اسباب الوقاية من الفتن
اسباب الوقاية من الفتن
اسباب الوقاية من الفتنإنَّ إخبار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أمَّته بما يكون بعده من الفتن، لم يكن لتستسلمَ الأمَّة لوقوعها، وتنتظر نزولها؛ ولكن المقصود منه التَّحذير من ملابستها، والتَّخويف من التَّعرُّض لها، والحثُّ على مجانبتها، والتَّحريض على مدافعتها.
عن المقداد بن الأسود قال: ايم الله، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا»(1).
قوله صلى الله عليه وسلم: «فواهًا» كلمة لها استعمالات، منها الإعجاب بالشَّيء والاستطابة له، كأنَّه قال: ما أحسن وأطيب صَبْرَ مَنْ صَبَر؛ فالمؤمن مطالب بالسَّعي لمجانبة الفتن، لكن إذا نزلت وكانت حتمًا مقدَّرًا، فما عليه إلاَّ أن يجاهد ويصبر حتَّى يرفعها الله سبحانه.
وقد جاءت نصوص الوحي دالَّة على جملة من الأسباب، تقي ـ بإذن الله ـ من أخذَ بها من تلك الفتن إذا نزلت؛ فمنها:
5 دعاء الله، والاستعاذة به، والتَّضرُّع له، وانكسار القلب بين يديه، وإظهار الافتقار إليه، والتَّبرُّؤ من الحول والقوَّة إلاَّ به:
ويكون ذلك بسؤال الله سبحانه تثبيت القلب قبل نزول الفتن، والخلاص منها والنَّجاة من شرِّها إذا وقعت عن أمِّ سلمة قالت: كان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ! ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، قالت: فقلت: يا رسول الله! ما أكثر دعاءك: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك؟! قال: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ! إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابعِ اللهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ»(2).
وعن زيد بن ثابت أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «تَعَوَّذُوا باللهِ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن(3).
وفي حديث اختصام الملأ الأعلى: «وَإِذَا أَرَدْتَ بعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ»(4).
***
5 العمل بطاعة الله، والإقبال على عبادته، وملازمة تقواه:
فقد ثبت عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَادِرُوا بالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الـمُظْلِمِ»(5)؛ والمقصود من الحديث اغتنام الأوقات، والمسابقة إلى العمل الصَّالح والخيرات، قبل نزول الفتن الَّتي تصرف عن ذلك؛ وقد رغب كذلك صلى الله عليه وسلم في الانقطاع إلى العبادة زمن الفتنة فقال: «العِبَادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»(6)؛ وفي روايةٍ للإمام أحمد (20311): «العِبَادَةُ في الفِتْنَةِ كَالهِجْرَةِ إِلَيَّ»؛ والهرج: القتل بتفسير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم(7) وهو من الفتنة كما جاء في الرِّواية الثَّانية.
والحديث قد دلَّ على التَّرغيب في العبادة زمن الفتنة، وعلى فضل العبادة ومضاعفة أجرها فيها؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جعلها كالهجرة إليه، وسبب ذلك أنَّ النَّاس في زمن الفتنة يشتغلون بها، ويغفلون عن العبادة، فلا ينتبه لها إلاَّ القليل.
وفي حديث الوليِّ، قال الله تعالى: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ, وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ, وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ, فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بهَا, وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ, يَكْرَهُ المَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»(8)(9).
فقوله سبحانه: «كُنْتُ سَمْعَهُ» إلى قوله: «يَمْشِي بهَا»، معناه كما ذكر العلماء: أنْ يوفِّقه الله ويسدِّده، فيكون عمله كلُّه في طاعة الله، وسعيه في محابِّ مولاه، ولا يستعمل أعضاءه وجوارحه إلاَّ فيما فيه رضاه؛ فلازمه أنَّ مَنِ اجتهد في تكميل الواجبات، وزاد عليها بالإكثار من المستحبَّات، لا سيما قبل حلول الفتن المدلهمَّات، فإنَّه سيجد ثمرة تقرُّبه إلى ربِّه، بتثبيته وعصمته من تلك الفتن؛ لأنَّ الله وعد ـ ووعده حقٌّ ـ بحفظ أوليائه وتثبيتهم، وعصمتهم وتسديدهم.
ونظير هذا ما جاء في وصيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لابن عبَّاس: «اِحْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ»(10).
وقال سبحانه: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم﴾[الأنفال:29]، فوعد ـ سبحانه ـ من عمل بتقواه بأن يجعل له فرقانًا، وهو الهُدى والبصيرة الَّتي يفرِّق بها المؤمن بين الحقِّ والباطل، والهدى والضَّلال، والسُّنَّة والبدعة، ودعاة الرُّشد ودعاة الفتنة.
***
5 الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، والتَّزوُّد من علومهما، والتَّمسُّك بما عليه العلماء، ولزوم غَرزهم:
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم »(11).
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: «كان النَّاس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشَّرِّ مخافة أن يدركني»، جاء في رواية أبي داود، قال: «يَا حُذَيْفَةُ! تَعَلَّمْ كِتَابَ اللهِ، وَاتَّبعْ مَا فِيهِ» (ثلاث مرار)، فما زال حذيفة يسأل والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يردِّد له هذه الوصيَّة ثلاثًا(12).
ومِنْ أنفع ما يَقي مِنَ الفتن كذلك العلم الشَّرعي المستنبط من الكتاب والسُّنَّة، المنضبط بأصول سلف الأمَّة؛ لأنَّه كما قال ابن سيرين: «إِنَّ هَذَا العِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ»(13)، فبالعلم يهتدي المسلم إلى الصِّراط المستقيم، وبالعلم يعرف الحقَّ من الباطل، وبالعلم يميز بين السُّنَّة والبدعة، وبالعلم يدرك الفتنة.
ولَمَّا كان العلم من أنفع أسباب الوقاية من الفتن، كان أهله ـ وهم العلماء ـ أوَّل من يتفطَّن لها قبل نزولها، كما قال الحسن البصري: «إنَّ هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كلُّ عالم، وإذا أدبرت عرفها كلُّ جاهل»(14).
قال الإمام البخاري في «صحيحه»: وقال ابن عيينة عن خلف بن حوشب: كانوا يستحبُّون أن يتمثَّلوا بهذه الأبيات عند الفتن، قال امرؤ القيس:
الحـــرب أوَّل مــا تــكـون فتــيـــة تســـعى بزينتها لكـلِّ جـهـولِ
حتَّى إذا اشـــتـعلت وشـبَّ ضِرَامُهَا ولَّــت عـجـوزا غـيـرَ ذاتِ حلِـيلِ
شمطاءَ يُــــنْكَرُ لَــــوْنُهَا وتغيَّــــرَتْ مـكـروهــةً لــلـشَّـمِّ والـتَّـقبـيـلِ
فإذا علم هذا كان الواجب على أهل الإيمان أن يسيروا خلف علمائهم في زمن الفتنة، حتَّى لا يجرفهم سَيْلُها، لا أن يتقدَّموهم، كما يقع أحيانًا كثيرة؛ تجد العلماء مغيَّبين، والَّذي يتكلَّم ويتصدَّر، ويقود وينظِّر، هم حدثاء الأسنان، وسفهاء الأحلام؛ لا يراعون مصلحة، ولا ينظرون إلى عاقبة؛ دافعهم الحماس والعاطفة، وقائدهم التَّهوُّر والعجلة، فيَجْنُونَ على أنفسهم، ويجرُّون الويلات إلى أمَّتهم.
يدلُّ على هذا قول ربِّنا سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾[النساء:83].
***
5 حمل النَّفس على الصَّبر، وتحديثها بالاحتساب:
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾[آل عمران:200]، وقال جلَّ ذكره: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب﴾[الزُّمَر:10].
وعن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»(15).
فنبيُّنا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إنَّما أكثر من ذكر الفتنة، وأفاض في وصفها؛ حتَّى يستعدَّ لها المؤمن، ويقاومها ويدافعها ما استطاع، ويكون ذلك بحَثِّ النَّفس على الصَّبر، وتذكيرها بما أعدَّ لها من عظيم الأجر، لا سيما إذا قوي داعي الفتنة، وكثر الهالكون فيها؛ عن أنس بن مالك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ, وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ, فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا, وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ»(16).
وعن عُتْبَةَ بنِ غزوان أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ, لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»، قالوا: يا نبيَّ الله! أو منهم? قال: «بَلْ مِنْكُمْ»(17).
***
5 إنكار الفتن بالقلب، وعدم الرُّكون إليها، وترك الخَوْض فيها، والإقلال من الحركة، والتَّحلِّي بالأناة والتُّؤدة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية لتلميذه ابن القيِّم: «لا تجعل قلبك للإيرادات والشُّبهات مثل السّفنجة، فيتشرَّبها فلا ينضح إلاَّ بها، ولكن اجعله كالزُّجاجة المُصْمَتَة، تمرُّ الشُّبهات بظاهرها ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلاَّ فإذا أَشْرَبْتَ قلبَك كلَّ شبهة تمرُّ عليها، صار مقرًّا للشُّبهات»(18).
ويشهد لهذه الوصيَّة النَّافعة، ما جاء في روايةٍ لحديث حذيفة السَّابق الَّذي ذكر فيه الفتنة الَّتي تموج كموج البحر، ففيها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُعْرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ كَالحَصِيرِ، عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»(19).
ففي هذا الحديث: شبَّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى، بعرض قضبان الحصير على ناسجه واحدًا بعد واحد، «فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا» أي: رَضِيَ بها واطمأنَّ إليها، نقطت فيه نقطة سوداء، وتركت فيه أثرًا، «وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا» أي: ردَّها ورفضها، نقطت فيه نقطة بيضاء، حتَّى يصير قلبًا أبيض مصقولاً مثل الصَّفا، وهو الحَجَر الأملس الَّذي لا يعلق به شيء.
وأمَّا القلب الآخر فيصبح أسود مُربَادًّا من الرُّبدة، وهو لونٌ بين السَّواد والغُبرة، «كَالكُوزِ» إناء معروف، وهو الكوب الَّذي له عروة، «مُجَخِّيًا» أي مائلاً أو منكوسًا، شبَّه القلب المفتون بالإناء إذا انكبَّ؛ انصب ما فيه ولم يعلق به شيء، كذلك القلب المفتون، ظلمة الفتن تخرج نور الإسلام منه، فلا يعلق به خيرٌ ولا حكمة، ولا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، إلاَّ ما وافق الهوى الَّذي خضع لسلطانه(20).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سَتَكُونُ فِتَنٌ، القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي؛ مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بهِ»(21).
دلَّ هذا الحديث على أنَّ إضلال الفتنة للإنسان يكون بقدر موقفه منها، ومشاركته فيها، فكلَّما تعرَّض لها أكثر، كانت هلكته فيها أعظم، لذلك من استطاع أن يغيب عنها فليفعل، فذلك له أسلم.
وممَّا ينبَّه عليه في هذا المقام؛ أنَّه لا يجب على المسلم أن يكون له حكم أو موقف من كلِّ أمرٍ يحدثُ؛ لأنَّ شأن الفتن ـ لا سيما في زمن اشتدادها ـ الخفاء والالتباس؛ لذلك عليه أن يتأنَّى ويتريَّث، ويتوقَّف ويتثبَّت، فذلك خيرٌ له وأحسن تأويلاً.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «التَّأَنِّي مِنَ اللهِ، وَالعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ»(22).
وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إنَّها ستكون أمور مشتبهات! فعليكم بالتُّؤدة؛ فإنَّك أن تكون تابعًا في الخير خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشَّرِّ»(23).
***
5 الاعتزال في الفتنة، والفرار من مواطنها، والإقبال على النَّفس ومحاسبتها، وترك أمر العامَّة:
فعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ، يتبع بهَا شَعَفَ الجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ»(24).
بوَّب البخاري لهذا الحديث في كتاب الإيمان من «صحيحه» بقوله: «باب من الدِّين الفرار من الفتن».
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافَرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي»، قالوا: فما تأمرنا؟! قال: «كُونُوا أَحْلاَسَ بُيُوتِكُمْ»(25).
قوله: «أَحْلاَس»: «جَمْع حِلْس، وهو الكِسَاء الَّذي يَلِي ظَهْر البعير تحت القَتَب»(26)، والمعنى: الْزَمُوهَا.
وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمِعَ بالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ؛ فَوَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يُبْعَثُ بهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ»(27).
دلَّت هذه الأحاديث على أنَّ سلامة المؤمن في زمن الفتنة، ونجاته منها؛ تكون بالاعتزال فيها، ولزوم البيت، والإقبال على النَّفس.
والمقصود من الاعتزال ولزوم البيت: مفارقة الشَّرِّ وأهله، فلا يمنع ذلك من شهود الجمعة والجماعة، والقيام بما وجب من الحقوق، ومناصحة الإخوان، والاجتماع معهم على الخير، والتَّواصي بالحقِّ والصَّبر.
كما دلَّ حديث عمران بن حصين على وجوب الابتعاد عن مواطن الفتنة، ومجانبة مواضع الشُّبهة، وأن لا يزكِّي المؤمن نفسه، ويعجب بإيمانه؛ لأنَّه قد يوكل إليها، فيهلك مع من أهلكته الفتنة.
وممَّا يدخل تحت ذلك: مصاحبة أهل الأهواء، والنَّظر في كتبهم، وحضور مجالسهم، فإنَّها من أكبر الفتن الَّتي تُفسد على المؤمن دينه.
ذكر الذَّهبيُّ في ترجمة الإمام سفيان الثَّوري قوله: «منْ أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم، خرج من عصمة الله، ووكل إلى نفسه».
***
5 لزوم جماعة المسلمين، والسَّمع والطَّاعة في المعروف لإمامهم:
وهذا ممَّا تتأكَّد الوصيَّة به في فتن الخروج على الحكَّام، ومنازعة الأمر أهله، الَّتي يحدثها دعاة الثَّورات، ومن يسلك مسلك التَّغيير بالانقلابات، وهم في ذلك لخطى الخوراج مقتفون، ولمذهبهم معتقدون، وإن خدعوا النَّاس بالتَّبرُّؤ من رأيهم المأفون.
يدلُّ على هذه الوصيَّة حديث حذيفة: «كان النَّاس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشَّرِّ مخافة أن يدركني»، فممَّا ورد فيه: «فقلت: هل بعد ذلك الخير من شرٍّ؟ قال: نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا، قال: «نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنَا»، قلت: يا رسول الله! فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»(28).
قال ابن حجر رحمه الله: «و[المراد] بالدُّعاة على أبواب جهنَّم، من قام في طلب الملك من الخوارج وغيرهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله: «الْزَمْ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، يعني ولو جار»(29).
وأمَّا جماعة المسلمين؛ فالمقصود بها كما قال الإمام الطَّبري:
«والصَّواب أنَّ المراد من الخبر، لزوم الجماعة الَّذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة»(30).
ولخطورة هذا الأمر، قد جاءت النُّصوص مستفيضة تأمر بالسَّمع والطَّاعة في المعروف لأولياء الأمور وإن جاروا، وتزجر عن منازعة الأمر أهله، ونزع اليد من الطَّاعة وإن حادوا(31).
وحسبنا أن نذكر من ذلك وصيَّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: «أُوصِيكُمْ بتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ...»(32).
وأمَّا إن لم يكن للنَّاس إمامٌ تجتمع عليه الكلمة، فتنازعوا في الأمر قددًا، وتفرَّقوا أحزابًا وشِيَعًا، فالواجب عند ذلك اعتزال جميع المختلفين، وعدم التَّحيُّز إلى أيِّ فئة من المتنازعين، كما دلَّ عليه تمام الحديث(33).
***
هذا ما يسَّر الله جمعه من أسباب الوقاية من الفتن، نسأله ـ سبحانه ـ أن يعصمنا من شرِّها، ويسلِّمنا من ضَرَرِها.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدِّين.
(1) رواه أبو داود (4263)، «الصحيحة» (975).(2) رواه أحمد (26679)، والتِّرمذي (3522)، «الصَّحيحة» (2091).(3) رواه مسلم (2867).(4) رواه أحمد (3484)، والتِّرمذي (3233) عن ابن عبَّاس، «صحيح التَّرغيب» (408).(5) رواه مسلم (118).(6) رواه مسلم (2948) عن معقل بن يسار.(7) رواه البخاري (6037) ومسلم (157).( رواه البخاري (6502).(9) ينظر لمزيد الفائدة حول نسبة التردد إلى الله سبحانه «مجموع الفتاوى» (18/129ـ135) فإنه نفيس.(10) رواه التِّرمذي (2516) وهو صحيح.(11) رواه الحاكم (318)، «صحيح التَّرغيب» (40).(12) رواه أبو داود (4246)، وهو حسن.(13) رواه مسلم في مقدِّمة الصَّحيح.(14) رواه ابن سعد في «الطَّبقات» (7/166).(15) رواه البخاري (1469)، ومسلم (1053).(16) رواه التِّرمذي (2396)، وابن ماجه (4031)، «الصَّحيحة» (146).(17) رواه الطَّبراني في «الكبير» (289)، والمروزي في «السُّنَّة»، «الصَّحيحة» (494).(18) «مفتاح السعادة» (1/443).(19) رواه مسلم (144).(20) انظر «شرح النَّووي على مسلم» و«النِّهاية في غريب الحديث والأثر».(21) رواه البخاري (3601)، ومسلم (2886) واللَّفظ له.(22) رواه البيهقي (20767)، وأبو يعلى (4256)، «الصَّحيحة» (1795).(23) رواه ابن أبي شيبة (37177)، والبيهقي في «الشُّعب» (10371).(24) رواه البخاري (19).(25) رواه أحمد (19662)، وأبو داود (4262)، صحيح.(26) «النِّهاية في غريب الحديث والأثر».(27) رواه أحمد (19875)، وأبو داود (4319)، «صحيح الجامع» (6301).(28) رواه البخاري (3606، 7084)، ومسلم (1847).(29) «فتح الباري» (13/46).(30) نقل كلامه هذا والَّذي يأتي بعده ابن حجر في «فتح الباري» (13/47).(31) يراجع كتاب الإمارة من «صحيح الإمام مسلم» فقد أودع فيه المهمَّ من أخبار الباب.(32) رواه أحمد (17144، 17145)، وأبو داود (4607)، والتِّرمذي (2676)، وابن ماجه (42)، «صحيح الجامع» (2549).(33) وانظر كلام الطبري في «فتح الباري» (2/463).