القصص في القرآن الكريم
القصص في القرآن الكريم
القصص في القرآن الكريم
القصص في القرآن الكريم
القصص حكاية الإنباء لأمر يراد، والقصة مثله، لكنه أوسع منها نطاقًا وأشمل دلالة؛ لأنه يعني الحكاية مطلقة جامعة، لا يحدها حد، ولا تميزها صفة، أما القصة ففي بنيتها إشارة إلى هيئة، ولا إحاطة فيها ولا شمول، ويلتزم القرآن لفظ القصص كلما ذكره، لا يتبدل به القصة، ولا يراوح بينه وبينها، كأن المراد والله أعلم هو القصص في عمومه واستيعابه، دون تفاوت بينه في الحكاية ولا تمييز.
والقصص شعبة جليلة من شعب القرآن الكريم، اختصه الله منه بنصيب كبير، لمكانه من الدعوة، وحسن بلائه في المعاونة على أدائها، فإن تكن شعبه الآخر هدى وإرشادًا، وشرعًا ونظامًا، وتقويمًا وإصلاحًا - فإنَّ القصص هو الزاد الإلهي الذي يمد الله به رسوله في رحلته البعيدة المدى، الكثيرة الهموم، الثقيلة الأعباء، تحف من حولها المكاره والشرور.
ولئن كان الرسل من قبله إنَّما أرسلوا إلى أقوامهم، ولا يبلغونهم عن الله إلا يسيرًا، لقد أرسل الله مُحمَّدًا صلوات الله عليه إلى النَّاس كافَّة، يحمل إليهم عن ربهم خيري الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، وشاءت حكمته سبحانه أن يكون مشرق رسالته ومهبط وحيها بين قوم لم يأتهم من قبلُ رسولٌ من عند الله، ولا كان لهم بتوحيده عهد، ويقول الله لنبيه عنهم: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:46].
لذلك قست قلوبهم، وغلب اللدد والخصومة عليهم، وفيهم يقول الله جل شأنه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] (لدّ جمع ألد، وهو: الشديد الخصومة).
وكانت فيهم مع ذلك عنجهية، وفيهم تكبر واستعلاء، وتفاخر وعجب بالبيت الحرام؛ إذ كانوا جيرته والقائمين عليه، وسقاة حجاجه من الوافدين إليه.
وكانت فيهم مع ذلك عنجهية، وفيهم تكبر واستعلاء، وتفاخر وعجب بالبيت الحرام؛ إذ كانوا جيرته والقائمين عليه، وسقاة حجاجه من الوافدين إليه.
وينعي الله عليهم ذلك، إذ يقول: {قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ . مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُون} [المؤمنون:66-67] (به: بالبيت الحرام، سامرًا: سمارًا، تهجرون: تتحدثون بالقبيح من الحديث)، ويقول: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:19].
ولم يكن الرسولُ فيهم بالسَّيِّد المطاع، ولا الشريف الماجد الذي لا يتطاول إليه في شرفه ومجده متطاول، ولا كان الثري الواسع الثراء الذي يبلغ بماله ما لا يبلغه بجاهه وقدره في الناس، ولكنه كان رجلاً من أوسطهم حسبًا، وأعرقهم نسبًا، ولا مزيد، يمكن أن يقر له منصفٌ بفضل، أو يعيبه عياب بنقيصة في نفسه أو عشيرته، ما أقام فيهم على المسالمة وحسن الجوار، أما أن يطلع عليهم بدعوة لم يدْعُهم إليها داعٍ من قبله، ولا وقع في وَهْم واهم منهم أن يكون لمثلها بينهم مكان - فذلك ما يأبَوْنه أشد الإباء، ولا يرتضون أن يضطلع بها أحد، مهما كان قدره وعظم جاهه؛ لأنها دعوة جريئة، تحرض على التنكر للآباء والأجداد، ونبذ ما خلص إليهم من العقيدة التي توارثوها عنهم على مر القرون.
لهذا أبغضوه، وحقدوا عليه، وتربصوا به، وحسدوه أن كان هو المختار من بينهم، ليكون الرسول إليهم، وفيهم من يرونه خيرًا منه مقامًا وأعظم قدرًا.
وقد حكى الله تعالى مقالتهم في ذلك، إذ يقول: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فراحوا يكيدون له، وينالونه بالأذى من كل سبيل، لا تأخذهم به رأفة، ولا تعطفهم عليه رحم؛ رموه بالحجارة، وألقوا عليه الأقذار، وهو ساجد بين يدي ربه، وأغروا السفهاء به يهينونه، وينالون من عزته، ولم يتركوا نقيصة تؤذيه في نفسه وكرامته إلا رموه بها.
جعلوا يرمونه بالكذب مرة، وبالجنون مرة أخرى، وبالسحر مرة ثالثة، وقد حكى الله ذلك كله عنهم، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا . وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:4-5]، وقال: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} [الفرقان:41]، وقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِين} [سبأ:43].
وجعلوا فوق ذلك يعنتونه بما يطلبون أن يأتيهم به من آيات لا قِبَل للإنس ولا للجن بها، وإلا لم يؤمنوا به، ويذكر الله حكاية لما طلبوا أن يأتيهم به، فيقول: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا . أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء:90-93] (كسفًا: قطعًا، جمع كسفة، زخرف: ذهب).
لذلك كانت تعرض له أزمات نفسية عصيبة، تهد الكيان، وتفل العزم، وتدعو إلى اليأس، حتى يكاد يقضى غمًّا وضيقًا، وحتى لتحدثه نفسه أن يترك بعض ما يوحى إليه، لا يبلغهم إياه، ملاينة منه، وتفرجًا من كربه، وكانوا ربما ساوموه في الوحي، لعلهم يفتنونه فيه، عسى أن يبدل منه، وقد ذكر القرآن ذلك كله، فقال سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] (باخع: وصف من بخع نفسه: قتلها غمًّا)، وقال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود:12]، وقال: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً . وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً . إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73-75].
لكن الله تعالى كان معه أبدًا، فهو سبحانه أرحم به، وأبقى عليه من أن يخلي بينه وبين هؤلاء الطغاة الجاحدين، كيف وقد خلقه الله بشرًا رسولاً، ينفعل بالأحداث، وينتابه منها مثل ما ينتاب غيره، وإن كان لأقوى يقينًا، وأثبت جنانًا، وأصبر على احتمال المحن والأرزاء، لذلك جعل يتعهده بما يسري عنه، ويشد من عزمه، فحينًا يدعوه إلى التأسي بأولي العزم من الرسل، فيقول: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35]، وحينًا يأمره أن يرفق بنفسه، ويبقي عليها أن تذهب حسرة وأسى لإعراضهم عنه، فيقول: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8].
وجعل سبحانه من قبل ومن بعد يقص عليه من أنباء الرسل وسير الأمم ما يثبت فؤاده، ويدخل السكينة في قلبه، بما يزخر به من مواعظ وعبر للذين آمنوا به واتبعوه، ومن زجر ووعيد للذين يكذبونه ويصدون عن سبيله، ومن عقاب وسوء مآل للذين كذبوا الرسل من قبله، وإن كانوا لأشد قوة وأعظم سلطانًا، وقد بين الله أثر القصص في نفوس الصالحين من أولي الألباب، فقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111].
وصدق الله العظيم، فالقصص أحفل بالأسوة، وأعمل في النفس، وأبعث على الطمأنينة والرجاء؛ إنه أخف على السمع، وأرعى للانتباه، لا يأمر وينهى، ولكن يقص الأنباء ويصف الأحداث، ويقرن العمل بعاقبته والجزاء عليه، في بيان رائع وتصوير صادق، يجيش بالحياة والحركة، فتسري الحكمة منه والموعظة إيحاء وانفعالاً، لا طاعة لأمر، ولا تأثرًا بوعظ، فينزل من أعماق النفس في قرار مكين، حتى كأنه من نبع الوجدان وإشعاع الذات، وليس عطاء مبذولاً ولا رفدًا مرفودًا.
وليس القصص في واقعه إلا قطعًا حية من دنيا الناس، تفصل منها على حالها، إذ الأحياء تضطرب، والأحداث تعتمل، والأضداد تصطرع، والمشاعر تتجلى، والعواقب تتوالى على ما قدر لها أن تكون، وما أشبه القصص حين تمد أطرافه، وتفصل أحداثه بعمل البيئة في أهلها، فهو يصرفهم عن كل ما يحيط بهم، وينقلهم من بيئتهم إلى بيئة أخرى يعدها لهم، ليعيشوا بين أهلها، ويشاهدوا كيف تسير الحياة بينهم، وتجري أحداثها عليهم، لا يقيدها زمان ولا يجمعها مكان محدود، يلتقي فيها الماضي البعيد والحاضر العتيد، ويتراءى المستقبل المرتقب، ويجتمع الشرق والغرب، والسماء والأرض، وكل بمكانه لا يريم.
وإذا كان القصص الطويل يعمل عمله المنشود بفضل ما يكون فيه من بسط القول، وتفصيل الوقائع، فإن القصص القصير يعمل عمله أيضًا بفضل ما يتميز به من القصد وانتحاء الهدف، في غير رَيْثٍ ولا طول انتظار، فكأنه في ذلك لمسات الرسم المعبرة، وإيماءاته الموحية، تلقي بفكرتها متألقة باهرة، وهو بعد حقيق أن يكسب بالمعاودة والافتنان في العرض عوضًا مكافئًا عن الإسهاب وتباعد الأطراف.
وقد جعل الله لأهل مكَّة قَصصًا، ولأهل المدينة قَصصًا؛ لأن هؤلاء غير أولئك عقيدة وجبلَّة؛ أهل مكَّة عبدة أوثان، طال عهدُهم بها وصحبتهم لها أجيالاً متتابعة، فقست قلوبهم، وران عليهم الضلال والجحود، فما تصلح حالهم على المحاجة وحدها، ولكن على الزجر والوعيد والاسترهاب، كدأب كل قدم متعجرف جهول، لذلك يغلب في قصصهم ذكر الأمم البائدة التي خالفت عن أمر الله، وكذبت رسله، فكان عاقبةُ أمرِها وبالاً وخسرًا، وإذا يلتقي في قصصهم جمع من تلك الأمم وما نزل بها من بأس الله، وإذ يُعادُ عليهم تباعًا وفي صور شتى من بديع العرض وبارع الافتنان - فإنَّه لحقيق أن يهز كيان الجاحدين، ويلين من قناتهم، ويزعزع من يقينهم، بما يتسلَّل إلى نفوسهم على هينة من الاسترابة والتردد، ويغريها بالإصغاء ومعاودة النظر في موقفها الذي تردت فيه عنادًا واستكبارًا.
وهي بعدُ حَريَّة أن تقبل من إدبار، وتنقاد من حِران، إلا عن نزوع واهتداء، فعن حرص على الحياة وخوف من العذاب الذي حل مِن قبل بأمثالهم من المكذبين الضالين، وما أمر عاد وثمود وقوم شعيب منهم ببعيد، ومن قصص عاد وثمود قول الله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ . إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ . تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ . فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ . وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ . كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ . فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ . أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ . سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ . إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ . وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ . فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ . فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ . إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 18-31] (نُذُرِ: إنذاراتي، صَرْصَرًا: شديدة الصوت، تَنْزِعُ: تقلع، أَعْجَازُ نخل: هي أصوله التي لا فروع فيها، مُنْقَعِرٍ: منقلع من مغارسه، مُدَّكِرٍ: متعظ، سُعُرٍ: نيران، عكسوا عليه ما كان يقول لهم، أَشِرٌ: بطر متكبر، فِتْنَةً: امتحانًا، شِرْبٍ: نصيب، مُحْتَضَرٌ: يحضره صاحبه، تَعَاطَى: قام على أصابع رجليه ورفع يديه إلى الشيء ليأخذه، الهَشِيم: الشجر اليابس المتكسر، الْمُحْتَظِر: الذي يعمل الحظيرة، فييبس مايحتظر به من الشجر بطول الزمن ويتكسر).
وقوله سبحانه عن أهل الأيكة: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ . إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ . إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ . فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ . وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ . وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ . وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ .وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ . قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ . وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ . فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ . فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:176-189] (الأَيْكَة: الشجر الكثير الملتف، الْقِسْطَاس: أقوم الموازين وأضبطها، الْجِبِلَّة: الخلقة والأمة، عاقبهم الله بالحر الشديد، سلطه الله عليهم سبعة أيام، ثم ساق إليهم غمامة فاستظلوا بها من وهج الشمس، أمطرت عليهم نارًا أحرقتهم). وزادهم الله تذكِرة وتحذيرًا، فقص عليهم قصص أقوام آخرين، كذبوا نوحًا وإبراهيم ولوطًا وموسى وعيسى عليهم السلام، فأخذهم الله بذنوبهم، فاجتمع لأهل مكة بذلك عبرة من مصير أقوام منهم وأقوام آخرين من غيرهم، لم ينج منهم إلا من اتبع سبيل الرشاد. أما أهل المدينة فكانوا أهْلَ كِتاب، جاءتهم الرسل من قبل، ودعوهم إلى الله، فآمن من آمن، وأعرض مَنْ أعرض، فهم أجدر أن يعلموا أنَّ للناس إلهًا، وأنه سبحانه قد أرسل إليهم رسلاً من أنفسهم، ليستنقِذوهم من الضلال، وكانت عندهم البشرى برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهم بهذا أقرب إلى الله، وأحق إذا نُبِّهُوا أن ينتبهوا، وإذا دعوا أن يستجيبوا، إلا الذين طبع الله على قلوبِهم وأعمى أبصارهم، والذين أخذتهم العزة بالإثم، فركبوا رؤوسهم، وأصروا واستكبروا استكبارًا، وإذا كان عهدهم بالرِّسالة قد بعد، فإن الدعوة بموالاتها والافتنان فيها كفيلة أن ترد النافر، وتطوع العصي، ثم إنَّ للقدوة من جانب، والنزوع إلى مجاراة الجماعة واتقاء الشذوذ فيها أثرًا في الاستجابة غير مردود، وقضى الله سبحانه أن يكون من أهل المدينة أنصار الله والمجاهدون في التمكين لدينه الحنيف.
وفي بعض قصصهم حديث عن ماضي أهل الكتاب، وفي بعض آخر منه حديث عن حاضر المسلمين في جهادهم لإعلاء كلمة الله، فأما حديث الماضي ففيه تذكير بقدرة الله، وتبيين لفضله على بعض أنبيائه، إذ استجاب لزكريا عليه السلام، فوهب له الولد، وكان قد بلغه الكبر، وكانت امرأته عاقرًا (سورة آل عمران: 38-41 و45-65)، وإذ خلق عيسى بيديه كما خلق آدم، وأيده بمعجزات شتى، ولم يقصر القرآن هذا النوع على أهل المدينة، فقد سبقهم من قبل أهل مكة إليه، إذ ذكرت قصتا زكريا وعيسى عليهما السلام في سورة مريم أيضًا (سورة مريم: 2-33)، وإذا كان في قصص الأمم البائدة زجر ووعيد، فإن في قصص معجزات الأنبياء آيات باهرة على جلال الله وقدرته على الثواب والعقاب، ففي كلا النوعين مناصرة وتأييد للآخر.
وفي قصص أهل المدينة أيضًا بيان لفضل الله على بني إسرائيل، إذ نجاهم من فرعون وبطشه، ثم تولاهم بعد بالكثير من نعمه، فضلاً منه ورحمة، مع عصيانهم لموسى، وكثرة إعناتهم له وإلحاحهم عليه بالشطط في المسألة، وفي خبر القصة الآتية من قصصهم صورة من تشددهم، والمغالاة في التتبع والاستقصاء. فقد قتل منهم قتيل ولم يعرف قاتله، فرجعوا في الأمر إلى موسى، فأمرهم أن يذبحوا بقرة لم يميزها بين البقر بصفة، فجعلوا يرادونه فيها، ويستقصون أوصافها، ثم ذبحوها وما كادوا يفعلون، وضرب موسى القتيل بلسانها فأحياه الله، وأخبر بقاتله، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ . قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ . قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ . قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ . قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ . وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:67-73] (فَارِض: مسنة، بِكْر: فتية، عَوَان: نصف بين الفارض والبكر، لا ذَلُول: غير مذللة للحرث والسقي، مُسَلَّمَة: سلمها الله من العيوب، لا شِيَةَ فِيهَا: لا يخالط صفرتها شيء من لون آخر، فَادَّارَأْتُمْ: فألقى بعضكم على بعض تبعة القتل).
أما قصص المسلمين في حاضرهم فيتضمن الحديث عن الغزوات وما كانت تنتهي إليه من نصرة أو هزيمة، وتحظى غزوة الأحزاب من بين الغزوات بفضل بيان في قصصها، وتفصيل لما تقدمها من كيد، وما لابسها من ابتلاء، وما انتهت إليه من نصر عزيز، فقد تألبت عصبة الشرك، يظاهرهم حلفاء من اليهود، يريدون أن يضربوا الإسلام في مأمنه ضربة لا قيام له بعدها، فنفروا إلى المدينة جموعًا كثيرة، توافر لها العدد والعتاد، لكن الله جلت قدرته كان لهم بالمرصاد، فأرسل عليهم ريحًا عاتية جعلت تعيث في رحالهم، وتنغص مقامهم، وتقذف الرعب في قلوبهم، فلم يسعهم إلا أن يتنادوا بالرحيل، فانقلبوا راجعين، عليهم عار الهزيمة والهوان، ولقي حلفاء الغدر والخيانة من اليهود جزاءهم الذي يستحقون، فقتل المقاتلة منهم، وسبي الذراري والنساء، وفيها يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا . وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا . وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا . وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً . قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً . قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً . أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا . يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً . لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا . وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا . مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا . وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا . وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا . وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:9 -27] (عَوْرَة: غير حصينة لا يؤمن العدوان عليها، الْمُعَوِّقِينَ: المثبطين عن الرسول، بَادُونَ: نافرون إلى البدو من فرط ما منوا به من الخوف، نَحْبَهُ، النحب: الوقت والمدة، وقضى نحبه: استوفى أجله فمات، هم بنو قريظة، رضوا حكم سعد بن معاذ، فحكم بقتل المقاتلة وسبي النساء والذراري، الصياصي: الحصون، جمع صيصية). ونلاحظ أنَّ القِصَّة حين تحدثت عن أولئك الذين أظهروا الاعتذار للنبي وأضمروا الفرار من القتال خوفًا وجُبنًا - لم يفُتْها أن تنبِّه إلى حقيقة لا مراء فيها: أنَّ الفرار من الموت لا ينجي منه، إذ ليس لأحد من أمر الله عاصم، لكنَّه الوهم الخادع والخيال المريض يُرِيَانِ الباطل حقًّا، والواقع وهمًا، وفي ذلك موعظةٌ وذكرى لأولي الألباب.
والقصص في القرآن كثير متنوع، لكن أكثره عن الأنبياء وجهادهم في الرسالات، وبيان ما كانوا يلقون في سبيلها من شر وأذى، ومن إعراض وجحود، وكيف صبروا على ما كُذِّبُوا وأوذوا حتَّى جاءهم نصر الله، فنجوا هم والذين آمنوا معهم، وهلك المكذبون الضالون. وموسى عليه السلام أطول الأنبياء قصصًا، وأكثرهم ذكرًا في القرآن؛ إذ ذكر فيه 136 مرة، ويليه في الذكر إبراهيم عليه السلام فقد ذكر فيه 69 مرة. ولعل ذلك لأن حياة موسى عليه السلام حفلت بأحداث كثيرة، ومعجزات متعددة، لم تحفل بأمثالها حياة أنداده من الأنبياء الأولين، نجاه الله من فرعون رضيعًا، ثم زاد فنشأه في بيته، وكان فرعون يذبح أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم، ونجاه من القتل حين ائتمر القوم به، ليقتلوه ثأرًا للمصري الذي كان قتله، وجاء مدين وليس له فيها أهل ولا مأوى، فوصل أسبابه بمن آواه وزوَّجه، وتلقى وهو في طريق العودة إلى مصر وحي الله تعالىيأمره أن يذهب إلى فرعون، ويبلغه رسالته إليه، ولما خرج موسى وقومه من مصر تبعهم فرعون وجنوده ليردوهم عن وجههم، حتى إذا بلغ موسى وأصحابه البحر وتراءى الجمعان أوحى الله إلى موسى فضرب البحر بعصاه، فانفلق فِرْقَيْن عظيمين، وعبر موسى وقومه إلى البرية، ومضى فرعون وجنوده في أثرهم، فأدركهم الغرق جميعًا، وتمضي حياة موسى على هذا النحو، انتقالاً من حدث كبير إلى مثله أو أشد، وانتصارًا بمعجزة إلى معجزة غيرها إلى أمد بعيد. وفي القرآن مع قصص الأنبياء قصص لبعض الجماعات وآخر لبعض الأشخاص، فمن قصص الجماعات قصص أهل الكهف، أولئك الفتية المهتدون، الذين فروا بدينهم إلى الكهف يأوون إليه، ويعتصمون به، وهناك غشيتهم غاشية من النوم، لبثوا بها نيامًا 309 سنين لم يمسهم فيها سوء، ولا أصابهم شيء من بِلى، ثم بعثهم الله من نومهم الطويل، فكانوا بذلك آية من آيات قدرة الله، يعلم الناس منها أن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور (سورة الكهف: 13-20).
ومن قصص الأشخاص قصص قارون، وكان من قوم موسى آتاه الله من المال قدرًا عظيمًا، حتى كانت مفاتيح خزائنه ينوء بحملها جمع من أولي القوة، فأبطره الغنى، وركبه الغرور، فتجبر وتكبر، وكان إذا نصحه الناصحون أن يذكر آخرته في دنياه، وأن يجعل لكل نصيبًا في ماله يأبى الإصغاء لهم، ويزعم أن ما عنده من المال إنما أوتيه عن علم عنده وحسن تدبير، حتى أصبح في قومه مثل سوء، ومبعث فتنة وضلال، فخسف الله به وبداره الأرض، لا يغني عنه ماله من الله شيئًا (سورة القصص: 76-82).
ولا يكرر القرآن قصص الجماعات والأشخاص، ولكنه يذكر كلا في سورته مرة واحدة، أما قصص الأنبياء فيكررها، ولا يحكي قصة منها كاملة في سورة واحدة، إلا قصة يوسف عليه السلام، فقد ذكرت كاملة في سورته، أما غيرها فإن القرآن يفرقها في جمع من السور أجزاء تتفاوت في الطول والقصر، والذكر والحذف، والتفصيل والإجمال، وفي صور العرض وأساليب التعبير، فالجزء المذكور من قصة نوح في سورته يستغرق 28 آية، والمذكور في سورة هود يستغرق 23، والمذكور في سورة الشعراء يستغرق 17، والمذكور في سورة العنكبوت لا يزيد على آيتين اثنتين. وتتراءى الآيات حيثما ذكرت أجزاء القصص هادئة متأنية حينًا، وهادرة معجلة حينًا آخر، لكنها تحتفظ دائمًا بجوهر الأحداث على حالها، وتعرضها في صور تموج بالحركة، وتنبض بالحياة، ولا تخلو مع ذلك من إشارات لطيفة، وإيماءات دقيقة في كثير من الأحيان، فإذا هي جديدة أبدًا، فيها طلاوة، ولها بهجة ورواء، ونورد هنا من قصة إبراهيم عليه السلام الجزء الذي يحكي محاجته لأبيه وقومه، كما جاء في سور الشعراء، والعنكبوت، والصافات: فيقول الله في سورة الشعراء: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ . قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ . قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ . أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ . قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ . قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ . الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ . وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ . وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ . وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:69 -82]. ويقول في سورة العنكبوت: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ . أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ . وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:16-24]. ويقول في سورة الصافات: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ . إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ . أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ . فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ . فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ . فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ . مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ . فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ . فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ . قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ . وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ . قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ . فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات:83-98] (مِنْ شِيعَتِه: أي شيعة نوح عليه السلام على أصول الدين، سَقِيم: مشرف على السقم، وكان القوم فيما يروى - نجامين، فاستدل إبراهيم بأمارة في علم النجوم على أنه مشرف على السقم، فتفرقوا عنه، وتركوه في بيت الأصنام، فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِم: جاءها مستخفيًا، يَزِفُّونَ: يسرعون). ونلاحظ أن آيات العنكبوت لم تتعاقب على رواية المحاجة كما تعاقب غيرها، ولكن تخللها موقف فيه عبرة وموعظة، فلم تشأ أن تفلته دون أن تقول فيه، فوجهت النظر إلى قدرة الله في الخلق، وحثت على الضرب في الأرض، والنظر في آثار صنع الله، لتزيل كل ما في نفوس المكذبين من الارتياب، ولا ريب أن الغرض إذ يصادف موقعه ويحين حينه يكون أحمد بلاء، وأطيب أثرًا، وقد مر بنا مثل هذا الموقف في آيات غزوة الأحزاب، إذ توقفت في أثناء الحديث عن أحداثها، وتخاذل المتخاذلين فيها فرارًا وجبنًا لتقرر أن الموت لا بد واقع، وليس للهاربين منه نجاء إلا عاجلاً فآجلاً. وتبدو الآيات التي جئنا بها لهذا الجزء من قصة إبراهيم على ما ترى من الطلاوة والبهجة وحسن الرواء، فما يحس منها قارئ ولا سامع ثقلاً أو ملالاً من المعاودة والتكرار، وافتنان القرآن في ذكر عاقبة المكذبين كافتنانه في ذكر أنباء المرسلين، ولكنه لا يلتزم فيها نهجه في أنباء المرسلين، فربما توافقا إجمالاً وتفصيلاً كما في سورتي القمر والشعراء، وربما أطال حديث الأنباء وأوجز حديث العاقبة، كما في سورة يونس. فيقول سبحانه في سورة القمر: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ . كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:41-42]، وقال في سورة الشعراء: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشعراء:61-64] (وَأَزْلَفْنَا إلخ: أدنينا آل فرعون بعضهم من بعض وجمعناهم لئلا ينجو منهم أحد)، ويقول في سورة يونس: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]. ولكل من الإجمال والتفصيل هنا عمل يراد، ففي الإجمال ضرب من الإبهام يبعث القلق في النفس المكذبة، ويحملها على التظنن، وإعمال الخيال، والذهاب معه مذاهب شتى في تصور الواقع الموعود، وفي التفصيل مكاشفة صريحة، لا تدع لأمرئ أثارة من تعلل أو انخداع، والله سبحانه أعلم بمراده. علي النجدي ناصف
رابط المادة: http://iswy.co/e111sh