعتمله ، ما لم يكن في مقوماته الأصلية أو المكتسبة اختلال .
والإسلام لما أبيح فيه : المزاح ، والضحك ، واللهو ، أبيح في قوالب معينة ، وحف بضوابط . أما مطلقاً فلا ... لا .
والتمثيل لا يكون في حبائله إلا نوع من نزع الحياء منه ، والحياء من الإيمان ، ولا إيمان لمن لا حياء له . وفي الحديث ( إذا لم تستح ، فاصنـع ما شئت ) .
وقد سُمي المزاح مزاحاً، لأنه مُزيح عن الحق ، ومُزيـح للهيبة عن معتمله .
وللبدر الغزي المتوفي سنة 984هـ - رحمه الله تعالى - كتاب ( المراح في المزاح ) ذكر فيه جملة من وقائع المزاح في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم لدى الصحابة - رضي الله عنهم - ، ثم لدى التابعين - رحمهم الله - وهكذا .
وأن المزاح المشروع كان يأتي عرضاً ، وليس حرفة تستهلك الحياة ، وأنه محفوف بضوابطه الشرعية ، من الصدق ، وعدم الإعتداء على عرض وغيره ، أو الكذب ، أو الغيبة ، وهكذا .
وبهذا تجتمع النصوص الواردة في مدحة وذمه . وقدم - رحمه الله - لكتابه هذا بمقدمة كاشفة عن أدب الشرع في المزاح ص/ 8 – 13 فلتنظر فإنها مهمة جداً .
خامساً : الوقت عصب الحياة ، يُـنفق في تحصيل ما يعود بالفائدة من دين أو دنيا ، كمال ٍ يُـكسب من حله ، ويُـبذل في غير إسراف ولا مخيلة .
والتمثيل في مسلسلاته ومسرحياته التي تستغرق الساعات الطوال ، عدو كاسر على وقت المسلم ، وامتصاص للأموال ، ولا سيما وقد صار حرفة ، بل فناً له رواده ومدارسه ومسارحه .. فكم بذل فيها من جهود ، وكم أنفق فيها من مال ، والنتيجة هُراء في هُراء ، ورعونات يأنف من مشاهدتها الفضلاء .
وأما إن كانت بدعية ، إي ( دينية ) على حد تعبيرهم الفاسد ، فكم فيها من ثِـقـل ٍ في العرض وسماجة في الأداء . ولهذا فمن المشهور أن أكثر الخلق يعرضون عنها إلى مجالس لغو أخرى ، ولا لوم ، إذ يسمعون ( سقط المتاع ) يقول بصوته التقليدي على خط وهمي ( أنا القاضي شريح ) ، ويرون ماجناً يقول ( أنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ) ، نعوذ بالله من عقول لا تستهجن ذلك .
وقد حُدثت عن إحصائية لبعض الدول الكافرة في أقل الناس ، ومتوسطهم ، وأكثرهم مشاهدة للتلفاز أسبوعياً ، فوجد أن أكثرهم مشاهدة من شخص أو أسرة في الأسبوع بمعدل ساعتين لبرامج معينة ، أما لبني جلدتنا فقد استغرقوا في مشاهدته ، أبصار شاخصة وألباب فارغة ، تستلهم جميع برامجه فتمتص من دينه ومقومات جياته بقدر ما يبث فيها ، ويستلهمه هذا المسكين ، فالله المستعان .
سادساً : التمثيل ، لا ينفك عن ( الكذب ) ، بحال في الفعال ، والأقوال ، بل كم من يمين غموس ، وزواج ، وطلاق .. وكله اختلاق .
والكذب أدوى الأدواء ، ويطبع المؤمن على كل شيئ خلا الخيانة والكذب .
ووجه عدم انفكاكه عن الكذب على ما يلي :
1 - إن كان أسطورة ، فهذا من أساسه اختلاق ، وبئس المطيـة لتوجيه الأمة وترفيهها بما هو كذب عليها ، وملاعبة لعقولها .
2 - وإن كان يمثل معيناً كصلاح الدين الأيوبي ، وغيره من العظماء من قبل ومن بعد ، فإنهم سيقولون ( قال ) وما قال ، و( فعل ) وما فعل ، وهكذا في حركات وتصرفات هي محض افتراء ، وتقـوّل عليه .
وإذا حرم الله شيئاً مثل الكذب ، حرم ما بني عليه ، وأوصل إليه ، والتمثيل سبيل إليه ، فيحوي من الكذب ما تراه ، فالله المستعان .
وعجيب - والله - أن يتهافت الناس على مشاهدة الكذب وسماعه .
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن ، ويكثر الكذب ..) الحديث رواه أحمد في المسند ، من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - .
والخلاصة : أن الممثل ( قتيل التمثيل ) في الابتداع أو التشبه ، وفي الكذب ، وخرم المروءة ، ووأد الحياء والتضحية بوقته لحياة هزلية .
سابعاً : التمثيل بنوعيـه : الديني والترفيهي ، ردة فعل لدى المنهزمين من المسلمين ، لمحاكاة ما لدى الأمم الكافرة من أساطير و( إلياذات ) وهمية ، منسوجة يهرع إليها الناس .
فلدى ( اليونان ) : ( إلياذة هوميروس ) وهي مطبوعة في مجلدين .
ولديهم ( التراجيديا اليونانية ) التي اختلقها ( أيسكولوس ) ولدى الرومان أساطيرهم ونسجهم .
ثم يأتي المنهزمون من المسلمين فيلتقطوا من موائد هؤلاء ومن غيرهم ، فيهيمون في التمثيل الترفيهي إلى حد بلغ القضاء المبرم على سمة المسلم ، ووقته ، وقواه ، وتفكيره .
وعندئذ يأتي اختلاق ( ألف ليلة وليلة ) و ( سيرة عنترة ) و ( البطال ) و ( السيد البطل ) .
وعلى غرارها في ( العصر الحاضر ) : الإستدلال من سيرة الأبطال ، ومضاعفتها بالكذب والأوهام ، كما في قصة ( وضاح ) و ( عبيد بن الأبرش ) ، وغيرهما من أحاديث العرب وأخبارها في جاهلية وإسلام .
وفي ( التمثيل الديني ) يأتي التسلق إلى تمثيل أنبياء الله ورسله ، والصحابة من المهاجرين والأنصار ، وإلى عظماء الإسلام كافـة .
وكان من أبشع ما رأى الراؤون ما عمله ذاك الشقي طه حسين في كتابه ( على هامش السيرة ) : إنه ليس في حقيقتها ، ولكن على هامشها بالاختلاق للتسلية .
إنها محاكاة دينية لإلياذة اليونان ، وأساطير الرومان .
فجعل هذا العابث : سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مسرحاً للأساطير والكذب ، وإدخال الباطل ، وسل الصحيح . واختراع ما يسيئ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى جميع المسلمين .
فانظر إلى هذا العنوان الأثيم ( على هامش السيرة ) ، وإلى ما احتوته من الاختلاق العظيم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ثامناً : ولما نشأت ظاهرة ( القصص الكاذب ) في عهد أمير المؤمنين عمـر -
رضي الله عنه - بغـية الوعظ والتذكير ، منع ذلك عمـر - رضي الله عنه - وشدّد
النكير على القصاص والمذكرين .
وقد توالت كلمة العلماء على إنكار ذلك ، وأنه دجل وتلاعب بالعقول ، وكذب مختلق لا يجوز ، وتشويه لصورة الإسلام وشيوع للموضوعات والمختلقات .
وإنه وإن ظهر بمظهر الوعظ وإيقاظ النفوس ، فهو مرض شهوة ، حب المال ، والجاه ، والظهور .
وقد أغنانا الله بقرآن يُـتلى ، فيه أنواع القصص والعبر ، بل فيه أحسن القصص .
وقد ألف العلماء في الإنكار عليهم - أي الوضاعين - تآليف مفردة لشدة خطرهم ، وعظيم ضررهم .
واليوم : يعود الكذب بمسلاخ آخر ( التمثيل ) ، فبالأمس ( الحديث الموضوع ) واليوم ( التمثيل المكذوب ) كلا ً أو بعضاً ، وجعله قربة يحبب الإسلام إلى النفوس ؟
ألا إنها السنن المرفوضة فاحذروا [url=#_ftn4][4][/url] .
تاسعاً : التمثيل ( محاكاة ) ، والمحاكاة خاصية ( القردة ) من الحيوانات ، والمسلم منهي عن التشبه بالحيوانات ، والله تعالى يقول : }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ { …الإسراء/ 70 .
قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح 7/160 ) :
( ومن خصاله أي القرد : أنه يُضحك ، ويُطرب ، ويحكي ما رآه ) انتهى .
فهلا نترفع بالمسلمين فضلاً عن آدميتهم ، عن هذا المستوى .
عاشراً : أجمع القائلون بالجواز المقيد ، على تحريمه في حق أنبياء الله ورسله - عليهم والصلاة والسلام - وعلى تحريمه في حق أمهات المؤمنين زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم ، وولده - عليهم السلام - وفي حق الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - فنسأل المجيز مقيداً والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال : ) كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه ) وهو الذي حرم - صلى الله عليه وسلم - المحاكاة ، وحرّم الكذب ، فلماذا نهدر هذه الحرمات في حق بقية سلف هذه الأمة وصالحها ، وفيهم العشرة المبشرون بالجنة ، وأعمام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولحمة قريش وسداها - ممن أسلموا - هم عشيرته وقراباته - صلى الله عليه وسلم - ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد اوصى بعترته " أهل بيته " وهكذا في كوكبة الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أقول :
اللهم إني أبرأ إليك من إهدار حرمات المسلمين أو النيل منهم .
الحادي عشر : إن التمثيل الديني ( البدعي ) لا أظن وجود قائل يفتي بمزاولته في بيتٍ من بيوت الله ، كصحن المسجد الحرام ، وأروقة المسجد النبوي الشريف ، وهكذا في سائر المساجد . وهذه حلق التدريس والوعظ تعقد في المساجد كابراً عن كابر إلى يومنا هذا ، والتمثيل في نظر المجيز ( درس هادف ) ومُستحب ومرغوب فيه، فهل يقول عاقل سليم الفطرة بعقدها في رحاب المساجد ؟
اللهم لا ، وإن فطرة المسلمين تأبى هذا ، ولا عبرة بمن مالت به الأهواء فتردّى .
[url=#_ftnref1][1][/url] - الفـتاوي 4/ 196 .
[/url] اقتضاء الصراط المستقيم ص/ 46 .
[/url] - بواسطة : خيال الظل لحمادة . ص / 45 .
[/url] - أنظر التراتيب الإدارية 2 / 225– 227 ، 335 – 338 ، 345 – 347 ، 351 – 362 .