وكان عند أهل الجاهلية أنواع من الأنكحة تدل على حرية شخصية واسعة في هذا الجانب، ومن تلكم الأنكحة:
1- نكاح المقت: وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه([14])ويسمّون فاعل ذلك الضيزن، ويسمَّون الابنَ من ذلك النكاح مَقيتا. ([15])
ولذا جاء القرآن بالنهي عنه والتشديد فيه؛ لأنه كان شائعا عندهم، قال الله تعالى [وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا] {النساء:22} فرغم مقت الجاهلية لهذا النوع من النكاح إلا أنهم لم يمنعوا منه، وهذا يدل على ما كان عندهم من حرية شخصية.
2- نكاح المتعة، وهو نكاح إلى أجل، فإذا انقضى وقعت الفرقة. وهذا النوع من الزواج كان معروفًا عند ظهور الإسلام.
ومن دوافع حدوث هذا الزواج التنقل والأسفار والحروب، حيث يضطر المرء إلى الاقتران بامرأة لأجل معين على صداق. فإذا انتهى الأجل، انفسخ العقد. وعلى المرأة أن تعتدّ كما في أنواع الزواج الأخرى قبل أن يسمح لها بالاقتران بزوج آخر.
وينسب أولاد المتعة إلى أمهاتهم في الغالب، وذلك بسبب اتصالهم المباشر بالأم ولارتحال الأب عن الأم في الغالب إلى أماكن أخرى قد تكون نائية، فتنقطع الصلات بين الأب والأم؛ ولهذا يأخذ الأولاد نسب الأم ونسب عشيرتها.
وكان هذا النكاح مقرا في أول الإسلام؛ كما روى جَابِرِ بن عبد الله وَسَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ قالا: خَرَجَ عَلَيْنَا مُنَادِي رسول الله ^ فقال إِنَّ رَسُولَ الله ^ قد أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ([16]) ثم حرم بعد ذلك كما ورد أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قال لابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّ النبي ^ نهى عن الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ.([17])
ونقل الجصاص رحمه الله تعالى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن المتعة فقال: ذلك السفاح، وقال عروة بن الزبير: كان نكاح المتعة بمنزلة الزنا.([18])
3- نكاح البدل: وهو أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، فهو زواج بطريق المبادلة بغير مهر.
وقد كان موجودا في الجاهلية، وذكره المفسرون في تفسير قول الله تعالى [لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ] {الأحزاب:52} قال بن زيد رحمه الله تعالى: هذا شيء كانت العرب تفعله يقول أحدهم: خذ زوجتي وأعطني زوجتك.([19])
وظاهرة تبادل الزوجات موجودة في الغرب إذا تراضى أطراف المبادلة، وهي من الحرية الشخصية، سواء كانت المبادلة دائمة أم زمنا مخصوصا.
4- نكاح الاستبضاع: وفسرته عائشة رضي الله عنها بقولها: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه...وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع.([20])
قال ابن عاشور: وفي الإسلام...بطل الاستبضاع؛ ولذلك تجد الزنا لا يقع إلاّ خفية؛ لأنّه مخالفة لقوانين الناس في نظامهم وأخلاقهم.([21])
5- نكاح الرهط: وهو الذي فسرته عائشة رضي الله عنها بقولها: ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها.([22]) وهذا موجود في الغرب وهو من الحرية الشخصية، وشرطهم فيه رضى الأطراف.
6- صاحبات الرايات، فسرته عائشة رضي الله عنها بقولها: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهن البغايا كن ينصبن رايات على أبوابهن يكن علما، فمن أرادهن دخل عليهن. ([23])
وليس في هذا الزواج صداق ولا خطبة على عادة العرب، ومن يفعله من الرجال لم يكن يقصد به زواجًا... وإنما التسلية وتحقيق شهوة بثمن، ولهذا فهو من أبواب الزنا والسفاح. ([24])وهذا موجود في الغرب، وللبغايا علامات وأماكن معروفة عندهم يقصدهن من أرادهن.
فهذه الأنكحة الكثيرة والغريبة عند أهل الجاهلية تدل على ما كان سائدا عندهم من الحرية الشخصية، وما كانوا يتمتعون به من حرية جنسية واسعة، ليس ما يوجد في الغرب مما هو من مظاهر الحرية الشخصية، والفوضى الجنسية إلا مماثلا لما كان عند أهل الجاهلية، وهو ما أبطله الإسلام كما قالت عائشة رضي الله عنها: فلما بعث الله النبي محمدا ^ هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح أهل الإسلام اليوم.([25])
ومن مظاهر الحرية الشخصية: التبني، وهو شائع في الغرب، فمن لم يولد لهم يتبنون من اللقطاء ما شاءوا، وكذلك من كان عندهم أولاد انصرفوا عنهم أو بقوا معهم يتبنون كذلك ما شاءوا. أو يشترون طفلا من أسرة فقيرة ويتبنونه، وتهريب الأطفال من الدول الفقيرة إلى الغنية تجارة رائجة.
وقد جاء إقرار التبني والاعتراف به في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 41/85 المؤرخ في 3 ديسمبر 1986: إن الجمعية العامة بعد الإشارة إلي إعلان حقوق الطفل الذي أصدرته بقرارها 1386 (د-14) المؤرخ في 20 نوفمبر 1959، وخصصت له خمس مواد من حقوق الطفل.([26])
وفي تقرير للأمم المتحدة الخاص بسكان العالم ذكر فيه أن أمريكا بها نصف حالات التبني على مستوى العالم. وحسب التقرير فإن عدد حالات التبني في ارتفاع مستمر منذ أعوام، وأن عدد حالات التبني يبلغ نحو (260 ألف) سنويا على مستوى العالم. ([27])
والتبني كان جائزا في الجاهلية كذلك، ومنتشرا في أهلها، فأبطله الإسلام، قال الله تعالى [وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ] {الأحزاب:4-5}
قال أبو جعفر النحاس: كان هذا ناسخا لما كانوا عليه من التبني، وكان رسول الله ^ قد تبنى زيد بن حارثة، فنسخ التبني، وأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف، فإن لم يكن له أب معروف نسبه إلى ولائه المعروف، فإن لم يكن له ولاء معروف قال بأخي، يعني في الدين قال الله عز وجل [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] {الحجرات:10} ثم ساق النحاس بسنده إلى ابن عمر عن زيد بن حارثة رضي الله عنهم قال: ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزلت [ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ].([28])
قال جواد علي: وقد اعترفت شريعة الجاهليين بالتبني، فيجوز لأي شخص كان أن يتبنى، ويكون للمُتبنى الحقوق الطبيعية الموروثة المعترف بها للأبناء. ويكون بهذا التبني فردًا في العائلة التي تبنته، له حق الانتماء والانتساب إليها. وهو يتم بالاتفاق والتراضي مع والد الطفل أو ولي أمره أو صاحبه، ومالكه، وذلك بالنزول عن كل حق له فيه، ومتى تمّ ذلك وحصل التراضي، يعلن المتبني عن تبنيه للطفل وإلحاقه به، فيكون عندئذ في منزلة ولده الصحيح في كل الحقوق.... وقع التبني مع وجود أولاد للمتبني، وليست له حدود من جهة العمر.([29])
وهذا النظام في التبني عند أهل الجاهلية هو عين ما عند الغرب في التبني، وهو من الحرية الشخصية ما دامت أطراف التبني راضية، إلا الطفل فلا خيار له.
ومن مظاهر الحرية الشخصية عند الغرب: الحرية في الوصية، فللشخص أن يوصي بماله لمن شاء، وله أن يحرم الورثة منه، بل له أن يحرم أولاده ويوصي لقططه وكلابه؛ ولذا تكثر الوصية عندهم بالأموال الطائلة على كلاب وقطط ونحوها، وعلى رعاية الحيوان في الجملة، رغم أن أناسا يعانون الفقر وربما الجوع في نفس البلاد الغربية التي تجيز مثل هذه الوصايا، بل ربما كان في أسرة الموصي للقطط والكلاب من هو فقير من أولاده وعصبته وسائر أقربائه، لكن مقتضى ملكية الإنسان للمال، وحرية التصرف فيه تتيح له من باب الحرية الشخصية أن يهبه لمن يشاء ويمنعه من يشاء.
وذﻛﺮت صحيفة نيويورك تايمز أن الثرية الأمريكية (ليونا هلمسلي) وهي تملك عقارات ضخمة وفنادق في أمريكا تقدر بالمليارات قد أوصت بالملايين لكلبها اﻟﻤﺤﺒﻮب لديها(ﺗﺮاﺑﻞ) وأوصت بثمانية مليارات دولار لرعاية الكلاب ﻋﻤﻮﻣﺎ ورفاهيتها. وكانت قد حددت مصرفين لثروتها كلها: الأول: ﻣﺴﺎﻋﺪة اﻟﺴﻜﺎن الأصليين واﻟﺜﺎﻧﻲ: توفير الرعاية والرفاهية للكلاب، لكنها أﻟﻐﺖ المصرف اﻷول وهو مساعدة البشر وأبقت على الثاني.([30])
وكذلك أهل الجاهلية كانت حريتهم الشخصية تتيح لهم الوصية بأموالهم لمن شاءوا، ولم يكن صاحب الوصية مقيدًا بقيود بالنسبة لكيفية توزيع ثروته؛ لأن المال ملك صاحبه وله أن يتصرف به كيف يشاء. ويجوز للموصي إن شاء حرمان من يشاء من الورثة الشرعيين من إرثهم، وإشراك من يشاء في الإرث. وله أن يوصي بإعطاء كل إرثه إلى شخص واحد، وأن يحرم من الإرث كل المستحقين الشرعيين. ([31])
وأسباب الميراث عند أهل الجاهلية: النسب والتبني والموالاة، والقاعدة العامة في الميراث عند الجاهليين هو أن يكون الإرث خاصًّا بالذكور الكبار دون الإناث، على أن يكونوا ممن يركب الفرس ويحمل السيف، أي: المحارب.([32])
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته.([33])
والظاهر أن هذا كان في أغلبهم، ولكن كان منهم أناس يورثون البنات، قال ابن حبيب البغدادي رحمه الله تعالى: وكانت العرب مُصفقة على توريث البنين دون البنات، فورث ذو المجاسد وهو عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر ماله لولده في الجاهلية للذكر مثل حظ الأنثيين، فوافق حكم الإسلام.([34])وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: وهو أول من أعطى الذكر حظين والأنثى حظاً. ([35])
وهذا التنوع عند الجاهلية بحرمان كثير منهم النساء من الميراث، وتوريث بعضهم النساء، بل وقدرتهم على الوصية بأموالهم لغير ورثتهم مع حرمان ورثتهم، كل هذه التعددية في الميراث والوصية تدل على ما كانوا يتمتعون به من حرية شخصية فيما يملكون من أموال.
وقد تنزل القرآن بالحد من هذه الحرية وتقييدها، وتولى الله تعالى قسمة المواريث وتحديدها في سورة النساء، ومنع سبحانه المورث من الوصية بكل ماله أو التبرع به وحرمان الورثة منه، أو تخصيص بعض الورثة بوصية ليكون حظه من الميراث أكثر من غيره.
الحرية الدينية عند المشركين:
يفاخر الغرب بأن قوانينه وإعلانات حقوق الإنسان التي أصدرها وعممها على البشر تكفل حرية تدين الإنسان، ويكثر في كلام الليبراليين السعوديين الذي هاموا على وجوههم في الفكر الغربي وقيمه، وكرعوا منه حتى الثمالة التباهي بأن الغرب حفظ حق التدين لكل الأجناس والديانات بلا تفريق، ومع ما في هذا الإطلاق من مجازفة، وخاصة مع الإسلام؛ فإن الحقيقة التي يغفل عنها كثير من الناس هي أن حرية التدين كانت تطبق عند المشركين على أوسع نطاق، وأن التعددية الدينية عند العرب في جاهليتهم لا مثيل لها، حتى إنهم سعروا حروبا من أجل ناقة البسوس لما عقرت، وحروبا أخرى في خيل سبقت وهي حروب داحس والغبراء، وغيرها من الحروب التي كثيرا ما تكون أسبابها تافهة، ولم أقف على تسعيرهم لحرب واحدة بسبب الدين، رغم كثرة حروبهم، حتى أفردها أبو الفرج الأصبهاني بكتاب اسمه (أيام العرب) عدّ فيه من أيامهم ألفا وسبع مئة يوم([36]) وهذا يدل على تسامحهم في مسألة الدين، وخلوهم من التعصب الديني، وأنهم مارسوا التعددية في أظهر صورها.
وأدلة الحرية الدينية والتعددية عند المشركين كثيرة، منها:
أولا: انقسام العرب بين الأديان؛ فكانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، وكانت اليهوديه في حمير وفي كنانة وبني الحارث بن كعب وكنده، وكانت المجوسية في تميم، منهم زرارة بن عدس التميمي وابنه حاجب بن زرارة وكان تزوج ابنته ثم ندم، ومنهم الأقرع بن حابس وكان مجوسيا، وأبو سود جد وكيع ابن حسان كان مجوسيا، وكانت الزندقة في قريش أخذوها من الحيرة، وكان بنو حنيفة اتخذوا في الجاهلية إلها من حيس فعبدوه دهرا طويلا ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه فقال رجل يعيرهم:
أكلت حنيفه ربها --- زمن التقحم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم --- سوء العواقب والتباعة([37])
وهذا يدل على ما كان يتمتع به أهل الجاهلية من التعددية، وهي التي حاربها النبي صلى الله عليه وسلم، وقسرهم على معبود واحد هو الله تعالى، وعلى دين واحد وهو دين الإسلام، وعلى منهج واحد وهو شريعة الإسلام؛ ولذا استعظم المشركون أن يلغي النبي صلى الله عليه وسلم حريتهم الدينية، ويبطل ما تمتعوا به من التعددية ليقصرهم على ما جاء به [وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] {ص:4-5}.
فالتعددية التي ينادي بها الغرب، ويصيح بها أتباع الغرب كان أهل الجاهلية يدعون إليها، ويمارسونها، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليبطلها.
ثانيا: أن قوما من العرب رفضوا الشرك وعبادة الأوثان، وبقوا على ما توارثوا من الحنيفية، ولم ينقل أن المشركين آذوهم أو عذبوهم أو قهروهم على ما اختاروا، بل تركوهم وما يدينون ما داموا لم يلزموا غيرهم بما اختاروا، وهذا عين ما تقرره الليبرالية.
قال عالم السير ابن إسحاق: كان نفر من قريش: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وعبيد الله بن جحش بن رئاب...حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقال قائلهم: تعلمون والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين إبراهيم عليه السلام وخالفوه، ما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع؟! فابتغوا لأنفسكم. فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب من اليهود والنصارى والملل كلها الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، فأما ورقة بن نوفل فتنصر فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علما كثيرا من أهل الكتاب، فلم يكن فيهم أعدل أمرا ولا أعدل شأنا من زيد بن عمرو بن نفيل اعتزل الأوثان وفارق الأديان من اليهود والنصارى والملل كلها إلا دين إبراهيم يوحد الله عز وجل ويخلع من دونه، ولا يأكل ذبائح قومه بادأهم بالفراق لما هم فيه.([38])
وفي أخبار حنيفية زيد رحمه الله تعالى روت أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، وَالله مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، وَكَانَ يُحْيِي المَوْءُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ، لاَ تَقْتُلْهَا، أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا.([39])
وله رحمه الله تعالى شعر تبرأ فيه من الأصنام، قال فيه:
تركت اللات والعزى جميعا --- كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا العزى أدين ولا ابنتيها --- ولا صنمى بني غنم أزور
ولا هبلا أزور وكان ربا --- لنا في الدهر إذ حلمي صغير([40])
وكان زيد يمتنع عن أكل الذبائح التي يذبحونها لأصنامهم، وما كانوا يجبرونه على الأكل منها؛ كما في حديث عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَقِيَ زَيْدَ بن عَمْرِو بن نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ قبل أَنْ يَنْزِلَ على النبي صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ فَقُدِّمَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ منها ثُمَّ قال زَيْدٌ: إني لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ على أَنْصَابِكُمْ، ولا آكُلُ إلا ما ذُكِرَ اسْمُ الله عليه، وَأَنَّ زَيْدَ بن عَمْرٍو كان يَعِيبُ على قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا الله، وَأَنْزَلَ لها من السَّمَاءِ الْمَاءَ، وَأَنْبَتَ لها من الأرض، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا على غَيْرِ اسْمِ الله إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا له.([41])
وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى زيد بن حارثة عن التمسح بالأصنام قبل أن يبعث، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته نبيا رسولا لم يكن موافقا للمشركين في تعظيمهم للأصنام وعبادتها، ومع ذلك لم يكن المشركون يعادونه قبل الدعوة، بل كانوا يجلونه ويوقرونه، ويحكمونه بينهم كما في قصة بناء الكعبة، وكانوا يستودعونه أماناتهم، ولقبوه بالأمين.
روى زيد بن حارثة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مردفي إلى نصب من الأنصار فذبحنا له شاة ثم صنعناها في الأرة حتى إذا نضجت استخرجناها فجعلناها في سفرة، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسير مردفي في يوم حار من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي لقيه زيد بن عمرو بن نفيل فحيا أحدهما الآخر بتحية الجاهلية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن عم مالي أرى قومك قد شنفوك -أي: أبغضوك- فقال أما والله إن ذاك لغير ثائرة كانت مني فيهم، ولكني كنت أراهم على ضلال فخرجت أبتغي هذا الدين فأتيت على أحبار يثرب فوجدتهم يعبدون الله عز وجل ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبغي، فخرجت حتى أتيت أحبار خيبر فوجدتهم يعبدون الله عز وجل ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبغي، فخرجت حتى أتيت أحبار الشام فوجدتهم يعبدون الله عز وجل ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبغي، فقال لي حبر من أحبار الشام: إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحد يعبد الله تعالى به إلا شيخا بالجزيرة فخرجت فقدمت عليه فأخبرته بالذي خرجت له، فقال لي: إن كل من رأيت على ضلالة فمن أنت؟ قلت: أنا من أهل بيت الله تعالى ومن الشوك والقرظ، قال: فإنه قد خرج في بلدك نبي أو هو خارج قد خرج نجمه فارجع فاقصده واتبعه وآمن به، فرحلت فلم أخبر بشيء، فقدّمنا إليه السفرة فقال: ما هذا؟ فقلنا: ذبحناها لنصب من الأنصاب، قال زيد رضي الله عنه: ما آكل شيئا ذبح لغير الله تعالى، فتفرقنا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، قال زيد بن حارثة رضي الله عنه: وأنا معه، وكان صنم من نحاس يقال له إساف ونائلة مستقبل القبلة يتمسح بهما الناس إذا طافوا بالبيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تمسهما ولا تسمح بهما، قال زيد: فقلت في نفسي لأمسهما حتى أنظر ما يقول، فمسستها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تنه فلا والذي أكرمه ما مسستهما حتى أنزل الله عز وجل عليه الكتاب.([42])
فهذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على دين قومه في تعظيمهم للأصنام، ويدل على أن قريشا أبغضوا زيد بن عمرو؛ لأنه صرح بضلالهم، والظاهر أنه أنكر عليهم عبادتهم للأصنام، ونهاهم عن ذلك، فناله منهم أذى بسبب إنكاره لا بسبب عبادته. ومما يدل على ذلك قول زيد في شعره:
سبحانه ثم سبحانا يعود له --- فقبلنا سبح الجودي والجمد
لا تعبدن إلها غير خالقكم --- وإن دعيتم فقولوا دونه حدد([43])
ثالثا: أن من المشركين من كان يؤمن بالبعث والنشور، مع أن عامتهم لا يؤمنون بذلك، ولم ينقل أن من لم يؤمن به كان يؤذي من يؤمن به ويقهره على إنكاره، بل كان كل واحد حرٌّ فيما يعتقد ويدين به على غرار ما تقرره الليبرالية الغربية، قال الله تعالى [وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ] {الرعد:5}
قال البغوي رحمه الله تعالى: وكان المشركون ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله تعالى، وقد تقرر في القلوب أن الإعادة أهون من الابتداء، فهذا موضع العجب.([44])
والآيات الدالة على أن المشركين كانوا ينكرون البعث والنشور كثيرة في القرآن الكريم، مما يدل على أن هذا القول منتشر فيهم، ويمثل عقيدة في المجتمع الجاهلي، وبسبب تقرير النبي ^ للبعث والنشور في أوساطهم رموه بالجنون أو بالكذب، مما يدل على شدة تكذيبهم بالبعث، واستقرار ذلك عندهم، وانتشاره فيهم، قال الله تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ فِي العَذَابِ وَالضَّلَالِ البَعِيدِ] {سبأ:7-8}.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا إخبار من الله عن استبعاد الكفرة الملحدين قيام الساعة، واستهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره بذلك.([45])
ومع كل هذا التكذيب واستبعاد البعث والنشور، والسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم به؛ فإن من المشركين من كان يؤمن بالبعث والنشور، ولم ينلهم أي أذى، بل كفلت لهم حرية الفكر والمعتقد.