قصة أم سليم بنت ملحان رضى الله عنها
قصة أم سليم بنت ملحان رضى الله عنها
قصة أم سليم بنت ملحان رضى الله عنها
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم علي حبيب رب العالمين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين. أُنستنا لهذه الحلقة صحابية جريئة شجاعة صامدة صابرة يفيض الإيمان من كل ذرة من كيانها ليتدفق في أعماقها؛ دعوة إلى الإسلام ودفاعًا عنه هي باختصار امرأة لا كالنساء وأم لا كالأمهات، عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم: «دخلت الجنة فسمعت فيها خشفة أي صوت وحركة فإذا هي بالرميصاء»، امرأة أبي طلحة
من هي الرميصاء؟ من هو أبو طلحة؟
ماذا فعلت حتى يبشرها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة إنها أم سليم بنت ملحان النجارية الأنصارية واسمها سهلية وقيل رميلة وتلقب بالرميصاء أو الغميصاء. وقد اشتهرت بكنيتها أم سليم أكثر من اسمها ولقبها، علمت أم سليم بالإسلام رغم أنها لم ترى النبي صلى الله عليه وسلم لكنها سمعت عنه من مصعب بن عمير الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب لتعليم أهلها،عادت أم سليم بعد اليوم الذي اعتنقت فيه الإسلام وهي تشعر بانشراح لم تشعر به من قبل، انتظرت زوجها مالك بن النضر على أحر من الجمر لتدله على طريق النجاة والإيمان قبل أن يأتيه الموت الذي لا يعلمه أحد إلا الله، متى يكون؟ لم تتوقع أبدًا أن يرفض زوجها الإسلام، لكن مالك ابن النضر فعلها وأصر علي التمسك بدين آبائه وشركهم ووثنيتهم، حاولت أم سليم بشتى الوسائل وفي شتى الأوقات أن تقنع زوجها بما في الإسلام من روعة وهدى ولكن إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. كانت ذات مرة تتحدث إليه وهي تقول له: قال الله وقال رسول الله فترى في وجهه ثورة عظيمة وأسمعها كلام قاسيًا وصفع الباب مغضبًا وخرج من البيت بعد أن قال لها: إن لم تعودي إلى دين آبائك وأجدادك فلن ترى وجهي بعد اليوم
ما هذا الخيار القاسي؟ هي تحب زوجها حبًا جمًا، لكنها تحب دينها وربها ونبيها أكثر منه ومن ولديها ومن نفسها التي بين جنبيها، خيار صعب وقاسي، ولكن إن كان عليها أن تختار فلن تختار الفاني وتترك الباقي، لن تختار الغالي وتترك الأغلى؛ هو الله، -يا إخوة- هو الله من ذاق حلاوة حبه صار له أسيرًا. نرى من فتياتنا اليوم من تفرط برضا الله لترضي زوجها أو جارتها أو ابنها، تنسى أن «مَن التمَس رضا اللهِ بسخَطِ النَّاسِ رضِي اللهُ عنه وأرضى النَّاسَ عنه ومَن التمَس رضا النَّاسِ بسخَطِ اللهِ سخِط اللهُ عليه وأسخَط عليه النَّاسَ» (صحيح ابن حبان [276])
إذن لم تتردد أم سليم بل حسمت أمرها واختارت ربها على كل ما سواه، ورددت بصوت حزين قول الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3]، انشرح صدرها عندما قرأت هذه الآية فرفعت يديها ضارعة وقالت: "يا رب فوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، ففرج كربي يا أرحم الراحمين"، مرت شهور عديدة وأم سليم تترقب فيها اللحظة الذي يفتح فيها زوجها بيت الدار ويعود إليها وقد هداه الله فيلتم شمل العائلة من جديد، لكن الناعي حمل إليها خبر لم تكن تتوقعه فقد مات مالك بن النضر في الشام وذاب الأمل التي كانت تنتظره وتعيش عليه، حزنت أم سليم لموت زوجها وحزنت أكثر لأنه مات مشركًا. كان ولداها أنس، والبراء ما يزالان طفلين صغيرين نظرت إليها ورددت من بين دموعها: "اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها"، فرغت أم سليم نفسها لتربية هذين الولدين على الإيمان بالله وعلى مراقبته وكانت تلقنهما مبادئ الإسلام وتزرع فيهما قيمه السامية. عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة طار قلبها فرحًا لقدومه وكانت مع الأنصار الذين استقبلوه مهللين مكبرين وهم ينشدون: طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع وجب الشرك علينا ***ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا *** جئت بالأمر المطاع جئت شرفت المدينة *** مرحبًا يا خير داع قدم الأنصار في المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه، كل ما يمكن أن يقدموه المال والحماية والمعونة، تمنت أم سليم لو أنها تملك المال إذن لوضعته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لينفقه في سبيل الله، ولكن ماذا تفعل وهي لا تملك إلا ما يسد رمقها ورمق أطفالها، ومضت في ذهنها فكرة رائعة لا يعدم الإنسان الصادق وسيلة يحقق بها أهدافه ويبرهن على جدية دعواها وصدقها، ما هي الفكرة التي اهتدت لها أم سليم، أخذت ابنها أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان عمره ثمان سنوات وقيل عشر سنوات سلمت عليه
وقالت له: هذا ابني أنس يا رسول الله يخدمك ويقوم على حوائجك. إذن جاءت أم سليم بأعز ما تملك؛ ابنها وفلذة كبدها ووضعته في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت أم سليم ترجو بذلك إرضاء ربها ورسوله وتأمل أن يتعلم ابنها العلم من النبي مباشرة، لا شك أن أم سليم تعرف كيف وعلى ماذا ربته وكان أنس عند حسن ظنها، كلنا يعرف من هو أنس بن مالك خادم النبي، يا له من شرف عظيم، أحبه النبي صلى الله عليه وسلم وقربه ودعا له بقوله: «اللهم أكثر له ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه» (السلسلة الصحيحة [5/287])،
وقد استجاب الله دعاء نبيه فكان أنس آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وقد قارب المائة من عمره، وأكثر الله ماله وأولاده، وكان أنس يقول: "وإني والله لأرجو الرابعة أي أرجو مغفرة الله تعالى". إذن هكذا كانت أم سليم؛ أعملت عقلها وبحثت عن مستقبل ابنها ووضعته في البيئة التي تضمن نجاحه وفلاحه بإذن الله، ولهذا قلنا في بداية الحلقة أنها أم لا كالأمهات، ألا يجب أن تكون أم سليم قدوة لكثير من أمهات اليوم، يؤلمنا أن نجد معظم الأمهات ينصب على تربية أجساد أولادهن فيطعمنهم أحسن الطعام ويلبسنهم أحسن اللباس ولكنهم يغفلن عن تغذية عقولهم وأرواحهم، تبخل أنفسهم علي أن تجود بهم لطلب العلم وخدمة الإسلام. بعد موت مالك بفترة صغيرة،
تقدم لخطبة أم سليم زيد بن سهل المعروف بأبي طلحة كما أن زيد ذا حسب ونسب، ومال وجاه، ولكن أم سليم ردته ولم تقبل به زوج، هذا عجيب لماذا ردته وهو يملك كل هذه المواصفات التي ترغب بها النساء؟، ببساطة لأنه كان مشرك فكيف ترضى به وهي التي فارقت زوجها مالك بسبب كفره، الأمر محسوم لديها ولا مجال للتفكير أو المهاودة، فاعتذرت منه قائلة: "يا أبا طلحة ما مثلك يرد ولكنك امرئ كافر وأنا امرأة مسلمة"، سمع أبو طلحة كلامها فهز رأسه وهم بالخروج من دارها، ولكن فكرة ما في عقل أم سليم جعلتها تتابع الحديث قائلة: "يا أبا طلحة، ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد إنما هو شجرة تنبت من الأرض نجرها حبشي من أحباش بني النجار؟" أجاب أبو طلحة: "بلى يا أم سليم"، فاستطردت قائلة: "فكيف تسجد لخشبة تنبت من الأرض لو أشعلت فيها النار لحترقت كيف تعبدها من دون الله؟"
لم يجب أبو طلحة بشيء، فما ذكرته أم سليم أمر حقيقي لا يمكن له أن يناقش أو يجادل فيه، ولربما أثارت أم سليم بأسئلتها هذه أفكار طالما أرقَت أبا طلحة وأقضدت مضجعه وطالما حاول أن يتجاهلها ويتناسى الإجابة عنها.
عاد أبو طلحة إلى منزله وقد وقع كلام أم سليم في قلبه وظل يفكر في الأوثان التي يعبدها كما عبده أبائه وأجداده، بعد وقت وتفكير طويل استسلم للحقيقة فهذه الأصنام التي يعبدها لا تجلب له نفع ولا تدفع عنه ضرر فكيف يسجد لها من دون الله، عاود أبو طلحة خطبة أم سليم واستشفت تلك السيدة اللماحة ما يعتلج في صدره
فقالت له: "يا أبا طلحة هل تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأزوجك نفسي؟ لا أريد منك صفراء ولا بيضاء فيكون إسلامك مهري"، عمل الصدق الذي حمله أم سليم في نفس أبو طلحة عمله، فأسلم أبو طلحة وتزوجها على مهر لم تمهره امرأة.
مرة أخرى أتأسف لحال فتياتنا اليوم يتقدم لخطبتهن فلان ما فيبحثن عن المال والجمال والبيت والسيارة وحدث ولا حرج عن بورصة المهور بين فتيات العائلة فهذه مهرها مليون ليرة وتلك مليونان وهذه أرخص وتلك أغلى، هناك فارق كبير بين المهور المادية والمهور المعنوية، أذكر هنا أن امرأة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم ليزوجها بمن يشاء، فزوجها لصحابي فقير كان مهر زوجته بما يحفظ من القرآن، ا
لله يا له من مهر لا تضمحل قيمته، ولا يصيبه التضخم أو الكساد أو الزوال.
نعود إلى أم سليم بعد زواجها من أبي طلحة، أبي طلحة اليوم رجل مسلم يعرف واجبه في نصرة دين الله تعالى، وعندما نشبت معركة أُحد شارك فيها مع زوجته وابنها البراء بن مالك كانت أم سليم تحمل مع عائشة وفاطمة وبعض الصحابيات رضي الله عنهن أجمعين، قِرب الماء فيسقين الجيش، المتأمل في أم سليم يرى شيء يلمع ما هو هذا الشيء؟ يا ترى هل هو ذهب أم ماس؟
الحقيقة أنه لا هذا وذاك أنه خنجر حملته أم سليم لتدافع بها عن نفسها إذا اقترب منها أحد المسلمين، لم تفر أم سليم وزوجها أبو طلحة حين تشتت جيش المسلمين في أُحد، ثبتا من النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ثبت
وقالت: أبو طلحة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصيح نحري دون نحرك يا رسول الله. مضت المعركة وسلم الله أم سليم وأبو طلحة ورزقهم الله مولودًا أسمياه أبا عمير، لما كبر أبو عمير قليلًا كان له طير صغير يلعب به اسمه النغير، وكان عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور بيت أبا طلحة كان يمازح أبا عمير فيقول له: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟» ذات يوم مات النغير، فحزن أبو عمير فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح على رأسه مواسيًا وهو يقول: «يا أبا عمير ما فعل النغير؟» أصابت أبا عمير من شدة حزنه على نغره حزن شديد ألزمته الفراش، دب الذعر في قلب أبا طلحة فهذا ولده الوحيد، من فمه الجميل سمع كلمة لأول مرة تلك الكلمة التي يطير لها صوابه ويطرب لها قلبه، صار أبو طلحة بعد مرض ابنه قلقًا مضطربًا كثير الغضب، لم يعد كما عهدته أم سليم ذلك الأنيس المنشرح، ذات يوم ذهب أبو طلحة إلى عمله وجلست أم سليم بجانب صغيرها تمرضه مسحت على رأسه وهي تدعو: "اللهم رب الناس أذهب البأس اشف أنت الشافي شفاء لا يغادر سقمًا"، ضمته إلى صدرها كان صدره يعلو ويهبط بسرعة تدحرجت الدموع من عينيها كأني أتخيله وهو يقول لها: بصوت متقطع لاهف ماما أنا أحبك لا تتركني وحدي، فتجيبه وقلبها يكتوي ألم ورعب لا تقلق يا حبيب لن أتركك أبدًا ارتعش الغلام فجأة بين يديها، كانت أنفاسه تتقاطع في حشرجة مسموعة، وفجأة توقف كل شيء لم يعد صدره يهبط ويعلو ولم تعد أنفاسه تسمع هزته بشدة، نادته بصوت مرتفع لكنه لم يسمعها فقد أسلم الروح، بكت أم سليم ابنها الحبيب أحست بروحها تخرج مع روحه تمنت لو أنها تستطيع أن تهبه حياتها لفعلت، لاح في ذاكرتها حديث النبي صلى الله عليه وسلم «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون: نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: يا رب حمدك، واسترجع فيقول: ابنوا لعبدي بيت في الجنة، وسموه بيت الحمد» (صحيح الجامع [795])،
وساحت دموع عينيها الواهنتين وهي تقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وعوضني خير منها" طافت في مخيلتها صور كثيرة منها صور أبي طلحة مع ابنه تذكرت شدة تعلقه به، الدلال والحب والهيام تصورت نفسها وهي تخبره بموت الحبيب تساءلت ماذا سيكون حاله؟ كيف سيتحمل تلك الصدمة القاسية؟ صحيح أن ابنها مريض بالحمى لكن موته لم يخطر في بالها وبال زوجها، عزمت أم سليم على سرها على أمر ما، فتزينت وتعطرت وانتظرت قدوم زوجها وقد غطت ابنها وأغلقت عليه الباب، دهش أبو طلحة لما رآها متطيبة متزينة وهي التي منذ مرض ابنها لم تمس طيب ولا زينة، لم يخطر في باله أن مكروهًا ألم بالغلام، سألها كيف ابننا؟ قالت: لقد نام نومة ما نام مثلها قط، أرد أن يدخل ليطمأن عليه لكنه أخذت بيده،
وهي تقول دعه فوالله ما وجد طعم هذا النوم المريح أبدًا، نام الزوجان ولما استيقظا لصلاة الفجر قالت: أم سليم يا أبا طلحة لقد استعار جيراننا منا عارية فلما طلبناها منهم أبوا أن يعيدوها إلينا، اغتاظ أبو طلحة وقال: بئس ما فعلوا ألا يعلمون أن العارية مرتجعة؟
عند ذلك قالت أم سليم وهي تغالب دموعها، وكذلك ابننا يا أبا طلحة أعطانا الله عارية وقد استرد الله عاريته، لم يصدق أبو طلحة أذنيه خيل إليه أنه تهزي أو تمزح، فهب واقف دخل على ابنه كشف الغطاء عنه، رحمك الله يا بني، وارى الأب الثاكل ولده الثرى ثم ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وشكى له ما فعلته زوجته، نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وابتسم، وقال له: بارك الله لكما في ليلتكما إذا ولدت ائتوني بالغلام، فعلًا بارك الله لهما في ليلتهما، وولدت أم سليم ولد سمته عبد الله كان حافظًا للقرآن هو وعشر من أولاده. أخوتي وأخواتي: كلنا نقرأ قوله تعالى: { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة:216]
لكن، {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، وكلنا يقرأ قول الخضر في سورة الكهف، {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرًا.
فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80-81]،
كثير منا يعرف قصة أم سليم وثناء النبي صلى الله عليه وسلم على صبرها وتسليمها ونعرف كم عوضها الله خيرًا، ثم يرى بعض الناس يضجرون وييأسون ويعترضون إذا أصابتهم مصيبة ولو اطلعوا على الغيب لاختاروا الواقع، لكن الغيب بيد الله لا يطلع عليه إلا من يشاء الله، وما على المؤمن إذا أصيب بمصيبة إلا أن يسلم أمره لله ويرضى بقضائه وقدره، فالإيمان بالقضاء يذهب الهم والحزن، والمؤمن متوكل على الله تراه شاكرًا حامدًا صابرًا راضيًا في كل أحواله؛ لأنه مؤمن بقضاء الله يعلم أن الله يختار له ما فيه الخير وإن بدي له في ظاهره أنه شر. نعود إلى أم سليم؛ لنراها تشارك في غزوة حنين قبل أن تلد ولدها عبد الله فكانت تسقي الجيش وترعى شؤونه وثبتت مع زوجها في من ثبتوا، يدافعون عن النبي صلى الله عليه وسلم حين تفرق عنه كثير من المسلمين، كانت أم سليم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصيح بالناس «أيا أيها الناس هلموا إليّ، أنا الرسول، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب»، رأت زوجها أبو طلحة وهو يقاتل باستبسال نادر ويزأر بالأعداء زئير الأسد حتى قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل» (صحيح الجامع[5081]). وعندما احتدم القتال وفر الناس تركت أم سليم سقاية الجيش وتمريض الجرحى وأمسكت الخنجر التي كانت تخبئه في نطاقها وبدأت تقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم تخاف ولم يمنعها حملها الناضج من أن تقاتل لنصرة دين الله، وكانت حاملة آنذاك بابنها عبد الله، عندما التفت النبي صلى الله عليه وسلم ورآها في ميدان المعركة قال: أم سليم، قالت: نعم بأبي أنت، وأمي يا رسول الله، روى الإمام مسلم في صحيحة أن أبا طلحة قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يشتد وطيس المعركة: يا رسول الله إن أم سليم اتخذت خنجرًا، لربما أراد أبو طلحة أن يفتخر أمام رسول الله بما تفعل زوجته، ضحك النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت أم سليم: يا رسول الله هذا خنجر أخذته إن دنى مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، وفعلًا استخدمت أم سليم خنجرها حين احتاج الأمر إلى مشاركتها في القتال، انتصر المسلمون في غزوة حنين، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم حصيات من الأرض ورماها في وجوه الكفار وهو يقول: «انهزموا ورب الكعبة، انهزموا ورب الكعبة» (صحيح مسلم[1775]،
وقذف الله في قلوبهم الرعب، فانهزموا. عندما وضعت أم سليم وليدها بعد الغزوة تذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم، بارك الله لكما في ليلتكما إذا ولدت ائتوني بالغلام، فأرسلت المولود إليه، فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه عبد الله ثم أخذ تمرة فأكلها ودهن بها فم الصغير فجعل الصغير يتلمضها، فاتبسم صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «أبت الأنصار إلا حب التمر» (صحيح ابن حبان [7188]).
إذن هذه هي عائلة أم سليم، ولأم سليم أخت معروفة هي أم حرام الصحابية التي خاضت البحار مع المسلمين الذين فتحوا جزيرة قبرص في عهد معاوية رضي الله عنه واستشهدت هناك ولازال ضريحها بقبرص، يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من زيارة عائلة أم سليم، تلك العائلة المؤمنة المخلصة ويطيل المكوث عندهم حتى إنه كان ينام عندهم أحيانًا نومة القيلولة، وكثيرًا ما كان يصلي عندهم بعض النوافل على بساط متواضع.
يروى أن أبا طلحة أخبر أم سليم يومًا أنه سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم ضغيف يعرف فيه الجوع وطلب منها أن تعد الطعام، وذهب ليدعو رسول الله إليه، قَبِل النبي الدعوة، ودعا من كان في حضرته من أصحابه، ارتبك أبو طلحة فهو يعلم أن الطعام الذي أعدته ما يكفي الأعداد التي سيصحبها النبي صلى الله عليه وسلم فأسرع إلى بيته وأعلم زوجته بما جرى وقد غلبه الغم والهم، ابتسمت أم سليم، وقالت: لا عليك يا أبا طلحة، الله ورسوله أعلم، وصدق حدثها، فالنبي يعلم أن أبا طلحة يدعوه وحده إلى الغداء ولكنه لم يشأ أن يأكل وحده، وهذا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه لصحابته قائل: «طعام الإثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة» (صحيح الجامع[4501])، وصل المدعوون إلى بيت أم سليم وإلى بيت أبي طلحة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أم سليم أن تفت الخبز ثم تضع فوقه السمن، وتناول الجميع الطعام،
بسم الله تعالى فشبعوا جميعًا ولم ينفد الطعام. عاش أبو طلحة مسرورًا مع أم سليم خاصة أنها كانت سند يعنه على طاعة الله، لا ينسى أبو طلحة موقفها حين تصدق بأرض بيرحاء حين سمع قول الله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]،
فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن أهب مالي إليّ أرض بيرحاء، وإنها صدقة أرجو بها وزخرها عند الله فضعها حيث أراك الله، تبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «بخ بخ ذاك مال رابح، ثم أردف قائل: أرى يا أبا طلحة أن تجعلها في الأقربين» (صحيح ابن حبان[3340])، فقسم أبو طلحة الأرض بين الفقراء من أقاربه، وعلى مرأى من زوجته أم سليم وتشجيعها. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» (صحيح مسلم[1467])، لم تقل له يومًا ما تقوله بعض النساء لأزواجهن، بعض النساء اليوم تبخله وتقطع خيره ومعروفه عن من حوله، بل كانت مسرورة بالثواب الذي يدخره عنه الله تعالى يوم الحساب. قبل أن نسدل الستار عن حياة هذه الصحابية الفاضلة أحب أن أقول: روت أم سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر حديث وشهدت غزوة خبير، بالمناسبة أم سليم هي الصحابية التي دفع إليها النبي صلى الله عليه وسلم صفية بين حيي التي أصبحت زوجته فيما بعد فجهزتها وزفتها إليه وهم عائدون من خيبر إلى المدينة. هذه أم سليم، هذه هي سيرتها المترعة بما ينعش الفؤاد ويثري المعرفة ويشحذ الهمة، رضي الله عنها وأرضاها وجمعنا بها في جنة الخلد تحت لواء سيد المرسلين.
أريد منك الإِسلام [فإن تسلم فذاك مَهري ولا أسألك غيره ]
(( حتى ولد له بُني، وكان يحبه حباً شديداً، ومرض الصبي مرضا شديداً، وتواضع أبو طلحة لمرضه أو تضعضع له...)).
(( ومات الصبي، فقالت أم سُليم: لا ينعين إلى أبي طلحة أحد ابْنَهُ، حتى أكون أنا الذي أنْعَاه له))
((...وجاء أبو طلحة عند رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حتى دخل عليها فقال: كيف ابني ؟ فقالت: يا أبا طلحة ! ما كان منذ اشتكى أسكن منه الساعة، وأرجوا أن يكون قد استراح)).
كانت تبحث عن أسباب سعادته، وراحته، وإزالة النكد والحزن عنه.