المبحث الحادي عشر
أسماء الله وصفاته مختصة به ، واتفاق الأسماء لا يوجب تماثل المسميات
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : (( سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء ، فكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره ، وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص ، ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص ، لا اتفاقهما ، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص ، فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص .
فقد سمى الله نفسه حيا ، فقال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }(2)وسمى بعض عباده حيا فقال : { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } (3)وليس هذا الحي مثل هذا الحي ، لأن قوله : { الحي } اسم الله مختص به، وقوله : { يخرج الحي من الميت } اسم للحي المخلوق مختص به ، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج ، ولكن العقل يفهم من المطلق قدرا مشتركا بين المسميين ، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق ، والمخلوق عن الخالق .
__________
(1) التفسير القيم لابن القيم ص 210-211 بتصرف يسير جدا .
(2) سورة البقرة الآية 255 ...
(3) سورة الروم الآية 19
ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته ، يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق ، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى .
وكذلك سمى الله نفسه عليما حليما ، وسمى بعض عباده عليما : { وبشروه بغلام عليم }(1) يعني إسحاق ، وسمى آخر حليما فقال : { فبشرناه بغلام حليم } (2) يعني إسماعيل ، وليس العليم كالعليم ، ولا الحليم كالحليم .
وسمى نفسه سميعا بصيرا فقال : {إن يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا }(3) وسمى بعض خلقه سميعا بصيرا فقال : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا } (4)وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير .
وسمى نفسه بالرؤوف الرحيم ، فقال : { إن الله بالناس لرءوف رحيم }(5)وسمى بعض عباده بالرؤوف الرحيم فقال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم }(6) وليس الرءوف كالرءوف ولا الرحيم كالرحيم .
وسمى نفسه بالملك فقال : { الملك القدوس } (7)وسمى بعض عباده بالملك ، فقال : { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا }(، {وقال الملك ائتوني به }(9)وليس الملك كالملك .
وسمى نفسه بالمؤمن فقال : { المؤمن المهيمن } (10)وسمى بعض عباده بالمؤمن ، فقال : { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون }(11) وليس المؤمن كالمؤمن .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 28 .
(2) سورة الصافات الآية 101 .
(3) سورة النساء الآية 58 .
(4) سورة الإنسان الآية 2 .
(5) سورة البقرة الآية 143 .
(6) سورة التوبة الآية 128 .
(7) سورة الحشر الآية 23 .
( سورة الكهف الآية 79 .
(9) سورة يوسف الآية 50 .
(10) سورة الحشر الآية 23 .
(11) سورة السجدة الآية 18 .
وسمى نفسه بالعزيز ، فقال : { العزيز الجبار المتكبر } (1)وسمى بعض عباده بالعزيز، فقال : { قالت امرأة العزيز }(2)وليس العزيز كالعزيز .
وسمى نفسه الجبار المتكبر، وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر فقال : { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار }(3) وليس الجبار كالجبار ، ولا المتكبر كالمتكبر.
ونظائر هذا متعددة.
وكذلك سمى صفاته بأسماء ، وسمى صفات عباده بنظير ذلك ، فقال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء }(4) وقال : { أنزله بعلمه}(5)، وقال : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }(6) ، وقال : { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة }(7).
وسمى صفة المخلوق علما وقوة فقال: { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا }(، وقال : { وفوق كل ذي علم عليم }(9) ، وقال : { فرحوا بما عندهم من العلم }(10) ، وقال : {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير }(11)، وقال : { ويزدكم قوة إلى قوتكم }(12)وقال: { والسماء بنيناها بأيد}(13)، أي: بقوة ، وقال: { واذكر عبدنا داود ذا الأيد }(14)أي: ذا القوة ، وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة .
وكذلك وصف نفسه بالمشيئة ، ووصف عبده بالمشيئة ، فقال: { لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } (15) .
وقال: { إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا * وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما } (16).
__________
(1) سورة الحشر الآية 23 .
(2) سورة يوسف الآية 51 .
(3) سورة غافر الآية 35
(4) سورة البقرة الآية 255
(5) سورة النساء الآية 166
(6) سورة الذاريات الآية 58
(7) سورة فصلت الآية 15
( سورة الإسراء 85
(9) سورة يوسف الآية 76
(10) سورة غافر الآية 83
(11) سورة الروم الآية 54
(12) سورة هود الآية 52
(13) سورة الذاريات الآية 47
(14) سورة ص الآية 17
(15) سورة التكوير الآية 28-29
(16) سورة الإنسان الآية 29-30
وكذلك وصف نفسه بالإرادة ، ووصف عبده بالإرادة فقال : { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم }(1)ووصف نفسه بالمحبة ، [ووصف عبده بالمحبة ] فقال : { فسوف بأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه }(2) ، وقال : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }(3) .
ووصف نفسه بالرضا ووصف عبده بالرضا , فقال : { رضي الله عنهم ورضوا عنه }(4).
ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد ، ولا إرادته مثل إرادته ، ولا محبته مثل محبته ، ولا رضاه مثل رضاه .
وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار ووصفهم بالمقت فقال : { إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون }(5)، وليس المقت مثل المقت .
وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد ، كما وصف عبده بذلك ، فقال: { ويمكرون ويمكر الله }(6) ، وقال:{ إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا } (7)وليس المكر كالمكر ، ولا الكيد كالكيد .
ووصف نفسه بالعمل فقال : { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون }( ، ووصف عبده بالعمل ، فقال: { جزاء بما كانوا يعملون }(9)وليس العمل كالعمل .
ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة ، في قوله : { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا }(10)وقوله : { ويوم يناديهم }(11)وقوله : { وناداهما ربهما }(12) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 67
(2) سورة المائدة الآية 54
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) سورة المائدة الآية 119
(5) سورة غافر الآية 10
(6) سورة الأنفال الآية 30
(7) سورة الطارق الآية 9
( سورة يس الآية 71
(9) سورة السجدة الآية 17
(10) سورة مريم الآية 52
(11) سورة القصص الآية 62
(12) سورة الأعراف الآية 22
ووصف عبده بالمناداة والمناجاة ، فقال : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون }(1)وقال : { إذا ناجيتم الرسول }(2)وقال:{ إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان}(3)وليس المناداة كالمناداة ، ولا المناجاة كالمناجاة .
ووصف نفسه بالتكليم في قوله : { وكلم الله موسى تكليما } (4) ، وقوله : {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه }(5)، وقوله : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله } (6)، ووصف عبده بالتكليم في مثل قوله : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين }(7)، وليس التكليم كالتكليم .
ووصفه نفسه بالتنبئة ، [ ووصف بعض الخلق بالتنبئة ، فقال : { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير } ( وليس الإنباء كالإنباء .
ووصف نفسه بالتعليم ، ووصف عبده بالتعليم ، فقال : {الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان }(9).
وقال : {تعلمونهن مما علمكم الله }(10)، وقال : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة }(11)وليس التعليم كالتعليم .
وهكذا وصف نفسه بالغضب في قوله : { وغضب الله عليهم ولعنهم }(12)ووصف عبده بالغضب في قوله : {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا } (13) وليس الغضب كالغضب .
__________
(1) سورة الحجرات الآية 4
(2) سورة المجادلة الآية 12
(3) سورة المجادلة الآية 9
(4) سورة النساء الآية 164
(5) سورة الأعراف الآية 143
(6) سورة البقرة الآية 253
(7) سورة يوسف الآية 54
( سورة التحريم الآية 3
(9) سورة الرحمن الآية 1-4
(10) سورة المائدة الآية 4
(11) سورة آل عمران الآية 164
(12) سورة الفتح الآية 6
(13) سورة الأعراف الآية 150
ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه ، فذكر في سبع آيات(1)من كتابه أنه استوى على العرش ، ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره ، في مثل قوله : { لتستووا على ظهوره}(2)، وقوله { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك}(3)وقوله : { واستوت على الجودي }(4) وليس الاستواء كالاستواء .
ووصف نفسه ببسط اليدين فقال : { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } (5) ، ووصف بعض خلقه ببسط اليد ، في قوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط }(6) وليس اليد كاليد ، ولا البسط كالبسط ، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه ، ولا جوده كجودهم . ونظائر هذا كثيرة .
فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه ، ونفي مماثلته لخلقه ، فمن قال : ليس لله علم ، ولا قوة ، ولا رحمة ولا كلام ، ولا يحب ولا يرضى ، ولا نادى ولا ناجى ولا استوى – كان معطلا، جاحدا ، ممثلا لله بالمعدومات والجمادات . ومن قال : [له ] علم كعلمي، أو قوة كقوتي ، أو حب كحبي ، أو رضا كرضاي ، أو يدان كيدي أو استواء كاستوائي –كان مشبها ، ممثلا لله بالحيوانات ، بل لابد من إثبات بلا تمثيل ، وتنزيه بلا تعطيل (7).
__________
(1) وهذه الآيات هي : 1- { الرحمن على العرش استوى } طه آية 5 ، 2- { ثم استوى على العرش } الأعراف آية 54 ، 3- { ثم استوى على العرش } يونس آية 3 ، 4 – { ثم استوى على العرش } الرعد الآية 2 ، 5 – { ثم استوى على العرش } الفرقان الآية 59 ، 6- { ثم استوى على العرش } السجدة الآية 4 ، 7- { ثم استوى على العرش } سورة الحديد الآية 3 .
(2) سورة الزخرف الآية 13
(3) ورة المؤمنون الآية 28
(4) سورة هود الآية 44
(5) سورة المائدة الآية 64
(6) سورة الإسراء الآية 29
(7) التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ص21-30 .
وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( أن الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاث اعتبارات :
الاعتبار الأول : اعتبار من حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالرب تبارك وتعالى أو العبد .
الاعتبار الثاني : اعتباره مضافا إلى الرب مختصا به .
الثالث : اعتباره مضافا إلى العبد مقيدا به . فما لزم الاسم لذاته وحقيقته كان ثابتا للرب والعبد وللرب منه ما يليق بكماله وللعبد منه ما يليق به . وهذا كاسم السميع الذي يلزمه إدراك المسموعات والبصير الذي يلزمه رؤية المبصرات والعليم والقدير وسائر الأسماء ، فإن شرط صحة إطلاقها حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها فما لزم هذه الأسماء لذاتها فإثباته للرب تعالى لا محذور فيه بوجه بل يثبت له على وجه لا يماثل فيه خلقه ولا يشابههم فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق ألحد في أسمائه وجحد صفات كماله . ومن أثبته له على وجه يماثل فيه خلقه فقد شبهه بخلقه ومن شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن أثبته له على وجه لا يماثل فيه خلقه بل كما يليق بجلاله وعظمته فقد برئ من فرث التشبيه ودم التعطيل وهذا طريق أهل السنة ، وما لزم الصفة لإضافتها إلى العبد وجب نفيه عن الله كما يلزم حياة العبد من النوم والسنة والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك . وكذلك ما يلزم إرادته من حركة نفسه في جلب ما ينتفع به ودفع ما يتضرر به . وكذلك ما يلزم علوه من احتياجه إلى ما هو عال عليه وكونه محمولا به مفتقرا إليه محاطا به . كل هذا يجب نفيه عن القدوس السلام تبارك وتعالى وما لزم صفة من جهة اختصاصه تعالى بها فإنه لا يثبت للمخلوق بوجه كعلمه الذي يلزمه القدم والوجوب والإحاطة بكل معلوم وقدرته وإرادته وسائر صفاته فإن ما يختص به منها لا يمكن إثباته للمخلوق فإذا أحطت بهذه القاعدة خبرا وعقلتها كما ينبغي خلصت من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين آفة التعطيل وآفة التشبيه فإنك إذا وفيت هذا المقام حقه من التصور
أثبت لله الأسماء الحسنى والصفات العلى حقيقة فخلصت من التعطيل ونفيت عنها خصائص المخلوقين ومشابهتهم فخلصت من التشبيه فتدبر هذا الموضع واجعله جنتك التي ترجع إليها في هذا الباب والله الموفق للصواب .(1)
وقال ابن القيم رحمه الله أيضا : اختلف النظار في الأسماء التي تطلق على الله وعلى العباد كالحي ، والسميع، والبصير، والعليم ، والقدير، والملك ونحوها فقالت طائفة من المتكلمين هي حقيقة في العبد مجاز في الرب وهذا قول غلاة الجهمية وهو أخبث الأقوال وأشدها فسادا . الثاني مقابله وهو أنها حقيقة في الرب مجاز في العبد وهذا قول أبي العباس الناشي . الثالث أنها حقيقة فيهما وهذا قول أهل السنة وهو الصواب. واختلاف الحقيقتين فيهما لا يخرجهما عن كونها حقيقة فيهما . وللرب تعالى منها ما يليق بجلاله وللعبد منها ما يليق به .(2)
المبحث الثاني عشر
أمور ينبغي أن تعلم
الأمر الأول: أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته كالشيء،والموجود ، والقائم بنفسه ، فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا .
__________
(1) بدائع الفوائد للعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى 1/165-166 بتصرف يسير جدا وانظر مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم 2/37 فقد قال : إن هذه الألفاظ التي تستعمل في حق المخلوق والخالق لها ثلاث اعتبارات : أحدها أن تكون مقيدة بالخالق : كسمع الله وبصره ووجهه ويديه واستوائه ونزوله وعلمه وقدرته وحياته . والثاني : أن تكون مقيدة بالمخلوق كيد الإنسان ووجهه ويديه واستوائه . الثالث : أن تجرد عن كلا الإضافتين وتوجد مطلقة .. ثم شرح ذلك شرحا جيدا .انظر مختصر الصواعق 2/37
(2) بدائع الفوائد 1/164 ببعض التصرف .
الثاني : أن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه بل يطلق عليه منها كمالها هذا كالمريد ، والفاعل ، والصانع ، فإن هذه الألفاظ لا تدخل من أسمائه ولهذا غلط من سماه بالصانع عند الإطلاق بل هو الفعال لما يريد فإن الإرادة والفعل والصنع منقسمة ولهذا إنما أطلق على نفسه من ذلك أكمله فعلا وخبرا .
الثالث : أنه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدا أن يشتق له منه اسم مطلق كما غلط فيه بعض المتأخرين فجعل من أسمائه الحسنى المضل ، الفاتن ، الماكر ، تعالى الله عن قولهم فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة والله أعلم .
الرابع : أن أسماءه الحسنى هي أعلام وأوصاف والوصف بها لا ينافي العلمية بخلاف أوصاف العباد فإنها تنافي علميتهم لأن أوصافهم مشتركة فنافتها العلمية المختصة بخلاف أوصافه تعالى.
الخامس : أن أسماءه الحسنى لها اعتباران اعتبار من حيث الذات واعتبار من حيث الصفات فهي بالاعتبار الأول مترادفة وبالاعتبار الثاني متباينة .
السادس : أن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي وما يطلق عليه من الإخبار لا يجب أن يكون توقيفيا كالقديم ، والشيء، والموجود ، والقائم بنفسه . فهذا فصل الخطاب في مسألة أسمائه هل هي توقيفية أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض ما لم يرد به السمع .
السابع : أن الاسم إذا أطلق عليه جاز أن يشتق منه المصدر والفعل فيخبر به عنه فعلا ومصدرا نحو السميع ، البصير ، القدير ، يطلق عليه منه السمع والبصر والقدرة ويخبر عنه بالأفعال من ذلك نحو ( قد سمع الله ) . ( وقدرنا فنعم القادرون ) هذا إن كان الفعل متعديا . فإن كان لازما لم يخبر عنه به نحو الحي بل يطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل فلا يقال حيي .
الثامن : أن أفعال الرب تبارك وتعالى صادرة عن أسمائه وصفاته وأسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم فالرب تبارك وتعالى فعاله عن كماله . والمخلوق كماله عن فعاله فاشتقت له الأسماء بعد أن كمل بالفعل . فالرب لم يزل كاملا فحصلت أفعاله عن كماله لأنه كامل بذاته وصفاته فأفعاله صادرة عن كماله كمل ففعل والمخلوق فعل فكمل الكمال اللائق به (1).
__________
(1) بدائع الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله 1/161-162 بتصرف يسير .
التاسع : أن الصفات ثلاثة أنواع : صفات كمال ، وصفات نقص ، وصفات لا تقتضي كمال ولا نقصا وإن كانت القسمة التقديرية تقتضي قسما رابعا وهو ما يكون كمالا ونقصا باعتبارين والرب تعالى منزه عن الأقسام الثلاثة وموصوف بالقسم الأول وصفاته كلها صفات كمال محض فهو موصوف من الصفات بأكملها وله من الكمال أكمله . وهكذا أسماؤه الدالة على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها فليس في الأسماء أحسن منها ولا يقوم غيرها مقامها ولا يؤدي معناها وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرا بمرادف محض بل هو على سبيل التقريب والتفهيم . وإذا عرفت هذا فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى وأبعده وأنزهه عن شائبة عيب أو نقص فله من صفة الإدراكات العليم الخبير دون العاقل الفقيه ، والسميع البصير دون السامع والباصر والناظر . ومن صفات الإحسان البر ، الرحيم ، الودود، دون الشفوق ونحوه . وكذلك العلي العظيم دون الرفيع الشريف . وكذلك الكريم دون السخي ، والخالق البارئ المصور دون الفاعل الصانع المشكل ، والغفور العفو دون الصفوح الساتر . وكذلك سائر أسمائه تعالى يجرى على نفسه منها أكملها وأحسنها ومالا يقوم غيره مقامه فتأمل ذلك فأسماؤه أحسن الأسماء كما أن صفاته أكمل الصفات فلا تعدل عما سمى به نفسه إلى غيره كما لا تتجاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله إلى ما وصفه به المبطلون والمعطلون .(1)
المبحث الثالث عشر
مراتب إحصاء أسماء الله الحسنى
التي من أحصاها دخل الجنة
هذا بيان مراتب إحصاء أسمائه التي من أحصاها دخل الجنة وهذا هو قطب السعادة ومدار النجاة والفلاح.
المرتبة الأولى : إحصاء ألفاظها وعددها .
المرتبة الثانية : فهم معانيها ومدلولها .
المرتبة الثالثة : دعاؤه بها كما قال تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها }(2)وهو مرتبتان :
إحداهما : ثناء وعبادة .
__________
(1) المرجع السابق 1/167-168 بتصرف يسير جدا .
(2) سورة الأعراف الآية 180
والثاني : دعاء طلب ومسألة فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وكذلك لا يسأل إلا بها فلا يقال : يا موجود ، أو يا شيء ، أو يا ذات اغفر لي وارحمني بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيا لذلك المطلوب فيكون السائل متوسلا إليه بذلك الاسم . ومن تأمل أدعية الرسل ولاسيما خاتمهم وإمامهم وجدها مطابقة لهذا وهذه العبارة أولى من عبارة من قال : يتخلق بأسماء الله فأنها ليست بعبارة سديدة وهي منتزعة من قول الفلاسفة بالتشبه بالإله قدر الطاقة . وأحسن منها عبارة أبي الحكم بن برهان وهي التعبد وأحسن منها العبارة المطابقة للقرآن وهي الدعاء المتضمن للتعبد والسؤال . فمراتبها أربعة أشدها إنكارا عبارة الفلاسفة وهي التشبه . وأحسن منها عبارة من قال التخلق ، وأحسن منها عبارة من قال التعبد . وأحسن من الجميع الدعاء وهي لفظ القرآن (1).
المبحث الرابع عشر
الأسماء الحسنى لا تحد بعدد
__________
(1) بدائع الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى 1/164 .
الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل كما في الحديث الصحيح : (( أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ))(1)فجعل أسماءه ثلاثة أقسام : قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه ، وقسم أنزل به كتابه فتعرف به إلى عباده ، وقسم استأثر به في علم غيبه فلم يطلع عليه أحد من خلقه ولهذا قال : ((استأثرت به )) أي انفردت بعلمه وليس المراد انفراده بالتسمي به، لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل بها كتابه . ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة : (( فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن ))(2)وتلك المحامد هي تفي بأسمائه وصفاته .
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ))(3) وأما قوله صلى الله عليه سلم : (( إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة))(4) فالكلام جملة واحدة . وقوله (( من أحصاها دخل الجنة )) صفة لا خبر مستقبل . والمعنى له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة . وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها . وهذا كما تقول لفلان مائة مملوك قد أعدهم للجهاد فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم معدون لغير الجهاد وهذا لا خلاف بين العلماء فيه .(5)
المبحث الخامس عشر
شرح أسماء الله الحسنى
__________
(1) أخرجه أحمد 1/391 وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني انظر تخريج الكلم الطيب ص 73 .
(2) مسلم 1/183و 185 وغيره .
(3) مسلم 1/352 .
(4) البخاري مع الفتح 5/354 و 11/214 ومسلم 4/2063 وقد شرحه ابن حجر في الفتح 11/214 – 228 والحديث في آخره (( وهو وتر يحب الوتر )) .
(5) بدائع الفوائد للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى 1/166-167 وانظر أيضا فتاوى ابن تيمية 6/379-382 .
الأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن
قال الله تعالى : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن }(1) هذه الأسماء الأربعة المباركة قد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرا جامعا واضحا فقال يخاطب ربه : (( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء)) (2) إلى آخر الحديث ، ففسر كل اسم بمعناه العظيم ، ونفى عنه ما يضاده وينافيه . فتدبر هذه المعاني الجليلة الدالة على تفرد الرب العظيم بالكمال المطلق والإحاطة المطلقة الزمانية في قوله( الأول والآخر ) والمكانية في ( الظاهر والباطن ). فالأول يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن ، ويوجب للعبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية، إذ السبب والمسبب منه تعالى . والآخر يدل على أنه هو الغاية ، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتألهها، ورغبتها، ورهبتها، وجميع مطالبها ، ( والظاهر ) يدل على عظمة صفاته واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات على علوه ، (والباطن ) يدل على إطلاعه على السرائر ، والضمائر، والخبايا، والخفايا، ودقائق الأشياء، كما يدل على كمال قربه ودنوه . ولا يتنافى الظاهر والباطن لأن الله ليس كمثله شيء في كل النعوت(3).
العلي ، الأعلى ، المتعال
__________
(1) سورة الحديد آية 3
(2) مسلم 4/2084
(3) الحق الواضح المبين ص 25 وشرح النونية للهراس2/67
قال الله تعالى : { ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم }(1) ، وقال تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى }(2)، وقال تعالى : {عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال }(3)وذلك دال على أن جميع معاني العلو ثابته لله من كل وجه ، فله علو الذات ، فإنه فوق المخلوقات ، وعلى العرش استوى أي علا وارتفع . وله علو القدر وهو علو صفاته وعظمتها فلا يماثله صفة مخلوق ، بل لا يقدر الخلائق كلهم أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته، قال تعالى : { ولا يحيطون به علما }(4) وبذلك يعلم أنه ليس كمثله شيء في كل نعوته، وله علو القهر، فإنه الواحد القهار الذي قهر بعزته وعلوه الخلق كلهم ، فنواصيهم بيده، وما شاء كان لا يمانعه فيه ممانع ، وما لم يشأ لم يكن ، فلو اجتمع الخلق على إيجاد ما لم يشأه الله لم يقدروا ، ولو اجتمعوا على منع ما حكمت به مشيئته لم يمنعوه ، وذلك لكمال اقتداره ، ونفوذ مشيئته ، وشدة افتقار المخلوقات كلها إليه من كل وجه .(5)
العظيم
قال الله تعالى : {ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم}(6) الله تعالى عظيم له كل وصف ومعنى يوجب التعظيم ، فلا يقدر مخلوق أن يثني عليه كما ينبغي له ولا يحصي ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده .
واعلم أنه معاني التعظيم الثابتة لله وحده نوعان :
__________
(1) سورة البقرة آية 255
(2) سورة الأعلى آية 1
(3) سورة الرعد الآية 13
(4) سورة طه آية 110
(5) الحق الواضح المبين ص26 وشرح النونية للهراس2/68
(6) سورة البقرة آية 255.
أحدهما: أنه موصوف بكل صفة كمال ، وله من ذلك الكمال أكمله، وأعظمه، وأوسعه، فله العلم المحيط ، والقدرة النافذة ، والكبرياء والعظمة ، ومن عظمته أن السماوات والأرض في كف الرحمن أصغر من الخردلة كما قال ذلك ابن عباس وغيره ، وقال تعالى: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه }(1)، وقال تعالى : {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده }(2)، وقال تعالى : { وهو العلي العظيم } ، { تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن }(3)الآية. وفي الصحيح عنه صلى الله عله وسلم : (( إن يقول الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما عذبته ))(4) فلله تعالى الكبرياء والعظمة ، الوصفان اللذان لا يقدر قدرهما ولا يبلغ كنههما .
__________
(1) سورة الزمر آية 67
(2) سورة فاطر الآية 41
(3) سورة الشورى الآية 5
(4) رواه مسلم 4/2023 وأبو داود 4/59وابن ماجه 2/1397، وأحمد 2/376 بألفاظ متقاربة .
النوع الثاني : من معاني عظمته تعالى أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظم كما يعظم الله فيستحق جل جلاله من عباده أن يعظموه بقلوبهم، وألسنتهم ، وجوارحهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته ، ومحبته والذل له ، والانكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته. ومن تعظيمه أن يتقى حق تقاته، فيطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. ومن تعظيمه تعظيم ما حرمه وشرعه من زمان ومكان وأعمال : { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}(1)وقوله تعالى { ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} (2)ومن تعظيمه أن لا يعترض على شيء مما خلقه أو شرعه(3).
المجيد
(المجيد ) الذي له المجد العظيم ، والمجد هو عظمة الصفات وسعتها، فكل وصف من أوصافه عظيم شأنه :
فهو العليم الكامل في علمه ، الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، القدير الذي لا يعجزه شيء، الحليم الكامل في حلمه ، الحكيم الكامل في حكمته، إلى بقية أسمائه وصفاته(4)التي بلغت غاية المجد فليس في شيء منها قصور أو نقصان(5) قال تعالى : { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد }(6).
الكبير
وهو سبحانه وتعالى الموصوف بصفات المجد، والكبرياء، والعظمة، والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجل وأعلى.
__________
(1) سورة الحج آية 32 ...
(2) سورة الحج آية 30 ...
(3) الحق الواضح المبين ص27-28 وشرح القصيدة النونية للهراس 2/68 وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم لأحمد بن إبراهيم بن عيسى 2/214
(4) الحق الواضح المبين ص33 وشرح النونية للهراس2/71
(5) المرجع السابق 2/71
(6) سورة هود الآية 73
وله التعظيم والإجلال، في قلوب أوليائه وأصفيائه. قد ملئت قلوبهم من تعظيمه،وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لكبريائه(1) قال الله تعالى : { ذلك بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير }(2).
السميع
قال الله تعالى : { وكان الله سميعا بصيرا }(3) وكثيرا ما يقرن الله بين صفة السمع والبصر فكل من السمع والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة ، والباطنة فالسميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد ، لا تختلط عليه الأصوات، ولا تخفى عليه جميع اللغات، والقريب منها والبعيد والسر والعلانية عنده سواء : { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار }(4) ، { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير }(5) قالت عائشة رضي الله عنها : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب الحجرة ، وإنه ليخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها }(6)الآية ، وسمعه تعالى نوعان :
أحدهما : سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة الخفية والجلية ، وإحاطته التامة بها .
الثاني : سمع الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم ، ومنه قوله تعالى: { إن ربي لسميع الدعاء}(7)وقول المصلي (سمع الله لمن حمده ) أي استجاب .
البصير
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي 5/622
(2) سورة غافر الآية 12
(3) سورة النساء الآية 134
(4) سورة الرعد الآية 10 .
(5) سورة المجادلة الآية 1 .
(6) سورة المجادلة الآية1
(7) سورة إبراهيم الآية39
الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات، حتى أخفى ما يكون فيها فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك . فسبحان من تحيرت العقول في عظمته، وسعة متعلقات صفاته، وكمال عظمته، ولطفه، وخبرته بالغيب، والشهادة، والحاضر والغائب، ويرى خيانات الأعين وتقلبات الأجفان وحركات الجنان، قال تعالى : { الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم }(1) ، { يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور }(2) ، {والله على كل شيء شهيد }(3) ، أي مطلع ومحيط علمه وبصره وسمعه بجميع الكائنات.(4)
العليم ، الخبير
__________
(1) سورة الشعراء الآيات 218-220
(2) سوة غافر الآية 19
(3) سورة البروج الآية 9
(4) الحق الواضح المبين ص 34-36 وشرح النونية للهراس 2/72
قال الله تعالى : { وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير }(1) ، { إن الله بكل شيء عليم }(2) ، فهو العليم المحيط علمه بكل شيء : بالواجبات، والممتنعات، فيعلم تعالى نفسه الكريمة ، ونعوته المقدسة ، وأوصافه العظيمة، وهي الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها ، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت. كما قال تعالى: { لو كان فيها ءالهة إلا الله لفسدتا }(3) وقال تعالى :{ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض }(4) فهذا وشبهه من ذكر علمه بالممتنعات التي يعلمها وإخباره بما ينشأ عنها لوجدت على وجه الفرض والتقدير ويعلم تعالى الممكنات ، وهي التي يجوز وجودها وعدمها ما وجد منها وما لم يوجد مما لم تقتض الحكمة إيجاده ، فهو العليم الذي أحاط علمه بالعالم العلوي والسفلي لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان ويعلم الغيب والشهادة ، والظواهر والبواطن ، والجلي والخفي، قال الله تعالى : { إن الله بكل شيء عليم }(5) والنصوص في ذكر إحاطة علم الله وتفصيل دقائق معلوماته كثيرة جدا لا يمكن حصرها وإحصاؤها وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه لا يغفل ولا ينسى، وأن علوم الخلائق على سعتها وتنوعها إذا نسبت إلى علم الله اضمحلت وتلاشت،كما أن قدرتهم إذا نسبت إلى قدرة الله لم يكن لها نسبة إليها بوجه من الوجوه ، فهو الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمون ،وأقدرهم على ما لم يكونوا عليه قادرين . وكما أن علمه محيط بجميع العالم العلوي والسفلي ، وما فيه من المخلوقات ذواتها ، وأوصافها، وأفعالها، وجميع أمورها، فهو يعلم ما كان وما يكون في المستقبلات التي لا نهاية لها، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، ويعلم أحوال
__________
(1) سورة الأنعام الآية 18
(2) سورة الانفال الآية 75
(3) سورة الأنبياء الآية 22
(4) سورة المؤمنون الآية 91
(5) سورة الانفال الآية 75
المكلفين منذ أنشأهم وبعد ما يميتهم وبعد ما يحييهم، قد أحاط علمه بأعمالهم كلها خيرها وشرها وجزاء تلك الأعمال وتفاصيل ذلك في دار القرار (1).
والخلاصة : أن الله تعالى هو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن ، والإسرار والإعلان، وبالواجبات، والمستحيلات، والممكنات، وبالعالم العلوي، والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء (2).
الحميد
قال الله تعالى : {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}(3)ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن الله حميد من وجهين :
أحدهما: أن جميع المخلوقات ناطقة بحمده، فكل حمد وقع من أهل السماوات والأرض الأولين منهم والآخرين، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة، وكل حمد لم يقع منهم بل كان مفروضا ومقدرا حيثما تسلسلت الأزمان واتصلت الأوقات، حمدا يملأ الوجود كله العالم العلوي والسفلي، ويملأ نظير الوجود من غير عد ولا إحصاء، فإن الله تعالى مستحقه من وجوه كثيرة : منها أن الله هو الذي خلقهم، ورزقهم، وأسدى عليهم النعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، وصرف عنهم النقم والمكاره، فما بالعباد من نعمة فمن الله، ولا يدفع الشرور إلا هو، فيستحق منهم أن يحمدوه في جميع الأوقات، وأن يثنوا عليه ويشكروه بعدد اللحظات.
__________
(1) الحق الواضح المبين ص 37-38 وشرح النونية للهراس 2/73 ، وتفسير السعدي 5/621 .
(2) تفسير العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله 5/621 .
(3) سورة فاطر الآية 15
الوجه الثاني: أنه يحمد على ما له من الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا والمدائح والمحامد والنعوت الجليلة الجميلة ، فله كل صفة كمال وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها، فكل صفة من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد والثناء، فكيف بجميع الأوصاف المقدسة، فله الحمد لذاته، وله الحمد لصفاته، وله الحمد لأفعاله، لأنها دائرة بين أفعال الفضل والإحسان، وبين أفعال العدل والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد، وله الحمد على خلقه، وعلى شرعه، وعلى أحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية، وأحكام الجزاء في الأولى والآخرة، وتفاصيل حمده وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار، ولا تحصيها الأقلام(1).
العزيز ، القدير ، القادر ، المقتدر ، القوي ، المتين
هذه الأسماء العظيمة معانيها متقاربة ، فهو تعالى كامل القوة ، عظيم القدرة، شامل العزة { إن العزة لله جميعا }(2) وقال تعالى : { إن ربك هو القوي العزيز}(3)فمعاني العزة الثلاثة كلها كاملة لله العظيم.
عزة القوة الدال عليها من أسمائه القوي المتين، وهي وصفه العظيم الذي لا تنسب إليه قوة المخلوقات وإن عظمت. قال الله تعالى : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}(4) وقال : { والله قدير والله غفور رحيم }(5) ، وقال عز وجل : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } (6) ، وقال تعالى : { وكان الله على كل شيء مقتدرا }(7) ، وقال عز وجل : { إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر }( .
__________
(1) الحق الواضح المبين ص 39-40 وشرح القصيدة النونية للهراس 2/75 وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد 2/215
(2) سورة يونس الآية 65
(3) سورة هود الآية 66
(4) سورة الذاريات الآية 58
(5) سورة المتحنة الآية 7
(6) سورة الأنعام الآية 65
(7) سورة الكهف الآية 45
( سورة القمر الآية 55
وعزة الامتناع فإنه هو الغني بذاته، فلا يحتاج إلى أحد ولا يبلغ العباد ضره فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، بل هو الضار النافع المعطي المانع.
وعزة القهر والغلبة لكل الكائنات فهي كلها مقهورة لله خاضعة لعظمته منقادة لإرادته، فجميع نواصي المخلوقات بيده، لا يتحرك منها متحرك ولا يتصرف متصرف إلا بحوله وقوته وإذنه ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا حول ولا قوة إلا به. فمن قوته واقتداره أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، وأنه خلق الخلق ثم يميتهم ثم يحييهم ثم إليه يرجعون : {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة }(1)، {وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه }(2) ، ومن آثار قدرته أنك ترى الأرض هامدة، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، ومن آثار قدرته ما أوقعه بالأمم المكذبين والكفار الظالمين من أنواع العقوبات وحلول المثلات، وأنه لم يغن عنهم كيدهم ومكرهم ولا جنودهم ولا حصونهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب ، وخصوصا في هذه الأوقات ، فإن هذه القوة الهائلة والمخترعات الباهرة التي وصلت إليها مقدرة هذه الأمم هي من إقدار الله لهم وتعليمه لهم مالم يكونوا يعلمونه، فمن آيات الله أن قواهم وقدرهم ومخترعاتهم لم تغن عنهم شيئا في صد ما أصابهم من النكبات والعقوبات المهلكة، مع بذل جدهم واجتهادهم في توقي ذلك، ولكن أمر الله غالب، وقدرته تنقاد لها عناصر العالم العلوي والسفلي.
__________
(1) سورة لقمان الآية 28
(2) سورة الروم الآية 27
ومن تمام عزته وقدرته وشمولهما : أنه كما أنه هو الخالق للعباد فهو خالق أعمالهم وطاعاتهم ومعاصيهم ، وهي أيضا أفعالهم ، فهي تضاف إلى الله خلقا وتقديرا وتضاف إليهم فعلا ومباشرة على الحقيقة ، ولا منافاة بين الأمرين ، فإن الله خالق قدرتهم وإرادتهم، وخالق السبب التام خالق للمسبب، قال تعالى : { والله خلقكم وما تعملون}(1) .
ومن آثار قدرته ما ذكره في كتابه من نصره أولياءه ، على قلة عددهم وعددهم على أعدائهم الذين فاقوهم بكثرة العدد والعدة ، قال تعالى : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}(2).
ومن آثار قدرته ورحمته ما يحدثه لأهل النار ولأهل الجنة من أنواع العقاب وأصناف النعيم المستمر الكثير المتتابع الذي لا ينقطع ولا يتناهى(3) .
فبقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسنين بإحسانه والمسيء بإساءته، وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على ما يشاء الذي إذا أراد شيئا قال له : { كن فيكون }(4) قال الله تعالى : { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير }(5) .
الغني
__________
(1) سورة الصافات الآية 96
(2) سورة البقرة الآية 249
(3) الحق الواضح المبين ص45-46 وانظر شرح النونية للهراس 2/78 وتفسير السعدي5/624
(4) تفسير العلامة السعدي 5/624 والآية من سورة يس الآية 82
(5) سورة البقرة الآية 148