السبب الرابع : التأهل .
والإتمام بالتأهل هو قول الجمهور ([105]) . وله عند أهل العرف أحوال :
فإذا وُجِدَ مكان المثل وسكنه ولـه فيه زوجة مقيمة فلا اعتبار للمدة مطلقاً ؛ فمهما نزل هذا البلد فهو مقيم ، وإن كان نزوله ساعات .
فقد ظهر هنا أثر التأهل ، وهو إلغاء تأثير المدة .
ويسقط عند أهل العرف تأثير التأهل إذا كانت الزوجة تقيم وتظعن مع زوجها ؛ وذلك لأنه يتبعها في حكم الإقامة إذا كانت مقيمة ؛ فإذا كانت هي مسافرةً انقطع تأثيرها في حال زوجها .
قال ابن القيم : ( .. والمسافر إذا تزوج في طريقه لم يثبت لـه حكم الإقامة بمجرد التزوج ، ما لم يزمع الإقامة وقطع السفر ) ([106]).
كما أن التأهل لا يُعتبر مؤثراً إذا كان لا يأوي إلى بيت الزوجية المعتاد ؛ كأن يكون نزوله عند والدها مدة يسيرة ، وله مكان إقامة آخر .
وقد سأل ابنُ القاسم مالكاً رحمه الله عن : ( .. الرجل المسافر يمر بقرية من قراه في سفر ، وهو لا يريد أن يقيم بقريته تلك إلا يومه وليلته ، وفيها عبيده وبقره وجواريه ، وليس له بـها أهل ولا ولد ؟ قال : يقصر الصلاة ، إلا أن يكون .. فيها أهله وولده ؛ فإن كان فيها أهله وولده أتم الصلاة . قلت : أرأيت إن كانت هذه القرية التي فيها أهله وولده مر بـها في سفره ، وقد هلك أهله وبقي فيها ولده أيتم الصلاة أم يقصر ؟ قال : يقصر ) ([107]) .
ومَنْ كان عزباً لا زوجة لـه ، ولم ينو القرار في مكان فدار إقامته هي مكان إقامة والديه ([108]) ؛ كما هي عادة أكثر العُزَّاب .
وإذا نزل المسافر في دار أبيه أو ابنه فلا يُعتبر مقيماً بمجرد ذلك ([109]) .
السبب الخامس : المتاع والأثاث .
بنقله أو شرائه من مكان نزوله ، وهذا وصف مساعدٌ مؤكدٌ ، لا يستقل وجودُه بوجود الإقامة ، ولا انتفاؤه بنفيها . ابن الهمام (5/106) مهم
وقد قرر أحمد بأن الملاّح الذي معه أهله وتنوره لا يقصر ([110]).
السبب السادس : الارتباط بمصالح البلد الذي نزله .
وهي في الوقت الحاضر علامة من علامات الإقامة والطمأنـينة ؛ كفتح العمل التجاري ، وتسجيل الأولاد في المدارس أو توظيفهم ، ونحو ذلك .
فالناس إذا سُئِلوا عن شخص هل هو مقيم أو لا ؟ كانت إجابتهم بذكر هذه الارتباطات أو بعضها .
وهذا عند أهل العرف وصف مساعد فقط .
دقائق أولي النهى (3/469) ( و ) إن حلف ( لا يسكن الدار ) أو البلد ( فدخلها أو كان فيها غير ساكن ) كالزائر ( فدام جلوسه لم يحنث ) قال الشيخ تقي الدين : الزيارة ليست بسكنى اتفاقا ولو طالت مدتها
كشاف القناع (6/267) أن الانتقال لا يكون إلا بالأهل والمال ) ولهذا يقال : فلان ساكن في البلد الفلاني وهو غائب عنه
ولو خرج ثم عاد إليها لنحو عيادة أو زيارة لم يحنث ما دام يطلق عليه زائر أو عائد عرفا وإلا حنث
رد المحتار (3/752)قال في الخلاصة وفي الأصل لو دخل عليه زائرا أو ضيفا فأقام فيه يوما أو يومين لا يحنث والمساكنة بالاستقرار والدوام وذلك بأهله ومتاعه
حكم الحلف على سكنى البيت : 16 - لو حلف لا يسكن بيتا , ولا نية له , فسكن بيتا من شعر أو فسطاطا أو خيمة , لم يحنث إن كان من أهل الأمصار , وحنث إن كان من أهل البادية ; لأن البيت اسم لموضع يبات فيه , واليمين تتقيد بما عرف من مقصود الحالف , وأهل البادية يسكنون البيوت المتخذة من الشعر , فإذا كان الحالف بدويا يحنث , بخلاف ما إذا كان من أهل الأمصار .
تطبيقات عرفية في الإقامة والسفر
أمثلة على الإقامة أو بقاء حكمها :
1. من ملك أو استأجر بيت المثل ، ونوى النـزول مدة طويلة عرفاً بنية مستقرة ؛ كسنة مثلاً ، ويقوى وصف إقامته إذا كان متأهلاً .
2. الطالب المغترب داخل البلاد أو خارجها الذي يقصد الإقامة مدة طويلة في سكن الجامعة ، أو سكن خاص .
3. إذا كان الطالب المغترب قبل اغترابه يسكن عند والده ـــ كالعزب ومن يسكن مع والده متأهلاً ، وكان لـه فـي بيت والده ما يؤويه عادة ـــ فيُعتبر نزوله عند والده فترة الإجازة الصيفية من الإقامة ، بل قد يُعتبر مستوطناً ؛ لأنه بسكناه مكان دراسته لم يرفض سكنى وطنه الأول .
4. من نزل بيت المثل وله فيه زوجة مقيمة فهو فيه مقيم ، وإن كان نزوله أياماً معدودات ، وإذا تخلف وصف التأهل لم يُعتبر مقيماً بمجرد النـزول فلا بد من نية مدة الإقامة .
5. الحجاج المكيون في المشاعر يُعتبرون في حكم الإقامة ؛ لكون المشاعر قد صارت جزءاً من مكة ، أو من توابعها ؛ فإن الأحياء التي امتدت شرقاً بمحاذاة المشاعر قد قاربت عرفة ؛ فالأقرب عدم ترخصهم ؛ فشأنـهم في ذلك هو شأن المزارعين الذين يخرجون إلى مزارعهم في ضواحي
البلد ، ويحتاجون مع ذلك إلى مبيت وتزود ، ولكن هؤلاء المزارعين
لا يُعتبرون مسافرين عرفاً لكون مزارعهم من توابع البلد ، وأن ما يقطعونه من المسافة لا يُعتبر أدنـى مسافة السفر العرفية ([111]) ، وكذلك الحال في المكيين من الحجاج عند خروجهم إلى عرفة .
وغاية الأمر أن يكون الحكم العرفي مشكوكاً فيه عند الحجاج المكيين ؛ فعليهم استصحاب حكم الإقامة ؛ فلا رخصة لهم .
وقد يُعتبر حجاج الطائف وجدة مثلاً من المسافرين ؛ لأن المشاعر ليست مما يتبع بلدانـهم ؛ كما أنـهم يقطعون مسافة غير قصيرة ، ويبيتون ، وقد يتزودون ؛ فالأظهر في حال أولئك أنـهم مسافرون .
6. النـزهة في المواضع القريبة من بلد الإقامة ـــ كعشرين كيلاً أو ثلاثين ،
ونحو ذلك ـــ تُعتبر من أحوال الإقامة ، لاسيما إذا لم يكن مبيت وتزود .
7. هل يُعتبر النازلون في المصايف أو في أريافهم سنوياً بصورة منتظمة
أو غالبة مدة طويلة متصلة ؛ كالنـزول وقت الإجازات شهرين
أو ثلاثة في بيوت مؤثثة مملوكة أو مستأجرة بعقود طويلة ، حتى صار الناس يعرفون البلد والمنـزل ، هل هم مقيمون ؟ الأظهر عرفاً أنـهم كذلك ، بل إنـهم أقرب إلى الاستيطان ؛ فهم كالرعاة والبدو الذين ينتجعون الكلأ ويتتبعون المراعي ([112]) .
وذلك بخلاف من لـه فيها عادة سنوية ولكن مدتـها قليلة ؛ كخمسة عشر يوماً أو عشرين ، أو في منـزل غير ثابت .
أمثلة على السفر أو بقاء حكمه :
1. من قصد مسافة مائة كيل في غير بنيان فهو مسافر وإن رجع من يومه ، دون مبيت وتزود .
2. أن حجاج الآفاق ممن تلبسوا بوصف السفر ، ونزلوا لغرض الحج يُعتبرون في المشاعر من المسافرين ؛ وذلك من أجل قِصَر المدة .
3. من كانت وظيفته أو دراسته في بلد ولم يتخذ فيها أهلاً ، ولا سكناً ، ويتردد يومياً على محل إقامته ؛ فهو في مكان دراسته أو عمله مسافر .
4. من نزل قرب الحرم المكي أو المدني مثلاً ، أياماً معدودة من السنة هي أيام المواسم ؛ كخمسة عشر يوماً أو عشرين ؛ فالناس لا يسمونه
مقيماً ، حتى وإن كان معه أهله في حَلِّه وتَرحاله .
وأما إذا كان يملك المنـزل مؤثثاً ويطيل فيه المكث فهو كصاحب المصيف .
5. من نزل بلداً لزيارة أو لإدارة تجارة مؤقتة ، أو مقاولة ، أو مرافعة
أو علاج ، ونحو ذلك ، ولم يتخذ سكن المثل في مدته ؛ كالحال التي تعرف عن المقيم عادة ، وإنما نزل الفنادق أو غيرها من الدور بعقد يومي أو أسبوعي أو شهري ، وهو يقول : أخرج في عشرين يوماً أو نحوها ؛ كلما انقضت هذه المدة نظر إلى مثلها ؛ فهذا عند الناس مسافر وإن
بقي على حاله سنين ؛ وذلك بسبب اضطراب نيته ، وقِصَرِ المدة التي قصدها للإقامة .
أما إن كان فراغ هذه الحاجة لا يكون في غالب الظن إلا بعد مدة
طويلة ؛ كستة أشهر أو سنة ، ثم هو لا يحتمل نجاحها في مدة قليلة كشهر مثلاً ؛ كالمغتربين من الطلبة والموظفين ؛ فهؤلاء في حكم المقيمين عرفاً ؛ وذلك بسبب النية المستقرة للمكث مدة طويلة .
6. إذا سافر الحضري ، ثم نزل خيمة في صحراء من الأرض لأي غرض فإنه يُعتبر من المسافرين مهما طال مكثه ، إذا لم يؤبد إقامته ؛ وذلك لعدم تحقق مكان السكن ونوعه المعروفين لإقامة مثله ، وهذا السبب العرفي هو مذهب أبي حنفية والشافعي في قوله الآخر ورجحه الغزالي ، وهو مذهب أحمد في الرواية الثانية ورجحها بعض أصحابه ؛ كما تقدم ذلك في مبحث "صلاحية المكان للإقامة" في صحيفة (48) .
7. نزول الجنود والموظفين غير متأهلين في نقاط التفتيش ومنافذ الحدود على الطرق البرية ، في صحراء من الأرض ، أو في جزائر البحر ، أو في عرضه ، أو على شواطئه ، أو في مراكز التدريب الصحراوية ؛ بعيداً عن المدن والقرى ، وفي نوبات في السنة تصل إلى شهرين أو ثلاثة ،
وفي مساكن متنقلة مؤقتة ، لا يُعتبر هذا النـزول عند أهل العرف
من الإقامة ؛ فمن سافر ثم نزل على هذه الصفة فهو مسافر مهما طال مكثه ؛ وذلك لعدم صلاحية المكان .
وعن أحمد أنه لا يلزمه ترك الرخصة إلا في بلد تُقام فيه الجمعة .
تنبيهات مهمة حول هذه الأسباب والفروع :
1. أن الوقائع العرفية متجددة :
إن بعض هذه الأسباب والتطبيقات عرضة لتغير الأعراف ، وما ذُكر من ذلك فهو رأي كاتبه ، ومن سألهم من الناس ، ولم أوردها إلا للتقريب
فقط ؛ فقد يَرِدُ التمثيل بعددٍ أو حالٍ من أحوال السفر والإقامة ، ولا يعني ذلك أن ما هو أقل أو أكثر منها بقليل أنه لا يُعتبر كذلك ، وإنما اُختير المثال لوضوحه ، أو لأن أكثر أهل العرف يقولون به .
وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي للناظر أن ينشغل بـهذه الأمثلة كثيراً ما دام مسلماً بسلطان العرف هنا .
وإذا عرضت له مسألة فله الاجتهاد ، أو يتحرى العرف عند أهله بنفسه .
2. أن الإقامة والسفر معنيان :
إن الإقامة والسفر إنما هما معنيان لا يُحَدَّان بما تُحدُّ به الأجسام ؛ كالذرع أو الوزن أو الكيل ؛ فلا يمكن فيهما وضع حد واحد أو اثنين ينتظم جميع الأحوال والأزمنة والأمكنة لا يختلف باختلاف شيء من ذلك ؛ فكما أن السفر هو مجموع أعمال وأحوال يصير بـها المرء مسافراً فإن الإقامة أيضاً مجموع أعمال وأحوال يصير بـها المرء مقيماً .
فإذا اجتمعت أسباب وشروط الإقامة فقد تحقق في النازل أعلى درجات الإقامة والطمأنينة ، وإذا اجتمع لـه جميع أسباب السفر المذكورة ـــ ولم يقع لـه أي سبب من أسباب الإقامة ـــ فقد اجتمع لـه أعلى درجات وصف السفر ، وبين هاتين الحالين مراتب عديدة .
فالعزوبة مثلاً لا تأثير لها عند أهل العرف إذا كان المسافر قد نزل في سكن المثل ومكانه ومدته ؛ كحال العمال المغتربين الذي لم يتأهلوا ، حيث يعتبرهم الناسُ مقيمين .
والمدة ـــ أيضاً ـــ لا تأثير لها إذا كان للنازل زوجة مقيمة في سكن المثل في بلد النـزول فيُعتبر مقيماً ، ولو كان نزوله يوماً واحداً .
فلعلك لحظت من مثالي التأهل والمدة أنه لا يُشترط من أجل قيام وصف الإقامة اجتماع هذه الأسباب والشروط كلها ؛ كما أن كل وصف
لا يستقل بإثبات الإقامة أو السفر وحده دون سبب آخر .
3. أن الإقامة من الألفاظ التي يختلف معناها عند الجمع والتفريق :
قد يقول قائل : لا تمكن معرفة العرف في الإقامة ؛ فنحن نصف النازل ساعة من نـهار بأنه قد أقام في بلد كذا ؛ كما أننا نسمي المستوطن
مقيماً ؛ فلا يمكن أن نضبط هذه المسألة !؟
فالجواب : أنه ينبغي في ذلك مراعاة معنى لفظ الإقامة عند إفراده
أو ذكره مع غيره ؛ وذلك لأن اصطلاحات الاستيطان والإقامة والنـزول من الألفاظ التي قد تختلف معانيها عند الجمع والتفريق ؛ فقد يُعَبَّر ببعضها عن الآخر عند إفراد كل لفظ ، ولكن عند جمعها يصبح لكل واحد منها حده الخاص به ، والفرق بينها يظهر عند مقارنة لفظ النـزول بلفظ الإقامة في شيء من الأمثلة ؛ فإذا كان سؤالك لأهل العرف عن حال معينة بقولك : هل هو مقيم أو نازل وجدت جواباً لسؤالك ، ورأيتهم ـــ حينئذ ـــ يفرقون بين الحالين ، ولكنك حين تسأل عن كل واحد من اللفظين منفرداً فقد يُعَبَّر بأحدهما عن الآخر ، وتأمل هذا فيما يقوله أهل العرف عن ثلاثة أشخاص :
الأول : متأهل في بيت مستأجر يزمع البقاء سنتين من أجل عمله أو دراسته مثلاً بنية مستقرة وحال مطمئنة . والثاني : متأهل في بيت مستأجر أو مملوك لا يرغب ترك بلده إلا بإكراه ونحوه . والثالث : من نزل مدينة للإشراف على تجاراته مدة شهر مثلاً دون تأهل أو سكن معلوم .
فهم يسمون الأول مقيماً والثاني مستوطناً والثالث نازلاً ، ولا يقبلون عند جمع هذه المصطلحات أن يُـبدل شيء منها بالآخر .
4. أن أكثر المسائل العرفية في السفر والإقامة ظاهرة جلية :
إن أغلب أحوال الناس في الإقامة واضحة بينة بالنظر الظاهر عند أهل العرف لا تحتاج إلى حفظ مثل هذه الأسباب ؛ وذلك كحال المستوطنين في بلدانـهم ، وحال المغتربين مدة طويلة من الموظفين والمدرسين والطلبة ؛ فبمجرد نظرة عجلى لهؤلاء يعطيهم الناظر حكم الإقامة دون تردد ، ودون تكلف التعرف على أسباب الإقامة المذكورة هنا .
ومثل أحوال الإقامة في الوضوح أكثر أحوال السفر ، حيث إن حال الشخوص أثناء الطريق ظاهرة بينة ؛ كما أن أحوال النـزول التابعة للسفر واضحة كذلك .
ولكن يبقى بين الحالين مسائل قليلة مشكلة نسبة إلى سائر أحوال الناس وأوقاتـهم ؛ فكانت هذه الأسباب المذكورة في هذا البحث محاولة لضبط هذا القليل المشكل فقط .
وقد جعلت هذا تنبيهاً حتى لا يقول قائل : إن عامة الناس لا يستطيعون تطبيق بعض هذه الأسباب ؛ فكيف يُناط بـها تكليف ؟
فيقال لـه : إن هذا غير صحيح ؛ لأن غالب هذه المسائل واقع تحت مدارك الناس وقدرتـهم .
5. العمل عند المسائل العرفية المشكلة :
لا تخلو الإقامة العرفية من أحوال ثلاث :
الأولى : حال عليا في ثبوت وصف الإقامة ، يتفق أهل العرف أو أكثرهم على وجود هذا الوصف ؛ كحال المستوطنين ، والمقيمين من أجل وظائفهم أو دراستهم في مكان المثل وسكنه ومدته الطويلة بنية مستقرة .
والثانية : حال عليا في انتفائه ، يتفق أهل العرف أو أكثرهم على نفي وصف الإقامة ؛ كنـزول المسافر يومين أو ثلاثة لعلاجٍ أو إنجازِ معاملة .
والثالثة : حال مشكلة بسبب تجاذب وصفي السفر والإقامة ؛ كذهاب المرء منتدباً فترة شهرين مثلاً ، وقد سكن شقة مفروشة بعقد شهري
أو بمدة مكثه المذكورة ، دون تأهل ؛ فهذه تتنازعها الحالان ، وقد تثير عند الناس حيرة وتردداً .
فهذه أحوال ثلاث لا رابع لها ؛ فيقال عنها : إن ما حكم أهل العرف بإثباته أو نفيه أخذنا فيها بحكمهم نفياً أو إثباتاً ، وبنينا عليه حكم الرخصة
أو العزيمة ؛ فهذا حكم الحالين الأُوْلَيَيْن .
وأما الحال الثالثة ، وهي المشكلة فلها مخرجان فقهيان :
المخرج الأول : استصحاب الأصل الأول ، وهو انشغال ذمة العبد بالصلاة تامة ووجوب الصوم في نـهار رمضان ؛ فمادام شاكاً فعليه إبراء ذمته من ذلك ؛ فيُمنع من الترخص في حال وجود الشك .
المخرج الثاني : أن يستصحب الحال الأخيرة من سفر أو إقامة ؛ فإن كان مقيماً وحصل التردد في وصف السفر بنى على أصل الإقامة . وذلك كمن كان في دار إقامته وخرج على سيارة لزيارة قريب لـه فـي قرية مجاورة تبعد أربعين كِيلاً في طريق معبد دون حمل زاد أو مزاد ، وكون ذهابه ورجوعه فـي يوم واحد ؛ فتردد هل يُعتبر مسافراً أو لا ؟
فهذا وإن كان شاخصاً مفارقاً لبلده فيما لا يشبه هيئة المقيمين إلا أن
قِصَرَ المسافة وقلة الوقت منعت قيام وصف السفر ؛ فلذلك يَعتبرُ نفسه مقيماً استصحاباً لحكم الحال السابقة ؛ فهذا مقيم حكماً ([113]).
وأما استصحاب أصل السفر فكمن سافر مسافة تزيد على ألف كيل من الدمام إلى مكة مثلاً ؛ فهذا مسافر قطعاً ، ولكن أشكل عليه نزوله في مكة مدة شهر في فندق هل يُعتبر إقامة أو لا ؟ ومثل ذلك حضري نزل ثلاثة أشهر في صحراء من الأرض ، أو في مدينة ، ولكن في غير سكن معلوم .
فهذا وأمثاله وإن كانت حاله لا تشابه هيئة المسافرين بتركه النقلة ـــ التي هي أبرز أوصاف السفر ـــ إلا أن الناس لا يسمونه مقيماً أيضاً ؛ وذلك لعدم اكتمال الأسباب التي يقوم بـها وصف الإقامة ؛ فهو إذاً مستصحبٌ لحكم حاله السابقة وهي السفر ؛ فهذا مسافر حكماً .
قال الحموي الحنفي : ( .. مقتضى قولهم الأصل بقاء ما كان على ما كان .. أن يستمر حكم السفر مع الشك في الوصول إلى بلده .. ) ([114]) .
وهذا المخرج ـــ وهو استصحاب حال السفر وأحكامه عند الشك في حصول الإقامة ـــ هو أرجح القولين ، وهو وجه عند الشافعية ، ذكر ذلك النووي ، وعلَّل هذا الوجه بقوله : ( .. لأنه شاك في زوال سبب الرخصة ، والأصل عدمه ) اهـ ([115]) .
و يدل على صحة قاعدته قوله فيما جاء فـي الصحيحين لمن شك في الحدث : "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" . فلم يجعل الشك مؤثراً في حكم الطهارة السابقة . وهذا الحديث هو أصل قاعدة اطراح الشك العارض ، واستصحاب حكم الحال السابقة .
لذلك لم يأمر الله عز وجل بإتمام الصلاة إلا بعد حصول الإقامة ؛ فقال جل شأنه : "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوْا مِنَ الصَّلاةِ " ثم قال : "فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيْمُواْ الصَّلاةَ " الآية .
فإذا نزل المسافرُ في غير مكان المثل ، أو دون سكن ، أو في مدة قصيرة ، أو طويلة بلا نية مستقرة فلا يُعدُّ مقيماً ؛ فهو إذاً باق على حكم سفره .
والاحتياط في مسائل الشك هو من تمام الديانة ؛ فإذا تردد المرء هل يُعتبر مقيماً أو مسافراً ؟ فالأحوط لـه هو عدم الترخص بقصر ولا فطر . هذا الاحتياط إنما هو في مسائل الشك التي يتساوى فيه حالا السفر والإقامة ، أما الشك اليسير المعارض ليقين أو غلبة ظن فلا تعويل عليه ([116]) .
فقه ما جاء في بعض الأخبار من الترخص مدداً طويلة
تقدم في عرض الأقوال ذكر بعض الأخبار التي ترخص فيها النبي والصحابة برخص السفر مدداً طويلة ، وقد كانت من أقوى أسباب خلاف العلماء في هذه المسألة ، وبمعرفة فقهها لن يبقى فيها إشكال إن شاء الله .
فعند تأمل هذه الأخبار تجد أنـها لا تخرج عن أحوال خمس كلها تُعتبر من السفر أو ملحقة به حكماً ؛ لعدم تحقق الإقامة بوصفها العرفـي :
الحال الأولى : عـدم صلاحية المكان للإقامة عادةً ، والإقامة عند أهل العرف ـــ مهما كانت مدتـها ـــ لا تصح إلا في مكانـها المعتبر ، وعلى هذا الحكم العرفي قولُ أبي حنيفة والقول الآخر لكل من الشافعي وأحمد .
والحال الثانية : عدم وجود نية الإقامة المستقرة التي لا اضطراب فيها ولا تردد . ونية الإقامة المستقرة شرط معتبر عند العلماء لحصول الإقامة ؛ لذلك حكم الحنفية والحنابلة في الرواية الثانية عن أحمد بعدم تأثير إرادة مدة الإقامة في المذهبين ولو نوى إقامتها ؛ وذلك إذا نزل المسافر لحاجة ، وكان يحتمل قضاء حاجته قبل المدة ؛ فاعتبروه في حكم السفر ؛ كما تقدم بيانه .
وهذا الاضطراب يكثر جداً في أحوال نزول المسافرين قديـماً وحديثاً ، ومَنْ هذه حاله فهو مسافر ، أو هو مستصحب لحكم السفر .
ومن أمثلة الاضطراب هذه حالُ الجهاد ، حيث لا توجد نية مستقرة عند المجاهدين للإقامة ، سواء كان ذلك في الطريق أو في مكان المعركة ؛ فلا يُعتبر النازل في هذه الحال مقيماً عند الناس ، مهما طال مكثه ، وعلى ذلك مذاهبُ كثير من أهل العلم ؛ كما تقدم بيانه .
ومن أهمل هذه الحال الثانية أشكلت عليه تلك الأخبار ؛ لظنه أن الصحابة الذين جاء عنهم الترخص قد نووا هذه المدد الطويلة عند نزولهم ، وأنـهم في حال من الطمأنينة والاستقرار ؛ فبنى على هذا الظن أنـهم مستقرون كاستقرار المقيمين ؛ فرأى أنـها تصلح دليلاً لقول من اعتبر الاستيطان حداً ، أو لقول من جعل الحد إرادة الوقت أو إنجاز الغرض .
بيد أن النازلين في هذه الأخبار كانوا في اضطراب وتردد وانزعاج ؛ فلم تحصل لهم الإقامة في أبرز سماتـها عند أهل العلم ، وكذلك عند الناس .
والحال الثالثة : قِصَر مدة النـزول في بعض هذه الأخبار ؛ كأربعة أيام وتسعة عشر ، مما لا يُعتبر معها النازل مقيماً عرفاً ، ولو بنية مستقرة .
والحال الرابعة : عدم وجود مسكن المثل والإقامة لا تُتَصور إلا به ؛ فمن نزل بلداً ولم يتخذ مسكنه المعتبر عادة فإن الناس لا يسمونه مقيماً .
والحال الخامسة : أخبار لم يوجد فيها ما يُثْبِتُ وصف الإقامة العرفي ، ولا ما ينفيه ، والأصل في هذه الحال هو بقاء السفر أو بقاءُ حكمِه حتى تَثْـبُتَ الإقامة بأسبابـها العُرفية ، وهذه قاعدة مهمة لفهم مثل هذا النوع من الأخبار .
وهذا عرض للأخبار التي وقع فيها الترخص :
فمن ذلك : نزول النبي في تبوك عشرين يوماً ، وفي مكة عام الفتح تسعة عشر يوماً ؛ فقد كان نزوله في مدة يسيرة بلا نية مستقرة ؛ كما أنه كان في حال حرب ، ولم يوجد في هذه الحال مسكن المثل .
قال الإمام ابن تيمية : ( .. وقد أقام المهاجرون مع النبي عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة ، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بـها عن السفر ) ([117]) .
وقال ابن القيم عن إقامة النبي في تبوك : ( .. وهذه الإقامة في حال السفر لا تَخْرُجُ عن حكم السفر ، سواء طالت أو قصرت ، إذا كان غير مستوطن ، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع ) ([118]) .
* * * * *
ومن هذه الأخبار المشكلة ترخص بعض الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم في حال الحرب ؛ كأثر أنس في ترخصه في نيسابور ،
وفي رامَهُرْمُز ، وابن عمر في أذربيجان ، وعبدالرحمن بن سمرة في كابل ، وسعد بن مالك في عمَّان ، وأبي جمرة في خراسان .
فهذه غزوات الصحابة ، وتلك مواطئ أقدامهم مجاهدين فاتحين .
فأحوال الحرب هذه ليست ظرفاً للإقامة المعتبرة عرفاً ، والمجاهدون فيها بين خوفٍ ، أو حصارٍ عسكري ، أو فتحٍ للبلدان ، أو تجهيزٍ للجيوش ، أو انتظارٍ للسرايا ، أو نـزولٍ في مـدن الثغور لترقُبِ مددٍ أو إذنٍ بقتال .
وهذه الأحوال لا يُحْضِرُ المجاهدون معهم فيها أهلاً ولا مالاً ، ولا يتخذون منـزلاً ولا مستقراً ؛ فمن ذا يقول : إن حقيقة شرعيةً أو لغوية أو عرفية تقضي أن مثل هذه الحال إقامة ؟
وقد يُخَرَّج ترخصهم في تلك الأحوال على القاعدة التي ذكرها الحنفية والمالكية ، وهي أن النـزول في دار الحرب للعسكر لا يُعتبر إقامة ، وإن جاوزت المدة المعتبرة في المذهبين ، وهذه الغزوات لم تكن إلا في دار حرب .
ثم إن النـزول في أكثر هذه الأحوال لا يتوجه إلى مدد طويلة غالباً ؛ فالمجاهدون وإن كانوا عادة ينتظرون المدد أو الإذن بالقتال أو ذوبان الثلج أو فك الحصار ، ونحو ذلك من أحوال الجهاد إلا أن هذه الأحوال لا تخلو من ترقب لزوالها في وقت يسير عرفاً ؛ كعشرين يوماً أو ثلاثين أو أربعين ؛ كما أن المجاهد لا يخلو أيضاً من تلمس أنواع الحيل والمخارج من مثل هذه الأحوال ، وطلب هذه المخارج لا يجعل قصده للمدة عند النـزول يتوجه إلى وقت طويل ، ولكن قد لا تفلح حيلته فيسعى لأخرى ، وهكذا حتى يتمادى به الأمر إلى مثل هذه المدة الطويلة ؛ كما أن كل فرد من المجاهدين في حال تأهب أن يُرْسَل في سرية استطلاع أو مدد أو حراسة أو بريد ؛ فليست هذه حال المقيم المطمئن ، بل هي حال المسافر المضطرب .
فمادام أن هذه هي أحوال الجهاد فلم يتحقق قصد هذه المدد الطويلة ، وغاية ما في الأمر أن الصحابة أخبروا ـــ بعد قفولهم ـــ أنـهم مكثوها ؛ فلا تعتبر هذه الأخبارُ معارضةً للتعليل بالوصف العرفـي .
وحتى لو أثبت مثبتٌ في بعض الأخبار أنـهم قصدوا المدة الطويلة عرفاً فلا بد من تحقق بقية أوصاف الإقامة ؛ كصلاحية المكان والمسكن عادة .
* * * * *
ومن هذه الأخبار نزوله في حجة الوداع ؛ فقد دلت الأحوال أن إقامته ليست إقامة عرفية ؛ فلم يكن لـه بيتٌ يعرفه الناس ؛ كالذي يُعرف
عن المقيم ، ولو سألت الناس : هل هو مقيم بمكة ؟ أو أنـها صارت دار إقامة لـه ؟ لكان الجواب بالنفي .
وحين سأله أسامة بن زيد قائلا : أتنـزل في دارك بمكة ؟ قال : "وهل ترك عقيل من رباع أو دور" ؟ ([119]) .
قال ابن تيمية : ( وأما في حجة الوداع ؛ فقد كان النبي آمناً ، لكنه لم يكن نازلاً بمكة ، وإنما كان نازلاً بالأبطح خارج مكة هو وأصحابـه ؛ فلم يكونوا نازلين بدار إقامة ، ولا بمكان فيه الزاد والمزاد ..) ([120]) اهـ .
فقد كان نزول النبي ملحقاً بالسفر ؛ وذلك لقِصَر المدة ، ولعدم السكن المعتاد لمثله ، وكون المكان ليس مكان إقامة معتبر ؛ فمَنْ كانت هذه حاله لا يُسمى مقيماً ؛ فالنازل فيها باقٍ على حكم سفره السابق .
* * * * *
وثمة أخبارٌ دلت القرائن على عدم تحقق الإقامة بمعناها عند أهل العرف :
فمن ذلك إقامة مسروق بن الأجدع رحمه الله بالسلسلة سنتين يقصر الصلاة ؛ فليس فيها ما يدل على أنـه اجتمع لمسروق ما يُسمى عند أهل العرف إقامة .
بل ظهرت قرائن تدل على عدم توفر أسباب الإقامة العرفية ؛ فلم تثبت صلاحية المكان ، ولا إرادة المدة الطويلة ، ولم يكن في نزوله هذا متأهلاً :
فأما المكان : فقد بحثت عن هذه البقعة التي نُصب فيها مسروقُ والياً والمسماة "السلسلة" في مظانـها في مشهور كتب معاجم البلدان والتاريخ واللغة فلم أجد لها ذكراً .
ثم وجدت في "المُغْرِب" ما يدل على أنـها ليست مدينة أو قرية ، حيث قال عنها المصنف بعد ذكر ولاية مسروق عليها : ( هي التي تُمد على نـهر أو على طريق يُحبس بـها السفن أو السابلة ؛ ليؤخذ منهم العشور ، وتسمى المأصر..) ([121]).
وقال الجصاص في "المأصر" : ( إنه حبل يُمد على طريق أو نـهر تحبس به المارة ، ويعطفون به عن النفوذ ؛ ليؤخذ منهم العشور والمكس ) ([122]) اهـ .
وما جاء في تعريف صاحب "المغرب" بقوله : ( هي التي تُمد ) يدل على أن السلسة ليست مدينة أو قرية ، وإنما هي حاجز يمنع المسافرين من العبور إلا بعد أداء الحقوق ، حيث كانت تؤخذ العشور من النصارى والزكوات من المسلمين ، وقد جُعلت ولاية هذا العمل لمسروق .
فإذا كانت في صحراءَ أو شاطئٍ بعيد عن البنيان ؛ كما هو الظاهر
ـــ حيث لا تُنصب مثل هذه السلاسل والحواجز في المدن ـــ فلا يُعتبر النازل فيها أنه في دار إقامة ؛ فقد تخلف هنا شرط صلاحية المكان للإقامة عرفاً وعادة ؛ فلا يُعتبر مقيماً وإن طال مكثه ؛ كما هو مذهب الحنفية والشافعية في القول الآخر والحنابلة في الرواية الثانية .
وأما المدة الطويلة : فلم يظهر هنا من حاله أنه نواها عند النـزول ، وغاية ما هنالك أنه مَكَثَ هذه المدة يترخص دون دلالة على قصدها عند قدومه ؛ فلعله ترخص لكونه يترقب رجوعه إلى أهله في مدة قصيرة عرفاً .
ومما يؤكد احتمال اضطراب حاله أن عمله هذا لم يكن باختياره ، حيث أكرهه عليه واليه زياد ([123]) ؛ فلعله كان ينتظر أمر إعفائه من عمله مع كل مسافر أو بريد ؛ فلم يتخذ لأجل ذلك أسباب الإقامة المعتادة ؛ فتكون نيته في المكث مضطربة مترددة ، حتى اجتمعت لـه هذه المدة ؛ فإذا كانت هذه حاله في الاضطراب فإن الناس لا يعتبرونه مقيماً .
وأما التأهل : فإن الذهبي ذكر ما يدل على عدم تأهله فقد أسند إلى أبي الضحى قال : غاب مسروقُ عاملاً على السلسلة سنتين ، ثم قدم فنظر أهلُه في خرجه فأصابوا فأسا ؛ فقالوا : غبت ثم جئتنا بفأس بلا عود ! قال : إنا لله ! استعرناها نسينا نردها ([124]) . وهذا يدل على عدم تأهله هناك .
وفي هذا الخبر أيضاً ما يدل على زهده وتخففه وتعففه في ولايته رحمه الله تعالى رحمة واسعة .
وأما المسكن : فالغالب في حال من نزل مكاناً غير صالح للإقامة أنه لا يتخذ سكن المثل ؛ كبيوت الحجر والمدر ، وإنما يسكن القباب أو الخيام .
فمَنْ لم يُردِ الإقامة مدة طويلة بنية مستقرة ولم يتخذ مكان المثل ولا سكنه متأهلاً فلا يُعتبر عند الناس مقيماً ، ولا عند كثير من أهل العلم .
* * * * *
ومِنْ هذه الأخبار ما لم يتحقق فيها وجود وصف الإقامة ، والأصول تقضي في هذه الحال ببقاء وصف السفر ، حتى يُثْبِتَ المخالف وجود أسباب الإقامة المعلومة عند الناس .
ومِنْ أمثلة هذه الحال ما جاء عن أبـي المنهال الذي قال لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما : إنـي أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير ؟ فقال : صل ركعتين !
فليس فيه ما يدل على حال أبي المنهال ، وهل هو متلبس بوصف الإقامة العرفـي أو لا ؟ فقد يكون من التجار الذين ينـزلون البلد لبيع بضاعتهم ، وشراء بضاعة المدينة لنقلها إلى بلده ؛ كحال كثير من التجار في القديـم والحديث ، حيث إن بعضهم يقصد بلداً بعيداً للتجارة ؛ فينـزله لبيع بضاعته أو انتظار بضاعة قادمة ، وهو يتوقع الخروج كل عشرة أيام أو عشرين أو ثلاثين ، ولكن قد لا يحصل لـه مقصوده في مثل هذا الوقت القريب ؛ فيتمادى به الأمر إلى مدة مثلها حتى تجتمع لـه مدة كثيرة ، دون أن يتأهل أو يتخذ سكن المثل ومتاعه ؛ لأنه يرجو الخروج كل حين في حال من الاضطراب ؛ فمن كانت هذه حاله لا يعتبره الناس مقيماً .
وتأمل هذا في عبارته في سؤاله : (لا أشد على سير ) ؛ فمَنْ يقول هذا لا يُتصور مِن حاله أنه مقيم في بيت مملوك أو مستأجر في بعض أحياء المدينة ينوي المكث فيه سنين ؛ فلو كان على هذه الحال المطمئنة لم يحتج أن يقول هذه العبارة ، وإنما حاله حالُ مضطرب متردد ؛ فربما كان لا يأوي إلى سكن معتاد ؛ فرخص لـه ابن عباس رضي الله عنهما ؛ لأنه رآه غير مقيم .
ولعل حال أبي المنهال هذه كحال مورِّق حين سأل ابن عمر فقال : إني تاجر أتنقل في قرى الأهواز ؛ فأقيم في القرية الشهر وأكثر ، قال : تنوي الإقامة ؟ قلت : لا ، قال : لا أراك إلا مسافراً ، صل صلاة مسافر! ([125]) .
وليس لأحد أن يقول : ما الدليل على وجود هذا التردد والاضطراب في مثل هذه الأحوال ، ليس لـه ذلك لأن الدليل إنما يُطلب ممن يدعي وجود الطمأنينة المعتادة ؛ وذلك لأن الأصل هو بقاء السفر ، بل إن الظاهر من أحوال المجاهدين وأصحاب الأعمال الطارئة هو عدم وجود أسباب الاستقرار والطمأنينة التي يصير بـها المسافر مقيماً .
وإذا نظرت في أحوال المغتربين من الطلبة والموظفين لم ترَ أنـهم قد تلبسوا بشيء من أسباب بقاء السفر المذكورة في هذه الأخبار .
تحرير كلام بعض أهل العلم في هذه المسألة
اُشتُهِر عند بعض طلبة العلم أن قول ابن تيمية وابن القيم وغيرهما في هذه المسألة هو أن علة الترخص هي إرادة النازل وقتاً محدداً أو إنجاز غرضٍ
معين ؛ كالقول الخامس ، وفي هذا المبحث أذكر ما وقفت عليه من أقوالهم :
كلام ابن تيمية([126]) :
لم يظهر أن شيخ الإسلام ابن تيمية ـــ فيما وقفت عليه من كلامه ـــ قد قال بـهذا القول ، حيث لم يقرر ذلك في تخريج المناط ولا في تحقيقه :
ففي الاستنباط وتخريج المناط : لم يقل : إن علة الترخص هي كون إقامة النبي مقيدة بعمل ينتهي أو زمن ينتهي ، بل كان مدار كلامه على تحقق مطلق الوصف سفراً أو إقامة ؛ كما سيأتـي ذلك قريباً .
وفي تحقيق المناط : فإنه لم يقل أيضاً بالنص أو المعنى : إن المغترب وأمثاله لهم الترخص برخص السفر ، وإن نزل أحدهم في دار غربته إقامة عرفية ، ولم أَرَ بعد طول بحث وسؤالٍ لأهل العلم أنـه أفتى بذلك أو مثَّل له .
بل ظهر في فتاواه أنه لا يرى الترخص لمن يقيد إقامته بنهاية وقت أو غرض ، حيث أفتى أهل البادية ؛ كأعراب العرب والأكراد والترك وغيرهم الذين يُشتُّون في مكان ويُصيِّفون في مكان أنـهم لا يترخصون في مشتاهم
ومصيفهم ، وإنما لهم أن يترخصوا في حال السفر بينهما فقط ([127]) .
فهؤلاء ينـزلون المكان بنية مغادرته بعد مدة معلومة هي ستة أشهر تقريباً ، ولم ير أن لهم الترخص .
كما أفتى ملاح السفينة بعدم الترخص إذا كان معه امرأته وجميع مصالحه ([128]) ، رغم أنه يضرب البحر بنية العودة إلى وطنه بعد فصل أو فصلين أو سنة أو أكثر من ذلك بقليل أو كثير .
ومن المعلوم أن الملاحين والرعاة أحوج إلى الرخصة من الطلبة المغتربين وأمثالهم من العمال والموظفين ؛ وذلك لكثرة تنقلهم واضطراب حالهم .
تحرير قول ابن تيمية في المسألة :
وقد ظهر من كلام الإمام ابن تيمية الله أنه يرى أن تحقق الوصف العرفي للإقامة قاطع للسفر ورخصه ؛ وذلك من وجوه :
الوجه الأول : اعتباره للاسم المطلق للإقامة :
فقد ساق اسم الإقامة في كلامه عن قاعدة الأسماء المطلقة التي سبيلها العرف عنده ؛ كالخفاف التي يُمسح عليها وحقيقة الماء الذي يُرفع به
الحدث ، ثم قال : (.. ومن ذلك أنـه علَّق الحكم بمسمى الإقامة ؛ كما علقه بمسمى السفر ، ولم يُفَرِّقْ بين مقيم ومقيم ..) ([129]).
وقال في موضع آخر بعد تقريره أن الإقامة لا تُحد بأربعة أيام قال بعد ذلك مباشرة : (.. ما أطلقه الشارع يُعمل بمطلق مسماه ووجوده ، ولم يجز تقديره وتحديده بمدة ..) ([130]) .
الوجه الثاني : كلامه في السفر .
لا يستقيم فهمُ كلام الإمام ابن تيمية في الإقامة إلا بالنظر في كلامه في السفر ؛ فالسفر والإقامة عنده نقيضان لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً ؛ كما يقول الأصوليون .
فوجود الإقامة بمعناها العرفي نفي للسفر بمعناه العرفي ؛ كما هو ظاهر ؛ فمن كان مقيماً عرفاً فليس بمسافر في عرف الناس أيضاً ؛ فلا رخصة له .
وتأمل هذا في كلامه :
يقول رحمه الله : ( وأما الإقامة فهي خلاف السفر ؛ فالناس رجلان مقيم ومسافر ، ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحـد هذين الحكمين إما حكمُ مقيمٍ ، وإما حكم مسافر ) ([131]) .
ويقول : ( .. والقصر معلق بالسفر وجوداً وعدماً ؛ فلا يصلي ركعتين إلا مسافر ، وكل مسافر يصلي ركعتين .. ) ([132]) اهـ .
ويقول رحمه الله : ( .. وهذا مما يعرفه الناس بعاداتـهم ، ليس لـه حد في الشرع ولا اللغة ، بل ما سموه سفراً ؛ فهو سفر ) اهـ ([133]) .
وقال عن حد الإقامة : ( .. وإذا كان التحديد لا أصل لـه فمادام المسافر مسافراً فإنه يقصر الصلاة ، ولو أقام في مكان شهوراً ) ([134]) .
يقال هنا : والناس لا يسمون المقيم إقامة عرفية مسافراً لا حقيقة ولا حكماً ؛ فهو عند ابن تيمية غير مسافر ؛ فلا رخصة لـه .
فهذا الوجه لازم لكل من قال بأن تحديد السفر راجع إلى العرف ثم اعتبر للإقامة حدوداً أخرى لم يأت بـها نص ، ولم يدل عليها عرف ؛ وذلك لأن المسافر ـــ عند الناس ـــ يخرج من سفره بإقامة عرفية ، وكذلك المقيم عرفاً يخرج من إقامته بسفر عرفي .
الوجه الثالث : أن كلام العلماء عند الإطلاق يُحمل على العرف .
رأيتَ في كلام الإمام ابن تيمية أنه يعتبر لانقطاع الرخصة زوال وصف السفر ، وأن الرسول وأصحابه كانوا يترخصون لأنـهم لم يقيموا إقامة خرجوا بـها عن السفر .
فمتى يزول السفر عند ابن تيمية ، وما هي الإقامة التي يعتبرها مخرجة للمسافر عن سفره ؟
إن أقرب ما يُحمل عليه كلام العلماء عند الإطلاق هو إرادة الوضع العرفي ؛ لأنه الأقرب إلى مراد المتكلم ، والمتبادر إلى فهم السامع ؛ فالنتيجة هنا أن من أقام إقامة عرفية فقد انقطع سفره ؛ وبذلك ينتهي ترخُصُه .
وهذا هو منهج ابن تيمية نفسه ؛ فقد حَمَلَ كلام العلماء عند الإطلاق على المعنى العرفي ؛ فقال عن سب الرسول : ( فما كان فـي العرف سباً للنبي فهو الذي يجب أن يُنـزَّل عليه كلام الصحابة والعلماء ) ([135]) اهـ .
قال ذلك دون أن يذكر تصريحاً من الصحابة والعلماء باعتبار العرف في ضبط شتم الرسول ، وقد اعتبر في ذلك إطلاق اللفظ .
ومن قال : إن مراد ابن تيمية هنا هو شيء غير الأوضاع المشتركة
ـــــ كتأثير إرادة الوقت أو العمل ـــــ فهذا هو الذي يحتاج إلى تصريح وبيان .
الوجه الرابع : أنه اعتبر في فتاواه أموراً عرفية .
فقد اعتبر رحمه الله أموراً عرفية في ثبوت أحكام الإقامة ، حين قرر أنه ليس للملاح أن يترخص مادام في رفقته امرأته ، وجميع مصالحه ؛ كما تقدم
قريباً ؛ فقد رتب آثار الإقامة على الملاح رغم أنـه على ظهر سير ؛ وذلك بسبب أمرين عرفيين ، هما التأهل ، ووجود المصالح .
ومما يدل على أن مراده هو الوضع العرفي لا سواه أن أدلته وأمثلته في السفر والإقامة كانت موافقة للمعنى العرفي ، وما بقي منها فلا يعارضه لعدم التصريح بوجود أسباب الإقامة :
فمن أدلته : أحوال نزول النبي في مكة عامي الفتح وحجة الوداع ، وكذلك في تبوك ، ومنها أحوال نزول الصحابة في الجهاد .
ومن أمثلته رحمه الله على عدم تحقق الإقامة التاجر الذي يقدم ليبيع بضاعة ([136]) .
وكل هذه ملحقة بالسفر عرفاً وعادة .
ولم أرَ لـه دليلاً واحداً أو مثالاً واحداً تضمن شيء منها إقامة النازل في مكان المثل وسكنه متأهلاً في مدة طويلة ونية مستقرة .
فأدلته وأمثلته هي أولى ما يُفسر بـها كلامُه .
فيكون الظاهر من كلامه أن الذي يستحق الرخصة هو من سافر ثم
نزل مكاناً لم ينو فيه المقامَ ولا قطعَ السفر ؛ فبقي مضطرباً غير مستقر
ينظر إلى مواصلة سيره ، أو الرجوع إلى بلده في وقت يسير عادة ، أو في وقت كثير لم تُوجد فيه بقية أسباب الإقامة الأخرى كالمكان والمسكن ؛ كحال من نزل بلداً لتجارة أو مرافعة أو ملازمة غريم أو سؤال لأهل العلم أو تحصيل دين أو زيارة أو نزهة ، ومثل ذلك في الوقت الحاضر مراجعةُ المؤسسات الحكومية والأهلية ، مما لا يُعتبر المسافر معها مقيماً قاطعاً لسفره ، ولو سئل الناس عنه لقالوا بأنه غير مقيم ؛ فهو باق على حكم سفره .
وقد أكد رحمه الله هذا المعنى بقوله : ( وقد أقام المهاجرون مع النبي عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة ، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بـها عن السفر) ([137]) .
وتراه يقول : ( .. لأن الفطر مشروع للمسافر في الإقامات التي تتخلل السفر ؛ كالقصر ) ([138]) .
فاتضح أن مراده بالإقامة التي تتبع السفر إنما هي إقامة تتخلله ، ويراها الناس جزءاً من ذلك السفر ، وليست إقامة ينقطع بـها هذا السفر .