الموتى يسمعون الأحياء و هذا السماع يكون عن قرب أى في النطاق الذي كان الميت يسمع منه و هو على قيد الحياة.
الأدلة:
- الحديث الذي ورد في الصحيحين عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"العبد إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعا"
فهو قول صريح صحيح أن الميت يسمع قرع نعال من يتولوا عنه
و قد صنف البخاري بابا مستقلا في كتاب الجنائز بعنوان "باب الميت يسمع خفق النعال" الذي أورد فيه هذا الحديث.
ففي هذا الحديث دلالة واضحة أن الميت يسمع الأحياء و فيه دلالة أخرى و هي أنه يسمع عن قرب إذ لو كان الميت يمكن أن يسمع من هو بعيد جدا عنه أو في بلد آخر لما كانت هناك فائدة في ذكر و تخصيص قرع نعال أصحابه الذين يتولوا عنه لأنه لو كان كذلك لكان الميت يسمع قرع نعال كل الناس فالتخصيص هنا يفيد أنه يسمع فقط في النطاق الذي حوله.
٢- الحديث الذي ورد في الصحيحين و مسند أحمد و سنن النسائي و اللفظ لمسلم عن أنس بن مالك - و رواه البخاري عنه عن أبي طلحة و عن بن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا قال والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا"
فيه دلالة مرة أخرى على سماع الموتى للأحياء
كما أن فيه أيضا دلالة على أن الميت يسمع في المحيط الذي حوله إذ لو كان غير ذلك لخاطبهم النبي صلى الله عليه و سلم من مكانه أيا كان و لم يكن هناك ضرورة أن يقف عندهم كما جاء في الحديث "أتاهم فقام عليهم"
- حديث السلام على أهل القبور فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال
"السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" - رواه الجماعة إلا البخاري و الترمذى و كذا مالك في الموطأ و ابن خزيمة في صحيحه
فيه دلالة أخرى على سماع الأموات للأحياء عن قرب لأن النبي صلى الله عليه و سلم هنا يناديهم مباشرة بكاف الخطاب "السلام عليكم" و لو لم يكن يسمعون لما كانت هناك فائدة في توجيه الخطاب لهم.
٤- قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبى الدنيا في كتاب القبور باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء
حدثنا محمد بن عون حدثنا يحيى بن يمان عن عبد الله بن سمعان عن زيد بن أسلم عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم"
قال أيضا: حدثنا محمد بن قدامة الجوهرى حدثنا معن بن عيسى القزاز أخبرنا هشام بن سعد حدثنا زيد بن أسلم عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام .
٥- ما رواه أحمد و مسلم و النسائي عن مخرمة بن المطلب عن السيدة عائشة رضي الله عنها في حديث طويل جاء فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال "فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك فأجبته فأخفيته منك ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت قلت كيف أقول لهم يا رسول الله قال قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون"
سند الحديث فيه مجهول إلا أن مسلما أتى به في المتابعات على حديث الباب الأصلي لأبي هريرة في السلام على أهل القبور.
و فيه دلالة أن السلام على أهل القبور و مخاطبتهم ليس مختصا بالنبي صلى الله عليه و سلم فقط لأنه صلى الله عليه و سلم ذكر للسيدة عائشة رضي الله عنها أن تسلم و تخاطبهم أيضا في قوله "وإنا إن شاء الله بكم للاحقون" فهنا مرة أخرى خطاب لأهل القبور
[/b]
فالأدلة هنا تضافرت على أن الميت يسمع الحي سماعا حقيقيا في النطاق الذي حوله , و هذا هو الذي عليه السلف و جمهور أهل السنة.
أما الفريق الآخر الذي ينفي سماع الموتى للأحياء فأدلتهم ما يلي:
١- قوله تعالى "إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ" - (النمل: ٨٠) و كذلك (الروم: ٥٢)
٢- قوله تعالى "وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ" - (فاطر: ٢٢)
٣- ما ورد في الصحيحين أن السيدة عائشة رضي الله عنها أنكرت على ابن عمر ما رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال على قتلى بدر من المشركين في القليب "إنهم ليسمعون ما أقول" - و هو الحديث الثاني الذي ورد في الأدلة السابقة
فقد ذُكِرَ عند عائشة أن ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم
"إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله عليه " فقالت وَهِلَ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن " وذاك مثل قوله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال " إنهم ليسمعون ما أقول "
وقد وَهِلَ إنما قال " إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق "
ثم قرأت { إنك لا تسمع الموتى} { وما أنت بمسمع من في القبور} . - و اللفظ لمسلم
قولها : (وَهِل ) هو بفتح الواو وكسر الهاء وفتحها أي غلط ونسي.
وقد وافق عائشة على نفي الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء ورجحه القاضي أبو يعلى في كتاب الجامع الكبير له واحتجوا بما احتجت به عائشة ، وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره ، وهو سماع الموتى كلامه.
و الآن تعقيب
- قوله تعالى "إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ"
ففي الآية التالية يقول تعالى "وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ"
فإنك إن تأملت قوله تعالى "إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ
تجد أن الله تعالى حصر الإسماع فقط في المؤمنين , و هل الكفار لم يسمعوا النبي؟
الإجابة: بلى إنهم سمعوا بالطبع و لكنهم أعرضوا و لهذا استحقوا عقاب الله تعالى على كفرهم.
فيتضح إذن أن السماع المقصود هنا ليس هو مجرد إدراك الكلام بالأذن
لأن هذا الكلام أدركه المؤمن و الكافر
و لكن المقصود الإنصات و التدبر الذي يفضي إلى الإستفادة من الكلام المسموع و هذا الذي ينحصر في المؤمنين فقط.
فالسماع نوعان:-
الأول: الذي ليس للإنسان إرادة فيه و هو كل ما يقع على أذنه من الأصوات حوله
(و هذا الذي يشترك فيه الناس جميعا أحياء و أموات كذلك المؤمنون و غيرهم)
الثاني: الذي يكون للإنسان إرادة فيه و هو أن ينصت للكلام الذي يقال حتى يفهمه أو يحفظه أو يعمل بما فيه
(و هذا الذي يكون للأحياء لا الأموات كذلك المؤمنين لا الكافرين)
فكما أن كلا من المؤمن و الكافر سمع النبي صلى الله عليه و سلم
و لكن المؤمن أنصت و تدبر و فاده ما سمع بأن أسلم و الكافر لم ينصت و لم يفيده سماعه شئ
كذلك الحال بالنسبة للحي و الميت فكلاهما يسمع لكن الميت لا ينصت و لا يفيده سماعه شئ حيث قد أفضى إلى ما عمل و لا يمكنه أن يقوم بعمل شئ آخر في الدنيا
و لذلك قال الحافظ بن كثير في تفسيره للآية:
"إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين" أي لا تسمعهم شيئا ينفعهم
فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة وفي آذانهم وقر الكفر. انتهى كلامه
دليل آخر أيضا قوله تعالى مخبرا عن حال الكفار يوم القيامة:
"وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ" – (الملك: ١٠)
فبالطبع ليس المقصود منه سماع الأذن (النوع الأول) فلو لم يكونوا قد سمعوا لما عذبوا فالله تعالى برحمته لا يعذب حتى يبعث رسولا و بالتالى المقصود أنهم لم ينصتوا لما سمعوا و ينتفعوا به (النوع الثاني).
و كذلك الحال بالنسبة للآية الكريمة "وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ".
- و أما إنكار السيدة عائشة رضي الله عنها لرواية ابن عمر رضي الله عنهما فقد خالفها الجمهور في ذلك
كما أورده ابن حجر فقد روى الحديث أيضا أنس بن مالك رضي الله عنه بنفس اللفظ الذي رواه ابن عمر
عن النبي صلى الله عليه و سلم و هو "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"
و هذا لا ينفي أن تكون السيدة عائشة سمعت اللفظ الذي روته و هو " إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق "
فلا تعارض بين القولين فكلاهما صحيح هم سمعوا و علموا الحق فيكون النبي صلى الله عليه و سلم قال كلا اللفظين لكن في الأول كان في مقام تبيان أن الموتى يسمعونه و هو يخاطبهم ردا على سؤال عمر بن الخطاب له
"فكيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا؟" , و أما الثاني فكان في مقام تبيان أن هؤلاء الذين كفروا به و آذوه و حاربوه عرفوا الآن أن ما جاء به هو الحق من ربه.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري - كتاب الجنائز - باب ما جاء في عذاب القبر:
حديث عائشة قالت : إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنهم ليعلمون الآن ما إن كنت أقول لهم حق.
و هذا مصير من عائشة إلى رد رواية ابن عمر المذكورة ، وقد خالفها الجمهور في ذلك
وقبلوا حديث ابن عمر لموافقة من رواه غيره عليه . وأما استدلالها بقوله تعالى إنك لا تسمع الموتى
فقالوا : معناها لا تسمعهم سماعا ينفعهم ، أو لا تسمعهم إلا أن يشاء الله .
وقال السهيلي : عائشة لم تحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم
فغيرها ممن حضر أحفظ للفظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد قالوا له :
يا رسول الله ، أتخاطب قوما قد جيفوا ؟ فقال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . انتهى
و أضيف أنه حتى لو فرضنا خطأ رواية ابن عمر و أنس و كان اللفظ الذي صح فقط هو "إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق " , فإن مجرد مناداته صلى الله عليه و سلم للقتلى و مخاطبته لهم لدليل كاف أنهم يسمعونه لأنه حاشاه أن يعمل عمل لا معنى له.[/b][/size]