لا نكــاح إلا بــوليّلا نكــاح إلا بــوليّ
لا نكــاح إلا بــوليّ
لا نكــاح إلا بــوليّ
لا نكــاح إلا بــوليّ
لا نكــاح إلا بــوليّ
لا نكــاح إلا بــوليّ
بسم الله الرحمن الرحيم
لا نكــاح إلا بــوليّ
الحمدلله وحده والصلاةوالسلام على من لانبي بعده ،
أما بعد : فقد اطلعت على مقال الكاتب نجيب اليماني ، الذي ردّ فيه على الشيخ الزنداني في مسألة نكاح المرأة من غير ولي ، وقد رأيته كسائر مقالاته ، ليس فيه إلا حشو الكلام ، وتكثير المراجع من غير فائدة ، فقد ذكر اختلاف العلماء في اشتراط الولي لصحة النكاح ، لكنه أحال القراء إلى عدة كتب للأحناف ، وكتاب واحد للمالكية . ثم قال " وسبب اختلافهم أنه لم تأت آية ولا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح ، فضلاً عن أن يكون في ذلك نص ، بل إن الآيات والسنن التي جرت العادة على الاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة " اهـ .
قلت : ما هكذا تورد ياسعد الإبل !
وكان ينبغي أن تسوق المذاهب في المسألة من مصادرها ، ثم تذكر أدلة كل مذهب ، حيث يتمكن القارئ من فهم المسألة ، ويختار لنفسه إن كان من أهل الاختيار .
وقد سبق أن ذكرت طريقة الأستاذ نجيب في تناوله لمســائل الفقه ، في البحث السابق : حواجز النساء في المساجد .
وسأذكر للقراء الكرام مذاهب الأئمة وأدلتهم باختصار ، حتى يكونوا على بينة من الأمر ، ولئلا يغتروا بمقالة الأستاذ نجيب وتهويلاته التي دأب عليها في سائر مقالاته .
قال في شرح القدير (( قوله " وينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها ، وإن لم يعقد عليها ولي بكراً كانت أو ثيباً عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله في ظاهــر الــرواية " ، لقوله عليه السلام " الأيم أحق بنفسها من وليها " . والأيم اسم لامرأة لا زوج لها ، بكراً كانت أو ثيباً ، عند أهل اللغة .
وقال مالك والشافعي رحمهما الله ، لا ينعقد بعبارتها أصلاً ، سواء زوجت نفسها ، أو بنتها ، أو أمتها ، أو توكلت بالنكاح ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال عليه السلام " لا تنكح المرأة المرأة ، ولا المرأة نفسها ، إنما الزانية هي تنكح نفسها " .
وأما من شرط الولي فاستدل بقوله تعالى { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } .
وقال الشافعي رحمه الله ، هذه الآية أبين آية في كتاب الله تعالى تدل على أن النكاح لا يجوز بغير ولي ، لأنه نهى الولي عن المنع وإنما يتحقق المنع منه إذا كان الممنوع في يده .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام قال " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها لا وكس ولا شطط ، فإن أبى الولي ، فالسلطان ولي من لا ولي له " .
وقال عليه السلام " لا نكاح إلا بولي " .
وأما من جوز النكاح بغير ولي فاستدل بقوله تعالى { فلا جناح عليهن فيما فعلن في أنفسهن } وقوله تعالى { حتى تنكح زوجاً غيره } وقوله تعالى { أن ينكحن أزواجهن } .
أضاف العقد إليهن في هذه الآيات ، فدل على أنها تملك المباشرة . والمراد بالعضل : المنع حبساً ، بأن يحبسها في بيت ويمنعها من التزوج ... " إلى أن قال " وأما حديث عائشة رضي الله عنها فلا نعمل به ، لأن عائشة رضي الله عنها هي التي روت ، وقد زوجت بنت أخيها عبدالرحمن وهو غائب .
وعمل الراوي بخلاف ما روى يبطل الرواية ، لما عرف في أصول الفقه . ومداره على الزهري ، وقد أنكره .
على أنه مخالف للنص فيردّ ، لأن الله تعالى أضاف العقد إليهن في غير موضع . ولا متمسك له بقوله عليه السلام " لا نكاح إلا بولي " ، لأن هذا نكاح بولي ، لأنها صارت ولية بنفسها بعد البلوغ عن عقل ، كالرجل ، على أنه محمول على أمة زوجت نفسها بغير إذن مولاها ، وصغيرة ، ومجنونة ، أو على نفي الكمال ، توفيقاً بين الحديثين )) اهـ .
قلت : وإنما أطلت في نقل كلام الأحناف من أشهر كتبهم ، حتى أبين للقارئ أن الذين رأوا أن النكاح لا يصح إلا بولي استدلوا بأدلة صريحة جداً ، وهي أقوى وأظهر من أدلة الأحناف الذين أجازوا النكاح بغير ولي .
وليعلم بأن الأحناف أنفسهم مختلفون في هذه المسألة ، فقد ذكر صاحب الهداية قبل ذلك أن أبا حنيفة وأبا يوسف في ظاهر الرواية عنه أجازا نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها بدون ولي ، وفي رواية أخرى عن أبي يوسف أن النكاح لا ينعقد إلا بولي .
وعند محمد بن الحسن ينعقد نكاحها موقوفاً على إذن الولي .
قلت : فصار في مذهب الأحناف ثلاثة أقوال :
الأول : صحة النكاح بغير ولي .
الثاني : صحته موقوفاً على إذن الولي .
الثالث : عدم صحته .
وأما الجمهور فيرون عدم صحة النكاح بدون ولي ، واستدلوا عليه بالقرآن وبنصوص الأحاديث الصريـحة في ذلك .
قال ابن قدامة في المغني [ 9/ 345 ] في شرح قول الخرقي " ولا نكاح إلا بولي وشاهدين من المسلمين " (( في هذه المسألة أربعة فصول :
أحدها : أن النكاح لا يصح إلا بولي ، ولا تملك المرأة تزويج نفسها ولا غيرها ، ولا توكيل غير وليّها في تزويجها . فإن فعلت ، لم يصح النكاح . روي هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم .
وإليه ذهب سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبدالعزيز وجابر بن زيد والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وابن المبارك وعبيدالله العنبر ي والشافعي وإسحاق وابو عبيد .
وروي عن ابن سيرين ، والقاسم بن محمد ، والحسن بن صالح ، وأبي يوسف : لا يجوز لها ذلك بغير إذن الولي ، فإن فعلت كان موقوفاً على اجازته . وقال أبو حنيفة لها أن تزوج نفسها وغيرها ، وتوكل في النكاح .... )) الخ .
قلت : وسنذكر بعد قليل الأدلة التي استدل بها ابن قدامة .
وقال ابن عبدالبر في التمهيد [ 19/84 – 85 ] (( في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " الأيم أحق بنفسها من وليها " ، دليل على أن للولي حقاً في إنكاح وليته .
وقد اختلف العلماء في هذا المعنى ، فقال منهم قائلون : لا نكاح إلا بولي ، ولا يجوز للمرأة أن تباشر عقد نكاحها بنفسها دون وليها ، ولا أن تعقد نكاح غيرها .
وممن قال هذا : مالك ، والشافعي ، وسفيان الثوري ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وابن المبارك ، وعبيدالله بن الحسن ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، والطبري .
وروي ذلك عن : عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، .
وهو قول : سعيد بن المسيب ، والحسن ، وعمر بن عبدالعزيز ، وجابر بن زيد أبي الشعثاء .
وخالف هؤلاء : أهل الرأي من الكوفيين ، وطائفة من التابعين ، وكلهم يقول : لا ينبغي أن ينعقد نكاح بغير ولي ... )) اهـ .
قلت : ثم ذكر ابن عبدالبر أدلة الفريقين ، بنحو ما ذكره ابن قدامة .
وانظر ما قاله الشافعي في الأم [ 5/12 ] حيث احتج على ذلك بآية { ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } , وقال (( ولا أعلم الآية تحتمل غيره ، لأنه إنما يؤمر بأن لا يعضل المرأة من له سبب إلى العضل ، بأن يكون يتم به نكاحها من الأولياء .
والزوج إذا طلقها ، فانقضت عدتها ، فليس بسبيل منها فيعضلها ، وإن لم تنقض عدتها فقد يحرم عليها أن تنكح غيره ، وهو لا يعضلها عن نفسه . وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقاً .. )) .
ثم قال الشافعي (( وجاءت السنة بمثل معنى كتاب الله عز وجل .
أخبرنا مسلم وسعيد وعبدالمجيد عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ، فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل ، فإن أصابها فلها الصداق بما استحل من فرجها " ... )) .
ثم ذكر الشافعي أثرين عن العمرين ، ابن الخطاب ، وابن عبدالعزيز ، في رد نكاح من زوجت نفسها بغير ولي .
ثم قال (( فأي امرأة نكحت بغير إذن وليها فلا نكاح لها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فنكاحها باطل " )) اهـ . باختصار .
و قال صاحب المهذب ، في بيان مذهب الشافعية " لا يصح النكاح إلا بولي ، فإن عقدت المرأة لم يصح " . انظر المجموع [ 16/146 ] .
وقال ابن حزم في المحلى [ 9/451 ] " ولا يحل للمرأة نكاح ، ثيباً كانت أو بكراً ، إلا بإذن وليها " .
ثم شرع في ذكر الأدلة على ذلك ، من القرآن والسنة ، وأجاب عن اعتراضات الأحناف عليها .
وقال ابن تيمية " الذي عليه العلماء أنه " لا نكاح إلا بولي " و " أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل " ، وكلا هذين اللفظين مأثور في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم .."
إلى أن قال " ولهذا قال من قال من السلف : إن المرأة لا تنكح نفسها ، وإن البغي هي التي تنكح نفسها .
لكن إن اعتقد هذا نكاحاً جائزاً كان الوطء فيه وطء شبهة ، يلحق الولد فيه ، ويــرث أباه . وأما العقوبة ، فإنهما يستحقان العقوبة على مثل هذا العقد " اهـ .
انظر مجموع الفتاوى [ 32/102 – 103 ] .
وذكر ابن تيمية في موضع آخر أيضاً أن اشتراط الولي مما دل عليه القرآن في أكثر من موضع ، وكذا السنة ، وقال " وهو عادة الصحابة ، إنما كان يزوج النساءَ الرجالُ ، لا يعرف أن امرأة تزوج نفسها .
وهذا مما يفرق فيه بين النكاح ومتخذات أخدان ، ولهذا قالت عائشة : لا تزوج المرأة نفسها ، فإن البغي هي التي تزوج نفسها " اهـ . انظر المجموع [ 32/131 ] .
واحتج ابن القيم في زاد المعاد [ 5/92 ] بالأحاديث الصريحة في بطلان النكاح بغير ولي .
وقال الشوكاني (( لما أمر الله سبحانه بإنكاح النساء ، كان أولياء المرأة ممن دخل في هذا الخطاب دخولاً أولياً ، فكانوا أحق بإنكاحها من هذه الحيثية .
ثم جاءت السنة الصحيحة بأنه " لا نكاح إلا بولي " ، وأن النكاح بغير ولي باطل . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الأولياء " إذا اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له " )) .
ثم قال الشوكاني (( وقد ذهب إلى اعتبار الولي جمهور السلف والخلف ، حتى قال ابن المنذر : إنه لا يُعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك )) . انظر السيل الجرار [ 2/259 ] .
وقال الصنعاني في سبل السلام [ 3/992 ] في شرح حديث أبي هريرة " لا تزوج الـمرأة المـرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها " (( فيه دليل على أن المرأة ليس لها ولاية في الإنكاح لنفسها ولا لغيرها ، فلا عبارة لها في النكاح إيجاباً ولا قبولاً ، فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا غيره ، ولا تزوج غيرها بولاية ولا بوكالة ، ولا تقبل النكاح بولاية ولا وكالة . وهو قول الجمهور .
وذهب أبو حنيفة إلى تزويج العاقلة البالغة نفسها وابنتها الصغيرة ، وتــتوكل عن الغير .. )) ا هـ .
ثم ذكر الصنعاني أدلة الجمهور على اشتراط الولي ، وإبطال النكاح بدونه .
وقال صديق حسن خان في الروضة الندية [ 2/11 ] بعد أن سرد بعض الأحاديث السابقة (( أقول : الأدلة الدالة على اعتبار الولي ، وأنه لا يكون العاقد سواه ، وأن العقد من المرأة لنفسها بدون إذن وليها باطل ، قد رويت من طريق جماعة من الصحابة ، فيها الصحيح والحسن وما دونهما ، فاعتباره متحتم )) . اهـ .
قلت : وقد استدل الجمهور بأدلة صحيحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة على اشتراط الولي في النكاح ، ومنها :
الدليل الأول
قول الله تعالى { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } [ الآية 232 البقرة ] ، وقد تقدم قول الشافعي إن هذه الآية أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقاً )) .
وقال ابن عبدالبر في التمهيد [ 19/90 ] " هذا أصح شيء وأوضحه في أن للولي حقاً في الإنكاح ، ولانكاح إلا به ، لأنه لولا ذلك ما نهي عن العضل ، ولاستغني عنه " .
قلت : وقد اعترض الأحناف على الاستدلال بهذه الآية باعتراضات ، منها :
أ – أن الآية أضافت العقد إليهن في قوله { فلا تعضلوهن أن ينكحن } .
فدل على أنها تملك مباشرة العقد ، والمراد بالعضل المنع حبساً ، بأن يحبسها في بيت ويمنعها من التزوج .
ب – أو : هذا خطاب للأزواج ، لا للأولياء ، لافتتاح الآية بذكرهم ، فقال { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } ، والمعنى : أن من طلق امرأته وانقضت عدتها ، فليس له أن يمنعها من التزوج بزوج آخر . انظر فتح القدير [ 3/159 ] .
وأجاب الجمهور على هذه الاعتراضات بأن :
أ – سبب نزول الآية صريح في أن الخطاب للأولياء ، لأنها نزلت في معقل بن يسار حين زوّج أخته من رجل ، ثم طلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يـخطبها ، فقال معقل " لا والله لا تعود إليك أبداً " فأنزل الله الآية ، فقال معقل " الآن أفعل يا رسول الله " . رواه البخاري [ 5130 ] .
وقد ذكر الأئمة ومنهم الشافعي ، أن الآية صريحة في اعتبــار الولي وإلا لما كان لعضله معنى . قال الصنعاني " فلو كان لها تزويج نفسها لم يعاتب أخاها على الامتناع ، ولكان نزول الآية لبيان أنها تزوج نفسها . وبسبب نزول الآية يعرف ضعف قول الرازي : إن الضمير للأزواج ، وضعف قول صاحب نهاية المجتهد : إنه ليس في الآية إلا نهيهم عن العضل ، ولا يفهم منه اشتراط إذنهم في صحة العقد لا حقيقة ولا مجازاً ، بل قد يفهم منه ضد هذا ، وهو أن الأولياء ليس لهم سبيل على من يلونهم . اهـ .
ويقال عليه : قد فهم السلف شرط إذنهم في عصره صلى الله عليه وسلم ، وبادر من نزلت فيه إلى التكفير عن يمينه والعقد .
ولو كان لا سبيل للأولياء لأبان الله تعالى غاية البيان ، بل كرر تعالى كون الأمر إلى الأولياء في عدة آيات ، ولم يأت حرف واحد أن للمرأة إنكاح نفسها .
ودلت أيضاً على أن نسبة النكاح إليهن في الآيات مثل { حتى تنكح زوجاً غيره } ، مراد به الإنكاح بعقد الولي ، إذ لو فهم صلى الله عليه وسلم أنها تنكح نفسها ، لأمرها بعد نزول الآية بذلك ، ولأبان لأخيها أنه لا ولاية له ، ولم يبح له الحنث في يمينه ، والتكفير " اهـ . سبل السلام [ 3/992 ] .
قلت : جاء في سنن أبي داود [ 2087 ] ، في آخر حديث معقل " قال : فكفّرت عن يميني فأنكحتها إياه "
ب – وأما افتتاح هذه الآية بذكر الأزواج ، بقوله تعالى { وإذا طلقتم } ، فهو أسلوب عربي معروف ، فلا يمنع أن يفتتح بذكر الأزواج ثم يوجه الخطاب إلى الأولياء ، وسبب النزول المذكور دل على ذلك ، ومن ذلك قوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } فخاطب المتبايعين ، ثم قال تعالى { ممن ترضون من الشهداء } ، فخاطب الحكام . وهذا كثير في لغة العرب . انظر التمهيد [ 19/85 ] .
الدليل الثاني
قوله تعالى { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } . الآية [ البقرة 222 ] .
الدليل الثالث
قولــه تعالى { و أنكحوا الأيامـى منكم والصــالحين من عبــادكم وإمــائكم } . الآيــة [ النور 32 ] .
قال سيد سابق " ووجه الاحتجاج بالآيتين : أن الله تعالى خاطب بالنكاح الرجال ، ولم يخاطب به النساء " . انظر فقه السنة [ 2/126 ] .
قلت : وقد استدل بهاتين الآيتين ، وبالآية السابقة أيضاً ، البخاري في صحيحه ، في كتاب " النكاح " ، باب " من قال : لا نكاح إلا بولي " .
وانظر الفتح [ 9/182 ] ، وانظر كذلك التمهيد لابن عبدالبر [ 19/94 ] .
الدليل الرابع
حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فإن دخل بها فالمهر لها بما استحل من فرجها ، فإن اشتجروا ، فالسلطان ولي من لا ولي له " .
رواه أبــو داود [ 2083 ] والتــرمذي [ 1102 ] وابن مــاجه [ 1879 ] وصــححه ابن حبــان [ 1248 ] والحاكم في المستدرك [ 2/168 ] ورواه البيهقي في سننه [ 7/105 ] .
قلت : وقد حسن الترمذي هذا الحديث وقال (( والعمل في هذا الباب على حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لا نكاح إلا بولي " عند أهل العلم ، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبدالله بن عباس ، وأبو هريرة ، وغيرهم .. ))
إلى أن قال (( وبهذا يقول سفيان الثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وعبدالله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق )) اهـ .
انظر الآثار عن الصحابة والتابعين في مصنف عبدالرزاق [ 6/195 – 202 ] .
وقد أعل الأحناف هذا الحديث بثلاث علل :
الأولى : أن مدار الحديث على الزهري ، وقد أنكر ما رواه ، لما سئل عنه .
الثانية : أن الزهري أجاز أن تتزوج المرأة بغير ولي .
الثالثة : أن عائشة رضي الله عنها خالفت ما روته ، حيث زوجت بنت أخيها عبدالرحمن ، وهو غائب ، وعمل الراوي بخلاف ما روى يبطل الرواية ، كما تقرر في أصول الفقه .
وانظر فتح القدير [ 3/159 ] والمحلى لابن حزم [ 9/452 ] .
وقد أجاب الجمهور على هذه العلل بأجوبة ، وإليك التفصيل :
أما جوابهم عن العلة الأولى ، فقد قال ابن عبدالبر " روى هذا الحديث إسماعيل بن علية عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة ، كما رواه غيره .
وزاد ( أي ابن علية ) عن ابن جريج قال : فسألت عنه الزهري فلم يعرفه " .
قال ابن عبدالبر " ولم يقل هذا أحد عن ابن جريج غير ابن علية ، وقد رواه عنه جماعة لم يذكروا ذلك " .
قلت : يقصد ابن عبدالبر أن هذا الحديث قد رواه جمع من الحفاظ ، سوى إسماعيل بن علية ، من طريق ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة . ولم يذكر أحد من أولئك الرواة الحفاظ مثل ما ذكره إسماعيل بن علية عن ابن جريج من إنكار الزهري لهذا الحديث .
ثم قال ابن عبدالبر " ولو ثبت هذا عن الزهري ، لم يكن في ذلك حجة ، لأنه قد نقله عنه ثقات ، منهم : سليمان بن موسى ، وهو فقيه ثقة إمام ، وجعفر بن ربيعة ، والحجاج بن أرطاه .
فلو نسيه الزهري ، لم يضره ذلك شيء ، لأن النسيان لا يعصم منه إنسان . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نسي آدم فنسيت ذريته " . وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسى ، فمن سواه أحرى أن ينسى . ومن حفظ فهو حجة على من نسي .
فإذا روى الخبر ثقة عن ثقة ، فلا يضره نسيان من نسيه ، هذا لو صح ما حكى ابن علية عن ابن جريج .
فكيف وقد أنكر أهل العلم ذلك من حكايته ، ولم يعرجوا عليه ... " انظر التمــهيد [ 19/86 ] .
قلت : مراد ابن عبدالبر ، أنه لو فرض أن الراوي ، وهو الزهري ، الذي قد حدّث بحديث ، سمعه منه ثقات ، ثم نسي هو ما حدثهم به فإننا لا نعوِّل على نسيانه ، بل نأخذ بما حفظه الثقات ، لأن من حفظ حجة على من نسي ، لا العكس .
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نسي بعض الأمور ، وذكره أصحابه بها .
فإذا جاز على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، فمن عداه أولى .
وهذا كله على فرض أن الزهري أنكر الرواية ونسيها .
فكيف إذا علمنا أنه لم يثبت أن الزهري أنكر الرواية ، وإنما أخطأ بعض من حدّث عنه أنه نسيها ، فالرواية ثابتة على كل الأحوال .
وقد أطال الحاكم في المستدرك [ 2/168 – 169 ] في الانتصار لهذا الحديث وتصحيحه ، ومما قاله " فقد صح وثبت بروايات الأئمة الأثبات سماع الرواة بعضهم من بعض ، فلا تعلل هذه الروايات بحديث ابن علية وسؤاله ابن جريج عنه ، وقوله : إني سألت الزهري عنه فلم يعرفه ، فقد ينسى الثقة الحافظ الحديث بعد أن حدث به ، وقد فعله غير واحد من حفاظ الحديث " .
ثم ذكر الحاكم أن الإمام أحمد أنكر ما روي عن ابن جريج من أن الزهري سئل عن الحديث فأنكره أو نسيه .
قال أحمد " إن ابن جريج له كتب مدونة ، وليس هذا في كتبه " .
وذكر الحاكم أيضاً نـحو ذلك عن الإمام ابن معين ، حيث قال " ليس يقول هذا إلا ابن علــية ، وإنما عرض ابن علية كتب ابن جريج على عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد فأصلحها له ... " .
قلت : ومثله قال البيهقي في السنن [ 2/105 – 106 ] ، فقد أخرج الحديث وانتصر له ونقل عن الإمام أحمد وابن معين مثل ما نقل الحاكم ، وزاد في كلام ابن معين " وضعف يحي بن معين رواية إسماعيل عن ابن جريج جداً " اهـ .
وانتصر لتصحيح هذا الحديث جمع من الأئمة وردوا رواية ابن علية عن ابن جريج ، ومنهم الترمذي وابن حبان وابن عدي والدارقطني وابن الجوزي ، وغيرهم . انظر التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر [ 3/ 157 ] .
وقال ابن حزم في المحلى [ 9/452 – 453 ] ، بعد أن نقل نـحو ما تقدم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه نسي آية ، ذكّره بها رجل كان يقرأ بها في المسجد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " رحمه الله لقد ذكرني آية كنت أنسيتها " .
فقال ابن حزم " فإذا صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي آية من القرآن ، فمن الزهري ؟ ... ، وقد نسي أبو هريرة حديث " لا عدوى " ، ونسي الحسن حديث " من قتل عبده " ، ... فكان ماذا ؟
لا يعترض بهذا إلا جاهل ، أو مدافع للحق بالباطل !
ولا ندري في أي القرآن ، أم في أي السنن ، أم في أي حكم العقول وجدوا ، أن : من حدّث بحديث ، ثم نسيه ، أن حكم ذلك الخبر يبطل ؟ .. " اهـ .
قلت : قد تبين لك مذهب المحدثين في مسألة نسيان الراوي للحديث ، وأنه لا يطعن في صحته ، لجواز النسيان على بني آدم .
وللفقهاء كلام في هذه المسألة ذكروه في كتب الأصول ومثلوا لها بهذا الحديث .
قال الغزالي في المستصفى [ 1/167 ] (( مسألة إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار جاحد قاطع بكذب الراوي ولم يعمل به لم يصر الراوي مجروحاً .. ))
إلى أن قال (( أما إذا أنكر إنكار متوقف ، وقال : لست أذكره ، فيعمل بالخبر ، لأن الراوي جازم أنه سمعه منه ، وهو ليس بقاطع في تكذيبه ، وهما عدلان ، فصدقهما إذاً ممكن .
وذهب الكرخي إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطل الحديث ، وبنى عليه اطَّراح خبر الزهري " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها " .. ))
إلى أن قال الغزالي (( وقد ذهب إلى العمل به مالك والشافعي وجماهير المتكلمين ، وهذا لأن النسيان غـالب على الإنســان ، وأي مُحدّث يحفظ في حينه جمــيع مــا رواه في عمره ؟ .. )) اهـ . باختصار .
قلت : وقد أطلت كثيراً في نقل جواب الأئمة الحفاظ على تلك العلة ، وهي كون الزهري ، أحد رواة الحديث ، قد أنكر ما رواه ، أو نسيه بعد ما حدث به .
أردت بذلك أن أنبه القارئ الكريم أن مثل هذه المسائل لا يصلح أن يقحم الصحفيون ، ولا أنصاف الباحثين ، أنفسهم في الخوض فيها ، ولا ينبغي لهم أبداً أن يطعنوا في الروايات بمجرد أنهم قرأوا في كتاب ما من كتب المذاهب ، أن تلك الرواية ضعيفة أو محتملة ، هذا لو فرض أن أولئك الصحفيين قد بحثوا بأنفسهم !
ولنرجع إلى الجواب عن العلة الثانية ، وهي : أن الزهري أفتى بغير ما روى ، فأجاز للمرأة أن تتزوج من دون ولي . والعلة الثالثة أيضاً مثلها ، وهي أن عائشة رضي الله عنها قد أنكحت ابنة أخيها ، وكان غائباً .
والجواب على هاتين العلتين مقرر في الأصول ، وهو : إذا خالف الراوي ما رواه ، فهل يؤخذ بروايته ، أم برأيه ومذهبه ؟
والمسألة مفصلة في كتب أصول الفقه ،
قال أبو الخطاب في التمهيد في أصول الفقه [ 3/193 – 194 ] " إذا روى الصحابي شيئاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وخالفه ، لم يدل ذلك على ضعف الخبر ، ولا على نسخه ، وهذا كخبر عائشة رضي الله عنها في ولاية المرأة لعقد النكاح , وبه قال الشافعية .
وقال الحنفية : يسقط العمل بالحديث , وعن أحمد نـحوه .
لنا : أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم حجة يجب العمل بها , فإذا ترك الراوي العمل , احتمل أن يكون قد نسي الخبر , أو تأوله , أو أن ذلك قد نسخ , فوقف فعل الراوي حتى يتبين , وبقي قول الرسول صلى الله عليه وسلم , فوجب المصير إليه .
احتجوا : بأن الصحابي مع فضله لا يـجوز مخالفته للرسول صلى الله عليه وسلم , فإذا عمل بـخلاف الخبر , دل على أنه علم نسخه .
الجواب : أنه يحتمل ذلك , ويحتمل ما ذكرنا , فوقف , فلا يترك ما هو حجة لغير حجة .
ثم لو كان عرف ما نسخه لذكره ورواه , ولو مرة في العمر , لأنه لا يظن به كتمان العلم , فلما لم يذكر , دل على أنه نسيه " ا هـ .
و قال البيضاوي في نهــاية الســول [ 3/167 ] " عمل الراوي على خلاف ما رواه لا يكون قدحاً في ذلك الحديث ، كما نقله الإمام وغيره عن الشافعي ، واختاره هو وأتباعه والآمدي .
ونقل عن الأكثرين أنه يقدح ... " اهـ .
وقد فصل بعضهم بين مخالفة الصحابي لما رواه بحسب دلالة الحديث ، فإن كانت ظاهرة في معنى ، وحمل الصحابي الحديث على غير ظاهره ، فالاعتبار بالظاهر لا بما رآه الصحابي .
قال ابن الحاجب " إن حمله على غير ظاهره ، فالأكثر على الظهور ، وفيه قال الشافعي : كيف أترك الحديث بقول من لو عاصرته لحججته .
فلو كان نصاً ، فيتعين نسخه عنده ، وفي العمل نظر " .
قال الشارح " .. إن كان ظاهراً في معنى ، وحمله على غير ظاهره فالأكثر على أنه يعتبر ظهوره ، فيحمل على ظاهره .. "
إلى أن قال الشارح " وأما لو كان نصاً ، فيتعين أنه قد نسخ عنده بناسخ ، اطلع هو عليه ورآه ناسخاً ، وفي العمل نظر ، فيمكن أن يقال : يعمل بالخبر ، إذ ربما ظن ناسخاً ، ولم يكن .
وأن يقال : يعمل بالناسخ ، لأن خطأه فيه بعيد .. " اهـ . انظر مختصر ابن الحاجب وبهامشه حاشية التفتازاني [ 2 / 72 ] .
قلت : وهذا كله فيما لو كان المخالف لما رواه هو الصحابي ، أما من دون الصحابي فلا يعتد بمخالفته لما رواه .
وقد رأيت أن المسألة فيها خلاف بين علماء الأصول ، ولولا خشية الإطالة لنقلت أجوبتهم واعتراضاتهم .
وقد علمت أن المحدثين ، وأكثر الفقهاء ، قد صححوا الحديث واحتجوا به ، أعني حديث عائشة رضي الله عنها ، ولم يلتفتوا إلى رأيها وفتواها .
هذا كله على فرض أن عائشة رضي الله عنها قد خالفت ما روته ، فكيف وهي لم تـخالفه ، بل وافقته وعملت بمقتضاه ؟
قال ابن حزم " وأما اعتراضهم بأنه صح عن عائشة وعن الزهري رضي الله عنهما أنهما خالفا ما رويا من ذلك ، فكان ماذا ؟ إنما أمرنا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وقامت حجة العقل بوجوب قبول ما صح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبسقوط اتباع قول من دونه عليه الصلاة والسلام .. " .
ثم روى ابن حزم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكحت رجلاً من بني أخيها جارية من بني أخيها ، فضربت بينهم ستراً ، ثم تكلمت ، حتى إذا لم يبق إلا النكاح أمرت رجلاً فأنكح ، ثم قالت : ليس إلى النساء النكاح " .
قال ابن حزم " فصح يقيناً بهذا رجوعها عن العمل الأول إلى ما نبهت عليه ، من أن نكاح النساء لا يـجوز " اهـ . انظر المحلى [ 9/453 – 454 ] .
وقد أخرج البيهقي في السنن [ 7/112 ] رواية عائشة هذه التي ذكرها ابن حزم من طريق القاسم قال " كانت عائشة رضي الله عنها تـخطب إليها المرأة من أهلها ، فتشهّد ، فإذا بقيت عقدة النكاح قالت لبعض أهلها : زوّج : فإن المرأة لا تلي عقد النكاح " .
قال البيهقي " هذا الأثر يدل على أن الذي أخبرنا أبو نصر بن قتادة ... " ثم ساق الإسناد إلى عائشة رضي الله عنها " أنها زوجت حفصة بنت عبدالرحمن من المنذر بن الزبير ، وعبدالرحمن غائب بالشام ، فلما قدم عبدالرحمن قال : مثلي يصنع هذا به و يُفتاتُ عليه ، فكلمت عائشة رضي الله عنها المنذر بن الزبير ، فقال المنذر : فإن ذلك بيد عبدالرحمن ، فقال عبدالرحمن : ما كنت لأرد أمراً قضيته ، فقرت حفصة عند المنذر ، ولم يكن ذلك طلاقاً .. " .
قال البيهقي " إنما أريد به أنها مهدت تزويـجها ، ثم تولى عقد النكاح غيرها فأضيف التزويج إليها لإذنها في ذلك وتمهيدها أسبابه ، والله أعلم " اهـ .
قال الحافظ في الفتح [ 9/186 ] بعد أن ذكر أثر عائشة في تزويـجها لابنة أخيها عبدالرحمن وهو غائب (( وأجيب بأنه لم يرد في الخبر التصريح بأنها باشرت العقد ، فقد يحتمل أن تكون البنت المذكورة ثيباً ، ودعت إلى كفء ، وأبوها غائب ، فانتقلت الولاية إلى الولي الأبعد أو إلى السلطان .
وقد صح عن عائشة أنها " أنكحت رجلاً من بني أخيها ، فضربت بينهم بستر ، ثم تكلمت ، حتى إذا لم يبـق إلا العقـد أمـرت رجلاً فأنكح ، ثم قالت : ليس إلى النساء نكاح " . أخرجه عبدالرزاق )) اهـ .
قلت : ومن عجائب الأحناف أنهم عمدوا إلى تأويل حديث عائشة " أيما امرأة نكحت " بتأويل غريب لا وجه له .
حيث زعموا أنه مخصوص بالأمة أو المكاتبة أو الصغيرة .
وقد رد عليهم الجمهور ، وسطروه في كتب الأصول في مبحث " التأويل " ، حيث ذكروا أمثلة لتأويلات الأحناف البعيدة ، وذكروا منها هذا المثال .
قال ابن النجار (( وتأويلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة نكــحت نفسها ..." الحديث . على الصغيرة والأمة والمكاتبة .
ووجْه بـُعْد هذا التأويل ، أن الصغيرة ليست بامرأة في لسان العرب . وقد ألْزِموا بسقوط هذا التأويل على مذهبهم ، فإن الصغيرة لو زوّجت نفسها ، كان العقد عندهم صحيحاً ، لا يتوقف على إجازة الولي .
فلما ألزموا بذلك فرّوا إلى حمله على الأمة ، فألزموا ببطلانه ، بقول النبي صلى الله عليه وسلم " فلها المهر " ، ومهر الأمة إنما هو لسيدها .
ففرّوا من ذلك إلى حمله على المكاتبة ، فقيل لهم هو أيضاً باطل ، لأن حمل صيغة العموم الصريحة وهي " أي " ، المؤكدة ب " ما " معها ، في قوله " أيما " ، على صورة نادرة لا تـخطر ببال المخاطبين غالباً ، في غاية البعد )) اهـ .
انظر شرح الكوكب المنير [ 3/467] .
الدليل الخامس
حديث أبي موسى الأشــعري رضي الله عنه أن رســول الله صلى الله عليه وسلم قـال " لا نكاح إلا بولي " .
رواه أبو داود [ 2085 ] والترمذي [ 1101 ] وأحمد [ 4/398 ] وصححه ابن حبان [ 1243 ] والحاكم [ 2/169 ] .
وقد اختلف في وصل هذا الحديث وإرساله ، ورجح الوصل كثير من المحدثين ، منهم الترمذي وابن حبان والحاكم .
وقد ذكر الحاكم في المستدرك الخلاف في الوصل والإرسال ، وأطال في ترجيح الوصــــل ، و قال " هذه الأسانيد كلها صحيحة " .
و قال " وقد وصله الأئمة المتقدمون .. وقد حكموا لهذا الحديث بالصحة .. " .
ثم نقل التصحيح عن عبدالرحمن بن مهدي وعلي بن المديني وأبي الوليد الطيالسي و محمد بن يحي وغيرهم .
ثم قال الحاكم " فقد استدللنا بالروايات الصحيحة ، وبأقاويل أئمة هذا العلم ، على صحة حديث أبي موسى ، بما فيه غنية لمن تأمله " .
ثم قال " وفي الباب عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس ومعاذ بن جبل وعبدالله بن عمر وأبي ذر الغفاري والمقــداد بن الأســود و عبدالله بن مســعود و جــابر بن عبدالله وأبي هريرة و عمران بن حصين و عبدالله بن عمرو والمسور بن مخرمة و أنس بن مالك رضي الله عنهم ، وأكثرها صحيحة .
وقد صحت الروايات فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : عائشة ، وأم سلمة ، و زينب بنت جحش رضي الله عنهم أجمعين " اهـ . المستدرك [ 2/170 – 172 ] .
قلت : وعلى فرض أن حديث أبي موسى هذا كان مرسلاً ، فإن المرسل قد قبله واحتج به أكثر الفقهاء ، ومنهم الأحناف ، فيلزمهم الأخذ بهذا الحديث على كل حال . انظر المستصفى للغزالي [ 1/107 ] وتدريب الراوي [ 1/128 ] .
وأما المحدثون ، فإنهم اختلفوا في الاحتجاج بالمرسل ، وقد احتج به أكثر المتقدمين ، وأما المتأخرون فهو عندهم من أقسام الضعيف ، كما هو مقرر في كتب المصطلح المتأخرة .
قال الحافظ ابن رجب " القول الثاني في المسألة : الاحتجاج بالمرسل ، وحكاه الترمذي عن بعض أهل العلم .. وقد قال أحمد في مراسيل النخعي : لا بأس بها .
وقال ابن معين : مرسلات ابن المسيب أحب إلي من مرسلات الحسن ، ومرسلات إبراهيم صحيحة ، إلا حديث : تاجر البحرين ، وحديث : الضحك في الصلاة ... " إلى أن قال ابن رجب " وقد استدل كثير من الفقهاء بالمرسل ، وهو الذي ذكره أصحابنا أنه الصحيح عن الإمام أحمد .. "
إلى أن قال " وقال أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة " وأما المراسيل ، فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى ، مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي ، حتى جاء الشافعي فتكلم فيه ، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره " .
ثم قال ابن رجب " وقد ذكر ابن جرير وغيره : أن إطلاق القول بأن المرسل ليس بحجة من غير تفصيل ، بدعة حدثت بعد المئتين .. " اهـ . باختصار من شرح العلل لابن رجب [ 1/294 – 320 ] .
وقال ابن عبدالبر ، في تعليقه على حديث أبي بردة عن أبيه أبي موسى " روى هذا الحديث شعبة والثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً .
فمن يقبل المراسيل يلزمه قبوله ، وقد مضى في صدر هذا الديوان ذكر من يقبلها ويحتج بها من العلماء ، ومن يأبى قبولها .
وأما من لا يقبل المراسيل ، فيلزمه أيضاً قبول حديث أبي بردة هذا ، لأن الذين وصلوه من أهل الحفظ والثقة .. " اهـ . انظر التمهيد [ 19 / 88 ] .
قلت : وقد تقدم من كلام الحاكم أن هذا الحديث " لا نكاح إلا بولي " قد رواه جمع من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وســمى منهم ثلاثة عشر صحابياً ، وقال " وأكثرها صحيحة " .
وانظر إرواء الغليل للألباني [ 6/238 – 243 ] .
الدليل السادس
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تزوج المرأة المرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " .
رواه ابن ماجه [ 1882 ] والبيهقي [ 7/110 ] .
وقد رواه البيهقي أيضاً موقوفاً على أبي هريرة .
الدليل السابع
حديث عائشة رضي الله عنها المشهور " أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنـحاء : فنكاح منها : نكاح الناس اليوم ، يخطب الرجل إلى الرجل وليّته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ... " الحديث ، وفيه قالت " فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله ، إلا نكاح الناس اليوم " .
رواه البخاري [ 5127 ] واحتج به على اشتراط الولي .
وقد استدل الجمهور بآثار كثيرة عن جمع من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وأم المؤمنين حفصة بنت عمر ، رضي الله عنهم .
انظر سنن البيهقي [ 7/111 – 112 ] والمحلى [ 9/454 ] وإرواء الغليل [ 6/245 -249 ] .
وقد تركت ذكرها ، واكتفيت بالإشارة إليها خوف الإطالة .
وأما الآثار عن التابعين فهي أيضاً كثيرة ، لكنها معارضة بآثــار أخرى عن بعض التابعين ، وقد ذكرها ابن عبدالبر في التمهيد [ 19/90 – 91 ] .
لكنه قال " فقد صرح الكتاب والسنة بأن " لا نكاح إلا بولي " ، فلا معنى لما خالفهما ، ألا ترى أن الولي نُهي عن العضل ، فقد أُمر بخلاف العضل – وهو التزويج – كما أن الذي نُهي عن أن يبخس الناس ، قد أمر بأن يوفي الكيل والوزن ، وهذا بيّن كثــير ، وبالله التوفيق " اهـ .
وانظر المحلى لابن حزم [ 9/455 – 458 ] حيث فصل في ذكر مذاهب القائلين بعدم اشتراط الولي ، وذكر اختلافهم في ذلك ، وردّ عليهم بالأدلة الصريحة المتقدمة ، وردّ عليهم كذلك بأن أقوالهم متناقضة ، وأنها تـخالف بعض أصولهم وتـخالف القياس أيضاً .
ومما قاله في ذلك " أما قول محمد بن الحسن وأبي يوسف ، فظاهر التناقض والفساد ، لأنهما نقضا قولهما : لا نكاح إلا بولي ، إذ أجازا للولي إجازة ما أخبرا أنه لا يجوز .
وكذلك قول أبي حنيفة ، لأنه أجاز للمرأة إنكاح نفسها من غير كفء ، ثم أجاز للولي فسخ العقد الجائز !
فهي أقوال لا متعلق لها بقرآن ولا بسنة ، لا صحيحة ولا سقيمة ، ولا بقول صاحب ، ولا بمعقول ، ولا قياس ، ولا رأي سديد .
وهذا لا يقبل إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي لا ينطق عن الهوى ، إلا عن الوحي من الخالق الذي لا يسأل عما يفعل .. " اهـ .
وقد أجاب الجمهور عن أدلة الأحناف ، ومنها حديث " الثيب أحق بنفسها " وقالوا : ليس معناه أنها تنكح نفسها ، بل فيه ما يدل على أن له حقاً معها ، لكنه لا ينكحها إلا من شاءت ، ولابد من أن يستأمرها . انظر المحلى [ 9/457 ] .
ولا يقال : فلان أحق من فلان بكذا ، إلا ولذاك فيه حق . انظر التمهيد [ 19/78 ] .
وأما الآيات التي أضافت إلى المرأة لفظ النكاح ، كقوله تعالى { حتى تنكح زوجاً غيره } ، ونـحوها ، فإنها لم تصرح بأن المرأة هي التي تباشر العقد بنفسها ، ثم إن معناها : تنكح بالشروط التي أمر الله بها ورسوله من الولي والصداق . وقد جاءت النصوص الأخرى موضحة لذلك الحكم ، ومبينة لما أجمل في الآيات ، كقوله تعالى { و أنكحوا الأيامى منكم } ، وكقوله { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } ، وكقوله { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } . وأكدتها نصوص السنة الصريحة في الحكم ، بما لا يدع فيه شكاً أو احتمالاً .
انظر المحلى [ 9/457 ] والتمهيد [ 19/96 – 97 ] وفتح الباري [ 9/187 ] .
وبعد ، فثمة أدلة أخرى استدل بها الجمهور على عدم صحة النكاح من دون ولي ، تركتها حتى لا أطيل أكثر مما أطلت .
وإنما أردت بيان المسألة للقارئ ، لئلا يغتر بتهويلات الكاتب نجيب اليماني ، أصلحه الله وهداه ، فإنه دائم التشغيب وإثارة البلبلة من دون تريث ، وليته بحث أولاً واستقصى المسألة إن كان أهلاً للبحث ، ولا أراه أهلاً لذلك .
وقد رأيت أخي القارئ ، كيف يتناول المسألة بطريقــة توحي بأن حجة مخالفيه ضعيفة ، مع أن حجتهم أقوى ، كما رأيت .
وقد بينت في ردي عليه في البحث السابق " حواجز النساء في المساجد " ، أن هذا الكاتب لا يفهم لغة الفقهاء ولا اصطلاحات العلماء ، ومع ذلك فإنه يحشر أنفه فيما لا قدرة له عليه ، وينصب نفسه مع الفقهاء المجتهدين ، وهو لا يعرف أبجديات الفقه والعلم .
بل لا يحسن حتى مجرد البحث ، ونقل الكلام من بطون الكتب بطريقة صحيحة .
ولعلك أخي القارئ ، إن كنت قرأت ذلك البحث السابق ، قد لحظت أن الكاتب هناك ، شدد في مسألة منع النساء من شهود الجماعات في المساجد ، وردّ قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها " لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد " ، ونقل كلام ابن حزم في ذلك .
مع أن قول عائشة رضي الله عنها ليس صريحاً في المنع ، لأنها لم تجزم بالحكم من نفسها ، بل قالت : لو رأى لمنع .
ومع أن المخالف للأستاذ نجيب لم يمنع النساء من المساجد أصلاً ، بل رأى حجبهن عن أعين الرجال بوضع حواجز أو مصليات مستقلة .
وهنا في هذه المسألة عكس الأستاذ نجيب المسألة ، وتناقض ، حيث طرح الأحاديث الكثيرة التي احتج بها الجمهور ، وعوّل على رأي أم المؤمنين عائشة ، وقد رأيت أنها قد وافقت الأحاديث فيما صح عنها ، وأن رأيها ذاك كان محتملاً ، ولم يكن صريحاً ، لكن الأستاذ ضرب بالأحاديث عرض الحائط ، ورجّح الأثر عليها .
هذا وأسأل الله تعالى أن يهدينا ويهدي سائر عباده إلى صراطه المستقيم ، وأن يفقهنا في دينه ، وأن يجعل ما علمناه حجة لنا لا علينا يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين