هديه في السلام والتسمية.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في السلام وفي التسمية :
هنا مسألة -يقول المؤلف- تدعو إلى التوقف.
كان عليه الصلاة والسلام إذا وضع يده في الطعام, قال: "بسم الله, ويأمر الآكل بالتسمية)".
ويقول عليه الصلاة والسلام:
((إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى, فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله, فليقل بسم الله في أوله وآخره))
[ أبو داود عن عائشة]
لا بد من أن يسمي, فإذا نسي فليسم بعد أن يذكر: "بسم الله في أوله وآخره".
إذاً: هناك واجب على الآكل أن يسمي قبل أن يأكل.
هنا مسألة: أن الآكلين إذا كانوا جماعة, فسمى أحدهم, هل تزول مشاركة الشيطان لهم في طعامهم, بتسمية واحد منهم أم لا تزول؟
الإمام الشافعي يقول: "تسمية الواحد تجزئ عن الباقين".
وقال: "تسمية الواحد كرد السلام, إذا قام به البعض سقط عن الكل, وكتشميت العاطس".
وقد يُقال: "لا تُرفع مشاركة الشيطان للآكل إلا بتسمية كل آكل, ولا يكفيه تسمية غيره".
ولهذا جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه:
((إنا حَضَرنا مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- طعاماً، فجاءتْ جاريةُ كأنَّها تُدْفَعُ، فذهبت لتَضَعَ يدَها في الطعام، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيدها، ثم جاء أعرابيُّ فكأنما يُدفَع، فأخذ بيده، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الشيطان ليَستَحِلُّ الطعامَ, ألا يُذْكَر اسمُ اللَّه عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحِِلَّ بها الطعام، فأخذتُ بيدها، فجاء بهذا الأعرابيِّ ليستحلَّ به الطعام، فأخذتُ بيده، والذي نفسي بيده، إن يده لفي يدي مع يَدِها، ثم ذكر اسمَ اللَّه وأكل))
[أخرجه مسلم وأبو داود عن حذيفة بن اليمان]
ولو كانت تسمية الواحد تكفي لما وضع الشيطان يده في ذلك الطعام, مع أن رسول الله بينهم.
فالرأي الثاني: أنه لا يجزئ, لا بد من أن يسمي كلُّ آكلٍ على الطعام.
الشِّبَع والأمن هما أثمن نعمة ينالهما الإنسان :
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
((من نسي أن يسمي على طعامه, فليقرأ ﴿قل هو الله أحد﴾إذا فرغ))
[أبو نعيم في الحلية عن جابر]
وكان إذا رفع الطعام بين يديه يقول:
((الحمد الله حمداً كثيراً, طيباً, مباركاً فيه؛ غير مكفي ولا مودَّع, ولا مستغنى عنه ربنا))
[ البخاري عن أبي أمامة]
وكان يقول أحياناً:
((الحمد لله الذي أطعمنا, وسقانا, وجعلنا مسلمين))
[ أحمد عن أبي سعيد الخدري]
وكان يقول أحياناً:
((الحمد لله الذي أطعم وسقى, وسوغه وجعل له مخرجا))
[أبو داود عن أبي أيوب الأنصاري]
و كان يقول عليه الصلاة والسلام:
((الحمد لله الذي كفانا وآوانا))
[أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي أمامة الباهلي]
الله عز وجل قال:
﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾
[سورة قريش الآية:4]
وهاتان النعمتان الشِّبَع والأمن هما أثمن نعمة ينالهما الإنسان:
﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾
[سورة قريش الآية:4]
لو الإنسان كان شبعاناً وخائفاً, أو مطمئناً وجَوعان, لكان في وضع لا يحسد عليه أما شبعان ومطمئن, فهاتان نعمتان كبيرتان.
الدعاء ذكر والذكر أن يكون الإنسان مع الله دائماً :
لذلك أيها الأخوة:
(( إذا أصبح أحدكـم آمناً في سربه- طبعاً هذا أمن الإيمان- معافىً في جسمه، عنده قوت يومه، فكـأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ))
[ من الجامع الصغير عن عبد الله بن محصن ]
أي غير ملاحق, مطمئن إلى رحمة الله, معافى في جسمه, عنده قوت يومه.
وذكر البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((من أكل طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا, من غير حول مني ولا قوة, غفر الله له ما تقدم من ذنبه))
[أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن معاذ بن أنس]
ويُذكر عنه أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا قُرِّب إليه الطعام قال:
((بسم الله, فإذا فرغ من طعامه, قال: اللهم أطعمت وسقيت, وأغنيت وأقنيت, وهديت وأحييت, فلك الحمد على ما أعطيت))
[النسائي من طريق عبد الرحمن بن جبير المصري]
كما ترون الدعاء ذكر, والذكر أن تكون مع الله دائماً.
((ابن ادم! إنك إن ذكرتني شكرتني, وإذا ما نسيتني كفرتني))
[ ورد في الأثر]
وكان عليه الصلاة والسلام يقول إذا فرغ:
((الحمد لله الذي منَّ علينا وهدانا, والذي أشبعنا وأروانا, وكل الإحسان آتانا))
[ أبو داود عن عبد الله بن عمرو]
وفي السنة أيضاً أنه:
((إذا أكل أحدكم طعاماً, فليقل: اللهم بارك لنا فيه, وأطعمنا خيراً منه, ومن سقاه الله لبناً, فليقل: اللهم بارك لنا فيه, وزدنا منه, فإنه ليس شيء يجزىء من الطعام والشراب غيرُ اللبن))
[ أبو داود و الترمذي عن ابن عباس]
أي طعام:
((اللهم بارك لنا فيه, وأطعمنا خيراً منه, إلا اللبن وزدنا منه))
فيبدو أن اللبن غذاء مثالي.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا شرب في الإناء تنفس ثلاثة أنفاس, ويحمد الله في كل نفس, ويشكره في آخره.
أي الشرب بثلاث وجبات, بينهما الحمد لله, وفي النهاية بينهما الحمد لله, والشكر في آخر الأنفاس.
أَحْكَامُ الدّعْوة إلَى الطّعامِ :
((وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل على أهله ربما يسألهم: هل عندكم طعام؟ وما عاب طعاماً قط, بل كان إذا اشتهاه أكله, وإذا كرهه تركه وسكت, وربما قال: أجدني أعافه, إني لا أشتهي))
وكان يمدح الطعام أحياناً, كقوله لما سأل أهله الإدام فقالوا: ما عندنا إلا خل, فدعا به, فجعل يأكل منه, ويقول: نعم الأُدُمُ الخل.
وليس في هذا تفضيل له على اللبن, واللحم, والعسل, والمرض, وإنما هو مدح له في تلك الحال التي حضر فيها.
أي الخل مادة مذيبة, هكذا سمعت من بعض الأطباء أن استعمال الخل بشكل معتدل له أثر كبير في تنقية الشرايين مما علق بها من الكوليسترول.
فكان عليه الصلاة والسلام يحب الخل, ويأكله من حين لآخر, ويقول:
((نعم الإدام الخل))
[ أبو داود عن جابر]
وهذه وصفة طبية, لأن الخل يُذيب, فمن استعمل الخل من حين لآخر, فقد رشد.
بعضهم قال: قال هذا تطييباً لقلب من دعاه إلى أدم وخل.
هناك صحابي دعاه إلى خبز وخل فقط, فقال -عليه الصلاة والسلام-:
((نعم الإدام الخل))
قال هذا تطييباً لقلب هذا الصحابي.
وكان إذا قُرِّب إليه طعام وهو صائم, قال: إني صائم, وأمر من قُرِّب إليه الطعام وهو صائم أن يصلي, أن يدعو لمن قدمه, وإن كان مفطراً أن يأكل منه.
أنا أذكر رجلاً دعي إلى طعام في عهد النبي وكان صائماً, فقال: أجب, فأجابه وبقي صائماً فهموا أن الإجابة للطعام.
اللقاء هو أهم شيء, طبعاً في صيام النفل له أن يفطر؛ لكن النقطة الدقيقة تلبية دعوة أخيك أساسها أن تلتقي معه, فصار الطعام شيئاً ثانوياً.
وكان إذا دعي إلى طعام, وتبعه أحد, أعلم به ربَّ المنزل, وقال: إن هذا تبعنا, فإن شئت أن تأذن له, وإن شئت رجع.
أي هناك أدب, أحياناً شخص ليس مهيئاً نفسه, عنده ثمانية كراسي, دعا ثمانية, جاء شخص تاسع, لا يوجد عنده كرسي له مثلاً.
فكان عليه الصلاة والسلام يقول: إن هذا تبعنا, فإن شئت دخل, وإن شئت رجع.
وكان يتحدث على طعامه, كما تقدم في حديث الخل, وكما قال لربيبه عمر بن أبي سلمة وهو يؤاكله: سمِّ الله, وكل مما يليك.
النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو إلى الطعام بحرارة و يثني على من يضيف المساكين:
وكان يكرر على أضيافه عرض الأكل عليهم مراراً كما يفعله أهل الكرم, كما في حديث أبي هريرة عند البخاري في قصة شرب اللبن, وقوله له مراراً:
((اشرب, فما زال يقول: اشرب, حتى قال: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا))
[ البخاري عن أبي هريرة]
أيضاً هذه من السنة.
وكان عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الطعام بحرارة, وكان إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم, فدعا في منزل عبد الله بن بسر, فقال:
((اللهم بارك لهم فيما رزقتهم, واغفر لهم, وارحمهم))
[ الترمذي عن عبد الله بن بسر]
أحياناً الإنسان: يدعوك, الدعاء يطيب قلبه كثيراً.
((اللهم بارك لهم فيما رزقتهم, واغفر لهم, وارزقهم))
[ الترمذي عن عبد الله بن بسر]
وهناك دعاء آخر:
((اللهم أطعم من أطعمنا, واسق من سقانا))
[مسلم عن المقداد بن عمرو الكندي]
وهناك دعاء ثالث:
((أفطر عندكم الصائمون, وأكل طعامكم الأبرار, وصلت عليكم الملائكة))
[ابن ماجه عن عبد الله بن الزبير]
هذا دعاء, ودعاء ثان, ودعاء ثالث, (إذا إنسان دُعي إلى طعام).
وذكر أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دعاه أبو الهيثم -هو وأصحابه- فأكلوا, فلما فرغوا قال: أثيبوا أخاكم, قالوا: يا رسول الله! وما إثابته؟ قال: إن الرجل إذا دُخل بيته, فأُكل طعامه, وشُرب شرابه, فدعوا له, فذلك إثابته.
أي إنسان دعاك إلى طعام ينبغي أن تدعو له بإحدى هذه الأدعية الثلاثة.
وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((اللهم أطعم من أطعمني, واسق من سقاني))
[أحمد عن المقداد بن الأسود]
وأحد الصحابة سقاه لبناً فقال:
((اللهم أمتعه بشبابه))
[ ابن أبي شيبة في مسنده وأبو نعيم وابن عساكر عن عمرو بن الحمق]
فمرت عليه ثمانون سنة, لم ير شعرة بيضاء في رأسه.
الدعاء شيء كبير جداً؛ أنت تخاطب أكرم الأكرمين, تخاطب الإله, الفعال, القوي, فإذا كنت صادقاً في خطابك استجاب الله لك.
وكان عليه الصلاة والسلام يدعو لمن يُضيف المساكين, ويثني عليهم, فقال مرة: ألا رجل يضيف هذا رحمه الله, فقال للأنصاري وامرأته اللذين آثرا بقوتهما, وقوت صبيانهما ضيفهما:
((قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة))
[البخاري عن أبي هريرة]
هناك صحابي فقير استضاف أنصارياً, وآثره على طعامه وطعام أولاده, فلما بلغ ذلك النبي قال:
(( قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة))
[البخاري عن أبي هريرة]
عَدم الْأَنَفَة مِن مؤَاكلة أَيّ إنْسانٍ:
وكان عليه الصلاة والسلام لا يأنف من مؤاكلة أحد؛ صغيراً كان أو كبيراً, حراً أو عبداً, أعرابياً أو مهاجراً.
هناك شخص إذا لم يكن الشخص الذي يأكل معه من مستواه يعدها إهانة؛ يأكل مع موظف صغير؟! يأكل مع مستخدم؟! يأكل مع حاجب؟! يأكل مع صانع؟! يعدها إهانة.
كان عليه الصلاة والسلام لا يأنف من مؤاكلة أحد؛ صغيراً كان أو كبيراً, حراً أو عبداً, أعرابياً أو مهاجراً.
حتى روى أصحاب السنن عنه أنه أخذ بيد مريض, فوضعها معه في القصعة, فقال: كُل بسم الله, ثقة بالله, وتوكلاً عليه.
الْأَكلُ بِالْيَمِين :
وكان يأمر بالأكل باليمين, وينهى عن الأكل بالشمال, ويقول:
(( إن الشيطان يأكل بشماله, ويشرب بشماله))
[مسلم عن ابن عمر]
وكان عليه الصلاة والسلام يقول:
((كل بيمينك, فقال أحدهم: لا أستطيع, فقال: لا استطعت, فما رفع يده إلى فيه بعدها))
[مسلم عن أبي هريرة]
طبعاً الإنسان أحياناً يعصي كبراً, أما إذا كان لا يستطيع فعلاً فليس هذا هو المقصود.
قال له:
((لا أستطيع - كبراً-, فقال له: لا استطعت))
وقال شرَّاح الحديث: كبره حمله على ترك امتثال أمر رسول الله.
وأمر من شكوا إليه أنهم لا يشبعون أمرهم أن يجتمعوا على طعامهم فلا يتفرقوا, وأن يذكروا اسم الله عليه, يبارك لهم فيه.
وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
((إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها, ويشرب الشربة فيحمده عليها))
[مسلم عن أنس بن مالك]
ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((أذيبوا طعامكم بذكر الله, والصلاة, ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم))
[أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط عن عائشة]
هذا حديث مهم جداً, الآن اكتشف أن الإنسان يجب أن يأكل خمسين بالمئة من طعام اليوم في الصباح لأنه عقب هذا الطعام جهد طويل, ثماني ساعات, وأنه عليه أن يأكل خمساً وثلاثين بالمئة من طعامه ظهراً, أما طعام المساء فينبغي ألا يزيد عن خمسة عشر بالمئة.
يقول عليه الصلاة والسلام:
((ولا تناموا عليه, فتقسو قلوبكم))
الطعام وجبة دسمة جداً, يعقبها نوم, هذا الطعام سوف يترسب في جدران الشرايين, لأنه لا يوجد حركة, يذهب للتخزين دائماً, أما إذا أكلت وجبة دسمة, ثم كان هناك جهد كبير, فهذه الوجبة تحرق في الجهد.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((أذيبوا طعامكم بذكر الله, ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم))
[أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط عن عائشة]
والإنسان إذا أكل وهو يذكر الله عز وجل هذا أهون للهضم, الحالة النفسية لها علاقة بالهضم, وهناك حالات نفسية كثيرة من أمراض المعدة كالقرحة بسبب شدة نفسية, فالراحة النفسية تكون بذكر الله عز وجل، قال:
((أذيبوا طعامكم بذكر الله, ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم))
[أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط عن عائشة]
والحمد لله رب العالمين