فصل
فيما اعترض به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وما تعنتوا له في أسئلتهم إياه أنواعاً من الآيات وخرق العادات
على وجه العناد لا على وجه طلب الهدى والرشاد
فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا، ولا ما إليه رغبوا؛ لعلم الحق سبحانه؛ أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يتردّون.
قال الله تعالى : ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾[ الأنعام: 109-111].
وقال تعالى : ﴿الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾[يونس: 96و97].
وقال تعالى : ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: 59].
وقال تعالى : ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 90-93].
وقد تكلمناعلى هذه الآيات وما يشبهها في أماكنها من ((التفسير))، ولله الحمد.
عن ابن عباس قال:
سأل أهل (مكة) رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم لصفا ذهباً، وأن ينحّي عنهم الجبال فيزدرعوا. فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم. قال:
((لا؛ بل أستأني بهم)).
فأنزل الله تعالى : ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء:59].
رواه أحمد والنسائي.
وفي رواية لأحمد عنه قال:
قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : ادعُ لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك. قال: ((وتفعلوا؟)). قالوا: نعم.
قال: فدعا ، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهباً، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة. قال:
((بل [باب] التوبة والرحمة)).
وإسناد كل منهما جيد.
وقد جاء مرسلاً عن جماعة من التابعين؛ منهم: سعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغير واحد.
فصل
@قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء (مكة) إذا اشتد الحر، من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم.
فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم، ومنهم من يصلُب لهم، ويعصمه الله منهم.
وقد تقدم حديث ابن مسعود:
أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله فمنعه الله بعمه، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا؛ إلا بلالاً؛ فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى ، وهان على قومه، فأخذوه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب (مكة) وهو يقول: أحد أحد.
وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأهله وهم يعذبون، فقال:
((أبشروا آل عمار وآل ياسر! فإن موعدكم الجنة)).
رواه البيهقي عن الحاكم.
قلت: وفي مثل هذا أنزل الله تعالى : ﴿من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقبله مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم﴾ [النحل: 106].
فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.
وعن خباب بن الأرت قال:
كنت رجلاً قيناً، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا والله؛ لا أقضيك حتى تكفر بمحمد! فقلت: لا والله؛ لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث. قال: فإني إذا مت ثم بعثت؛ جئتني ولي ثمّ مالٌ وولد فأعطيك، فأنزل الله: ﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً﴾ إلى قوله: ﴿ويأتينا فرداً﴾ [مريم: 77-80].
أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم في ((الصحيحين))، وفي لفظ البخاري:
كنت قيناً بـ(مكة)، فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه ... فذكر الحديث.
وفي طريق أخرى له عنه قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه، فقال:
((لقد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب؛ ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتمّنّ الله هذا الأمر؛ حتى يسير الراكب من (صنعاء) إلى (حضر موت) ما يخاف إلا الله عز وجل (زاد بيان: والذئب على غنمه) )).
وفي رواية : ((ولكنكم تستعجلون)).
[المستدرك]
وعن أبي ليلى الكندي قال: جاء خباب إلى عمر فقال: ادنُ؛ فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار. فجعل خباب يريه آثاراً بظهره مما عذبه المشركون.
أخرجه ابن سعد (3/165)، وابن ماجه (153) بسند صحيح. [انتهى المستدرك].
باب مجادلة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإقامة الحجة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم باحلق وإن أظهروا المخالفة عناداً وحسداً وبغياً وجحوداً
روى إسحاق بن راهويه بسنده عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال : يا عم! إن قومك يريدون أن يجمعو لك مالاً. قال: لم؟ قال: ليعطوكه؛ فإنك أتيت محمداً لتعرّض ما قِبَلَه.
قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً.
قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له.
قال: وماذا أقول؟ فوالله؛ ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله؛ ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله؛ إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
قال: فدعني حتى أفكر فيه.
فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر، يأثره عن غيره. فنزلت: ﴿ذرني ومن خلقت وحيداً. وجعلت له مالاً ممدوداً. وبنين شهوداً﴾ [المدثر: 11-13] الآيات.
هكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن إسحاق.
قلت: وفي ذلك قال الله تعالى إخباراً عن جهلهم وقلة عقلهم: ﴿بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون﴾. [الأنبياء:5]، فحاروا ما ذا يقولون فيه؟ فكل شيء يقولونه باطل؛ لأن من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ، قال الله تعالى : ﴿انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً﴾ [الإسراء:48].
@وروى الإمام عبد بن حميد في ((مسنده)) بسنده عن جابر بن عبد الله قال:
اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر؛ فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟
فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد!
فأتاه عتبة فقال: يا محمد! أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم قال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك؛ فقد عبدوا الآلهة التي عِبتَ وإن كنت تزعم أنك خير منهم؛ فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتّتّ أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلى مثل صيحة الحبلى؛ أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل! إن كان إنما بك الحاجة؛ جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً، وإن كان إنما بك الباءة؛ فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((فرغت؟)). قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( ﴿بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون﴾ إلى أن بلغ: ﴿ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ [فصلت: 1-13])).
فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: ((لا)).
فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته.
قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم. ثم قال: لا والذي نصبها بيّنة؛ ما فهمت شيئاً مما قال؛ غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
قالوا: ويلك! يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟!ّ
قال: لا والله؛ ما فهمت شياً مما قال؛ غير ذكر الصاعقة.
@وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم بسنده عن الأجلح به، وفيه كلام، وزاد:
وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك؛ فكنت رأساً ما بقيت. وعنده أنه لما قال: ﴿فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾؛ أمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله، واحتبس عنهم.
فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش! ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمد، وأعجبه كلامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه. فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة! ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد، وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة؛ جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد.
فغضب، وأقسم بالله لا يكلم محمداً أبداً، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته – وقص عليهم القصة – فأجابني بشيء – والله؛ ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة – قرأ : (( ﴿بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم﴾حتى بلغ: ﴿ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ ))، فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.
ثم روى البيهقي بسنده عن المغيرة بن شعبة قال:
إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة؛ إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل:
((يا أبا الحكم! هلم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله)).
فقال أبو جهل: يا محمد! هل أنت منتهٍ عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت، فوالله؛ لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك.
فانصر ف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل علي فقال: والله؛ إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن يمنعني شيء؛ إن بني قصي قالوا: فينا الحجابة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا السقاية. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا الندوة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا اللواء. فقلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكّت الركب قالوا: منا نبي! والله لا أفعل.
وهذا القول منه – لعنه الله – كما قال تعالى مخبراً عنه وعن أضرابه:
﴿وإذا رأويك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث الله رسولاً. إن كان ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً﴾ [الفرقان: 41و42].
وقال ابن عباس:
نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ بـ(مكة): ﴿ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها﴾[الإسراء:110]؛ قال:
كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله، ومن جاء به. قال: فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ﴿ولا تجهر بصلاتك﴾؛ أي: بقراءتك؛ فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، ﴿ولا تخافت بها﴾ عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، ﴿وابتغ بين ذلك سبيلاً﴾.
رواه أحمد وصاحبا ((الصحيح)).
بسم الله الرحمن الرحيم
باب هجرة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
من (مكة) إلى أرض الحبشة فراراً بدينهم من الفتنة
قد تقدم ذكر أذية المشركين للمستضعفين من المؤمنين، وما كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد والإهانة البالغة.
وكان الله عز وجل قد حجرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعه بعمه أبي طالب؛ كما تقدم تفصيله، ولله الحمد والمنة.
وقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن مسعود قال:
بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلاً، فيهم عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن عرفطة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى، فأتوا النجاشي.
وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية.
فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إن نفراً من بني عمنا نزلوا ارضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا.
قال: فأين هم؟ قالا: في أرضك؛ فابعث إليهم.
فبعث إليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم. فاتّبعوه.
فسلم ولم يسجد، فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟
قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل.
قال: وما ذاك.
قال: إن الله بعث إليناً رسولاً، ثم أمرنا أن لا نسجد لأحدٍ إلا الله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة.
قال عمرو: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم.
قال: فما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟
قال: نقول كما قال الله: هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها ولد.
قال: فرفع عوداً من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان! والله؛ ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يسوى هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله؛ لولا ما أنا فيه من الملك؛ لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه [وأوضئه].
وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما.
ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدراً.
وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته.
وهذا إسناد جيد قوي، وسياق حسن، وفيهما يقتضي أن أبا موسى كان فيمن هاجر من (مكة) إلى أرض الحبشة؛ إن لم يكن مدرجاً من بعض الرواة. والله أعلم.
ورواه أبو نعيم في ((الدلائل)) عن أبي موسى قال:
فبلغ ذلك قريشاً، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدية.
وقدما على النجاشي فاتياه بالهدية، فقبلها، وسجدا له. ثم قال عمرو بن العاص: إن ناساً من أرضنا رغبوا عن ديننا ، وهم في أرضك.
قال لهم النجاشي: في أرضي؟!
قالا: نعم.
فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد؛ أنا خطيبكم اليوم.
فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه، وعمرو بن العاص عن يمينه، وعمارة عن يساره، والقسيسون جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك.
@فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك. فقال جعفر: لا نسجد إلا لله عز وجل.
فقال له النجاشي: وما ذاك؟
قال: إن الله بعث فينا رسولاً، وهو الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من بعده اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر.
فأعجب النجاشي قوله.
فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال: أصلح الله الملك، إنهم يخالفونك في عيسى بن مريم!
فقال النجاشي: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟
قال: يقول فيه قول الله؛ هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر، ولم يفرضها ولد.
فتناول النجاشي عوداً من الأرض فرفعه، فقال: يا معشر القسيسين والرهبان! ما يزيد هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزن هذه، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك؛ لأتيته حتى أقبل نعليه، امكثوا في أرضي ما شئتم.
وأمر لنا بطعام وكسوة. وقال: ردوا على هذين هديتهما.
وكان عمرو بن العاص رجلاً قصيراً، وكان عمارة رجلا ًجميلاً، وكانا أقبلاً في البحر، فشربا [يعني خمراً]، ومع عمرو امرأته، فلما شرباً قال عمارة لعمرو: مر امرأتك فلتقبلني! فقال له عمرو: ألا تستحي؟! فأخذ عمارة عمراً فرمى به في البحر، فجعل عمرو يناشد عمارة حتى أدخله السفينة.
فحقد عليه عمرو في ذلك، فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلفك عمارة في أهلك. فدعا النجاشي بعمارة، فنفخ في إحليله، فطار مع الوحش.
وهكذا رواه البيهقي في ((الدلائل)) إلى قوله: ((فأمر لنا بطعام وكسوة))، قال:
((وهذا إسناد صحيح، وظاهره يدل على أن أبا موسى كان بـ(مكة)، وأنه خرج مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة.
والصحيح عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى:
أنهم بلغهم مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم باليمن، فخرجوا مهاجرين في بضع وخمسين رجلاً في سفينة، فألقتهم سفينتهم إلى النجاشي بأرض الحبشة، فوافقوا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عندهم، فأمره جعفر بالإقامة، فأقاموا عنده حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن (خيبر).
قال: وابو موسى شهد ما جرى بين جعفر وبين النجاشي، فأخبر عنهم.
قال: ولعل الراوي وهم في قوله: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق)). والله أعلم)).
وهكذا رواه البخاري في (هجرة الحبشة)، ومسلم عن أبي موسى قال:
بلغنا مخرج النبي ونحن باليم، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فأقمنا معه حتى قدمنا، فوافينا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح (خيبر)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((لكم أنتم أهل السفينة هجرتان)).
وروياه في موضع آخر مطولاً. والله أعلم.
@وقال ابن إسحاق: حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارث ابن هشام عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
لما ضاقت (مكة)، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفُتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره ومما ينال أصحابه؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقو ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه)).
فخرجنا إليها أرسالاً، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلماً.
فلما رأت قريش أنا قد أصبنا داراً وأمناً غاروا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا؛ ليخرجنا من بلاده، وليردنا عليهم.
فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا رجلا إلا هيئوا له هدية على حدة، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، فان استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.
فقدما عليه، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته، فكلموه، فقالوا له: إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا؛ فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم، فاذا نحن كلمناه فاشيروا عليه بأن يفعل. فقالوا: نفعل.
ثم قدموا للنجاشي هداياه، وكان من أحب ما يهدون إليه من (مكة) الأدم. (وذكر موسى بن عقبة: أنهم أهدوا إليه فرسا وجبة ديباج).
فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا: له أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجؤوا إلى بلادك، وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم؛ آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فانهم أعلى بهم عينا، فإنهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك.
فغضب ثم قال: لا لعمر الله! لا أردهم عليهم حتى أدعوهم فأكلمهم وأنظر ما أمرهم؛ قوم لجئوا إلى بلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فان كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أدخل بينهم وبينهم ، ولم أَنْعَم عيناً.
@(وذكر موسى بن عقبة: أن أمراءه أشاروا عليه بان يردهم إليهم، فقال: لا والله؛ حتى اسمع كلامهم، وأعلم على أي شيء هم عليه).
فلما دخلوا عليه سلموا ولم يسجدوا له، فقال: أيها الرهط! ألا تحدثوني ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتانا من قومكم؟!
فاخبروني ماذا تقولون في عيسى؟ وما دينكم؟
أنصارى أنتم؟
قالوا: لا.
قال: أفيهود أنتم؟
قالوا: لا.
قال: فعلى دين قومكم؟
قالوا: لا.
قال: فما دينكم؟
قالوا: الإسلام.
قال: وما الإسلام.
قالوا: نعبد الله لا نشرك به شيئا.
قال: من جاءكم بهذا؟
قالوا: جاءنا به رجل من أنفسنا، قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلنا، فأمرنا بالبر والصدقة، والوفاء، وأداء الأمانة، ونهانا أن نعبد الأوثان، وأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له، فصدقناه، وعرفنا كلام الله، وعلمنا أن الذي جاء به من عند الله، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا، وعادوا النبي الصادق، وكذبوه، وأرادوا قتله، وأرادونا على عبادة الأوثان، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا.
قال: والله إن هذا لمن المشكاة التي خرج منها أمر موسى.
قال جعفر: وأما التحية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة (السلام) وأمرنا بذلك فحييناك بالذي يحيي بعضنا بعضاً.
وأما عيسى بن مريم؛ فعبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وابن العذراء البتول.
فأخذ عوداً، وقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود.
فقال عظماء الحبشة: والله؛ لئن سمعت الحبشة لتخلعنك.
فقال: والله؛ لا أقول في عيسى غير هذا أبداً، وما أطاع الله الناس فِيَّ حين رد علي ملكي؛ فأطيع الناس في دين الله؟! معاذ الله من ذلك!
وقال يونس عن ابن اسحاق: فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم، ولم يكن شيء أبغض لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم.
فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون؟
فقالوا: وماذا نقول؟! نقول - والله - ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن من ذلك ما كان.
فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم، ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية!
فقال له جعفر: أيها الملك! كنا قوماً على الشرك نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، يستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحلل شيئا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا، نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الأرحام، ونحمى الجوار، ونصلي لله عز وجل، ونصوم له، ولا نعبد غيره.
@(وقال زياد عن ابن اسحاق: فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام – قال: فعدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبدنا الله وحده لا شريك له، ولم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا.
فعدا علينا قومنا، فعذبونا ليفتنونا عن ديننا، ويردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.
فلما قهرونا وظلمونا، وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا؛ خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك!
قالت: فقال النجاشي: هل معك شي مما جاء به؟
فقرأ عليه صدراً من ﴿كهيعص﴾ فبكى - والله - النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم[حين سمعوا ما تلا عليهم]).
ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى؛ انطلقوا راشدين، لا والله؛ لا أردهم عليكم، ولا أنعمكم عيناً.
فخرجنا من عنده، وكان أبقى الرجلين فينا عبد الله بن [أبي] ربيعة، فقال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما استأصل به خضراءهم، ولأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد - عيسى بن مريم - عبد !
فقال له عبد الله بن [أبي] ربيعة: لا تفعل؛ فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحما ولهم حقا فقال: والله لأفعلن.
فلما كان الغد دخل عليه، فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيما، فارسل اليهم فسلهم عنه.
فبعث - والله - إليهم ولم ينزل بنا مثلها.
فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟
فقالوا: نقول - والله - الذي قاله الله فيه، والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه.
فدخلوا عليه وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟
فقال له جعفر: نقول: هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عوداً بين إصبعيه، فقال: ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العويد.
فتناخرت بطراقته، فقال: وإن تناخرتم والله!
اذهبوا فأنتم شيوم في الأرض (الشيوم: الآمنون في الأرض)، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم (ثلاثاً) ما أحب أن لي دبراً وأني آذيت رجلاً منكم. (والدبر بلسانهم: الذهب).
@(وقال زياد عن ابن اسحاق: ما أحب أن لي دبراً من ذهب. قال ابن هشام: ويقال زبراً، وهو الجبل بلغتهم).
ثم قال النجاشي: فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه؟! ردوا عليهما هداياهم، فلا حاجة لي بها، واخرجا من بلادي.
فخرجا مقبوحين مردوداً عليهما ماجاءا به.
قالت: فاقمنا مع خير جار في خير دار.
فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه الملك.
فوالله ما علمتنا حزنّا حزناً قط هو أشد منه فرقاً من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه.
فجعلنا ندعوا الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائراً.
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض: من يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون.
وقال الزبير - وكان من أحدثهم سنا - : أنا.
فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة.
فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه.
فجاءنا الزبير فجعل يليح لنا بردائه ويقول: ألا فابشروا؛ فقد أظهر الله النجاشي.
قالت: فوالله؛ ما علمتنا أننا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي.
ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى (مكة) وأقام من أقام.
قال الزهري: فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير عن أم سلمة، فقال عروة: أتدري ما قوله: ((ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس فيّ؛ فاطيع الناس فيه؟!))؟
فقلت: لا؛ ما حدثني ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة. فقال عروة: فإن عائشة حدثتني: أن أباه كان ملك قومه، وكان له أخ له من صلبه اثنا عشر رجلاً، ولم يكن لأبي النجاشي ولد غير النجاشي، فأدارت الحبشة رأيها بينها فقالوا: لو أنا قتلنا أبا النجاشي، وملكنا أخاه؛ فان له اثني عشر رجلاً من صلبه؛ فتوارثوا الملك؛ لبقيت الحبشة عليهم دهراً طويلا لا يكون بينهم اختلاف.
فعدوا عليه فقتلوه، وملكوا أخاه.
@فدخل النجاشي بعمه حتى غلب عليه، فلا يدير أمره غيره، وكان لبيبا حازماً من الرجال.
فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا: قد غلب هذا الغلام على أمر عمه، فما نأمن أن يملكه علينا، وقد عرف أنا قتلنا أباه، فلئن فعل لم يدع منا شريفا إلا قتله فكلموه فيه فليقتله، أو ليخرجنه من بلادنا.
فمشوا إلى عمه فقالوا: قد رأينا مكان هذا الفتى منك، وقد عرفت أنا قتلنا أباه وجعلناك مكانه، وانا لا نأمن أن يملك علينا فيقتلنا؛ فإما أن تقتله؛ وإما أن تخرجه من بلادنا.
قال: ويحكم! قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم؟! بل أخرجه من بلادكم.
فخرجوا به فوقفوه في السوق، وباعوه من التجار قذفه في سفينة بستمائة درهم، أو بسبعمائة فانطلق به.
فلما كان العشي هاجت سحابة من سحائب الخريف، فخرج عمه يتمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته.
ففزعوا إلى ولده؛ فاذا هم محمقون ليس في أحد منهم خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله أن ملككم الذي لا يصلح أمركم غيره للذي بعتم الغداة، فان كان لكم بأمر الحبشة حاجة؛ فادركوه قبل أن يذهب.
فخرجوا في طلبه فأدركوه فردوه، فعقدوا عليه تاجه، وأجلسوه على سريره وملكوه.
فقال التاجر: ردوا علي مالي كما أخذتم مني غلامي. فقالوا: لا نعطيك. فقال: اذاً والله لأكلمنه.
فمشى إليه فكلمه، فقال: أيها الملك! إني ابتعت غلاماً، فقبض مني الذي باعوه ثمنه، ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي، ولم يردوا علي مالي.
فكان أول ما خبر به من صلابة حكمه وعدله أن قال:
لتردن عليه ماله، أو لتجعلن يد غلامه في يده، فليذهبن به حيث شاء.
فقالوا: بل نعطيه ماله. فأعطوه إياه.
فلذلك يقول: ما أخذ الله مني الرشوة؛ فآخذ الرشوة حين ردّ علي ملكي؟! وما أطاع الناس فيّ؛ فأطيع الناس فيه؟!
والذي وقع في سياق ابن إسحاق إنما هو ذكر عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة.
والذي ذكره موسى بن عقبة والأموي وغيرهما أنهما عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة – وهو أحد السبعة الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تضاحكوا يوم وضع سلا الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة – وهكذا تقدم في حديث ابن مسعود وأبي موسى الأشعري.
والمقصود أنهما حين خرجا من (مكة) كانت زوجة عمرو معه، وعمارة كان شاباً حسناً، فاصطحبا في السفينة، وكأن عمارة طمع في امرأة عمرو بن العاص؛
[180]
فألقى عمراً في البحر ليهلكه، فسبح حتى رجع إليها، فقال له عمارة: لو أعلم أنك تحسن السباحة لما ألقيتك. فحقد عمرو عليه.
فلما لم يقض لهما حاجة في المهاجرين من النجاشي، وكان عمارة قد توصل إلى بعض أهل النجاشى، فوشى به عمرو، فأمر به النجاشي فسحر حتى ذهب عقله، وساح في البرية مع الوحوش.
وقد ذكر الأموي قصته مطولة جداً، وأنه عاش إلى زمن إمارة عمر بن الخطا، وأنه تقصده بعض الصحابة ومسكه، فجعل يقول: أرسلني أرسلني ، وإلا مت. فلما لم يرسله مات من ساعته. فالله أعلم.
وروى ابن إسحاق بسنده عن عائشة رضي الله عنه قالت:
لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.
ورواه أبو داود عن ابن إسحاق.
@وقد ثبت في ((الصحيحين)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربع تكبيرات.
وروى البخاري في (موت النجاشي) بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((مات اليوم رجل صالح؛ فقوموا فصلوا على أخيكم (أصحمة) )).
وروي ذلك من حديث أنس بن مالك، وابن مسعود، وغير واحد.
وفي بعض الروايات تسميته (أصحمة)، وفي رواية (مصحمة)، وهو (أصحمة بن بحر) ، وكان عبداً لبيباً ذكياً، وكان عادلاً عالماً، رضي الله عنه وأرضاه.
وقال يونس عن ابن إسحاق : اسم النجاشي (مصحمة)، وفي نسخة صححها البيهقي: (أصحم)، وهو بالعربية: (عطية).
قال: وإنما النجاشي اسم الملك؛ كقولك: (كسرى)، (هرقل).
قلت: كذا، ولعله يريد به (قيصر)؛ فإنه علم لكل ملك من ملك الشام مع الجزيرة من بلاد الروم. و(كسرى) علم على من ملك الفرس. و(فرعون) علم لمن ملك مصر كافة. و(المقوقس) لمن ملك الإسكندرية. و(تُبع) لمن ملك اليمن والشحر. و(النجاشي) لمن ملك الحبشة. و(بطليموس) لمن ملك اليونان، وقيل: الهند. و(خاقان) لمن ملك الترك.
وقال بعض العلماء: إنما صلى عليه؛ لأنه كان يكتم إيمانه من قومه، فلم يكن عنده يوم مات من يصلي عليه، فلهذا صلى عليه.
قالوا: فالغائب إن كان قد صُلي عليه ببلده لا تشرع الصلاة عليه ببلد أخرى، ولهذا لم يُصَلّ على النبي صلى الله عليه وسلم في غير (المدينة)؛ لا أهل (مكة) ولا غيرهم. وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة؛ لم ينقل أنه صُلّي على أحد منهم في غير البلدة التي صُلّي عليه فيها. فالله أعلم.
[المستدرك]