قلتُ لكم هذه اللطائف اللطيفة جدا بارك الله في كاتبها ، وهي مفيدة بإذن الله ايضا للمبتدئين في حفظ كتابه الكريم ممن يعانون من المتشابهات في الحفظ :
1
هاء الرفعة وهاء الخفض :
ـ هاء الرفعة : هي الهاء المضمومة في كلمة ( عليهُ ) في قوله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا .
الأصل أن تكون الهاء في » عليهِ « مكسورة ، ولكن جاءت هنا مضمومة ، والضم علامة الرفع ، والمقام مقام رفعة ، فكأن الرفعة أصابت الهاء في » عليه « فكان من غير المناسب أن تبقى مكسورة ، لأن الكسرة لا تناسب هذا الجو ، لذلك تحولت الكسرة إلى الضمة علامة الرفع ، انعكس الجو على حركة الهاء ، والآية أيضاً تتحدث عن الوفاء بالعهد والبيعة ، ولما كان الوفاء بالبيعة دليل على صدق المبايع ، وعلوِّ همته ، ورفعة نفسه، وسمو خلقه ،لذا جاءت الهاء مضمومة ، وكأن علامة الرفع جاءت من قوله تعالى :
يد الله فوق أيديهم .
ـ هاء الخفض :وهناك هاء أخرى في القرآن الكريم ، تقابل هاء الرفعة ، وهي هاء الخفض، وهي الهاء التي دخل عليها حرف الجر » في « في قوله تبارك وتعالى: ] وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا .
فقد نص علماء القراءات والتجويد على إشباع كسرة الهاء في قوله تعالى :ويخلد فيه مهاناً فتقرأ هكذا ( ويخلد فيهي مهاناً ) بالإشباع مع أن الهاء في مثيلاتها يكتفى بكسرتها ، فلماذا مدت الهاء هنا أكثر من حركتين ، إن وراء الهاء سراً دفيناً وعجيباً ، وهو أن الذي دعا إلى هذا هو السياق الذي وردت فيه ، فقد سبقها ذكر مجموعة من المعاصي والفواحش التي لا يفعلها عباد الرحمن ، ثم ذكرت الآيات ما يترتب على هذه الكبائر من عقوبة ، وهي العذاب المضاعف مهاناً ذليلاً خاسئاً ، ولما نقرأ الآية ونصل إلى قوله تبارك وتعالى : ] ويخلد فيه مهاناً يصور الله تعالى لنا المشهد المهيب وكأننا نلحظ بأبصارنا إلقاء صاحب تلك المعاصي وهو يهوي في قاع جهنم ، وحينما نمدُّ الهاء في
» فيه « أكثر من حركتين ، كأن نفس القارئ ينزل إلى أسفل نحو رئتيه ، وبذلك يساعد على الإنزال والخفض ، وكأننا بهذا المد الخاص هنا فقط نساعد على إنزال المجرم في هوة جهنم ، ومسارعة سقوطه فيها .
2
5 ـ ميِّت ...و ... ميْت : كلمتان متقاربتان ، الأولى بالتشديد والثانية بالتسكين ، فما هو السر الدفين في هذا التفاوت في التعبير ؟ وما الفرق بين الكلمتين ؟
أولاً لا ترادف في كلمات القرآن الكريم ، أي لا توجد كلمتان في القرآن بمعنى واحد ، بل لا بدَّ من فروق دقيقة بينهما .
وربما عدل القرآن عن صورة إلى أخرى تختلف عن الأولى في عدد الحروف أو الترتيب أو الحركات ، وهذا التغيير يكون مقصوداً ، لذلك لا بدَّ من حكم ولطائف من هذا التعبير والتغيير.
الميِّت ـ بالتشديد ـ: هو غالباً ما يعبَّر به عن الحي الذي فيه الروح.
الميْت ـ بالتسكين ـ : هو الذي خرجت روحه منه.
فالميِّت : مخلوق حي ، ما زال يعيش حياته ،وينتظر أجله ، فهو ميَّت مع وقف التنفيذ ، ونرى هذا المعنى واضحاً في قوله تعالى وهو يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم :
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُون.
الآية الكريمة تخبره بأنه سيموت ، وأن خصومه الكفار سيموتون ، فكل حي » ميِّت « حال حياته ينتظر حلول الأجل .
والميْت : هو المخلوق الذي مات فعلاً وخرجت روحه وأصبح جثة هامدة ،وأطلق القرآن هذا اللفظ على :
البلد الميْت ، فقال الله تعالى : ] وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ .
والبهيمة الميْتة ، قال الله تعالى : ] إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِه .
والميْت : هو الإنسان الذي مات وخرجت روحه ، وقد شبه الله تعالى الذي يغتاب أخاه بمن يأكل لحم ذلك الإنسان الميت فقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ .
والكافر : قلبه ميْت ، فهو ميْت موتاً معنوياً ، رغم أنه يتحرك ويتنفس ، ميْت لخلو قلبه من الإيمان ، وحياته من الاستقامة ، ولا يحيي قلبه إلا الإيمان : أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ .
ولعلنا نستشف هذه المعاني من حركات الكلمتين ، فالـميِّت: ياؤه مشددة ، ويشير إلى إقبال الإنسان الحي على حياته الدنيا ، وانهماكه فيها ، وحرصه عليها بكل ما أوتي من قوة وشدّة .
أما الميْت : الذي خرجت روحه ، فياؤه ساكنة غير متحركة ، ولعلها إشارة إلى سكون هذا الإنسان وهدوئه بعد خروج روحه ، وتوقفه عن الحركة، وقد قال الشاعر مفرِّقاً بينهما :
وَتَسْأَلُـني تَفْسيرَ مَيـْتٍ وَمَيِّتٍ فَدونَكَ ذا التفسـيرُ إنْ كنتَ تَعْقِلُ
فَمَنْ كانَ ذا روحٍ فَذلِكَ مَـيِّتٌ وَما الـمَيْتُ إلاَّ مَنْ إلى القَبْرِ يُحْمَلُ
سؤال:
ما الفرق بين ( بلد ميِّت )- بتشديد الياء- وبين ( بلدة ميْتًا )- بتخفيف الياء- في قوله تعالى:
{وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابًا ثقالاً سقناه لبلد ميِّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون }[ الأعراف:57 ]0
وقوله تعالى:{ وهو الذي أرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورًا* لنحيي به بلدة ميْتًا ونسقيه مما خلقنا أنعامًا وأناسي كثيرًا }[ الفرقان:48- 49 ] ؟
جواب : أن الله سبحانه وتعالى تحدث في الآية الأولى عن ( بلد ميِّت ) بتشديد الياء : وهو غالباً ما يعبر به عن الحي الذي فيه الروح ، ولكنه سوف يموت ، وقد شبه الله تعالى هذا البلد بالإنسان الذي أشرف على الموت فأدركته رحمة الله تعالى فلن تخرج روحه بعد ، وهو ينتظر حلول الأجل ، وما أقرب هذا المعنى من ( الأرض الخاشعة ) في قوله تعالى : ] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير