قبل الحديث عن أحكام العملة الورقية ، أحب أن أذكر نبذة مختصرة عن نشأة النقود إلى أن وصلت إلى صورتها الحالية (عملة ورقية)
في بداية البشرية كان التعامل عن طريق تبادل السلع بعضها ببعض ، فمن يحتاج لقمح وعنده أرز يستبدله به وهكذا .
ثم تطورت حاجة الناس ، فأرادوا إيجاد واسطة تحدد قيمة الأشياء ، فكانت في بداية الأمر سلعة من السلع بحسب ظروف كل مجتمع كأن تكون ماشية أو نوع من الأحجار أو الأصداف.
ثم ظهرت بعد ذلك النقود المعدنية من النحاس أو الرصاص فالذهب والفضة ، واستمرت النقود المعدنية مدة طويلة من الزمن .
ثم بعد ذلك ظهرت العملة الورقية ، وكانت في بدايتها تستند إلى غطاء ذهبي مائة في المائة ، ثم سرعان ما زال هذا الغطاء الذهبي ، وأصبح الأفراد ملزمين قانونا بقبولها في التعامل.
وعلى هذا أصبحت النقود الورقية تؤدي نفس الدور الذي كانت تؤديه العملة الذهبية (الدينار) والفضية (الدرهم).
ونخلص من هذا أن النقود تختلف باختلاف المجتمعات وتطورها فهي اليوم من الورق ، وغدا الله أعلم مما تكون.
قال ابن تيمية رحمه الله([2]): وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طَبْعِيٌّ ولا شرعيٌّ بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح ؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به ؛ بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به والدراهم والدنانير لا تُقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها ؛ ولهذا كانت أثمانًا ؛ بخلاف سائر الأموال ، فإن المقصود الانتفاع بها نفسها ؛ فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطَّبْعِيةِ أو الشرعية والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت.انتهى.
النقود في عصر النبي r:
عند بعثة النبي r كان الناس يتعاملون بالنقود المعدنية في مرحلة متطورة منها ، فكانو يتعاملون بالدينار المصنوع من الذهب ، وبالدرهم المصنوع من الفضة.
ثم ظهرت نقود مساعدة ، وهي ما يُسمى بالفلوس ، وكانت من النحاس.
ويُلاحظ أنه لم يكن للعرب قبل الإسلام عملة معدنية خاصة بهم ، أي من وضعهم هم ، بل كانوا يتعاملون بالعملات الذهبية والفضية الفارسة والرومية.
واستمر هذا الحال في صدر الإسلام بمعنى أن النبي r وأصحابه تعاملوا أيضا بالعملات الفارسية والرومية ولم يغيروا منها شيئا على الرغم من أنها كانت تحمل معتقداتهم.
فالنقود الرومية والفارسية التي استخدمها المسلمون في صدر الإسلام كانت تحمل صورة الحاكم ، وما يتصل بعقائدهم ، كالصليب أو النار المقدسة ، ومع هذا اضطرالمسلمون إلى استخدامها.([3])
وعندما بدأ ضرب النقود في بلاد الإسلام لم تغير معالمها إلا ما يتصل بالعقيدة ، فمثلا حذفوا عارضة الصليب ، ثم بعد هذا حذفوا جميع الصلبان إلى أن وصلوا إلى التعريب الكامل.
الفلوس وحكمها :
تعريفها وبيان أصلها :
الفلس : يجمع على أفلس في القلة ، والكثير فلوس. وقد أفلس الرجل : صار مفلسا.([4])
والفلس : عملة يتعامل بها مضروبة من غير الذهب والفضة وكانت تقدر بسدس الدرهم.([5])
والفلس : يعني منذ فجر الإسلام السكة النحاسية التي استعارها العرب من البيزنطيين([6]).
الفلس : كلمة يونانية مشتقة من اللفظ اللاتيني Follis ، وهو اسم وحدة من وحدات السكة النحاسية ، وقد عرفه العرب عن طريق معاملاتهم التجارية مع البيزنطيين ، ولم يكن للفلس وزن واحد، حيث كان يختلف وزنه من إقليم إلى آخر ، وإن كانت النسبة الشرعية بين الفلوس والدراهم معروفة ، وهي 1/48.
والأصل في ضرب هذا النوع من النقود النحاسية أن تكون عملة العمليات التجارية بسيطة.
ولم يمنع ذلك العرب من الاهتمام بها وبنقوشها وأوزانها ووضعوا من أجل وزنها صُنُجًا زجاجية خاصة مقدرة بالقراريط والخراريب (الخرُّوبة في اصطلاح الصَّاغة: حبة الخرُّوب يُوزن بها)([7]).
حكم الفلوس ودخول الربا فيها :
اختلف العلماء في كون الفلوس النحاسية تأخذ أحكام الربا التي تجري على الدينار الذهبي والدرهم الفضي.
فالقول الأول: للشافعي وأحمد.
الفلوس إذا راجت رواج الذهب والفضة أنه لا ربا فيها لانتفاء الثمنية الغالبة فيها . هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي رحمه الله([8]).
وأصح الروايتين عن أحمد جواز بيع الفلس بالفلسين عدداً ، لأنه ليس بموزون ولا مكيل ، فلا معنى إذاً لثبوت الحكم مع انتفاء العلة وعدم النص والإجماع فيه([9]).
ومذهب أبي حنيفة : قال الكاساني الحنفي([10]): ويجوز بيع المعدودات المتقاربة من غير المطعومات بجنسها متفاضلا عند أبي حنيفة وأبي يوسف بعد أن يكون يدا بيد كبيع الفلس بالفلسين بأعيانهما ، وعند محمد لا يجوز .
وجه قوله (أي محمد): أن الفلوس أثمان فلا يجوز بيعها بجنسها متفاضلا كالدراهم والدنانير ودلالة الوصف عبارة عما تُقدر به مالية الأعيان ومالية الأعيان كما تقدر بالدراهم والدنانير تقدر بالفلوس فكانت أثمانا ؛ ولهذا كانت أثمانا عند مقابلتها بخلاف جنسها ، وعند مقابلتها بجنسها حالة المساواة ، وإن كانت ثمنًا فالثمن لا يتعين ، وإن عين كالدراهم والدنانير فالتحق التعيين فيهما بالعدم فكان بيع الفلس بالفلسين بغير أعيانهما وذا لا يجوز ؛ ولأنها إذا كانت أثمانا فالواحد يقابل الواحد ، فبقي الآخر فضل مال لا يقابله عوض في عقد المعاوضة ، وهذا تفسير الربا .
ولهما (لأبي حنيفة وأبي يوسف) أن علة ربا الفضل هي القدر مع الجنس وهو الكيل أو الوزن المتفق عند اتحاد الجنس والمجانسة إن وجدت ههنا فلم يوجد القدر فلا يتحقق الربا .
ثم قال الكاساني مجيبا على قول محمد : وقوله الفلوس أثمان : قلنا : ثمنيتها قد بطلت في حقهما قبل البيع فالبيع صادفها وهي سلع عددية فيجوز بيع الواحد بالاثنين كسائر السلع العددية كالقماقم العددية وغيرها إلا أنها بقيت أثمانا عند مقابلتها بخلاف جنسها وبجنسها حالة المساواة لأن خروجها عن وصف الثمنية كان لضرورة صحة العقد وجوازه لأنهما قصدا الصحة ولا صحة إلا بما قلنا ولا ضرورة ثمة لأن البيع جائز في الحالين بقيت على صفة الثمنية أو خرجت عنها.
القول الثاني : أنه يدخلها الربا وهذا مذهب مالك ، وهذا قوله رحمه الله في المدونة :
قلتُ : أرأيت إن اشتريت فلوساً بدراهم فافترقنا قبل أن نتقابضَ قال : لا يصلح هذا في قول مالك وهذا فاسد , قال لي مالك في الفلوس : لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق , ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلودَ حتى تكونَ لها سكة وعين لكرهتُها أن تُباع بالذهب والورق نظرة.
قلتُ : أرأيتَ إن اشتريت خاتم فضة أو خاتم ذهب أو تبر ذهب بفلوس فافترقنا قبل أن نتقابض أيجوز هذا في قول مالك؟
قال : لا يجوز هذا في قول مالك لأن مالكاً قال : لا يجوز فلس بفلسين , ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة ولا بالدنانير نظرة.
ابن وهب , عن يونس بن يزيد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال : الفلوس بالفلوس بينهما فضل فهو لا يصلح في عاجل بآجل وإلا عاجل بعاجل ولا يصلح بعض ذلك ببعض إلا هاء وهاء.
قال : الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد وربيعة أنهما كرها الفلوس بالفلوس
وبينهما فضل أو نظرة ، وقالا: إنها صارت سكة مثل سكة الدنانير والدراهم.
الليث عن يزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر قالا: وشيوخنا كلهم أنهم كانوا يكرهون صرف الفلوس بالدنانير والدراهم إلا يدًا بيد.
وقال يحيى بن أيوب : قال يحيى بن سعيد : إذا صرفت درهمًا فلوسا فلا تفارقه حتى تأخذه كله.انتهى.([11])
وهذا القول رواية ثانية عن أحمد اختارها ابن عقيل ، ووجه في مذهب الشافعية ، ومحمد بن الحسن من الأحناف ، وهو اختيار ابن تيمية.
قال ابن تيمية رحمه الله : إذا صارت الفلوس أثمانًا صار فيها المعنى ، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل.([12])
تعيلق على الأقوال السابقة :
معلوم أن العلة في كون الذهب والفضة يدخلهما الربا ، عند المالكية والشافعية كونهما أثمان للأشياء غالبا وهذا هو الراجح من خلاف كبير للعلماء ، وذكروا أن هذه العلة قاصرة على الذهب والفضة ، إذ لا يششاركهما غيرهما .
وعلى الرغم من هذا نجد الإمام مالك رحمه الله عامل الفلوس النحاسية معاملة الذهب والفضة لما وجدها أصبحت ثمنا للأشياء ، بل قال أكثر من ذلك :
فقال : لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة (بالأجل)([13]).انتهى.
ونجد أن الشافعية عندما عللوا أن الفلوس النحاسية لا يدخلها الربا عللوا ذلك بكونها ليست بأثمان للأشياء وهذا في وقتهم ربما كان صحيحاً.
بل جاء عن الإمام النووي رحمه الله في رده على الأحناف ببيان فائدة العلة القاصرة .
قال رحمه الله : العلل أعلام نصبها الله تعالى للأحكام منها متعدية ومنها غير متعدية إنما يراد منها بيان حكمة النص لا الاستنباط وإلحاق فرع بالأصل كما أن المتعدية عامة التعدي وخاصته .
ثم لغير المتعدية فائدتان :
(أحداهما) أن تعرف أن الحكم مقصور عليها فلا تطمع في القياس .
(والثانية) أنه ربما حدث ما يشارك الأصل في العلة فيلحق به.
فمعنى كلامه رحمه الله : أن العلة القاصرة تقطع الأمل في القياس عليها في عدم وجود ما يماثلها.
ثم ذكر أنه إذا وُجد ما يشارك الأصل في العلةِ القاصرة جازَ أن يُلحقَ بها.
فعلى هذا إذا وجد ما يشارك الذهب والفضة في كونهما أثمانا للأشياء ، جاز مشاركتهما في أحكام الصرف.
وقد نظر علماء الشافعية إلى الفلوس النحاسية ، فوجدوها ليست مالاً يُكَون الناسُ منها ثرواتهم ، بل هي تستخدم في شراء المحقرات ، فلم يعتدوا بها وخاصة أن الدينار الذهبي والدرهم الفضي مازالا على ساحة الوجود والتعامل الأصلي بهما.
فعليه لم يلحقوا الفلوس بالدينار والدرهم في أحكام الربا.
وأردتُ ببيان أحكام الفلوس وارتباطها بالدينار والدرهم ، بيان أحكام العملات الورقية ، وأن الربا بنوعيه يدخلها كما يدخل الدينار والدرهم.
الفرق بين العملة الورقية والفلوس النحاسية :
هناك فرق بين الفلوس النحاسية ، والعملات الورقية ، لهذا لم نجد خلافا كبيرا([14]) في دخولها في أحكام الصرف والربا كما هو في الدينار والدرهم ، والفرق بينها وبين الفلوس راجع لسببين أساسيين([15]):
الأول : أن الفلوس تصلح أن تكون عروض وسلعا تجارية ، وذلك لإمكان الانتفاع بأعيانها ، فقد كانت مصنوعة من المعدن ، والمعدن في ذاته يتعلق به الانتفاع ، فيصلح أن يكون عروض تجارة .
أما العملة الورقية فلا يتعلق الانتفاع بعينها حتى يمكن أن نقول إنها عروض تجارية كالفلوس ، فما هو الانتفاع الذي يُرجى من أوراق مطبوعة؟!
الثاني : أن الفلوس لم تتوفر فيها صفة الثمنية الغالبة ؛ لوجود الدراهم والدنانير آنذاك ، وتعامل بهما في الغالب ، أما العملة الورقية فصفة الثمنية الغالبة متوافرة فيها.
وبذلك تفترق العملة الورقية عن الفلوس تماماً ، وعليه لا يصح قياس العملة الورقية على الفلوس مع هذه الفروق الجوهرية ، وإنما القياس الصحيح هو قياسها على الذهب والفضة بجامع الثمنية الغالبة. انتهى.
*** وللموضوع تتمة إن شاء الله .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
[1] ) للمزيد انظر فقه البيع والاستيثاق للسالوس [ص1043 إلى1054]
[2] ) مجموع الفتاوى [ج19 – ص 251 ، 252]
[3] ) راجع كتاب المسكوكات الإسلامية الذي قدمه البنك العربي المحدود، وانظر [ص 14 ، 15] تجد صورة لدرهم ساساني يعود للكسرى هرمز الخامس، وعلى الوجه الكسرى ، وفي الخلف صورة للنار المقدسة وخادميها.وانظر كذلك[ص22،23]تجد صورة للدينار البيزنطي الرومي، يحمل صورة هرقل على الوجه وفي الخلف الصليب. انظر هذا كله كتاب فقه البيع والاستيثاق [ص1153]
[4] ) انظر الصحاح للجوهري [ج3 - ص959]
[5] ) المعجم الوجيز [ص480] ط وزارة التربية والتعليم ، مصر.
[6] ) انظر فقه البيع والاستيثاق [ص1061]
[7] ) الموسوعة العربية العالمية.
[8] ) كفاية الأخيار لتقي الدين الحصني الشافعي [ج1 – ص377] ط التوفيقية. وانظر المجموع شرح المهذب للنووي [ج9 – ص493]
[9] ) المغني [ج5 – ص 393 ، 394] وكشاف القناع [ج5 – ص1480]
[10] ) بدائع الصنائع [ج7 – ص49] ط دار الحديث.
[11] ) المدونة الكبرى للإمام مالك [ج3 – ص5 ، 6] ط العلمية. التأخير في صرف الفلوس.
[12] ) مجموع الفتاوى [ج29 – ص472]
[13] ) وهذا من بُعد نظره ، وثقابة فهمه رحمه الله.
[14] ) هناك بعض الشبهات التي أوردها البعض على قياس العملة الورقية على الذهب والفضة وأن تعامل معاملة الدينار والدرهم ، ذكر هذه الشبهات ، وردَّ عليها رداً مقنعاً : عطية عدلان في كتابه موسوعة القواعد الفقهية [ ص418] ط الإيمان إسكندرية.
[15] ) موسوعة القواعد الفقهية المنظمة للمعاملات المالية [ص424] ط الإيمان إسكندرية.