صلاة التراويح بين دعاة التخفيف و دعاة الإطالة
صلاة التراويح بين دعاة التخفيف و دعاة الإطالة
كلما حل شهر رمضان على الأمة الإسلامية، إلا و تكررت معه نفس المسائل التي تحدث جدلا واسعا داخل الأمة، وليس المقصود هنا الحديث عن الخلاف الشهير بين الفقهاء في عدد ركعات التراويح، و إنما عن مسألة الإطالة و التخفيف في قيام لياليه المباركة. و صورة هذه المسألة أن بعض الأئمة يرى أن إطالة صلاة التراويح هي الأصل، و يصر على ذلك أيّما إصرار، غير ملتفت للنصوص الأخرى الثابتة عن سلف هذه الأمة، و بعضهم يغالي في التخفيف حتى يُذهب عن الصلاة روحها، و بين هذين الطرفين تضيع الفضيلة المرصودة من الشارع الرحيم، و هي فضيلة الوسطية.
أولا: المعروف لدى طلبة العلم، و المهتمين بمسائل الفقه، ثبوت نصوص كثيرة في صفة القيام في الصلاة، سواء أكانت فريضة أو نافلة، بعضها تدور حول إطالته، و بعضها الآخر يدور عن مراعاة أحوال المأمومين. ثانيا: الملحوظ هو أن التعامل مع هذه النصوص في الواقع، قد غلب عليه إعمال بعضها وإهمال بعضها الآخر، و حسب قناعة كل فريق، فالذين يرون الإطالة لا يلتفتون لنصوص التخفيف، و الذين يدندنون عن التخفيف لا يتلفتون إلى نصوص الإطالة، و هذا لا شك أنه عين الإفراط و التفريط، المنهي عنه في شريعة رب العالمين، و لهذا وجب الرجوع إلى الأصل و هو الجمع بين النصوص في المسألة الواحدة، عملا بالقاعدة الأصولية " إعمال الكلام أولى من إهماله"، و هو أصل تميز به أهل السنة و الجماعة عن سائر الفرق. و الناظر في أحوال المساجد في رمضان يجد ميل الكثير من الأئمة نحو الإطالة، و الإصرار عليها، وعدم الاهتمام بالمأمومين و أحوالهم، وما يجدونه من حرج، و هو خلاف ما كان عليه السلف رحمهم الله من التلطف بالناس، و تأليف قلوبهم لأجل الثبات على العبادات و نيل أجرها، و لهذا سيكون التركيز على دعاة الإطالة أكثر،
لعدة أمور منها:
- أن النبي عليه الصلاة و السلام قد ترك القيام بالناس في ليال رمضان أصلا، خشية أن يفرض على الناس، لما فيه من المشقة عليهم، و هو الأعلم بأمته صلوات ربي و سلامه عليه، و لذلك وجب استحضار ذلك في هذه المسألة.
- أن الخلاف في مقدار الجزء الذي يقرأه الإمام في كل ركعة مختلف فيه، قال السرخسي في المبسوط متحدثاً عند قدر القراءة في كل ركع:" واختلف فيه مشايخنا رحمهم الله تعالى، قال بعضهم: يقرأ مقدار ما يقرأ في المغرب تحقيقاً لمعنى التخفيف، لأن النوافل يحسن أن تكون أخف من الفرائض، وهذا شيء مستحسن لما فيه من درك الختم، والختم سنة في التراويح، وقال بعضهم: في كل ركعة من عشرين آية إلى ثلاثين آية، أصله ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه دعا ثلاثة من الأئمة واستقرأهم، فأمر أحدهم أن يقرأ في كل ركعة ثلاثين آية،
وأمر الآخر أن يقرأ في كل ركعة خمسة وعشرين آية،
وأمر الثالث أن يقرأ في كل ركعة عشرين آية.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن الإمام يقرأ في كل ركعة عشر آيات ونحوها وهو الأحسن لأن السنة في التراويح الختم". -أن الختم في رمضان ليس واجبا، بل لا يخرج عن الاستحباب و الندب. - أن فعل الإطالة قد يؤدي إلى تنفير جموع كبيرة من المصلين، إما عن أداء القيام أصلا، و إما عن الصبر عليه حتى ينصرف الإمام.
- أن الكثير من المدافعين عن الإطالة لا يراعون أحوال أمةٍ تتوزع على قارات الأرض الخمس، بل ينظر الكثير منهم إلى حال بلاد العرب غير آبه بغيرهم عند الحديث عن هذه المسألة. - أن الكثير منهم لا يراعي ظرفا زمنيا هاما، و هو أن المسلمين اليوم يعيشون في جل الدول الإسلامية تحت أنظمة لا تحكم بشرع الله، و تشجع كل ما يلهي الناس عن فريضة الصيام و القيام و قراءة القرءان، حيث تحشد المدن الإعلامية مبالغ ضخمة لصرف الناس عن العبادة في هذا الشهر المبارك
. - أن الدفع بالأئمة في الدول الأخرى نحو الإطالة قد يسبب حرجا كبيرا، يعقبه ترك المسلمين للصلاة، و هذا ما يُشاهد في قارة أوروبا و دولها الشرقية أكثر، حيث لا يجد الكثير من المسلمين ثمنا للمواصلات إذا أطال بهم الإمام، و قد وقفت على ذلك بنفسي في أوروبا الشرقية، حيث تبدو المساجد في ليل رمضان مهجورة، و عند التحقق والتحري وجدنا أن السبب فقر المسلمين، حيث يعجز الواحد منهم عن دفع أجر سيارة أجرة كل ليلة، خاصة مع توقف المواصلات العامة ليلا. - أن تحبيب العبادات للناس بالرفق و الملاطفة و التألف، و ترغيبهم فيها مما حثت عليه الشريعة الإسلامية. لذلك يقال لهم: كما أن الإطالة في القيام سنة، فإن مراعاة حال المأمومين سنة، فلا ينبغي الترجيح بين السنتين دون مرجح بل الأولى إعمالهما معا.
و قد كان أئمة السلف يراعون ذلك و أكثر، فهذا الامام أحمد رحمه الله يراعي في المأمومين وجود فئة العمال كما جاء في "مختصر قيام رمضان" للإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله، قال أبو داود: سُئل الإمام أحمد عن الرجل يقرأ القرآن مرتين في رمضان يؤم الناس، قال : (هذا عندي على قدر نشاط القوم وإن فيهم العمال)، فانظر الى مراعاة الإمام احمد لصفة العمال بالنسبة الى المأمومين، و قد كان هذا في عصره، فكيف لو رأى عصرنا هذا، الذي انشغل فيه الناس انشغالا تاما بأمور المعاش، بسبب تعقيدات الحياة الكثيرة، و ارتباطهم بوظائف متعبة ويومية، تقوم عليها حياتهم وحياة الناس جميعا، و هذا المرداوي رحمه الله يقول:
" يستحب أن لا يزيد الإمام على ختمة إلا أن يؤثر المأموم، ولا ينقص عنها، نص عليه وهذا هو الصحيح من المذهب" فانظر إلى قوله " يؤثر المأموم" ففيه دليل على أن فقهاء الأمة كانوا يرون مراعاة حال المأموم و يطبلون فعل ذلك من الأئمة.
ثم يقال للذين ينكرون على الذين يراعون أحوال الناس في القيام، و يطالبون المأموم بالانصراف حال العجز عن متابعة الامام حتى ينصرف من صلاته، أنه كما يُطلب مراعاة نصوص الإطالة، فإن الالتفات إلى تحقيق مراد الشارع، و مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية أمر مطلوب أيضا، ومن مقاصد الإسلام جمع الناس على الخير، و التلطف بهم حتى يعتادوا على العبادات ومنها عبادة القيام، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله:
" ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال: الخلاف شر). يقول النبي عليه الصلاة و السلام : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" فكما يحب المسلم النشط أن يصلي حتى ينصرف الإمام، فإن من شيم المسلمين الرحمة فيما بينهم، و السير على سير ضعفائهم، و هو منهج نبوي كريم، و خير الهدي هدي محمد صلى اله عليه وسلم، فيحب أن يرى جموع المسلمين ثابتة في الصفوف على صلاة التراويح، حتى يندر رؤية الخارج من المسجد قبل إتمامها، و يفرح بانتصار نفوسهم على الكسل و الدعة و العجز، و يفرح باجتماعهم على إمام يرتل عليهم آيات الكتاب المبين، بدل أن ينصرفوا إلى مشاهدة قنوات همها الأول و الأخير كسر حرمة الشهر المبارك.
و إن الله عليم بنيّات عباده، فمن كان يتحرى الإطالة بإخلاص، فإن الله عزّ وجل لن يحرمه من أجرها، و لو صلى مع قوم يخففون القيام، فإنه عدل رحيم سبحانه. و يقال لمن يصرون بعد هذا على الضرب بسنة مراعاة المأمومين عرض الحائط، اعلموا أن من الناس الضعيف في بدنه و المريض، ومنهم الرقيق في دينه، و منهم العامل المنهك أصلا، و منهم الحديث عهد بطريق الاستقامة، ومطلوب منكم الانتقال من سنة الإطالة إلى سنة مراعاة أحوال المأمومين، و إلى سنة تأليف الناس، وإلى سنة إكثار سواد القائمين، جاء في الموسوعة الفقهية:
" وقال الكاساني: ما أمرَ به عمر رضي الله تعالى عنه هو من باب الفضيلة وهو أن يختم القرآن أكثر من مرة، وهذا في زمانهم، وأما في زماننا فالأفضل أن يقرأ الإمام حسب حال القوم، فيقرأ قدر ما لا ينفرهم عن الجماعة، لأن تكثير الجماعة أفضل من تطويل القراءة"، أما التحذير من تنفير المصلين فيكفي فيه قول النبي عليه الصلاة و السلام :" إن منكم منفرين" وقد عاتب عليه الصلاة و السلام معاذا رضي الله عنه لأجل رجل واحد نفر من صلاة العشاء، بسبب إطالته فيها. و يقال للمعاتبين الناس على شكواهم من الإطالة، قبل أن تعاتبوهم هل حركتم ايمانهم قبل دخول شهر رمضان؟
هل حبستم أنفسكم حقا للدعوة إلى الله تعالى، و تحبيب الناس في شرائع الاسلام وهديه؟ هل تتفقدون أهل الحي المتكاسلين عن صلاة الجماعة قبل دخول الشهر الكريم كما كان يفعل كل ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم . ويقال لهم أيضا:
إن أهم شيء في الصلاة هو الخشوع، و التلبس بما يحققه مرغوب، وتجنب كل ما يبعده مطلوب، فان كان الحال كذلك فما فائدة الإطالة و قلوب كثير من المصلين في زمننا لاهية لاغية همها الأخير: متى يركع الإمام و متى ينهي القراءة. لذلك فان القول بمراعاة حال المأمومين لأجل جعلهم يخشعون في الصلاة أمر معقول موافق لمقاصد الشريعة، و هذه فتوى من الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى تؤيد ذلك حيث سئُل رحمه الله :
هل ينبغي للإمام مراعاة حال الضعفاء من كبار السن ونحوهم في صلاة التراويح؟ فأجاب: هذا أمر مطلوب في جميع الصلوات، في التراويح وفي الفرائض لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيكم أم الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والصغير وذا الحاجة"، فالإمام يراعي المأمومين ويرفق بهم في قيام رمضان وفي العشر الأخيرة وليس الناس سواء، فالناس يختلفون فينبغي له أن يراعي أحوالهم ويشجعهم على المجيء وعلى الحضور فإنه متى أطال عليهم شق عليهم ونفرهم من الحضور، فينبغي له أن يراعي ما يشجعهم على الحضور ويرغبهم في الصلاة ولو بالاختصار وعدم التطويل، فصلاة يخشع فيها الناس ويطمئنون فيها ولو قليلاً خير من صلاة يحصل فيها عدم الخشوع ويحصل فيها الملل والكسل).
و الحديث عن التخفيف لا يعني الرضى بما تفعله بعض المساجد، التي تكتفي بقصار السور و تهمل ختم القرءان، و اعتياد فعل ذلك كل سنة، أو تلك التي تحرص على القراءة بالحدر الشديد، فان اهمالها للسُّنة النبوية في القراءة بين لا يخفى، ومجانبتها لمعنى التخفيف واضج جلي. إن واجب القائمين على الصلاة في مساجد الأمة، الحرص على أن يؤدي المسلمون شعائر رمضان حق الأداء و حق العبادة، و لا يكون ذلك إلا بتحقيق مقصد الشارع من العبادات، فلا يعقل أن تغير صلاة يستثقلها المسلم حياته و سلوكه، بل إن ما يغيره صلاة يؤديها بقلب مقبل على الله تعالى، يكون فيها خاشعا مقبلا ومسرورا. و الحمد لله رب العالمين.