مفاتيح الخير ومفاتيح الشَّرِّ
مفاتيح الخير ومفاتيح الشَّرِّ
مفاتيح الخير ومفاتيح الشَّرِّ
مفاتيح الخير ومفاتيح الشَّرِّروى الإمام ابن ماجه، وابن أبي عاصم وغيرهما من حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ»(1).
وهو حديث فيه ضعف من جهة إسناده، لكن يتقوَّى وَيَنْجَبِرُ بما له من الْمُتَابَعَاتِ والشَّواهد، وحسَّنه الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ(2).
وفي هذا الحديث قسَّم النَّبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ النَّاس قسمين: مفاتيح للخير ومفاتيح للشرِّ.
والمفتاح في اللُّغة: آلة الفتح، والفتح نقيض الغلق، فالمفتاح كلُّ ما يحلُّ غلقًا، حسِّيًّا كان أو معنويًّا، فالحسيُّ كمفتاح الباب، والمعنويُّ كما جاء في الحديث المشهور: «مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطُّهُورُ»، كما سيأتي.
والمفاتيح في هذا الحديث جاءت مجموعة، وذكرها النَّبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بصيغة الجمع لبيان أنَّ مفاتيح الخير كثيرة، وكذا بالمقابل فإنَّ مفاتيحَ الشَّرِّ كثيرةٌ متنوِّعة.
وكلُّ مطلوب للإنسان جعل الله له مفتاحًا يفتح به، فلذا ينبغي للعبد أن يعرف ويتعلَّم مفاتيحَ الخير من مفاتيح الشَّرِّ.
ومن أهمِّ مفاتيح الخير تعليم العلوم النَّافعة وبثُّها في النَّاس، بإقامة الدُّروس والمحاضرات والنَّدوات والدَّورات العلميَّة المفيدة، فإنَّها مفاتيح الخيرات كلِّها، وكذا الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر برفق وحكمة ولين، ومن ذلك أيضًا سنُّ السُّنن وإحياؤها، ويدخل في ذلك أيضًا أن يقيم الإنسان مشروعًا طيِّبًا يتبعه عليه النَّاس، كمن يسعى لفتح وإنشاء مدارس قرآنية، وكذا السَّعي في طباعة الكتب النَّافعة وتوزيعها، وإصدار المجلاَّت المفيدة المباركة الَّتي تدعو إلى الإصلاح والتَّوحيد ودين الله الخالص، والتَّعاون على دعمها ونشرها وإيصالها إلى النَّاس كافَّة للاستفادة منها والنَّهل من معينها.
وقد تضافرت النُّصوص في الكتاب والسُّنة الدَّالَّة على فضل الدَّعوة ومكانة الدُّعاة ورفيعِ قدرهم عند الله، حيث إنَّه سبحانه قد رفع مِن شأن الدُّعاة وأبْلَغَ في الثَّناء عليهم ومَدَحَهم وبيَّن فضلَهم في آي كثيرة من القرآن الكريم، يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصِّلت:33].
فلا أحد أحسن قولاً مِمَّن دعا إلى الله بتعليم الجاهلين ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، وقام بالأمر بعبادة الله بجميع أنواعها، والحثِّ عليها وتحسينها ما أمكن، والزَّجر عمَّا نهى الله عنه وتقبيحه بكلِّ طريق يوجب تركه، خصوصًا في مجال الدَّعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه ومجادلة أعدائه بالَّتي هي أحسن، والنَّهي عمَّا يضادُّه من الكفر والشِّرك، فَمْنَ كان كذلك فهو أحسن النَّاس قولاً وأصحُّهم طريقةً وأَقْوَمُهم مَسْلَكًا.
يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل:125]، ويقول تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [آل عمران:110].
والآيات في الحثِّ على الدَّعوة إلى الله والتَّرغيب في ذلك وبيانِ ما أعدَّ الله للدُّعاة إليه من الثَّواب والأجر والرِّفعة في الدُّنيا والآخرة كثيرة جدًّا.
وهكذا السُنَّة النَّبويَّة وَرَدَ فيها أحاديثُ كثيرةٌ دالَّةٌ على فضل الدَّعوة إلى الله وعِظم ثواب الدَّاعين إليه، ففي «صحيح مسلم» عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ، عن النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أنَّه قال: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»(3)، وروى أيضًا من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»(4)، وثبت عنه ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ أنَّه قال لعليِّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ: «فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»(5).
وواجب أهل العلم وطلابه أكبر وأعظم من غيرهم في فتح أبواب الخير على النَّاس وعلى المجتمع، وبيان وجوه الخير وطرائقه، وتحذيرهم من وجوه الشَّرِّ وأبوابه، ودعوتهم إلى الهدى وتحذيرهم من طرق الغواية والرَّدى.
وأوَّل واجب على طالب العلم إصلاح نفسه قبل كلِّ شيء، إذ لا يُصلح غيرَه من لم يُصلح نفسه، ثمَّ يعمل على إيصال النَّفع والخير إلى أمَّته برفع الجهل عنها، وتعليمها توحيد ربِّها، وحثِّها على العمل بكتاب الله وسنَّة رسوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، وتصحيح فهمها لهما، وتطهير أفكارها وعقولها من البدع والتَّخريف.
ويكون ذلك بإرشادها وبذل النُّصح لها، وأن يختلط بالنَّاس ويصبر على أذاهم، ويباشر ويعامل الجهلة برفق، وينتهز الفُرَص في إشغالهم بالخير، وأن لا تخلو مجالسه من فائدة.
وملاك ذلك كلِّه رغبةُ العبد في إيصال الخير والنَّفع ونشره بين النَّاس، وإخلاصه في ذلك واستعانته بالله، وسؤاله التَّوفيق والسَّداد في كلِّ ما يقول ويعمل.
فلذا كان دعاة الإصلاح وأئمَّة الهدى والفلاح وأنصار السُّنَّة وحملة العلم هم مفاتيح الخير، ببيانِهم وتعليمهم وإرشادهم، وإحياء السُّنن بين النَّاس، وقمع البدع وإماتتها، ففتح الله بهم قلوبًا غُلْفًا وآذَانًا صُمًّا وأعْيُنًا عُمْيًا، ومفاتيحهم الَّتي اختصُّوا بها هي البيان والبلاغ، وأمَّا التَّوفيق وشرح الصُّدور فهو بفتح الله تعالى على العبد، فالفتح فتحان، فتحٌ يكون بالمخلوق بالبيان والتَّبليغ، وفتح يختصُّ به الله تعالى، وهو التَّوفيق والهداية.
فهؤلاء أجرى الله تعالى على أيديهم فتح أبواب الخير بالعلم والإصلاح، فطوبى لهم بما ملَّكهم الله تعالى تلك المفاتيح ووضعها في أيديهم، فأحسنوا استعمالها ووُفِّقوا لحلِّ القلوب المقفلة والعقول المغلقة.
ويدخل في حملة العلم والسُّنَّة رواة الحديث والآثار، فبجهادهم وما بذلوا من غالٍ ونفيس وصلت إلينا هذه السُّنن، لذا كان أنس بن مالك - رضي الله عنه - ـ راوي هذا الحديث ـ يقول: «إنَّ للخير مفاتيح، وإنَّ ثابتًا البُناني من مفاتيح الخير»(6)، وثابت هو ابن أسلم البناني، وهو من جلَّة التَّابعين ومن حملة الهديِ النَّبويِّ، والنَّاظر في ترجمته في كتاب «حِلية الأولياء» لأبي نعيم، أو «سِيَرِ أعلام النُّبلاء» للذَّهبي وغيرهما من كتب التَّراجم يقف على السِّيرة العطرة لهذا الإمام الَّذي جُمعت فيه كثيرٌ من خصال الخير، فقد وُصِف بالعبادة من صلاة وصوم وبكاء من خشية الله، وذُكر أيضًا بحبِّه للخير وسعيه في حوائج النَّاس، وكذا عيادة المرضى وغير ذلك من أبواب الخير الكثيرة ومفاتيحه.
مع ما كان عليه من تعليم النَّاس الخير، فهو من رواة الحديث وكان من أخصِّ تلاميذ أنس ابن مالك صاحب رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وخادمه، فاعتنى بنشر السُّنن وإبلاغها، وتلقَّى عنه الحديث ناسٌ كثيرون صاروا أعلام هدى وأئمَّة النَّاس في عصرهم.
وهم داخلون في بشارة النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بنضارة الوجه وهي بهجته وسروره في قوله ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ الثَّابت بالتَّواتر:«نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ»(7).
قال سفيان بن عيينة: «ما من أحد يطلب الحديث إلاَّ في وجهه نضرة؛ لقول النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ»».
وقال عبد الله بن داود الخريبي: «سمعت من أئمَّتنا ومَن فوقنا أنَّ أصحاب الحديث وحملة العلم هم أمناء الله على دينه وحفَّاظ سنَّة نبيِّه ما علِموا وعمِلوا».
وقال البخاري: «كنَّا ثلاثة أو أربعة على باب عليّ بن عبد الله [المديني]، فقال: إنِّي لأرجو أنَّ تأويل هذا الحديث: عن النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ»، إنِّي لأرجو أنَّ تأويل هذا الحديث أنتم؛ لأنَّ التُّجَّار قد شغلوا أنفسهم بالتِّجارات، وأهل الصِّنعة قد شغلوا أنفسهم بالصِّناعات، والملوك قد شغلوا أنفسهم بالمملكة، وأنتم تحيون سنَّة النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ»(. وفضائل أصحاب الحديث وحملة الآثار كثيرة، فتح الله بهم الخير، وهل الخير إلاَّ في معرفة سنَّته ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ.
ثمَّ من الأمور الَّتي يجب معرفتها أنَّ من مفاتيح الخير ـ بل مفتاح الخيرات كلِّها ـ هو مفتاح الجنَّة، وهو كلمة التَّوحيد «لا إله إلاَّ الله»، ورُوِي ذلك مرفوعًا: «مِفْتَاحُ الجَنَّةِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله»(9).
فالجنَّة لا تفتح إلاَّ لمن حقَّق التَّوحيد وآمن بالله، وأمَّا من كفر بالله وكذَّب برسله ولم يأت بكلمة التَّوحيد والإيمان فلا تفتح لهم أبواب الجِنَان، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: 40]، فمن كفر بالله وكذَّب بآياته لا يَلِجُ الجنَّة ولا تفتح له أبوابها إلاَّ إذا دخل البعير في خرم الإبرة، وهذا تعليق بمحال.
فمن حقَّق التَّوحيد والإيمان فتحت له أبواب الجنان، كما جاء في «صحيح مسلم» من حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنَّ النَّبيَّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيبلغ ـ أَوْ قَالَ ـ يَسْبِغُ الوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ»(10).
والمفتاح كما هو معلوم لا بدَّ له من أسنان حتَّى يَفتح، فعن وهب بن منبِّه أنَّه قيل له: «أليس مفتاح الجنَّة لا إله إلاَّ الله؟ قال: بلى، ولكن ليس من مفتاح وإلاَّ وله أسنان، فإذا جِئْتَ بمفتاح له أسنان فُتح لك، وإلاَّ لم يُفتح لك»(11).
فهذا الفضل للمتوضِّئ الَّذي حقَّق التَّوحيد بشهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، كافأه الله تعالى بفتح أبواب الجنَّة الثَّمانية له يدخل من أيِّ الأبواب شاء، نسأل الله أن نكون من أهلها.
فرحم الله وهب بن منبِّه، فقد أرشد إلى أنَّه لا يكفي الإنسان أن يدَّعي أنَّه من أهل لا إله إلاَّ الله وهو مُنْغَمِسٌ في الرَّذائل، تارك للواجبات والفرائض، بل يجب عليه القيام بحقوق هذه الكلمة، والإتيان بواجباتها وشروطها حتَّى يكون محقِّقًا لمعناها ولا يكون مدَّعِيًا فقط، ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص:28].
وقال الحسن البصري للفرزدق الشَّاعر وهو يدفن امرأته: «ماذا أعددتَ لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلاَّ الله منذ سبعين سنة، فقال الحسن: نِعم العُدَّة! لكنَّ لـ «لا إله إلاَّ الله» شروطًا، فإيَّاك وقذف المحصنات».
فوجَّهه ـ رحمه الله ـ إلى أنَّ لـ «لا إله إلاَّ الله» شروطًا وواجبات، ولا يكفي المسلم أن يدَّعي أنَّه من أهلها، بل ينبغي له أن يعلم ويتعلَّم شروطها، ثمَّ ذكَّره بما قد يخدش في توحيده وينقص من إيمانه وهو اقترافه للكبائر، ومنها قذف المحصنات، وقد ورد في «صحيح البخاري» من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ... »، وذكر منها: «قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ»(12).
والإمام الحسن البصري ذكَّره بهذه الخصلة الذَّميمة من بين سائر الكبائر؛ لأنَّ الفرزدق كان شاعرًا هَجَّاء، يهجو النَّاس ويصفهم بما ليس فيهم، وعُرف بقذف المحصنات، وقد ذكره ابن حبَّان في كتاب «المجروحين» وقال: «روى أحاديث يسيرة، وكان الفرزدق ظاهر الفسق هتَّاكًا للحرم، قذَّافًا للمحصنات، ومَن كان فيه خصلة من هذه الخصال استحقَّ مجانبة روايته على الأحوال»(13).
فهذا مفتاح الجنَّة كلمة الإخلاص «لا إله إلاَّ الله»، وهي مفتاح كلِّ خير، وعليها مدار الإسلام والإيمان، وهي أصل المفاتيح كلِّها وسابقتها، وأمَّا المفاتيح الأخرى فهي تابعة لها مبنيَّة عليها.
وللإمام ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ كلامٌ جميل في بيان مفاتيح الخير حيث قال: «وقد جعل الله سبحانه لكلِّ مطلوب مفتاحًا يفتح به؛ فجعل مفتاح الصَّلاة: الطُّهور، كما قال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ: الطُّهُورُ، ومفتاح الحجِّ: الإحرام، ومفتاح البِّرِّ: الصِّدق، ومفتاح الجنَّة: التَّوحيد، ومفتاح العلم: حُسن السُّؤال وحُسن الإصغاء، ومفتاح النَّصر والظَّفَر: الصَّبر، ومفتاح المزيد: الشُّكر، ومفتاح الوَلاية والمحبَّة: الذِّكر، ومفتاح الفلاح: التَّقوى، ومفتاح التَّوفيق: الرَّغبة والرَّهبة، ومفتاح الإجابة: الدُّعاء، ومفتاح الرَّغبة في الآخرة: الزُّهد في الدُّنيا، ومفتاح الإيمان: التَّفكُّر فيما دعا الله عباده إلى التَّفكُّر فيه، ومفتاح الدُّخول على الله: إسلامُ القلب وسلامته له والإخلاص له في الحبِّ والبغض والفعل والتَّرك، ومفتاح حياة القلب: تدبُّر القرآن والتَّضرُّع بالأسحار وترك الذُّنوب، ومفتاح حصول الرَّحمة: الإحسان في عبادة الخالق والسَّعي في نفع عبيده، ومفتاح الرِّزق: السَّعي مع الاستغفار والتَّقوى، ومفتاح العزِّ: طاعة الله ورسوله، ومفتاح الاستعداد للآخرة: قِصر الأمل، ومفتاح كلِّ خير: الرَّغبة في الله والدَّار الآخرة ... » (14).
فهذه من مفاتيح الخير الَّتي جمعها النَّبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في قوله: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ».
ففتح أبواب الخير يستلزم إغلاق أبواب الشُّرور، فما فُتح باب للخير إلاَّ وأُغلق مكانه باب من الشَّرِّ، كما أنَّه ما أُحييت سنَّة إلاَّ أُميتت بدعة.
وأمَّا ما يقابل مفاتيح الخير فهي مفاتيح الشَّرِّ وما أكثرها وأكثر من هي في أيديهم.
وأعظم تلك المفاتيح الكفر والإعراض عن الله والصَّدُّ عن سبيله، ومحاربة السُّنَّة وإظهار البدع، وكذا منع المصلحين من الإصلاح والوقوف في وجه الدَّعوة والصدُّ عنها وتنفيرُ النَّاس من حقائقها، ونَبْزُ وتعييرُ القائمين عليها، كلُّ ذلك من أعظم مفاتيح الشَّرِّ.
وجميع المعاصي مفاتيح الشَّرِّ، فالخمر مفتاح كلِّ إثم، والكسل والخمول مفتاح الخيبة والحرمان، والكذب مفتاح النِّفاق، والحرص والشُّحُّ مفتاح البُخل وقطيعة الرَّحم، والإعراض عن السُّنَّة مفتاح البدعة، ومفتاح كلِّ شرٍ: حبُّ الدُّنيا وطول الأمل.
وهذا كلُّه يحصل للعبد إذا عُدمت فيه الرَّغبة في الخير، وقصد إضرار نفسه وعباد الله المؤمنين لأغراض نفسيَّة وعقائد سيِّئة فاسدة، فأشغل عباد الله بما يضرُّهم ولا ينفعهم، وسعى في إشعال نار الفتن والشِّقاق والتَّنافر، وحرص كلَّ الحرص على مضرَّة العباد فملأ مجالسه بالنَّميمة والغيبة والوقيعة في النَّاس، وثبَّط عباد الله عن الخير، بل دعاهم إلى ما يفسد أعمالهم وعقائدهم، فهذا مغلاق للخير مفتاح للشَّرِّ والآفات.
وما أكثر هذا اللَّون في هذا الزَّمان، وصدق الرَّسول ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ حين خطَّ لأصحابه خطًّا ثمَّ قال:«هَذَا سَبِيلُ اللهِ، ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِ الخَطِّ وَعَنْ شِمَالِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ السُّبُلُ، وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ» للخطِّ الأوَّل، «وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ» للخطوط «فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»»(15).
وهذا لأنَّ الطَّريق الموصل إلى الله واحد، وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، ولا يصل إليه أحدٌ إلاَّ من هذا الطَّريق، ولو أتى النَّاس من كلِّ طريق واستفتحوا من كلِّ بابٍ فالطُّرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مُغْلَقة، إلاَّ من هذا الطَّريق الواحد؛ فإنَّه متَّصل بالله مُوصِل إلى الله.
وأمَّا أبواب الضَّلال فهي مفتوحة والسُّبل إليها كثيرة، وعلى كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليها، يفرِّق بين عباد الله ويدعو إلى الشَّرِّ والابتداع، والكفر والنِّفاق.
فينبغي على العبد أن يعتني أشدَّ الاعتناء بمعرفة مفاتيح الخير وما جعلت المفاتيح له، ويدعو إليها، ويرشد النَّاس ويفتح عليهم وجوه الخير وأعمال البرِّ، ويجتهد في أن يكون مغلاقًا للشُّرور والآفات، ويعلم ما كان منها مفتاحًا للشَّرِّ مغلاقًا للخير ويحذر كلَّ الحذر ويحذِّر غيره من تلك المفاتيح حتَّى ينال رضى الله فطوبى لمن كان كذلك، وويل لمن كان ضدَّ ذلك.
«وهذا باب عظيم من أنفع أبواب العلم، وهو معرفة مفاتيح الخير والشَّرِّ، لا يُوفَّق لمعرفته ومراعاته إلاَّ من عظُم حظُّه وتوفيقه»(16).
فكونوا عباد الله مفاتيح الخير مغاليق الشَّرِّ تفلحوا وتسعدوا في الدُّنيا والآخرة، وتُسعدوا غيركم وتنالوا رضى ربِّكم.
نسأل الله تعالى أن يرينا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتِّباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا هداةً مهتدين، مفاتيح للخير مغاليق للشَّرِّ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
(1) «سنن ابن ماجه» (237)، «السُّنة» لابن أبي عاصم (297).(2) «ظلال الجنَّة في تخريج السُّنَّة» (ص 128).(3) «صحيح مسلم» (1893).(4) «صحيح مسلم» (2674).(5) «صحيح البخاري» (2942)، و «صحيح مسلم» (2406).(6) «الجعديَّات» (1385).(7) «سنن الترمذي» (2656)، وانظر كتاب «حديث نضر الله امرءًا سمع مقالتي، رواية ودراية» لشيخنا عبد المحسن بن حمد العباد ـ حفظه الله ـ.( انظر لهذه الآثار وغيرها: «شرف أصحاب الحديث» للخطيب البغدادي.(9) أخرجه البزَّار في «مسنده» كما في «كشف الأستار» (2)، وفي إسناده انقطاع.(10) «صحيح مسلم» (234).(11) ذكره البخاري في «صحيحه» (1/383) معلَّقًا، وقال البوصيري في «إتحاف الخيرة المهرة» (7849): «رواه إسحاق بن راهويه بإسناد حسن».(12) «صحيح البخاري» (6857).(13) «المجروحين» (2/204).(14) «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» (ص 101).(15) «السنن الكبرى» للنِّسائي (11109).(16) «حادي الأرواح» (ص 101).