روى البخاري ومسلم أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقف عند الحجر الأسود فقال: ((إنِّي لأعلَمُ أنَّك حجرٌ لا تضرُّ ولا تَنفَع)) وقبَّله، وعندما حجَّ أبو بكرٍ الصدِّيق - رضِي الله عنْه - وقَف عند الحجر وقال: "والله إنِّي لأعلَمُ أنَّك حجرٌ لا تضرُّ ولا تَنفَع، ولولا أنِّي رأيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُقبِّلك ما قبَّلتك، وفعَل مثلَه عمر بن الخطاب - رضِي الله عنْه[42].
بعد أن استَقَرَّ الحجرُ الأسود في ركنه، بنَى عليه القرشيُّون حتى أتمُّوا البيت في ارتِفاع (8,46م)؛ أي: بزيادة (4,32م) عمَّا كان بَناه إبراهيم - عليه السلام - والآن في ارتِفاع (14م)، وكان القرشيُّون بعد أن أتمُّوا بِناءَ الكعبة من جديدٍ عشيَّة دعوة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الناسَ إلى الإسلام - نشَرُوا الأصنام والأوثان في مكَّة، على صُوَرٍ وأشكالٍ مختلفة، حتى قيل: إنَّه كان حول الكعبة أكثرُ من ثلاثمائة وستين صنمًا[43].
2/4 - مفتاح الكعبة وأقفالها:
في هذا اليوم التَّاريخي سلَّم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مفتاح الكعبة إلى سدنتها الأوائل - قبل الفتح - وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((خذوها يا بني عبدالدار - وكان أخذ المفتاح ساعتئذٍ من عثمان بن أبي طلحة، وأخذ السقاية من العباس بن عبدالمطلب - خذوها خالدةً تالدةً، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إنَّ الله أستأمَنكُم على بيته، فخُذُوها بأمانة الله، فكُلُوا ممَّا يَصِلُ إليكم من هذا البيت بالمعروف))[44].
ومفتاح الكعبة حظي على الدَّوام بالاحتِرام والتَّقدِيس، وكان منصب السدانة أو الحجابة، في العصور الجاهليَّة من أشرف المناصب التي يَتنافس عليها القرشيون، فهو المنصب الذي يحجب صاحبُه الكعبة، ويحمِل مفتاحها، ويفتَح بابها للناس ويُغلِقه، ولعلَّ أشهر مَن تولَّى أشرف المناصب الرَّفيعة من سدانةٍ (حجابة) وسقايةٍ ويُغلِقه - قصي بن كلاب - كما سبق الإشارة إليه - وورثها من بعدِه أبناؤه عبدالدار وعبدمناف وعبدالعُزَّى، ومن أبناء عبدمناف: عبدشمس وهاشم والمطب ونوفل، وما زالت في أعقابهم إلى اليوم.
بالجملة: ظلَّ لمفتاح الكعبة مكانتُه الخاصَّة من الأهميَّة والاحترام الفائق، فمنذ أقدَمِ العصور وحتى وقتِنا الحاضر عُنِي كثيرٌ من خُلَفاء وسَلاطِين وأُمَراء وملوك المسلمين بتَطوِير وتحديث صناعة أقفال باب الكعبة ومفاتيحها وزخرفتها وتصاميمها بأساليب فنّيَّة رائعة.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ ارتِفاع باب الكعبة متران ورُبع من الأرض، ويُوضَع سُلَّم للصعود إليه لفتح الكعبة، وهذا يَتِمُّ عند فتحها للزَّائرين أو في المناسبات أو الاحتِفالات المهمَّة الكبرى[45].
خامسًا - تَوسِعة الحرم المكي:
1/5 - في العهد النبوي والخلفاء الرَّاشدين:
لم يكن للمسجد الحرام في عهد الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - (51 ق هـ 11هـ/ 571 - 632م) جدران، فكانت البيوت والأزقَّة مفتوحةً عليه تُحيط به كالمعصم، متجاورة مع حدود المطاف الآن، وعندما تولَّى عمر بن الخطَّاب - رضِي الله عنْه - الخلافة (13 - 23هـ/ 634 - 644م) قام بأوَّل توسعةٍ في صدر الإسلام سنة (17هـ/638م) من ثَمَّ بنى حولَه جدارًا (سورًا) كان أقلَّ ارتِفاعًا من القامَة، وفي عهد عثمان بن عفان - رضِي الله عنْه - (23 - 35هـ/644 - 656م) جرَت التَّوسِعة الثانية سنة (26هـ/647م)، وقد أضاف عثمان - رضِي الله عنْه - أَروِقةً للمسجد، فكان أوَّل مَن اتَّخذ للمسجد الحرام أروقةً[46].
2/5 - في عهد ابن الزُّبير والخليفة عبدالملك بن مروان وابنه الوليد:
لا يمكننا في هذا السياق التاريخي أيضًا إغفالَ الإصلاحات والتوسُّعات الكبيرة الَّتي أجراها عبدالله بن الزبير (1/73هـ/622 - 692م) في المسجد الحرام والكعبة المشرَّفة، بعد ما أصاب الكعبة المشرفة من هدم وخَراب، نتيجةَ الصِّراعات السياسيَّة والحربيَّة في عهد خِلافة يزيد (25 - 64هـ/645 - 683م)، خاصَّة بعد أنْ رفَض ابن الزُّبير الاعترافَ بخِلافة يَزِيد، وأيَّدَه في ذلك أهلُ الحجاز، وجرى ما جرى من أحداثٍ مُؤسِفة، نالت من البشر والحجر ولم تنجُ الكعبة المشرَّفة من هذه الفتنة الأليمة، فنالَها هي الأخرى إصاباتٌ هادِمة حارِقة، لم يجد ابن الزُّبير إثرَها بُدًّا من هدم الكعبة، فشرع بالهدم سنة (64هـ/683م)، حتى وصَل إلى أساسها، وأعاد بِناءَها على (قواعد إبراهيم - عليه السلام)[47].
عندما باشَر ابنُ الزبير بناءَ الكعبة أجرَى إضافاتٍ جديدةً عليها بأنْ جعَل بابَيْن للكعبة بدَلاً من باب واحد: أحدهما في الشمال الشرقي، والآخَر في الجنوب الغربي، على مستوى سطح الأرض، بدلاً من الأبواب المرتفعة التي يستَدعِي الصعودُ إليها وجودَ درجٍ أو سُلَّمٍ، معتَمِدًا في هذا وغيره على أحاديث نبويَّة روَتْها له خالَتُه عائشة أمُّ المؤمنين - رضِي الله عنْها - (ت 58هـ/ 678م) إذْ يَروِي أنَّها أخبرَتْه بأنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لها: ((لولا أنَّ قومَك حديثو عهدٍ بالجاهليَّة لهدمتُ الكعبة، ولأدخَلتُ فيها الحِجْر، ولجعلتُ لها بابًا شرقًا وبابًا غربًا يَدخُل النَّاس من أحدهما ويخرج من الآخَر، ولألصقت بابَها بالأرض، ولزدت ستَّة أذرع من الحجر في البيت، فإنَّ قريشًا قصرت بهم النَّفقة لما بنت البيت))[48].
لكن ما لبثت أن تجدَّدت النِّزاعات مع ابن الزُّبير في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان (65 - 86هـ/ 685 - 705م) الذي كلَّف الحجَّاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/ 714م) بالقضاء على حركة ابن الزُّبير المناهضة للبيت الأُموي، من ثَمَّ إرْجاع السِّيادة الأُمويَّة على الحجاز، ونجَح الحجَّاج في مهمَّته، وقضى على ابن الزُّبير وأنصارِه، ثمَّ شرع الحجاج نفسه سنة (74هـ/693م) بعد استئذان الخليفة عبدالملك في إرجاع الكعبة إلى ما كانت عليه قبلَ عمارة ابن الزُّبير لها، فأخرج منها الزيادة التي كان أدخَلَها ابن الزبير من الحجر، واكتَفَى ببابٍ واحد يرفَعُه عن الأرض كما هي عليه اليوم.
تجدر الإشارة إلى أنَّ المؤرِّخين ذكَرُوا أنَّ الخليفة الأموي عبدالملك عندما بلغه حديث النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ندِم على سماحِه للحجَّاج بتغيير عمارة ابن الزُّبير، وقال: "ودِدْنا لو تركنا الكعبةَ وما فعَل ابن الزُّبير بها"[49].
في حقيقة الأمر ظَلَّ بناء الكعبة - بعد عمارة ابنِ الزُّبير والحجَّاج - على ما هو عليه حوالي عشرة قرون، بدون تغْييرات نوعيَّة، لكن لا يمكن تَجاهُل ما أَجراه الخليفة الأُموي الوليد بن عبدالملك (86 - 96هـ/ 705 - 715م) بالمسجد الحرام من تَجدِيدات وإضافات كبرى، انحصَر مُعظَمُها في تَكمِيلات وتَجمِيلات وإصلاحات باهِرَة، وحسب الخليفة الأُموي الوليد أنَّ عهده كان من أَبْهَى عهود الخلافة الأُمويَّة وأزهاها تراثًا حيًّا باقيًا في تاريخنا العربي والإسلامي، فحسب الوليد فخرًا الولوع بالبناء والعُمران أنَّه أعادَ بِناء جامع المدينة "الحرم النبوي الشريف" وشَيَّد الجامع الأموي في دمشق، والمسجد الأقصى في القدس وهو أوَّل مَن أحدث المستشفيات بالإسلام... وأعماله العمرانيَّة التي شيَّدها وزيَّن بها عاصمة الأمويين "دمشق" وشتَّى مدن الدولة وربوعها - تُعتَبَر من رَوائِع وآيات الفن المعماري العربي الإسلامي الأصيل[50].
3/5 - في العهد السعودي:
في الحقيقة لقي المسجدُ الحرام والمسجدُ النبوي في العصور الإسلاميَّة التَّالِيَة: العبَّاسيَّة والمملوكيَّة والعثمانيَّة كلَّ الاهتمام والرِّعايَة الفائِقَة، وهو الاهتِمام نفسه والرِّعايَة نفسها اللذان شهدهما في العهد السعودي؛ حيث نال المسجد الحرام منذ العام (1356هـ/1936م) عنايةً عظيمة استثنائيَّة وصَلَتْ ذروتها سنة (1406هـ/1986م) على نحوٍ غير مسبوق، وما زالت ورشة البناء الهائلة التي تُعرَف بمشروع تَوسِعَة الحرمين الشريفين - تَعمَل بلا تَوقُّف مُحَقِّقة إنجازات ضَخمة تَمَّ فيها تجديدٌ شامل للكعبة المشرَّفة، من تجميلٍ وتزيين وزخرفة وتوسعات وتحسينات وترميمات وإصلاحات واسعة، داخل الحرم المكي الشريف وخارجه، رُوعِي فيها إبراز الطابع العمراني الأصيل للعمارة العربيَّة الإسلاميَّة بأروع سماتها.
وتتجلَّى أهمُّ مظاهر تَوسِعة الحرم المكي الشَّريف من زيادة الطَّاقة الاستيعابيَّة لزُوَّار المسجد الحرام إلى الضِّعْف؛ حيث أصبَح المسجد يستَوعِب أكثر من ستمائة ألف مُصَلٍّ، وأصبحت مساحته بعد إضافة مساحة جديدة إلى المبنى الرَّئيس 165 ألف متر مسطَّح، بعد أنْ كانت سابقًا تزيد قليلاً على 29 ألف متر مسطَّح، تبدأ هذه المساحة من غرب الحرم، بحيث تصبح الإضافة الجديدة مُتمِّمة لمبنى الحرم، من ثَمَّ تحسين الجِهات الشرقيَّة والشماليَّة والغربيَّة المُحِيطة بالحرم ورصفها بالبلاط؛ من أجل توفير مساحة إضافيَّة تستَوعِب المزيد من أعداد المصلِّين المُتَعاظِمة.
وفي إطار هذه التَّوسِعة السعودية تَمَّ إزالةُ جَميع المباني القديمة المحيطة بالحرم، ممَّا أَتاحَ تَوسِعة طول المسعى من الدَّاخل 394 مترًا ونصف المتر وعرضه 20 مترًا، كما تَمَّ تشييد دور علوي له على ارتفاع 12 مترًا، وتميَّز المسعى الجديد بثمانية أبواب رئيسة تُشرِف على واجهة الشارع العام من جهة الشرق، هذا بالإضافة إلى إقامة سقفٍ مُستَدِير مُقبَّب فوق الصفا، بجواره منارةٌ يصل ارتفاعُها إلى 29 مترًا، كما جعلت للمسجد 9 مآذن جديدة[51].
ونتيجةً لتزايد الحجيج كلَّ عام؛ لكون حجِّ البيت ركنًا من أركان الإسلام، وفرضًا لِمَن استطاع إليه سبيلاً، ولاستيعاب تَنامِي عدد الحُجَّاج الذين فاقَ عدَدُهم في السنوات الأخيرة ثلاثة ملايين حاجًّا، حشَدت المملكة كُلَّ إمكاناتها من ماديَّة وبشريَّة لتَطوِير مَشاعِر الحج، وتَوفِير كافَّة التَّسهِيلات اللازمة لخدمة ضيوف الرحمن، فالمَرافِق العامَّة من شبكات مياه الشرب المتطوِّرة والإضاءة الشامِلَة، وإنشاء دورات المياه الكثيرة، وإقامة شبكة من الطُّرُق والشوارع الفسيحة التي تتخلَّلها الجسور والمعابر والأنفاق الضَّخمة لتَخفِيف الازدِحام الشديد خلالَ مَوسِم الحج، ولتَنظِيم حركة المرور بين مكَّة والمشاعر المقدَّسة في عرفة ومنى ومزدلفة - لهو خيرُ شاهدٍ على هذه الإنجازات الكبرى[52].
4/5 - المنبر في المسجد الحرام:
أمَّا المنبر في المسجد الحرام فلم يكن موجودًا على عهد الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كذلك في عهد الخلفاء الراشدين - رضوان الله عليهم - (11 - 40هـ/ 632 - 661م)، وكان خُطَباء المسجد يَقِفون على الأرض في وجْه الكعبة وفي الحِجْرِ "حجر إسماعيل - عليه السلام"، وبقي الأمر على هذا النَّحو إلى عهد الخليفة الأُموي معاوية بن أبي سفيان - رضِي الله عنْه - (41 - 60هـ/ 661 - 680م) الَّذي كان أوَّل مَن أدخَلَ منبرًا في المسجد سنة (44هـ/ 664م) من ثلاث درجات، وتَنافَس الخلفاء والسلاطين في عهود الأمويين (41 - 132هـ/660 - 750م)، والعباسيين (132 - 656هـ/750 - 1258م)، والفاطميين (297 - 567هـ/909 - 1171م)، والأيوبيين (582 - 658هـ/1186 - 1260م)، والمماليك (754 - 923هـ/1253 - 1517م)، والعثمانيين (700 - 1343هـ/1300 - 1924م) - على العِنايَة في المسجد الحرام والكعبة المشرَّفة بالقِيام بإضافات وإصلاحات جوهريَّة فيهما، مع تجديدٍ لعمارة الكَعبة غير مَرَّة، وكان أيضًا للمملكة العربيَّة السعوديَّة بصْمتِها في تحديث وتجديد المنبر في بيت الله الحرام[53].
‗۩‗°¨_‗ـ المصدر:#منتدي_المركز_الدولى ـ‗_¨°‗۩‗