| قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| |
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:08 | |
| القاعدة الثانية: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ...)
الحمد لله،وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فحديثنا في هذه الحلقة مع قاعدة عظيمة لها أثرٌ بالغ في حياة الذين وعوها وعقلوها، واهتدوا بهداها، قاعدة لها صلة بأحد أصول الإيمان العظيمة: ألا وهو: الإيمان بالقضاء والقدر، وتلكم القاعدة هي قوله سبحانه وتعالى ـ في سورة البقرة في سياق الكلام على فرض الجهاد في سبيل الله ـ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]}.
وهذا الخير المجمل، فسره قوله تعالى في سورة النساء ـ في سياق الحديث عن مفارقة النساء ـ: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. فقوله (خيراً كثيراً) مفسر وموضح للخير الذي ذكر في آية البقرة، وهي الآية الأولى التي استفتحنا بهذا هذا الحديث.
ومعنى القاعدة بإيجاز:
أن الإنسان قد يقع له شيء من الأقدار المؤلمة، والمصائب الموجعة، التي تكرهها نفسه، فربما جزع، أو أصابه الحزن، وظن أن ذلك المقدور هو الضربة القاضية، والفاجعة المهلكة، لآماله وحياته، فإذا بذلك المقدور منحة في ثوب محنة، وعطية في رداء بلية، وفوائد لأقوام ظنوها مصائب، وكم أتى نفع الإنسان من حيث لا يحتسب!. والعكس صحيح: فكم من إنسان سعى في شيءٍ ظاهره خيرٌ، وأهطع إليه، واستمات في سبيل الحصول عليه، وبذل الغالي والنفيس من أجل الوصول إليه، فإذا بالأمر يأتي على خلاف ما يريد، و هذا هو معنى القاعدة القرآنية التي تضمنتها هذه الآية باختصار.
أيها القارئ الموفق:
ما إن تمعن بناظريك، وترجع البصر كرتين، متأملاً الآيتين الكريمتين الأولى والثانية، إلا وتجد الآية الأولى ـ التي تحدثت عن فرض الجهاد ـ تتحدث عن ألم بدني وجسميًّ قد يلحق المجاهدين في سبيل الله، كما هو الغالب، وإذا تأملت الآية الثانية ـ آية مفارقة النساء ـ ألفيتها تتحدث عن ألم نفسي يلحق أحد الزوجين بسب فراقه لزوجه!
وإذا بصرت في آية الجهاد وجدتها تتحدث عن عبادة من العبادات، وإذا تمعنت آية النساء، وجدتها تتحدث عن علاقات دنيوية. إذن فنحن أمام قاعدة تناولت أحوالاً شتى: دينية ودنيوية، بدنية ونفسية، وهي أحوال لا يكاد ينفك عنها أحد في هذه الحياة التي:
جبلت على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الأقذاء والأقذار
وقول الله أبلغ وأوجز وأعجز، وأبهى مطلعا وأحكم مقطعا: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}.
إذا تبين هذا ـ أيها المؤمن بكتاب ربه ـ فأدرك أن إعمال هذه القاعدة القرآنية: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} من أعظم ما يملأ القلب طمأنينة وراحةً، ومن أهم أسباب دفع القلق الذي عصف بحياة كثير من الناس، بسبب موقف من المواقف، أو بسبب قدر من الأقدار المؤلمة ـ في الظاهر ـ جرى عليه في يوم من الأيام!
ولو قلبنا قصص القرآن، وصفحات التاريخ، أو نظرنا في الواقع لوجدنا من ذلك عبراً وشواهدَ كثيرة، لعلنا نذكر ببعض منها، عسى أن يكون في ذلك سلوةً لكل محزون، وعزاء لكل مهموم: 1 ـ قصة إلقاء أم موسى لولده في البحر! فأنت ـ إذا تأملتَ ـ وجدتَ أنه لا أكره لأم موسى من وقوع ابنها بيد آل فرعون، ومع ذلك ظهرت عواقبه الحميدة، وآثاره الطيبة في مستقبل الأيام، وصدق ربنا: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
2 ـ وتأمل في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام تجد أن هذه الآية منطبقة تمام الانطباق على ما جرى ليوسف وأبيه يعقوب عليهما الصلاة والسلام.
3 ـ تأمل في قصة الغلام الذي قتله الخضر بأمر الله تعالى، فإنه علل قتله بقوله: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80، 81]! توقف ـ أيها المؤمن ويا أيتها المؤمنة عندها قليلاً ـ!
كم من إنسان لم يقدر الله تعالى أن يرزقه بالولد، فضاق ذرعا بذلك، واهتم واغتم وصار ضيقا صدره ـ وهذه طبيعة البشر ـ لكن الذي لا ينبغي أن يحدث هو الحزن الدائم، والشعور بالحرمان الذي يقضي على بقية مشاريعه في الحياة! وليت من حرم نعمة الولد أن يتأمل هذه الآية لا ليذهب حزنه فحسب، بل ليطمئن قلبه، وينشرح صدره، ويرتاح خاطره، وليته ينظر إلى هذا القدر بعين النعمة،وبصر الرحمة، وأن الله تعالى رُبَما صرف هذه النعمة رحمةً به! وما يدريه؟ لعله إذا رزق بولد صار - هذا الولد - سبباً في شقاء والديه، وتعاستهما، وتنغيص عيشهما! أو تشويه سمعته، حتى لو نطق لكاد أن يقول:؟؟؟
4 ـ وفي السنة النبوية نجد هذا لما ماتت زوج أم سلمة: أبو سلمة رضي الله عنهم جميعاً، تقول أم سلمة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها. إلا أخلف الله له خيرا منها». قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبى سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه!
فتأمل هذا الشعور الذي انتاب أم سلمة ـ وهو بلا شك ينتاب بعض النساء اللاتي يبتلين بفقد أزواجهن ويتعرض لهن الخُطاب ـ ولسان حالهن: ومن خير من أبي فلان؟! فلما فعلتْ أم سلمة ما أمرها الشرع به من الصبر والاسترجاع وقول المأثور، أعقبها الله خيراً لم تكن تحلمُ به، ولا يجول في خلدها. وهكذا المؤمنة.. يجب عليها أن لا تختصر سعادتها، أو تحصرها في باب واحد من أبواب الحياة، نعم.. الحزن العارض شيء لم يسلم منه ولا الأنبياء والمرسلون! بل المراد أن لا نحصر الحياة أو السعادة في شيء واحد، أو رجل، أو امرأة، أو شيخٍ!
5 ـ وفي الواقع قصص كثيرة جداً، أذكر منها ما ذكره الطنطاوي رحمه الله عن صاحب له: أن رجلاً قدم إلى المطار، وكان حريصا على رحلته، وهو مجهد بعض الشيء، فأخذته نومةٌ ترتب عليها أن أقلعت الطائرة، وفيها ركاب كثيرون يزيدون على ثلاث مئة راكب، فلما أفاق إذا بالطائرة قد أقلعت قبل قليل، وفاتته الرحلة، فضاق صدره، وندم ندماً شديداً، ولم تمض دقائق على هذه الحال التي هو عليها حتى أعلن عن سقوط الطائرة، واحتراق من فيها بالكامل! والسؤال أخي: ألم يكن فوات الرحلة خيراً لهذاالرجل؟! ولكن أين المعتبرون والمتعظون؟
6- وهذا طالب ذهب للدراسة في بلد آخر، وفي أيام الاختبارات ذهب لجزيرة مجاورة للمذاكرة والدراسة، وهو سائر في الجزيرة قطف بعض الورود، فرآه رجال الأمن فحبسوه يوماً وليلة عقاباً لصنيعه مع النبات، وهو يطلب منهم بإلحاح إخراجه ليختبر غدا، وهم يرفضون، ثم ماذا حصل!؟ لقد غرقت السفينة التي كانت تقل الركاب من الجزيرة ذلك اليوم، غرقت بمن فيها، ونجا هو بإذن الواحد الأحد!
والخلاصة ـ أيها المستمعون الكرام ـ:
أن المؤمن عليه:
أن يسعى إلى الخير جهده *** وليس عليه أن تتم المقاصد
وأن يتوكل على الله، ويبذل ما يستطيع من الأسباب المشروعة، فإذا وقع شيءٌ على خلاف ما يحب،فليتذكر هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]}.
وليتذكر أن (من لطف الله بعباده أنه يقدر عليهم أنواع المصائب، وضروب المحن، و الابتلاء بالأمر والنهي الشاق رحمة بهم، ولطفاً، وسوقا إلى كمالهم، وكمال نعيمهم)(1).
ومن ألطاف الله العظيمة أنه لم يجعل حياة الناس وسعادتهم مرتبطة ارتباطاً تاماً إلا به سبحانه وتعالى، وبقية الأشياء يمكن تعويضها، أو تعويض بعضها:
من كل شيء إذا ضيعته عوضٌ *** وما من الله إن ضيعتهُ عوضُ
وإلى لقاء قريب في الحلقة القادمة بإذن الله..
______________ (1) تفسير أسماء الله الحسنى للسعدي: (74).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:10 | |
| القاعدة الثالثة: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)
الحمد لله، وبعد: فهذه قاعدة أخرى في مسرد موضوعنا الممتد: (قواعد قرآنية)، وهي قاعدة سامقة الفروع، باسقة الجذوع؛ لأنها من القواعد السلوكية التي تدل على عظمة هذا الدين، وشموله، وروعة مبادئه، إنها القاعدة التي دلّ عليها قوله تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم)، وهذه الآية الكريمة جاءت في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة، يقول ربنا تبارك وتعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). والمعنى: أن الله تعالى يأمر من جمعتهم علاقة من أقدس العلاقات الإنسانية ـ وهي علاقة الزواج ـ أن لا ينسوا ـ في غمرة التأثر بهذا الفراق والانفصال ـ ما بينهم من سابق العشرة، والمودة والرحمة، والمعاملة.
وهذه القاعدة جاءت بعد ذلك التوجيه بالعفو: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} كلُّ ذلك لزيادة الترغيب في العفو والتفضل الدنيوي. وتأمل في التأكيد على عدم النسيان، والمراد به الإهمال وقلة الاعتناء، وليس المراد النهي عن النسيان بمعناه المعروف؛ فإن هذا ليس بوسع الإنسان. وفي قوله: {إن الله بما تعملون بصير} تعليل للترغيب في عدم إهمال الفضل، وتعريض بأن في العفو مرضاة الله تعالى، فهو يرى ذلك منا فيجازي عليه(1).
إن العلاقة الزوجية ـ في الأعم الأغلب ـ لا تخلو من جوانب مشرقة، ومن وقفات وفاء من الزوجين لبعضهما، فإذا قُدّر وآل هذا العقد إلى حل عقدته بالطلاق، فإن هذا لا يعني نسيان ما كان بين الزوجين من مواقف الفضل والوفاء، ولئن تفارقت الأبدان، فإن الجانب الخلقي يبقى ولا يذهبه مثل هذه الأحوال العارضة. وتأمل في أثر العفو، فإنه: يقرّب إليك البعيد، ويصيّر العدو لك صديقاً. بل وتذكر ـ يا من تعفو ـ أنه يوشك أن تقترف ذنباً، فيُعفى عنك إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق.
ولله ! ما أعظم هذه القاعدة لو تم تطبيقها بين الأزواج، وبين كل من تجمعنا بهم رابطة أو علاقة من العلاقات! لقد ضرب بعض الأزواج ـ من الجنسين ـ أروع الأمثلة في الوفاء، وحفظ العشرة، سواء لمن حصل بينهم وبين أزواجهم فراق بالطلاق، أو بالوفاة، أذكر نموذجاً وقفتُ عليه، ربما يكون نادراً، وهو لشخص أعرفه، طلق زوجته ـ التي له منها أولاد ـ فما كان منه إلا أسكنها في الدور العلوي مع أولاده الذين بقوا عندها، وسكن هو في الدور الأرضي، وصار هو الذي يسدد فواتير الاتصالات والكهرباء ويقوم تفضلاً بالنفقة على مطلقته، حتى إن كثيراً ممن حوله من سكان الحي لا يدرون أنه مطلق! وإني لأحسبه ممن بلغ الغاية في امتثال هذا التوجيه الرباني: {ولا تنسوا الفضل بينكم}، نعم هذا مثال عزيز؛ لكني أذكره لأبين أن في الناس خيراً، وكما قال الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس
أيها القراء الكرام:
دعونا نتوقف قليلاً عند موقف عملي ممن كان خلقَه القرآن ج، لنرى كيف كان يتمثل ويمتثل القرآن عملياً في حياته: وذلك أن أنه ج لما رجع من الطائف، بعد أن بقي شهراً يدعو أهلها، ولم يجد منهم إلا الأذى، رجع إلى مكة، فدخل في جوار المطعم بن عدي، فأمر أولاده الأربعة فلبسوا السلاح، وقام كل واحد منهم عند الركن من الكعبة، فبلغ ذلك قريشاً فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك! ومات المطعم مشركاً، لكن النبي ج لم ينس له ذلك الفضل، فأراد أن يعبر عن امتنانه لقبول المطعم بن عدي أن يكون في جواره في وقت كانت مكة كلها إلا نفراً يسيراً ضد النبي ج، فلما انتهت غزوة بدر ـ كما في البخاري ـ: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"(2).
والمعنى: لو طلب مني تركهم وإطلاقهم من الأسر بغير فداء لفعلت؛ ذلك مكافأة له على فضله السابق في قبول الجوار، فصلوات الله وسلامه على معلم الناس الخير. وإن في حياتنا صنوفاً من العلاقات ـ سوى علاقة الزواج ـ: إما علاقة قرابة، أو مصاهرة، أو علاقة عمل، أو صداقة، أو يد فضل، فما أحرانا أن نطبق هذه القاعدة في حياتنا؛ ليبقى الود نهرًا مطردًا، ولتحفظ الحقوق، وتتصافى القلوب كبياض البدر بل أبهى، وكصفاء الشهد بل أنقى، وكرونق الزهر بل أعطر و أزكى؛ وإلا فإن مجانبة تطبيق هذه القاعدة الأخلاقية العظيمة، يعني مزيداً من التفكك والتباعد والشقاق، ووأداً لبعض الأخلاق الشريفة.
ومن العلاقات التي لا يكاد ينفك عنها أحدنا: علاقة العمل: سواء كان حكومياً أو خاصاً، أو تجارةً، فقد تجمعنا بأحد من الناس علاقة عمل، وقد تقتضي الظروف أن يحصل الاستغناء عن أحد الموظفين، أو انتقال أحد الأطراف إلى مكان عمل آخر برغبته واختياره، وهذا موضع من مواضع هذه القاعدة: فلا ينبغي أن ينسى الفضل بين الطرفين، فكم هو جميل أن يبادر أحد الطرفين إلى إشعار الطرف الآخر، أنه وإن تفرقنا ـ بعد مدة من التعاون ـ فإن ظرف الانتقال لا يمكن أن ينسينا ما كان بيننا من ود واحترام، وصفاء ووئام، وتعاون على مصالح مشتركة، ولذا فإنك تشكر أولئك الأفراد، وتلك المؤسسات التي تعبر عن هذه القاعدة عملياً بحفل تكريمي أو توديعي لذلك الطرف، فإن هذا من الذكريات الجميلة التي لا ينساها المحتفى به، وإذا أردتَ أن تعرف موقع وأثر مثل هذه المواقف الجميلة، فانظر إلى الأثر النفسي السلبي الذي يتركه عدم المبالاة بمن بذلوا وخدموا في مؤسساتهم الحكومية أو الخاصة لعدة سنوات، فلا يصلهم ولا خطاب شكر!.
ـ ومن ميادين تطبيق هذه القاعدة: الوفاء للمعلمين، وحفظ أثرهم الحسن في نفس المتعلم. أعرف معلماً(3) من رواد التعليم في إحدى مناطق بلادنا من ضرب مثالاً للوفاء، إذ لم يقتصر وفاؤه لأستاذته الذين درسوه، بل امتد لأبنائهم حينما مات أستاذته ـ رحمهم الله ـ ويزداد عجبك حين تعلم أنه يتواصل معهم وهم خارج المملكة سواء في مصر أو الشام، فلله در هذا الرجل، وأكثر في الأمة من أمثاله. ورحم الله الإمام الشافعي يوم قال: الحر من حفظ وداد لحظة، ومن أفاده لفظة.
وفي واقعنا مواضع كثيرة لتفعيل هذه القاعدة القرآنية الكريمة {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}: فللجيران الذين افترقوا منها نصيب، ولجماعة المسجد منها حظ، بل حتى العامل والخادم الذي أحسن الخدمة، ولهذه القاعدة حضورها القوي في المعاملة، حتى قال بعض أهل العلم: "من بركة الرزق: أن لا ينسى العبد الفضل في المعاملة، كما قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}[البقرة:237], بالتيسير على الموسرين، وإنظار المعسرين، والمحاباة عند البيع والشراء، بما تيسر من قليل أو كثير، فبذلك ينال العبد خيراً كثيراً"(4).
إن الوفاء على الكرام فريضة *** واللؤم مقرون بذي النسيان
وترى الكريم لمن يعاشر حافظا *** وترى اللئيم مضيع الإخوان
نسأل الله تعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا هو،وأن يعيذنا من سيئها لا يعيذ منها إلا هو سبحانه.
____________________ (1) ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور بتصرف. (2) صحيح البخاري، رقم (3139). (3) هو الأستاذ عبدالعزيز بن إبراهيم الخريف من وجهاء حريملاء. (4) بهجة قلوب الأبرار: (37).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| |
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:13 | |
| القاعدة الخامسة: (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) الحمد لله، وبعد: فهذا مَرسى آخر على جُودِيّ موضوعنا الأغر: (قواعد قرآنية)، نقف فيه مع قاعدة من قواعد التعامل مع غيرنا، ومن القواعد التي تعالج شيئاً من الأخلاق الرذيلة عند بعض الناس، تلكم القاعدة هي قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}. وهذه الآية الكريمة، وضاءة المعنى، بديعة السبك والحبك، جاءت في سياق قصة موسى مع فرعون ـ الذي قضى حياته افتراء على الله ـ وسحرته الذين هداهم الله، يقول سبحانه وتعالى عن فرعون: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه: 56 - 62].
والافتراء يطلق على معانٍ منها: الكذب، والشرك، والظلم، وقد جاء القرآن بهذه المعاني الثلاث، وكلها تدور على الفساد والإفساد(1).
قال ابن القيم: مؤكداً اطراد هذه القاعدة: (وقد ضمن سبحانه أنه لا بد أن يخيب أهل الافتراء ولا يهديهم وأنه يستحتهم بعذابه أي يستأصلهم)(2) اهـ.
وإنك ـ أخي المتدبر ـ إذا تأملت هذه القاعدة وجدت في الواقع ـ وللأسف ـ من له منها نصيب وافر، وحظ حاضر سافر، ومن ذلك:
1 ـ الكذب والافتراء على الله، إما بالقول عليه بغير علم بأي صورة من الصور، استمع لقول ربنا تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: 93]}. وقد دلّ القرآن على أن القول على الله بغير علم هو أعظم المحرمات على الإطلاق! قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، وأنت إذا تأملت في هذا الأمر: وجدت أن المشرك إنما أشرك لأنه قال على الله بغير علم! ومثله الذي يحلل الحرام أو يحرم الحلال، كما حكاه الله تعالى عن بعض أحبار بني إسرائيل.
وكذا الذين يفتون بغير علم، هم من جملة المفترين على الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]. وكلُّ من تكلم في الشرع بغير علم فهو من المفترين على الله: سواء في باب الأسماء والصفات، أو في أبواب الحلال والحرام، أو في غيرها من أبواب الدين.
ولأجل هذا كان كثير من السلف يتورع أن يجزم بأن ما يفتي به هو حكم الله إذا كانت المسألة لا نص فيها، ولا إجماع، قال بعض السلف: "ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم كذا فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا"(3). "ولهذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ا حكماً حكم به، فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر! فقال: لا تقل هكذا، ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وقال ابن وهب: سمعت مالكاً: يقول: "لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحداً اقتدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنا فينبغي هذا ولا نرى هذا"(4).
فعلى من لم يكن عنده علم فيما يتكلم به أن يمسك لسانه، ويقبض مِقوَله، وعلى من تصدر لإفتاء الناس أن يتمثل هدي السلف في هذا الباب، فإنه خير مقالاً وأحسن تأويلاً.
2 ـ ومن صور تطبيقات هذه القاعدة القرآنية:
ما يفعله بعض الوضاعين للحديث ـ في قديم الزمان وحديثه ـ الذين يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويفترون عليه: إما لغرض ـ هو بزعمهم ـ حسنٌ كالترغيب والترهيب، أو لأغراض سياسية، أو مذهبية، أو تجارية، كما وقع ذلك وللأسف منذ أزمنة متطاولة وأيام غابرة!
وليعلم كل من يضع الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم أنه من جملة المفترين، فلن يفلح سعيه، بل هو خاسر وخائب كما قال ربنا: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}، ولا ينفعه ما يظنه قصداً حسناً ـ كما زعم بعض الوضاعين ـ فإن مقام الشريعة عظيم الشَّأو، وجنابها مصون ومحترم، وقد أكمل الله الدين، وأتم النعمة، فلا يحتاج إلى حديث موضوع ومختلق مفترى، يُضلُّ ولا يكاد يبين، وليست شريعةٌ تلك التي تبنى على الكذب، وعلى منْ؟ على رسولها صلى الله عليه وسلم؟
ومن المؤسف المقلق أن يُرى لسوق الأحاديث الضعيفة والمكذوبة رواجاً في هذا العصر بواسطة الإنِّترنت، أو رسائل الجوال؛ فليتق العبدُ ربَّه، ولا ينشرن شيئاً ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتثبت من صحته عنه.
3 ـ ومن صور تطبيقات هذه القاعدة القرآنية الكريمة المشاهدة في الواقع:
ما يقع ـ وللأسف الشديد ـ من ظلم وبغي بين بعض الناس، وهذا له أسبابه الكثيرة، لعل من أبرزها: الحسد ـ عياذاً بالله منه ـ والطمع في شيء من لعاعة الدنيا، أو لغير ذلك من الأسباب، ويَعْظُمُ الخطب حينما يُلبِّسُ بعضُ الناس صنيعه لبوسَ الدين؛ ليبرر بذلك فعلته في الوشاية بفلان، والتحذير من فلان بغياً وعدواناً. ولقد وقفتُ على كثير من القصص في هذا الباب، منها القديم ومنها المعاصر، اعترف أصحابها بها، وهي قصص تقطع الكبد ألماً، وتفت الفؤاد فتًا، بسبب ما ذاقوه من عاقبة افترائهم وظلمهم لغيرهم، وكانت عاقبة كذبهم خسرا.
وكما قال الكيلاني:
الصدق من كرم الطباع وطالما *** جاء الكذوب بخجلة ووجوم
و أكتفي من ذلك بهذين الموقفين؛ إذ في تضاعيف ذكرهما عظةٌ وعبرة: 1 ـ تحدثتْ إحداهن ـ وهي أستاذة جامعية ومطلقة مرتين ـ فقالت: حدثت قصتي مع الظلم قبل سبع سنوات، فبعد طلاقي الثاني قررتُ الزواج بأحد أقاربي الذي كان ينعم بحياة هادئة مع زوجته وأولاده الخمسة، حيث اتفقت مع ابن خالتي ـ الذي كان يحب زوجة هذا الرجل ـ اتفقنا على اتهامها بخيانة زوجها! وبدأنا في إطلاق الشائعات بين الأقارب، ومع مرور الوقت نجحنا، حيث تدهورت حياة الزوجين وانتهت بالطلاق!
وبعد مضي سنة تزوجت المرأةُ ـ التي طلقت بسبب الشائعات ـ برجل آخر ذي منصب، أما الرجل فتزوج امرأة غيري، وبالتالي لم أحصل مع ابن خالتي على هدفنا المنشود، ولكنا حصلنا على نتيجة ظلمنا حيث أصبت بسرطان الدم! أما ابن خالتي فقد مات حرقاً مع الشاهد الثاني، بسبب التماس كهربائي في الشقة التي كان يقيم فيها، وذلك بعد ثلاث سنوات من القضية.
2 ـ أما القصة الأخرى: فيرويها شخص اسمه (حمد): عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية حدثت مشاجرة بيني وبين أحد الطلاب المتفوقين، فقررت ـ بعد تلك المشاجرة ـ أن أدمر مستقبله، فحضرت ذات يوم مبكراً إلى المدرسة، ومعي مجموعة من سجائر الحشيش ـ التي كنا نتعاطاها ـ ووضعتها في حقيبة ذلك الطالب، ثم طلبت من احد أصدقائي إبلاغ الشرطة بأن في المدرسة مروجَ مخدرات، وبالفعل تمت الخطة بنجاح، وكنا نحن الشهود الذين نستخدم المخدرات.
يقول حمد هذا: ومنذ ذلك اليوم وأنا أعاني نتيجة الظلم الذي صنعته بيدي، فقبل سنتين تعرضت لحادث سيارة فقدت بسببه يدي اليمُنى، وقد ذهبت للطالب في منزله أطلب منه السماح، ولكنه رفض لأنني تسببت في تشويه سمعته بين أقاربه حتى صار شخصاً منبوذاً من الجميع، وأخبرني بأنه يدعو عليّ كل ليلة؛ لأنه خسر كل شيء بسبب تلك الفضيحة، ولأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب فقد استجاب الله دعوته، فها أنا بالإضافة إلى يدي المفقودة أصبحت مقعداً على كرسي متحرك نتيجة حادث آخر! ومع أني أعيش حياة تعيسة، فإني أخاف من الموت لأني أخشى عقوبة رب العباد(5).
ومن صور تطبيقات هذه القاعدة في عصرنا: ما يقع من بعض الكُتاب والصحفيين، الذين يعمي بعضَهم الحرصُ على السبق الصحفي عن تحري الحقيقة، والتثبت من الخبر الذي يورده، وقد يكون متعلقاً بأمور حساسة تطال العرض والشرف، وليتدبروا جيداًً، هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}، والقاعدة المحكمة في باب الأخبار: {فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة}. و مع الختام أهمس بقول القائل:
الصدق في أقوالنا أقوى لنا *** والكذب في أفعالنا أفعى لنا
_________________ (1) مفردات الراغب: (634). (2) الصواعق المرسلة - (4 / 1212). (3) إعلام الموقعين عن رب العالمين - (1 / 39). (4) المصدر السابق. (5) نشرت هذه القصص في مقال للكاتب محمد بن عبدالله المنصور، بعنوان: (رسالة بلا عنوان!) في جريدة اليوم الإلكترونية، عدد (11854)، الأثنين 26/10/1426هـ، الموافق: 28/11/2005 م.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:14 | |
| القاعدة السادسة: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) الحمد لله، وبعد: فهذه نسمة عنبرية، وزهرة عبهرية مع موضوعنا المرقوم بـ: (قواعد قرآنية)، نقف فيها مع قاعدة من القواعد المهمة في بناء المجتمع، وربط أواصره، وإصلاحه، وتدارك أسباب تفككه، إنها قول ربنا العليم الخبير: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.
وهذه القاعدة القرآنية الكريمة، وردت مشرقة المعنى، مسفرة المبنى، في سياق الحديث عما قد يقع بين الأزواج من أحوال ربما تؤدي إلى الاختلاف والتفرق، وأن الصلح بينهما على أي شيء يرضيانه خير من تفرقهما، يقول سبحانه: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
ويمكننا القول: إن جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الإصلاح بين الناس هي من التفسير العملي لهذه القاعدة القرآنية المتينة. ومن المناسبات اللطيفة أن ترد هذه الآية في سورة النساء، وهي نفس السورة التي ورد فيها قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].
يقول ابن عطية: ـ مؤكداً اطراد هذه القاعدة ـ: (وقوله تعالى: {والصلح خير} لفظٌ عام مطلق، يقتضي أن الصلح الحقيقي ـ الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف ـ خيرٌ على الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة)(1).
ومعنى الآية باختصار (2): أن المرأة "إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي: تَرّفَعه عنها، وعدمِ رغبتِه فيها وإعراضه عنها، فالأحسن ـ في هذه الحالة ـ أن يصلحا بينهما صلحا، بأن تسمح وتتنازل المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها: إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن، أو القسم بأن تسقط حقها منه، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها، فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها، لا عليها ولا على الزوج، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال، وهي خير من الفرقة، ولهذا قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}".
يقول العلامة السعدي: "ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى: أن الصلح بين من بينهما حقٌ أو منازعة ـ في جميع الأشياء ـ أنه خيرٌ من استقصاء كل منهما على كل حقه، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح. وهو ـ أي الصلح ـ جائزٌ في جميع الأشياء إلا إذا أحل حراماً أو حرم حلالاً، فإنه لا يكون صلحاً، وإنما يكون جوراً. واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير، والخيرُ كلُّ عاقلٍ يطلبه ويرغب فيه، فإن كان -مع ذلك- قد أمر الله به وحث عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه.
وذكر المانع بقوله: {وأحضرت الأنفس الشح} أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعاً، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك.
فمتى وفق الإنسان لهذا الخلق الحسن، سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب، بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر"(3) انتهى كلامه.
ومن تأمل القرآن، وأجال فيه ناظريه، رأى سعة هذه القاعدة من جهة التطبيق، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره من الإصلاح بين الأزواج، فإننا نجد في القرآن الحث على الإصلاح بين الفئتين المتقاتلتين، ونجده يثني ثناء ظاهراً على الساعين في الإصلاح بين الناس: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
بل تأمل ـ أخي القارئ ـ في افتتاح سورة الأنفال، فإنك مبصرٌ عجباً، فإن الله تعالى افتتح هذه السورة بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [الأنفال:1] فلم يأت الجوابُ عن الأنفال مباشرة، بل جاء الأمر بالتقوى وإصلاحِ ذاتِ البين، وطاعةِ الله ورسوله؛ لأن إغفال هذه الأصول الكبار سببٌ عظيم في شر عريض، ولعل من أسرار إرجاء الجواب عن هذا التساؤل: لبيان أن التقاتل على الدنيا ـ ومنها الأنفال (وهي الغنائم) ـ سببٌ في فسادِ ذات البين، ولهذا جاء الجواب عن سؤال الأنفال بعد أربعين آية من هذا السؤال. ولأهمية هذا الموضوع ـ أعني الإصلاح ـ: أجازت الشريعة أخذ الزكاة لمن غرم بسبب الإصلاح بين الناس.
إذا تقرر هذا المعنى المتين والشامل لهذه الآية الكريمة (والصلح خير)، فمن المهم ـ حتى نفيد من هذه القاعدة القرآنية ـ أن نسعى لتوسيع مفهومها في حياتنا العملية، وأصدق شاهد على ذلك سيرة نبينا ج الذي طبق هذه القاعدة في حياته، وهل كانت حياته إلا صلاحاً وإصلاحا؟ وكما قال شوقي:
المصلحون أصابعٌ جمعت يداً *** هي أنت، بل أنت اليدُ البيضاءُ
1 ـ وبخصوص هذا الموضع الذي وردت فيه هذه القاعدة القرآنية العظيمة، طبق النبي ج هذه القاعدة وأجراها حينما كبرت زوجه أم المؤمنين سودة بنت زمعة ل،وقع في نفسه أن يفارقها، فكانت تلك المرأة عاقلة رشيدة، فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها، وأبقاها على ذلك.
وإذا برحنا مطوفين إلى ميدان سيرته الفسيح ج فإنا واجدون جملةً من الأمثلة السامقة الرائقة، منها: 2 ـ أنموذج آخر في قصة بريرة ـ وهي أَمَةٌ قد أعتقتها عائشة ل ـ فكرهت أن تبقى مع زوجها، وكان زوجها شديد التعلق بها، حتى قال ابن عباس ب ـ كما في الترمذي(4) ـ وهو يصف حب مغيث لبريرة: وكان يحبها، وكان يمشي في طرق المدينة ـ وهو يبكي ـ واستشفع إليها برسول الله ج، فقالت: أتأمر؟ قال: لا بل أشفع، قالت: لا أريده! فانظر كيف حاول ج أن يكون واسطة خير بين زوجين انفصلا، وشفع لأحد الطرفين لعله يقبل، فلم يشأ أن يجبر؛ لأن من أركان الحياة الزوجية الحب، والرغبة!
3 ـ خرج مرة ج ـ كما في الصحيحين ـ من حديث سهل بن سعد ا أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأُخْبِرَ رسول الله ج بذلك، فقال: اذهبوا بنا نصلح بينهم(5).
وعلى هذه الجادة النبوية سار تلاميذه النجباء من أصحابه الكرام وغيرهم ممن سار على نهجهم، ومن ذلك: 4 ـ خروج ابن عباس ب لمناظرة الخوارج ـ الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي ا ـ فرجع منهم عدد كبير. ومن قلّب كتب السير وتنقل بين ردهاتها ألفى نماذج مشرقة لجهود فردية في الإصلاح بين الناس على مستويات شتى، ولعل مما يبشر بخير ما نراه من لجان إصلاح ذات البين، والتي هي في الحقيقة ترجمة عملية لهذه القاعدة القرآنية العظيمة: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.
فهنيئاً لمن جعله الله من خيار الناس، الساعين في الإصلاح بينهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ثم الصلاة على المختار سيدنا *** وأفضل القول قول هكذا ختما
____________________ (1) المحرر الوجيز ـ موافق للمطبوع - (2/141). (2) هذا التوضيح مختصر من كلام العلامة السعدي. (3) تفسير السعدي: ( ). (4) في ح (1156). (5) صحيح البخاري: ( ).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:16 | |
| القاعدة السابعة: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) الحمد لله، وبعد: فهذا مَناخ ظليل بين أفنان وخمائل موضوعنا المحجّل، ذي الغرة البهية: (قواعد قرآنية)، نتفيأ فيه ظلال قاعدة من قواعد التعامل الإنساني، تلكم القاعدة هي ما دل عليها قوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91].
لقد وردت هذه القاعدة في سياق الحديث عن موقفٍ سجله القرآن لبيان أصناف المعتذرين عن غزوة تبوك ـ والتي وقعت في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة ـ ومَنْ هم الذين يعذرون والذين لا يعذرون؟! يقول سبحانه وتعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 90 - 93].
والمعنى: "ليس على أهل الأعذار الصحيحة من ضعف أبدان أو مرض أو زَمَانة، أو عدم نفقةٍ إثمٌ، بشرط لا بد منه، وهو: " إذا نصحوا " أي: بنياتهم وأقوالهم سراً وجهراً، بحيث لم يرجفوا بالناس، ولم يثبطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا...، ثم أكد الرجاء بقوله " والله غفور رحيم" (1).
وبما أن القاعدة المقررة عند أكثر أهل العلم هي: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا يعني توسيع دلالة هذه القاعدة القرآنية التي دل عليها قوله سبحانه: (ما على المحسنين من سبيل). وهذا يدل على أن الأصل هو سلامة المسلم من أن يلزم بأي تكليف سوى تكليف الشرع، كما أن الآية تدل بعمومها أن الأصل براءة الذمة من إلزام الإنسان بأي شيء فيما بينه وبين الناس حتى يثبت ذلك بأي وسيلة من وسائل الإثبات المعتبرة شرعاً.
أيها المحب لكتاب ربه:
لقد كانت هذه الآية ـ ولا زالت ـ دليلاً يفزع إليه العلماء في الاستدلال بها في أبواب كثيرة في الفقه، خلاصته يعود إلى أنه "من أحسن على غيره، في نفسه أو في ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن -وهو المسيء- كالمفرط، أن عليه الضمان"(2).
وإذا تجاوزنا الجانب الفقهي الذي أشرتُ إليه بإجمال، فلنتلفت قليلاً إلى ميدان من الميادين التي نحتاج فيها إلى هذه القاعدة.. ذلك أن حياتنا تحفلُ بمواقف كثيرة يُفْتَحُ فيها باب الإحسان، وتتاح لآخرين أن يحسنوا على غيرهم فيبادروا بتقديم خدمة ما، وأول هؤلاء هم أهل بيت الإنسان: من زوجة أو زوج أو ولد! فمن المؤسف أن يتجانف البعض هداية هذه القاعدة القرآنية، فيلحقوا غيرهم اللوم والعذل، والعتاب الشديد، مع أنهم محسنون متبرعون، فيساهمون ـ بذلك ـ شعروا أم لم يشعروا بإغلاق باب الإحسان أو تضييق دائرته بين العباد.
أخي الموفق: تأمل هذا الصورة:
يسعى أحد الناس في محاولة إتقان عملٍ دعوي بناء، أو اجتماعي مصلح، أو عائلي مثمر، ويبذل فيه جهده، وربما يبذل ماله، ويسير بعزمات ووثبات، وهو في هذا الأثناء يطلب من غيره أن يساعده ويعينه على العمل فلا يجد مواسيا، ولا رفدا، ولا ساعدا مساعدا، فيمضي وحده، ويجتهد مثابراً لينجح العمل ويبدوا وضاح المحيا، متألق الطلعة، فإذا جاء موعد الإفادة من هذا العمل، وظهرت بعض الثغرات، وبعض النقص الذي لا يسلم منه عمل البشر، فإذا به ـ بدلاً من أن يقابل بالشكر والتقدير مع التنبيه على الأخطاء بأسلوب لطيف ـ! يقابل بعاصفة من اللوم والعتاب، هي أشبه برمي الشرر، أو وخز الإبر، مع أن هذا الشخص قد يكون استنجد بغيره للمساعدة فلم يجد، فواصل العمل وحده، فلما حان أوان قطف الثمرة، لم يجد إلا اللوم والعتاب والسباب، بسبب قلة حيلته، وضعف قدرته، أليس هذا من أحق الناس بقوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل}؟!
ثم أوليس أولئك خليقون أن يقال لهم:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ *** من اللوم، أو سدوا المكان الذي سدوا
وأمثال هذه الصورة تتكرر في مواقف أخر.. في البيت، في المدرسة، في المؤسسة، وفي الشركة، في الدائرة الحكومية، وفي العمل الإعلامي، مع العلماء والدعاة، والمحتسبين، ومع غيرهم، فما أحوجنا إلى استشعار هذه القاعدة، وطريقة التعامل مع أوهام أو أخطاء المحسنين؛ لكي لا ينقطع باب الإحسان، فإنه إذا كثر اللوم على المحسنين والمتبرعين، وتقاعس من يفترض منهم العمل، فمن يبقى للأمة، ومن يوردها على العذب الزلال؟!
وهذا كلّه ـ بلا ريب ـ لا يعني عدم التنبيه على الأخطاء أو التذكير بمواضع الصواب التي يفترض أن ينبه عليها، ولكن المهم أن يكون ذلك بأسلوب يحفظ جهد المحسن، ولا يفوت فرصة التنبيه على الخطأ؛ ليرتقي العمل، ويزداد جودة وجمالاً، ونضرة ورواءً.
ومن المهم ـ أيضاً ـ ونحن نتحدث عن هذه القاعدة القرآنية، أن لا نخلط بين ما تقدم وبين أن يلتزم الإنسان بشيءٍ ما، ثم يتخلى عنه، بحجة أنه محسن، فإن هذا من الفهم المغلوط لهذه القاعدة، ذلك أن الإنسان قبل أن يلتزم بوعد لطرف آخر فهو في دائرة الفضل والإحسان، لكن إن التزم بتنفيذ شيءٍ، والقيام به، فقد انتقل إلى دائرة الوجوب الذي يستحق صاحبه الحساب والعتاب، ولعل مما يقرب تصور هذا المعنى: النذر، فإن النذر إلزام المكلف نفسه بشيءٍ لم يكن واجباًً عليه بأصل الشرع، كمن ينذر أن يتصدق بألف ريال، فهذا قبل نذره لا يلزمه أن يتصدق ولو بريال واحد، لكنه لما نذر، فقد التزم، فوجب عليه الوفاء، وهكذا ما نحن بصدده، وإنما نبهت على هذا لأن من الناس من أساء فهم هذه القاعدة، وطردها في غير موضعها، فصار ذلك سبباً في وجود النفرة بين بعض الناس؛ لأن أحد الطرفين اعتقد التزام الطرف الآخر، فاعتمد عليه ـ بعد الله ـ ثم تخلى ذلك الطرف عما التزم بحجة أنه محسن فوقع خلاف المقصود من باب الإحسان.
وبما تقدم من هذا الإيضاح، يتبين لك ـ أيها المؤمن الموقر لكلام ربه ـ عظمةُ هذا الكتاب العزيز، حيث تأتي الآية موجزة المبنى، معدودة اللفظ، ثم هي تزخز بمعانٍ آسرة، كبيرة المضمون، كثيرة الدلالة، غزيرة النبع، فيفيد منها العلماء الأجلاء، والمربون الأكفاء، وأمم من الناس تسقي من عيونها المتفجرة إشراقة وجزالة، وجلالة وفخامة، وإيجازا في إعجاز، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.
وصدق حسان رضي الله عنه حين قال:
لقد كان في القرآن لو كنت عالما *** به مجدنا في محكمات البصائر
_________________ (1) ينظر: المحرر الوجيز ـ موافق للمطبوع - (3 / 78)، تفسير ابن كثير / دار الفكر - (2 / 464). (2) تفسير السعدي: (347).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:17 | |
| القاعدة الثامنة: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) أما بعد: فالمسطور يبدئ ويعيد، في ثوب جديد، ويسفر بادي الحُسن وحروفه زكية، وسيماه: (قواعد قرآنية)، نقف فيه مع قاعدة من القواعد القرآنية العظيمة، التي تؤسس مبدأً شريف القدر، سامي الذرى، إنه مبدأ العدل، وهذه قاعدة طالما استشهد بها العلماء والحكماء والأدباء؛ لعظيم أثرها في باب العدل والإنصاف، تلكم هي ما دل عليها قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر: 7](1).
والمعنى: أن المكلفين إنما يجازون بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وأنه لا يحمل أحدٌ خطيئةَ أحد ولا جريرتَه، ما لم يكن له يدٌ فيها، وهذا من كمال عدل الله تبارك وتعالى وحكمته. ولعل الحكمة من التعبير عن الإثم بالوزر؛ لأن الوزر هو الحمل ـ وهو ما يحمله المرء على ظهره ـ فعبر عن الإثم بالوزر لأنه يُتَخّيَلُ ثقيلاً على نفس المؤمن(2).
وهذه القاعدة القرآنية تكرر تقريرها في كتاب الله تعالى خمس مرات، وهذا ـ بلا شك ـ له دلالته ومغزاه. وإن هذا المعنى الذي دلت عليه القاعدة ليس من خصائص هذه الأمة المحمدية، بل هو عام في جميع الشرائع، تأمل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (*) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (*) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (*) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (*) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (*) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (*) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (*) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (*) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 33 - 41].
وهذا المعنى الذي قررته القاعدة لا يعارض ما دلّ عليه قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، وقولُه: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]؛لأن هذه النصوص تدل على أن الإنسان يتحمل إثم ما ارتكب من ذنوب، وإثم الذين أضلهم بقوله وفعله، كما أن الدعاة إلى الهدى يثيبهم الله على عملهم وعمل من اهتدى بهديهم، واستفاد من علمهم.
ولهذا لما اجتهد جماعة من صناديد الكفر في إبقاء بعض الناس على ما هم عليه من الكفر، أو حث من كان مؤمناً لينتقل من الإيمان إلى الكفر، أغروهم بخلاف هذه القاعدة تماماً، فقالوا ـ كما حكى الله عنهم ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 12، 13].
وإنك أخي المتوسم إذا تأملت في كلام العلماء في كتب التفسير والحديث والعقائد، والفقه، وغيرها رأيت عجباً من كثرة الاستدلال بهذه القاعدة في مواطن كثيرة: فكم من رأي نقضه فقيه بهذه الآية، بل كم مسألة عقدية صار الصواب فيها مع المستدل بهذه الآية، والمقام ليس مقام عرض لهذه المسائل، بل المقصود التنبيه على عظيم موقعها.
وإذا أردنا أن نبحث عن أمثلة تطبيقية لهذه القاعدة في كتاب الله، فإن من أشهر الأمثلة وأظهرها تطبيق نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم لها، وذلك أنه حينما احتال على أخذ أخيه بنيامين، بوضع السقاية في رحل أخيه ـ في القصة المعروفة ـ جاء إخوته يقولون: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 78]} فأجابهم يوسف قائلاً: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ[يوسف: 79]}.
قارن هذا ـ بارك الله فيك ـ بقول فرعون حينما قال له كَهَنته: إنه سيولد من بني إسرائيل غلامٌ ستكون نهاية ملكك على يده! لقد أصدر مرسومه الظالم الآثم بقتل جميع من يولد من بني إسرائيل ـ وهم آلاف وربما أضعاف ذلك بعشرات ـ من أجل طفلٍ واحد فقط!! ولكن الذي كان يقول للناس: أنا ربكم الأعلى لا يستغرب منه هذا الأمر الخُسْر! وفي الواقع ثمة أناس ساروا على هدي يوسف؛،فتراهم لا يؤاخذون إلا من أخطأ أو تسبب في الخطأ، ولا يوسعون دائرة اللوم على من ليس له صلة بالخطأ، بحجة القرابة أو الصداقة أو الزمالة ما لم يتبين خلاف ذلك!
وفي المقابل فمن الناس من يأخذ المحسنين أو البرءاء بذنب المسيئين..
وإليك هذه الصورة التي قد تكرر كثيراً في واقع بيوتنا: يعود الرجل من عمله متعباً، فيدخل البيت فيجد ما لا يعجبه من بعض أطفاله: إما من إتلاف تحفة، أو تحطيم زجاجة، أو يرى ما لا يعجبه من قِبَلِ زوجته: كتأخرها في إعداد الطعام، أو زيادة ملوحة أو نقصها، أو غير ذلك من الأمور التي قد تستثير بعض الناس، فإذا افترضنا أن هذه المواقف مما تستثير الغضب، أو أن هناك خطأً يستحق التنبيه، أو التوبيخ، فما ذنب بقية الأولاد الذين لم يشاركوا في كسر تلك التحفة ـ مثلاً ـ؟! وما ذنب الأولاد أن يَصُبَّ عليهم جام غضبه إذا قصرت الزوجة في شيء من أمر الطعام؟! وما ذنب الزوجة ـ مثلاً ـ حينما يكون المخطئ هم الأولاد؟! ومثله يقال في علاقة المعلم والمعلمة مع طلابهم، أو المسؤول في عمله، بحيث لا ينقلوا مشاكلهم إلى أماكن عملهم، فيكون من تحت أيديهم من الطلاب والطالبات أو الموظفين ضحية لمشاكل ليس لهم فيها ناقة ولا جمل!! هنا يستحضر المؤمن أموراً، من أهمها: أن يتذكر هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فإن هذا خيرٌ مآلاً وأحسن تأويلاً، وأقرب إلى العدل والقسط الذي قامت عليه السماوات والأرض.
وثمة فهمٌ خاطئ لهذه القاعدة القرآنية، وهو أن بعضا الناس يظن أن هذه القاعدة مخالفة لما يراه من العقوبات الإلهية التي تعم مجتمعاً من المجتمعات، أو بلداً من البلاد، حينما تفشو المنكرات والفواحش والمعاصي، وسَبَبُ خطأ هذا الفهم، أن المنكر إذا استعلن به الناس، ولم يوجد من ينكره، فإن هذا ذنب عظيمٌ اشترك فيه كلُّ من كان قادراً على الإنكار ولم ينكر، سواءٌ كان الإنكار باليد أو باللسان أو بالقلب وذلك أضعف الإيمان، ولا عذر لأحد بترك إنكار القلب، فإذا خلا المجتمع من هذه الأصناف الثلاثة ـ عياذاً بالله ـ مع قدرة أهلها عليها استحقوا العقوبة، وإن وجد فيهم بعض الصالحين.
تأمل معي قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]! يقول العلامة السعدي(3): في تفسير هذه الآية: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} بل تصيب فاعل الظلم وغيره،وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره،وتقوى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن.
ويوضح معنى هذه الآية الكريمة ما رواه الإمام أحمد: بسند حسن ـ كما يقول الحافظ ابن حجر(4) ـ من حديث عدي بن عميرة ا سمعت رسول الله ج يقول: "إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ـ وهم قادرون على أن ينكروه ـ فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة"(5).
وروى الإمام أحمد: في مسنده (6) بسند جيد عن أبي بكر الصديق ا أنه خطب فقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} سمعت رسول الله ج يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه". وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش ل أنها سألت رسول الله ج فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وفيرة، يضيق المقام بذكرها وعرضها، والمقصود إزالة هذا الإشكال الذي قد يعرض لبعض القارئين في فهم هذه القاعدة القرآنية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
و قبيل أن أضع شباة القلم، أجره إلى قول المؤمل المحاربي:
قَد بَيَّنَ الله في الكتاب *** فلا وازِرَةٌ غَيرَ وِزرِها تزرُ
______________ (1) وقد نص على كونها قاعدة الإمام المجدد في تفسيره: (57). (2) ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور 5/293. (3) تفسير السعدي (318). (4) فتح الباري لابن حجر (13/4). (5) المسند 29/258 رقم (17720). (6) المسند 1/178.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:19 | |
| القاعدة التاسعة: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) - 1 الحمد لله، وبعد: فمرحى بمتقلَّب أبصاركم النضرة، إلى مترقَّب متَّكئِنا، ومرصوف حروف تطوف، وعلى جبينها عنواننا المتوثب المحفز: (قواعد قرآنية)، لنتفيأ ظلال قاعدة من القواعد القرآنية العظيمة، التي هي أثر من آثار كمال علم الله، وحكمته وقدرته في خلقه ـ، تلكم هي ما دل عليها قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36].
وهذه الآية جاءت في سياق قصة امرأة عمران، وهي والدة مريم ـ عليها السلام ـ يقول تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} [آل عمران: 35، 36].
وخلاصة القصة: أن امرأة عمران ـ وهي أم مريم ـ قد نذرت أن يكون مولودها القادم خادما لبيت المقدس، فلما وضعت مولودها، قالت معتذرة: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} لأن قدرة الذكر على خدمة بيت المقدس، والقيام بأعباء ذلك أكثر من الأنثى التي جبلها الله تعالى على الضعف البدني، وما يلحقها من العوارض الطبيعية التي تزيدها ضعفاً: كالحيض والنفاس.
ومن اللطائف في تركيب هذه القاعدة: أن الله تعالى قال { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } مع أنه لو قيل: "وليست الأنثى كالذكر" لحصل المقصود، ولكن لما كان الذَّكر هو المقصود قُدّم في الذِّكر؛ ولأنه هو المرجو المأمول فهو أسبق إلى لفظ المتكلم (1).
ولقد بين القرآن هذا التفاوت بين الجنسين في مواضع كثيرة، منها: قوله تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ } وهم الرجال { عَلَى بَعْضٍ } وهن النساء، ومنها: قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، (وذلك لأن الذكورة في كمال خلقي، وقوة طبيعية، وشرف وجمال، والأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي، كما هو محسوس مشاهد لجميع العقلاء، لا يكاد ينكره إلا مكابر في المحسوس، وقد أشار جل وعلا إلى ذلك بقوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]؛ فالأنثى تنشأ في الحلية، أي: الزينة ـ من أنواع الحلي والحلل ـ لتجبر بذلك نقصها الخَلْقي) (2).
بل يقال: إن بعض ما جبل الله عليه الأنثى هو نوع من الكمال في حقها، وإن كان نقصاً في حق الرجال، (ألا ترى أن الضعف الخَلْقي والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال، مع أنه يعد من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب)(3).
هذا هو حكم الله القدري: أن الذكر ليس كالأنثى، وهذا حكم الأعلم بالحِكَمِ والمصالح ـ، هذا كلام الذي خلق الخلق، وعَلِمَ ما بينهم من التفاوت والاختلاف: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، وقد تفرع على ذلك: اختلاف بين الذكر والأنثى في جملة من الأحكام الشرعية ـ وإن كانا في الأصل سواء ـ.
وهذا الاختلاف في الأحكام الشرعية بين الذكر والأنثى راجع إلى مراعاة طبيعة المرأة من حيث خلقتها، وتركيبها العقلي، والنفسي، وغير ذلك من صور الاختلاف التي لا ينكرها العقلاء والمنصفون من أي دين، وليعلم المؤمن هاهنا قاعدة تنفعه في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة، وهي: أن الشرع لا يمكن أن يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متناقضين، وشأن المؤمن الحق أن لا يعارض الشرع بعقله القاصر، بل شأنه أن يتلمس الحكم من وراء ذلك التفريق، أو هذا الجمع.
ومن توهم ـ من الجهال والسفهاء ـ أنهما سواء فقد أبطل دلالة القرآن والسنة على ذلك: أما القرآن فإن القاعدة التي نخن بصدد الحديث عنها دليل واضح على هذا، وأما السنة فإن النبي ج لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال ـ كما ثبت ذلك في البخاري من حديث ابن عباس ب(4) ـ، فلو كانا متساويين لكان اللعنُُ باطلاً، ومعاذ الله أن يكون في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لغو أو باطل!
وعَوداً على هذه القاعدة: { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى }، فلنتأمل شيئاً من حِكَمِ الله تعالى في التفريق بين الذكر والأنثى في بعض الأحكام الشرعية، ومن ذلك:
1 ـ التفريق في الميراث:
فلا يستريب عاقل أن سنة الله اقتضت أن يكون الرجل هو الذي يكدح ويتعب في تحصيل الرزق، وهو الذي يطلب منه دفع الميراث، والمشاركة في دفع الدية ـ عند قيام المقتضي لذلك ـ فالذكر مترقب دوماً للنقص من ماله، بعكس الأنثى فهي دوماً تترقب الزيادة في مالها: حينما يدفع لها المهر، وحينما ينفق عليها من قبل وليها. يقول العلامة الشنقيطي: "وإيثارُ مترقب النقص دائماً على مترقب الزيادة دائماً ـ لجبر بعض نقصه المترقب ـ حكمتُه ظاهرة واضحة، لا ينكرها إلا من أعمى الله بصيرته بالكفر والمعاصي"(5).
2 ـ التفريق في الشهادة:
وهذا نصت عليه آية الدين: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] ، كما دلت عليه السنة الصحيحة عن النبي ج،وبين أن سبب هذا هو نقصٌ في عقلها.
وهذا التفريق ـ لمن تأمله ـ عين العدل، يقول الشيخ السيد رشيد رضا: مبيناً هذا المعنى: "إن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها فيها ضعيفة، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية ـ التي هي شغلها ـ فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، يعني أن طبع البشر ذكراناً وإناثاً أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر اشتغالهم بها، ولا ينافي ذلك اشتغال بعض النساء الأجانب في هذا العصر الأعمال المالية فإنه قليل لا يعول عليه، والأحكام العامة إنما تناط بالأكثر في الأشياء وبالأصل فيها." (6) انتهى.
ولا يظنن أحدٌ أن في ذلك انتقاصاً لقدرها، بل هو تنزيهٌ لها عن ترك مهمتها الأساسية في التربية والقرار في البيت، إلى مهمة أقل شأناً وسمواً، وهي ممارسة التجارة والمعاملات المالية! وقد أشار فريق من الباحثين إلى أن المرأة الحامل ينكمش عندها حجم الدماغ، ولا يعود لحجمه الطبيعي إلا بعد أشهر من وضعها.
وليعلم أن هذا الحكم ـ أعني كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل ـ ليس مطرداً في جميع الأبواب، بل إنها مثل الرجل في بعض الأحكام، كشهادتها في دخول شهر رمضان، وفي باب الرضاع، والحيض، والولادة، واللعان وغير ذلك من الأحكام.
ونحن بحمد الله مؤمنون بحكم الله وقدره، ولا تزيدنا البحوث الحديثة إلا يقيناً، ونقطع بأن أي بحث يخالف صريح القرآن فنتيجته غلط، وإنما أتي صاحبها من سوء فهمه.
أيها القارئ الحصيف:
وليس هذا التفريق بين الذكر والأنثى كله متحيّز إلى الرجل، بل جاءت أحكام تفرق بينهما تفريقاً تميزت فيه المرأة، ومن ذلك: أن الجهاد لا يجب على النساء لطبيعة أجسادهن، فسبحان العليم الحكيم الخبير. ولوشل حديثنا بقية، وله سَواقٍ أخرى، فإلى الحلقة القادمة بإذن الله، ليتمم الحديث عن قاعدة هي من أحسن الحديث.
_________________ (1) ينظر: التحرير والتنوير 3/86. (2) ينظر: أضواء البيان 3/498 ط.الراجحي. (3) ينظر: أضواء البيان 3/501 ط.الراجحي. (4) أخرجه البخاري برقم (5885). (5) ينظر: أضواء البيان 3/500 ط.الراجحي. (6) تفسير المنار 3/104.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:20 | |
| القاعدة العاشرة: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) - 2 الحمد لله، وبعد: فهذه أحرف ممتدة بالقاعدة القرآنية السابقة، التي دل عليها قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36]. و قد ذكرتُ سلفا، موضعَ ورود هذه القاعدة، وسِرَّ تقديم الذكر على الأنثى في الآية، كما أشرتُ إلى نماذج تطبيقية من القرآن الكريم على هذه القاعدة، كما أشرتُ إلى شيء من الحكم في التفريق بين المرأة والرجل في مسألة الميراث والشهادة، وفي هذا المسطور نستكمل ما بقي من إشارات تتعلق بيان هذه القاعدة التي كثر الأخذ والرد فيها في زماننا هذا، فنقول:
لقد حكم الله العليم الخبير بأن الذكر ليس كالأنثى، لذا فعلى المؤمن أن يحذر من كلمة راجت على كثير من الكتاب والمثقفين، وهي كلمة "المساواة" في مقام الحديث عن موضوع المرأة، وهي كلمةٌ لم ترد في القرآن بهذا المعنى الذي يورده أولئك الكتاب، كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}، وكقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}، وكقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} والصواب ـ كما قال شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين: فيما سمعته منه ـ أن يعبر عن ذلك بـالعدل؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعدل وَالْأِحْسَانِ}، ولم يقل: يأمر بالمساواة! لأن في كلمة المساواة إجمالاً ولبساً بخلاف العدل، فإنها كلمة واضحة بينه صريحة في أن المراد أن يعطى كل ذي حق حقه. انتهى.
ولكي يتضح كلام شيخنا، أوضح ذلك: فإن دلالة العدل تقتضي أن يتولى الرجل ما يناسبه من أعمال، وأن تتولى المرأة ما يناسبها من أعمال، بينما كلمة مساواة: تعني أن يعمل كلٌ من الجنسين في أعمال الآخر! ومدلول كلمة العدل: أن تعمل المرأة عدداً من الساعات يناسب بدنها وتكوينها الجسمي والنفسي، بينما مقتضى المساواة: أن تعمل المرأة نفس ساعات الرجل، مهما اختلفت طبيعتهما! وهذا كلّه عين المضادة للفطرة التي فطر الله عليها كلاً من الرجل والمرأة!
ولهذا لما أصرت بعض المجتمعات الغربية على هذه المصادمة للفطرة، وبدأت تساوي المرأة بالرجل في كل شيء ذاقت ويلاتها ونتائجها المرة، حتى صرخ العقلاء منهم ـ رجالاً ونساء ـ وكتبَوا الكتب والرسائل التي تحذر مجتمعاتهم من الاستمرار وراء هذه المصادمة، ومن ذلك: 1 ـ ما قالته أفيسون زعيمة حركة كل نساء العالم تقول: '' هناك بعض النساء حطمن حياتهن الزوجية عن طريق إصرارهن على المساواة بالرجل، إن الرجل هو السيد المطاع، ويجب على المرأة أن تعيش في بيت الزوجية، وأن تنسى كل أفكارها حول المساواة ''.ا.هـ.
2 ـ وهذه هيلين أندلين وهي خبيرة في شؤون الأسرة الأمريكية تقول: ''إن فكرة المساواة - التماثل- بين الرجل والمرأة غير عملية أو منطقية، وإنها ألحقت أضراراً جسمية بالمرأة والأسرة والمجتمع''. أ.هـ.
3 ـ أما رئيسة الجمعية النسائية الفرنسية رينيه ماري فتقول: ''إن المطالبة بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة تصل بهما إلى مرحلة الضياع، حيث لا يحصل أحد من الطرفين على حقوقه''. أ.هـ.، ولو رجعنا إلى لغة الأرقام التي أجريت في بلاد الغرب لطال بنا المقام.
وهذه كلمات قالتها امرأة من أشهر دعاة الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة في منطقة الخليج(1): (سأعترف اليوم بأنني أقف في كثير من الأشياء ضد ما يسمى بـ (حرية المرأة) تلك الحرية التي تكون على حساب أنوثتها، على حساب كرامتها، وعلى حساب بيتها وأولادها، سأقول: إنني لن أحمّل نفسي– كما تفعل كثيرات – مشقة رفع شعار المساواة بينها وبين الرجل، نعم أنا امرأة!
ثم تقول: (هل يعني هذا أن أنظر إلى البيت – الذي هو جنة المرأة – على أنه السجن المؤبد، وأن الأولاد ما هم إلا حبل من مسد يشد على عنقي؟ وأن الزوج ما هو إلا السجان القاهر الذي يكبّل قدمي خشية أن تسبقه خطوتي؟ لا، أنا أنثى وأعتز بأنوثتي، وأنا امرأة أعتز بما وهبني الله، وأنا ربة بيت، ولا بأس بعد ذلك أن أكون عاملة أخدم خارج البيت نطاق الأسرة، ولكن– ويا رب أشهد!: بيتي أولاً، ثم بيتي، ثم بيتي، ثم العالم الآخر) انتهى. وبعد هذا كله: فماذا يقال عمن سوّى بين الذكر والأنثى، والذي خلقهما يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}؟.
وإنك لا تتعجب أن يقع الرد لهذا الحكم القدري من كفار! أو ملاحدة! وإنما تستغرب أن يقع هذا من بعض المنتسبين لهذا الدين، والذين يصرحون في مقالاتهم وكتاباتهم بأن هذا الحكم كان في فترة نزول الوحي يوم كانت المرأة جاهلة لم تتعلم! أما اليوم فقد تعلمت المرأة، وحصلت على أعلى الشهادات! ـ نعوذ بالله من الخذلان ـ!.
وهذا الكلام خطير جداً؛ قد يكون ردّةً عن الدين؛ لأنه ردٌّ على الله تعالى، فإنه هو الذي قدر هذا الحكم، وهو الذي يعلم ما ستؤول إليه المرأة إلى يوم القيامة.
ثم إن التاريخ والواقع يكذب هذه المقولة من جهتين: الأولى: أن تكوين المرأة النفسي والبدني (الفسيولوجي) لم يتغير منذ خلق الله تعالى أمنا حواء من ضلع أبينا آدم، وإلى أن يرث الله ومن عليها! ولم يربط الله تعالى ذلك بعلمٍ تتعلمه، أو بشهادة تحصل عليها.
والجهة الثانية لبيان خطأ هذه المقولة:
أن هذا الحكم يدخل فيه أمهات المؤمنين ـ رضوان الله عليهن ـ وعلى رأسهن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهن ـ بلا ريب ـ أعلم نساء هذه الأمة، وأتقاهن، ومع ذلك لم تتعرض واحدهن منهن على هذه الأحكام الشرعية التي سمعنها مباشرة من زوجهن رسولِ الله ج، بل قابلن ذلك بالانقياد والتسليم، والرضى والقبول، وجرى على هذا الهدي من سار على نهجهن من نساء المؤمنين إلى يومنا هذا.
ولعلي أختم هذه القاعدة بهذه القصة الطريفة ـ التي سمعتها من أحد الباحثين، وهو يتكلم عن زيف الدعوى التي تطالب بفتح الباب للنساء لكي يمارسن الرياضة كما يمارسها الرجال ـ يقول هذا الباحث وفقه الله: إن أحد العدائين الغربيين المشهورين تعرف إلى امرأة تمارس نفس رياضة العدو، فرغب أن يتزوجها، وتمّ له ما أراد، لكن لم يمض سوى شهرين على زواجهما حتى انتهى الزواج إلى طلاق! فسئل هذا العدّاء: لماذا طلقتها بهذه السرعة؟! فقال: لقد تزوجت رجلاً ولم أتزوج امرأة!! في إشارة منه إلى القسوة في التمارين ـ التي تتطلبها رياضة العدو ـ أفقدتها أنوثتها، فأصبحت في جسم يضاهي أجسام الرجال.
وصدق الله العظيم، العليم الخبير: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}، فهل من مُدّكر.
_______________ (1) هي الكاتبة ليلى العثمان، ينظر: رسائل إلى حواء 3/85.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:22 | |
|
القاعدة الحادية عشرة: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمهوى أبصارنا ميعاد يتنور مع هتيك المرسوم الموسوم بـ: (قواعد قرآنية)، نمضي فيه الساعة بزورق قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي يحتاجها الناس، كل الناس، وخصوصاً في هذا الزمن الذي روجت فيه سوق السحرة والمشعوذين، إنها القاعدة التي بثها المولى في قوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] (1)، وفي معنى هذه القاعدة قوله تعالى ـ على لسان موسى ـ: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس: 77].
وهذه القاعدة ـ أعني قوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] ـ جاءت في تضاعيف قصة موسى مع سحرة فرعون في سورة طه، بعد أن واعدهم موسى، هو في خندق، وفرعون ومن معه من السحرة في خندق آخر، فلما اجتمعوا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (*) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (*) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (*) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (*) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (*)... الآيات} [طه: 65 - 69].
ووجه اطراد هذه القاعدة: أن المتقرر في علم النحو: أن الفعل إذا كان في سياق النفي فإن ذلك يكسبه صفة العموم، وهكذا الفعل (لا يفلح) فإنه جاء في سياق النفي، فدل ذلك على عمومه، فلن يفلح ساحر أبداً، مهما احتال، وتأمل كيف عمم ذلك بالأمكنة فقال: (حيث أتى)(2).
وتأمل ـ وفقك الله وحفك بأوسمة رحمته ـ في سر اختيار الفعل (أتى) دون قوله ـ مثلاً ـ: حيث كان، أو حيث حل؛ ولعل السر في ذلك: من أجل مراعاة كون معظم أولئك السحرة مجلوبون من جهات مصر المختلفة، كما قال تعالى: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:38](3).
يقول العلامة الشنقيطي: ملعقاً على نفي الفلاح عن الساحر مطلقاً: "وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفي بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر، ويدل على ما ذكرنا أمران: الأول: هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر، كقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. فقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} يدل على أنه لو كان ساحراً ـ وحاشاه من ذلك ـ لكان كافراً، وقوله {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} صريح في كفر معلم السحر.
الأمر الثاني: أنه عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة {لا يفلح} يراد بها الكافر، كقوله تعالى في سورة "يونس": {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (*) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [يونس: 68، 69] ، وقولِه في "يونس" أيضا: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17]"(4).
أيْ قارئ المسطور:
كم هي الآيات التي تحدثت عن السحر والسحرة في كتاب الله تعالى؟! وأخبرت عن ضلالهم، وبوارهم وخوارهم، وخسارتهم في الدنيا والآخرة؟! ومع هذا فيتعجب المؤمن ـ أشد العجب ـ من رواج سوق السحر والسحرة في بلاد الإسلام! وليس العجب من وجود ساحر أو ساحرة، فهذا لم يخل منه أفضل الأزمان،وهو الزمن الذي عاش فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن غيره! وليس العجبُ ـ أيضاً ـ من ساحر يسعى لكسب الأموال بأي طريق، وحيثما أتى! لكن العجب من أمة تقرأ هذا الكتاب العظيم، وتؤمن بصدقه، وتقرأ ما فيه من آيات صريحة واضحة في التحذير من السحر وأهله، وبيان سوء عاقبتهم ومآلهم في الدنيا والآخرة، ومع ذلك يقف أبناء الأمة زرافاتٍ ووحداناً أما عتبات أولئك السحرة المجرمين؟! سواء أمام بيوتهم، أم أمام شاشات قنوات السحر والشعوذة، والتي سفرت فاجرة كافرة منذ فترة من الزمن! يلتمسون منهم التسبب في إيقاع الضر بأحد أو إزالته عن آخر، وكأن هؤلاء لم يقرأوا قول الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} [البقرة: 102]!
والمقطوع به ـ أيها الإخوة ـ أنه لولا تكاثر الناس على هؤلاء السحرة لما راجت سوقهم، ولما انتشر باطلهم! إن مرور الإنسان بحالة مرضية صعبة، أو حالة نفسية شديدة، لا يبيح له بحال أن يرد هذه السوق الكاسدة ـ سوق السحرة ـ فإنهم لا يفلحون، وإن الله تعالى أرحم وأحكم من أن يحرم عليهم إتيان السحرة، ولا ينزل لهم دواء لما ابتلوا به! كما قال النبي ج ـ فيما رواه مسلم من حديث جابر ا ـ: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل"(5). وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة اأن النبي ج قال: {ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء}(6). ولعظيم ضرر السحر، فقد حرمته جميع الشرائع.
إذن.. أيها القارئ المسدد: من أيقن بأن الساحر لا يفلح حيثُ أتى، وأيقن بأنه لا يفلح الساحرون، دفعه هذا إلى أمورٍ، من أهمها: 1. البعد عن إتيان هذا الصنف من الناس الذين نفى الله فلاحهم في الدنيا والآخرة ـ بغية علاج أو نحوه ـ وكيف يرتجى النفع ممن حكم عليه رب العالمين بأنه خاسر في الدنيا والآخرة!!
2. الحذر من التفكير في ممارسة شيء من أنواع السحر، مهما كان المبرر، سواء بقصد العطف، أو الصرف ـ كما تفعله بعض النساء ـ وتظن أن قصدَ استمالةِ الزوجِ، أو منعِه من الزواج عليها، ونحو ذلك من الشبه، أن ذلك يبيح لها ما تصنع، فإن هذا كله من تزيين الشيطان وتلبيسه.
3. ليعلم من كل من يمارس السحر أو تسبب في فعله ذلك أنه على خطر عظيم، وأنه قد باع دينه بثمن بخس، وأن الشياطين هم شيوخه وأساتذته في عمله هذا، كما قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ...} إلى قوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} [البقرة: 102].
4. إن ضعفت النفس لحظة، وزين الشيطان لها شيئاً من هذه الأفعال المنكرة، فليبادر بالتوبة الآن، وليقلع عن هذا العمل الباطل، وليتحلل ممن لحقه الأذى من جراء هذا الفعل، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، وقبل أن يوقف للحساب بين يدي من لا تخفى عليه خافية، الذي يعلم من هو الساحر؟ ومن هو المسحور؟ ومن هو المتسبب في ذلك كله! فيقتص للمظلوم من ظالمه، حين تكون الحسنة أغلى من الدنيا وما عليها!
5. إن يقين المؤمن بهذه القاعدة: {ولا يفلح الساحر حيث أتى} مما يقوي عبادة التوكل عنده، وعدم الخوف من إرهاب هذا الصنف الحقير من الناس، وهم السحرة، ويتذكر عندها، قول الله عز وجل: {أليس الله بكاف عبده} وفي قراءة: {أليس الله بكافٍ عباده}؟ والجواب: بلى والله.
ومما يحسن تأمله والتفكرُ فيه: أن هؤلاء السحرة رغم ما يملكون من الأموال، وما يعيشونه من سكرة التفات الناس إليهم، إلا أنهم من أتعس حياةً، وأخبثهم نفوساً، ولا عجب! فمن سلّم قياده للشياطين، وكفر برب العالمين، كيف يسعد أم كيف يفلح؟!
ختاماً لنطلب العون من المالك المدبر المتصرف؛ وتأكد يقيناً أنه:
إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يقضي عليه اجتهاده
________________
(1) وممن نص على أن هذه قاعدة كلية من قواعد القرآن: الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب في تفسيره: (301). (2) ينظر: أضواء البيان 4/551 ط.الراجحي. (3) ينظر: التحرير والتنوير 9/144. (4) ينظر: أضواء البيان 4/552 ط.الراجحي. (5) صحيح مسلم، ح (2204). (6) صحيح البخاري ح (5678).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:29 | |
| القاعدة الثانية عشرة: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) http://almoslim.net/node/114523 الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، وخلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على خير من صلى وزكى وصام، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فمنار منيف، وروضة أنف حديث موضوعنا المحجل: (قواعد قرآنية)، نقف فيه ملوحين مع قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي تدل على عظمة هذا الدين، وسموه، وعلو مبادئه، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
إن هذه الآية العظيمة، جاءت في سورة الحجرات، وإن شئت فسمها: جامعة الآداب، فبعد أن ذكر الله تعالى جملةً من الآداب العظيمة، والخلال الكريمة، ونهى عن جملة من الأخلاق الرذيلة، والطباع السيئة، قال الله بعدها، مقرراً الأصل الجامع الذي تنطلق منه الأخلاق الحسنة، وتضعف معه أو تتلاشى الأخلاق السيئة، وأنه معيار التفاضل والكرامة عند الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. إنها لآية عظيمة، تبرز ميزان العدل الذي لم تظهر تفاصيله كما ظهرت في هذا الدين.
أيها القارئ الحصيف:
لن يتبين لك موقع هذه الآية الكريمة إلا إذا استعرضتَ في ذهنك شيئاً من الموازين التي كان يتعامل بها عرب الجاهلية في نظرتهم لغيرهم من غير قبائلهم، سواءٌ كانوا من قبائل أخرى أقل منها درجة في النسب، أو في نظرتهم للأعاجم، أو في تعاملهم مع العبيد والموالي!
وإليك هذا الموقف الذي وقع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحدّث به الصحابي صادق اللهجة: أبو ذر رضي الله عنه: روى الشيخان من حديث المعرور بن سويد: قال: مررنا بأبي ذر بالربذة، وعليه بُردٌ وعلى غلامه مثله، فقلنا يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة، فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية »! قلت: يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه، قال: «يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم »(1)!
فهذا أبو ذر مع صدق إيمانه، وسابقته في الإسلام، لامه النبي صلى الله عليه وسلم، وعاتبه لما خالف هذه القاعدة القرآنية العظيمة، وعيّر الرجل بمنطق أهل الجاهلية!
وليس هذا الموقف الوحيد الذي ربّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الاهتداء بهدي هذه القاعدة، بل كررها بعدة أساليب بيانية، وعملية، ولعلي أكتفي بهذين الموقفين الذين لا يمكن أن تنساهما العرب ولا قريش أبد الدهر:
أما الموقف الأول:
فهو يوم فتح مكة، حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يصعد فوق الكعبة ليرفع الأذان، في مشهد ما ظنّ بعض مُسْلِمةِ الفتح أن يعيش ليرى هذا العبد الحبشي يقف كهذا الموقف! ولكنه الإسلام، والهدي النبوي الذي يربي بالفعل والقول.
وفي ذات اليوم ـ فتحِ مكة ـ يدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبةَ ويصلي فيها، ولك أن تتفكر من هي الشخصيات المتوقعة التي حظيت بشرف مرافقته في دخوله هذا، والذي أغلق عليه الباب بعد دخوله ومن معه؟! لعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما؟ كلا.. إذن لعله صهره وزوج ابنتيه ذي النورين: عثمان، وابن عمه علي رضي الله عنهما؟ كلا.. إذن لعله دخل بعض مسلمة الفتح من أكابر قريش؟ كلا, بل لم يدخل معه سوى: أسامة بن زيد ـ مولاه ابن مولاه ـ وبلال الحبشي، وعثمان بن طلحة المسؤول عن مفتاح الكعبة (2)!
الله أكبر! أي برهان عملي على إذابة المعايير الجاهلية أكبر من هذا؟ مع أن في الحضور من هو أفضل من بلال وأسامة كالخلفاء الأربعة، وبقية العشرة المبشرين!
وأما الموقف الثاني:
فإنه وقع في أعظم مشهد عرفته الدنيا في ذلك الوقت... إنه مشهد حجة الوداع، ففي بعض مشاهد تلك الحجة، وبينما الناس مستعدون للنفير من عرفة، وإذا بالأبصار ترمق الدابة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يركبها، ويتساءلون: من الذي سيحظى بشرف الارتداف مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فلم يرعهم إلا وأسامة ـ ذلك الغلام الأسود: مولاه وابن مولاه ـ يركب خلف النبي صلى الله عليه وسلم والناس ينظرون!
فعل هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي خطب ظهر ذلك اليوم خطبته العظيمة التي قرر فيها أصول التوحيد والإسلام، وهدم فيها أصول الشرك والجاهلية، وقال كلمته المشهورة: "إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضوع".
أيها القاريء الكريم:
هذان الموقفان قطرة من بحر سيرته العطر صلى الله عليه وسلم! أما سيرة أصحابه رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان فالمواقف فيها كثيرة وعظيمة، أكتفي منها بهذا الموقف الذي يدل على نبلهم وفضلهم، وشرف أخلاقهم حقاً، جعلهم أهلاً لأن يكونوا خير من يمثل عالمية الإسلام وعالمية الرسالة.
كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ـ المعروف بزين العابدين ـ وهو من سكان مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد، يتخطى حلق قومه من قريش، حتى يأتي حلقة زيد بن أسلم ـ وهو مولى لكنه من علماء المدينة الكبار في زمانه ـ فيجلس عنده، فكأن بعض الناس لامه: كيف تجلس ـ وأنت الرجل القرشي وحفيد النبي صلى الله عليه وسلم ـ عند رجل من الموالي؟ فقال: كلمة ملؤها العقل: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه(3).
أيها القاريء الكريم:
إن من عظمة هذا الدين أنه لم يربط مكانة الإنسان ومنزلته عند الله بشيء لا قدرة عليه به، فالإنسان لا يختار أن يكون شريف النسب! وإلا لتمنى الكل أن يتصل بالسلالة النبوية! ولم يربطه بطول ولا قصر، ولا وسامة ولا دمامة، ولا غير ذلك من المعايير التي ليست في مقدور البشر، بل ربطه بمعيار هو في مقدور الإنسان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس في كتاب الله آية واحدةٌ يمدح فيها أحداً بنسبه، ولا يَذُمُّ أحداً بنسبه، وإنما يمدحُ الإيمانَ والتقوى، ويذمَ بالكفرِ والفسوقِ والعصيان"(4) انتهى كلامه.
ومما يشهد لما قاله شيخ الإسلام: أن الله تعالى أنزل سورة كاملة في ذم أبي لهبٍ لكفره وعداوته للنبي صلى الله عليه وسلم، ونهى اللهُ نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يطرد المؤمنين من ضعفة أصحابه وإن كان القصدُ من ذلك: الرغبة في كسب قلوب أكابر قريش، فقال سبحانه: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِين} [الأنعام: 52]، وقال له في الآية الأخرى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
أيها الناظر البصير:
إن مما يؤسف له ـ في واقعنا المعاصر ـ وجود أمثلة كثيرة مخالفة لهذه القاعدة الشريفة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} تمثلت بصور من عودة العصبية الجاهلية للقبيلة، والتي لم تتوقف عند حد التعارف بين أفراد القبيلة الواحدة فحسب، ولم تتوقف عند التمادح المباح، بل تجاوز ذلك إلى الغلو في المدح، والموالاة المفرطة للقبيلة، بل والتلويح تارة بنبز القبائل الأخرى، والتي ذوبانِ المعايير الشرعية عند البعض بسبب هذه الأساليب التي كرسها وعزز من حضورها المسابقات الشعرية التي تبنتها بعض القنوات الفضائية، والتي ترتب عليها محاذير شرعية أخرى ليس هذا موضع ذكرها، وإنما الغرض الإشارة إلى مخالفتها إلى ما دلت عليه هذه القاعدة القرآنية الكريمة، فليتق الله من يسمع ويقرأ قول ربه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} من التفاخر المذموم، وليعلم المؤمن أن من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا من أخلاق أهل الجاهلية، وأن يرزقنا التأسي برسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أمورنا.
______________
(1) البخاري (5703) ومسلم (1661). (2) والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر: البخاري ح (2826) ومسلم (1329). (3) ينظر: حلية الأولياء 3/138. (4) الفتاوى الكبرى 1/164.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:30 | |
| القاعدة الثالثة عشرة: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على معلم الناس الخير، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله ، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فانبلاج كانبلاج الصباح، تبرد نسيمه الرياح، في مُرْبع روضنا الأنف، المتربع المسمى: (قواعد قرآنية)، نخبُّ فيه مع قاعدة من القواعد القرآنية، التي توقف العبد، وتطلع الرائي على شيءٍ من عظمة الله تعالى في خلقه وحِكمته في شرعه، وتوقف العبد على قصوره في علمه، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء : 11]}. هذه الآية الكريمة جاءت في سياق آيات الفرائض في صدر سورة النساء، والمعنى: "{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} يعني: الذين يرثونكم من الآباء والأبناء {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًاً} أي: لا تعلمون أنهم أنفع لكم في الدين والدنيا، فمنكم من يظن أن الأب أنفع له، فيكون الابن أنفع له، ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له، وأنا العالم بمن هو أنفع لكم، وقد دبَّرت أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه"([1]). "ولو رد تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به عليم؛ لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان"([2]). أيها المبصر المتأمل: لقد كان أهل الجاهلية يقسمون الميراث بموازين غير منضبطة، فتارة يراعون حاجة الأبوين، وتارة حاجة الأبناء، وتارة يتوسطون، فجاء الشرع المطهر ليلغي تلك الاجتهادات، فتولى الله ـ قسمة المواريث بنفسه، ثم بيّن سبحانه في خاتمة هذه الآية الكريمة معنيين عظيمين يعزب عنهما علم البشر مهما بلغ في سعته، فقال ـ في خاتمتها: 1 ـ {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا[النساء: 11]} وهي القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها.
والمعنى الثاني: 2 ـ {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء : 11]} فهذه فرائض، يجب تنفيذها، وعدم الافتيات عليها بتحريف، أو تقصير، وعلل هذا بقوله: (إن الله كان عليما حكيماً) ليزداد يقين المؤمن أن هذه القسمة صادرة عن علم تام، وحكمة بالغة، لا يمكن أن يلحقها نقص، أو جور.
أيها المبارك: لنعد إلى قاعدتنا التي نحن بصدد الحديث عنها: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا[النساء:11]} ولنحاول أن نطبق هذه القاعدة على واقعنا، لعلنا نستفيد منها في تصحيح بعض ما يقع منا من أخطاء في بعض تصوراتنا ومواقفنا الاجتماعية، فمن ذلك : 1 ـ أن بعض الآباء قد تكون خَلْفته من الذرية بنات فقط! فيضيق لذلك صدره، ويغتم لهذا الابتلاء، فتأتي هذه القاعدة لتسكب في قلبه اليقين والرضا، وكم من بنتٍ كانت أنفع لوالديها من عددٍ من الأبناء؟ والواقع شاهدٌ بذلك. أعرف رجلاً لما كبرت سنه، كان أولاده بعيدون عنه في طلب الرزق، فلم يجد هذا الوالد الذي خارت قواه، وضعفت بُنيته أكثر حنواً ورعاية من ابنته الوحيدة التي قامت بحقه خير قيام من جهة النفقة، والرعاية الصحية، وصدق الله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء : 11]}. هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فالأمر أعظم، والموقف أدل وأجل، قال ابن عباس ب: أطوعكم لله U من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة، والله تعالى يُشَفَّع المؤمنين بعضهم في بعض، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة رفع إليه ولده، وإن كان الولد أرفع درجة رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم. ومن المؤسف أن نسمع ونقرأ عن أناسٍ رزقوا عدداً من البنات، يتذمرون بل قد يهددون زوجاتهم إن هُنّ ولدنَ لهم إناثاً ، وكأن الأمر بأيديهن ، وهذا من الجهل ـ في الحقيقة ـ إذ كيف يلام إنسان على أمر لا طاقة له به؟ ويا ليت من يقعون في هذا الأسلوب يتأملون في أمور منها: 1 ـ هذه القاعدة القرآنية: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء : 11]}. 2 ـ ليتهم يتأملون ـ أيضاً ـ قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (*) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}[الشورى:49، 50]. قال ابن القيم : ـ معلقاً على هذه الآية ـ: "وكفى بالعبد تعرضاً لمقته ـ أن يتسخط ما وهبه"([3]). انتهى. 3 ـ ومما يحسن بمن ابتلي بالبنات أن يتذكر الأحاديث الواردة في فضل من عال البنات ورباهن حتى يبلغن. ومما يُذكر به المتضجر من الابتلاء بالبنات، أن يقال له: 4 ـ هب أنك ضجرت، وتذمرت، فهل هذا سينجب لك ذكوراً؟ صحيح أن أغلب الناس جُبِلَ على حب الذكور، لكن المؤمن ينظر إلى هذا الابتلاء بمنظار آخر، وهو: عبودية الصبر، وعبودية الرضا عن الله، بل قد ينتقل بعض الموفقين إلى مرتبة الشكر، لعلمه بأن خيرة الله خير من خيرته لنفسه، وأن الله قد يكون صرف عنه شراً كثيراً حين حرمه من الذكور، أليس الله تعالى قد سلّط الخضر على ذلك الغلام فقتله، ثم علل ذلك بقوله: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف: 80 ،81]}. ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن الشيخ علي الطنطاوي : ـ وهو ممن ابتلي بالبنات ولم يرزق الذكور ـ كتب مقالاً، أكاد أجزم لو قرأه الذين ابتلوا بالبنات لم يتمنوا إلا ما هم فيه. وكما أن الآية فيها سلوة لمن ابتلوا بالبنات، ففيها سلوة لأولئك الذين ابتلوا بأولاد معاقين، سواء كانت إعاقتهم سمعيةً أم بصريةً أم عقليةً أم بدنية، فيقال لهم: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة : 216]} ويقال لهم ـ أيضاً ـ: والله إنكم لا تدرون أي أولادكم أقرب لكم نفعاً! فقد يكون هذا المعاق أقرب لكم نفعاً في الدنيا قبل الآخرة! أما في الدنيا، فكم فتحت هذه الابتلاءات لوالدي هؤلاء المعاقين من لذة التعلق بالله، ومناجاته، ورجائه الفرج! وكم ربّت هذه الابتلاءات في نفوس والدي المعاقين من معاني الصبر والاحتمال ما لم تكن تحصل لهم لولا هذه الابتلاءات! وكم .. وكم .. !!
وأما في الآخرة، فلعل أمثال هذه الابتلاءات بهؤلاء المعاقين تكون سبباً في رفعة درجاتهم عند الله تعالى، رفعةً قد لا تبلغها أعمالهم!
قارئ المرقوم: ولئن كانت الآية واضحة المعنى في موضوع الابتلاء بالبنات أو بأبناء فيهم عاهات أو إعاقات، فإنه يمكن أن يقاس عليها أمور أخرى، مثل: الأعمال الصالحة، والمؤلفات، والمقالات، والكلمات، بل والعبادات، فلا يدري الإنسان أي تلك الأعمال، والمؤلفات، والعبادات أكثر نفعاً له في الدنيا والآخرة. تأمل في سؤال النبي ج لبلال اـ حينما سمع ج خشف نعليه في الجنة ـ : أخبرني بأرجى عملته في الإسلام؟ فقال بلال : إن لم أتوضأ ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الوضوء ركعتين! تأمل كيف أنه لم يذكر بلالٌ جهاده مع الرسول، ولا التزامه بالأذان ! وهذا كله يدعو العبد لأن يكثر من أبواب الخير، فالإنسان لا يدري أي أعماله التي قد تكون سبباً في نيل رضوان الله والجنة، ولرب عملٍ كبير لكن داخله ما داخله من حظوظ النفس، فلم ينتفع به صاحبه، ولرب عمل قليل عظمت فيه النية، وصدق صاحبها مع الله فأثابه ثواباً لا يخطر على باله، وفي قصة المرأة البغي التي سقت كلباً أكبر شاهد على ذلك.
ختاماً :
طوبى لمن حملته أمواج التوفيق، وأقلته مطايا التسديد، فسلم أمره مبداه ومنتهاه لمولاه، ليرى نتاج سعيه، وثمار زرعه، لا يدري أيه أقرب له نفعاً!!،
ثم الصلاة على المختار سيدنا *** وأفضل القول قول هكذا ختما
([1]) تفسير البغوي (2 / 178). ([2]) تفسير السعدي : (166). ([3]) تحفة المودود بأحكام المولود، ص : (32) ، ولكلامه تتمة يحسن ذكرها، وهي قوله: "وبدأ سبحانه بذكر الإناث: فقيل جبرا لهن؛ لأجل استثقال الوالدين لمكانهن، وقيل ـ وهو أحسن ـ: إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان، فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالباً، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء ولا يريده الأبوان، وعندي وجه آخر: وهو أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن، أي: هذا النوع المؤخر عندكم مُقَدّمٌ عندي في الذكر، وتأمل كيف نكّر سبحانه الإناث، وعرّف الذكور، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص التأخير بالتعريف، فإن التعريف تنويهٌ كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم، ثم لما ذكر الصنفين معاً قدم الذكور إعطاء لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير، والله أعلم بما أراد من ذلك" انتهى.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:32 | |
| القاعدة الرابعة عشرة: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) الحمد لله بارئ النسم، خالق الخلق من عدم، مجزل النعم، دافع النقم، ذي الجلال والكرم، والصلاة والسلام على محمد زاكي الشيم، بديع السيم، أجود من الغيث إذا عم، و أنور من البدر إذا تم، وأطهر من الماء إذا زم، وعلى آله وصحبه أولي الهمم، وصعدة القمم، أما بعد:
فبدر يتهادى من خلف تلال العتمة، ومسك يتضوع من باحة مرصوفنا المشيع: (قواعد قرآنية)، نبحر فيها مع قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي تجلي معنى عظيماً ومهماً في باب التسليم والانقياد لأوامر الله ورسوله، والانقياد لحكم الشريعة، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[القصص:50].
وهذه الآية الكريمة جاءت في سورة القصص، في سياق الحجاج مع المشركين، وبيان تنوع أساليبهم في العناد لرد الشريعة، ورميهم للنبي ج بالعظائم، يقول تعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (*) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 48 - 50]}.
والشاهد الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} وقد بين الله تعالى هذه القاعدة في موضع آخر، فقال عز وجل: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}(1).
يقول ابن القيم: موضحاً هذه القاعدة: "فما هو إلا الهوى أو الوحي، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] فجعل النطق نوعين: نطقاً عن الوحي، ونطقاً عن الهوى"(2)، "فما لم يقله سبحانه ولا هدى إليه فليس من الحق، قال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} فقسم الأمور إلى قسمين لا ثالث لهما إتباع لما دعا إليه الرسول واتباع الهوى" (3). "فمن ترك استجابته إذا ظهرت له سنة وعَدَلَ عنها إلى خلافها، فقد اتبع هواه"(4).
أيها الناظر البصير:
إن الحاجة إلى التذكير بهذه القاعدة القرآنية العظيمة من الأهمية بمكان، خصوصاً في هذا العصر الذي كثرت فيه الأهواء، وتنوعت فيه المشارب في التعامل مع النصوص الشرعية، بدعاوى كثيرة، فهذا ينصر بدعته، وهذا يروج لمنهجه في تناول النصوص، وثالث يتتبع الرخص التي توافق مراد نفسه، لا مراد الله ورسوله!
لقد أتى على الناس زمانٌ لا يحتاج الشخص ليمتثل الأمر أو يترك النهي إلا أن يقال له: قال الله، قال رسوله، قال الصحابة ي، فيتمثل وينصاع، ويندر أن تجد من يناقش مناقشة المتملص من الحكم الشرعي، أما اليوم ـ وقد انفتح على الناس أبواب كثيرة يتلقون منها المعلومات ـ فقد سمعوا أقوالاً متنوعة في المسائل الفقهية، وليست هذه هي المشكلة، فالخلاف قديمٌ جداً، ولا يمكن إلغاء أمر قدره الله عز وجل، إلا أن المشكلة، بل المصيبة، أن بعض الناس وجد في بعض تلك الأقوال ـ التي قد تكون شاذةً في المقياس الفقهي ـ فرصةً للأخذ بها، بحجة أنه قد وجد في هذه المسألة قولاً يقول بالإباحة! ضارباً عرض الحائط بالقول الآخر الذي يكاد يكون إجماعاً أو شبه إجماع من السلف الصالح يعلى تحريم هذا الفعل أو ذاك القول!
هذا فضلاً عن تلك المسائل التي تبين فيها خطأ قائلها من أهل العلم، بسبب خفاء النص عليه، أو لغير ذلك من الأسباب المعروفة التي لأجلها يختلف العلماء(5)، ولئن كان ذلك الإمام معذوراً مأجوراً ـ لخفاء النص عليه أو لغير ذلك من الأسباب ـ فما عُذْرُ من بلغه النص عن الله أو عن رسوله؟! ثم بعد ذلك يدعي أنه يسوغ له الأخذ بذلك القول لأجل أنه قد قيل به! مردداً مقولةً كثر تكرارها على ألسنة هذا الصنف من الناس: ما دام أنني لم أخالف إجماعاً قطعياً، ولا نصاً صحيحاً صريحاً، فلا حرج عليّ، ناسياً أو متناسياً قواعد الاستدلال التي قررها الأئمة رحمهم الله.
أليس هؤلاء لهم نصيب من هذه القاعدة: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}؟! وهنا يَحْسُنُ أن يُذَكّرُ هذا الصنف من الناس بقول الله تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} وهي قاعدة قرآنية محكمة، سبق أن تناولها في حلقة سابقة.
كما ينبغي أن يذكروا بالقاعدة التي جاءت في الحديث المشهور ـ والذي قواه بعض أهل العلم(6)ـ: "البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر".
وهذا المعنى ـ الذي دلّ عليه الحديث ـ كما نبه على ذلك العلماء: إنما يجده من بقي في قلبه بقية من نور، لم تطمسها ظلمة الشهوات والشبهات! أما من هام في أودية الفسق والفجور، فإن قلبه لا يفتيه إلا بما تهواه نفسه!
وما أجمل ما حكاه ابن الجوزي: عن نفسه، وهو يصف حالاً مرّت به، تشبه ما نحن بصدد الحديث عنه من أحوال بعض المترخصين اتباعاً لأهوائهم، يقول: "ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، و تخايل لي نوع طرد عن الباب وبُعْدٌ، و ظلمة تكاثفت! فقالت نفسي: ما هذا؟ أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء؟ فقلت لها: يا نفس السوء! إنك تأولت ما لا تعتقدين، فلو استُفْتِيْتِ لم تفتِ بما فعلتِ، والثاني: أنه ينبغي لك يا نفسُ الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك؛ لأنه لولا نورٌ في قلبك ما أثر هذا عندك!"(7).
لقد جرى لي مرةً حوار عارض مع بعض هذه الفئة التي أخذت تخوض عملياً في جملةٍ من المسائل المخالفة لما عليه جماهير العلماء، وما عليه الفتوى عندنا، فقلتُ له: يا هذا! دعنا من البحث الفقهي المحض، وأخبرني عن قلبك، كيف تجده، وأنت تفعل ما تفعل؟! فأقسم لي بالله: أنه غير مرتاح! وإنما يخادع نفسه بأن الشيخ الفلاني يفتي بهذا، وهو في قرارة نفسه غير مطمئن لتلك الفتوى! فقلتُ له: يا هذا، إن العالم الذي قال بهذه المسألة معذور؛ لأن هذا هو مبلغ علمه، ولكن انج بنفسك، فإن صنيعك هذا هو الذي قال العلماء: إنه تتبع الرخص، وذموا فاعله، بل جعلوا هذا الفعل نوعاً من النفاق، واتباع الهوى، ولذا قال جمع من السلف: من تتبع الرخص فقد تزندق!
ومن تأمل كلمة الهوى في القرآن الكريم، لم يجدها ذكرت إلا في موطن الذم! ولهذا حذر الله نبياً من خيرة أنبيائه من هذا الداء القلبي الخطير فقال: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: 26]}؟! ولك أن تتصور لو أن رجلاً أخذ برخص الفقهاء من عدة مذاهب في مسائل متنوعة، لاجتمع فيه شرٌّ عظيم، ولأصبح دينه مرقعاً ورقيقاً!
وليتذكر المؤمن جيداً ـ وهو يسلك مسلك تتبع الرخص ـ أنه إنما يفعل ما يفعل، ويترك ما يترك ديانةً لله، وقياماً بواجب العبودية لهذا الرب العظيم، فكيف يرضى العبد أن يتعامل مع ربه بدين شعاره الهوى؟!
وقبل أن نختم الحديث عن هذه القاعدة العظيمة، يجب أن نتنبه لأمرين: الأول: الحذر من تنزيل هذه القاعدة على المسائل الشرعية التي الخلاف فيها معتبر ومعروف عند أهل العلم. الثاني: أن المقصود بالذم هنا، هو من اتبع هواه في الاستفتاء، بحيث يتنقل بين المفتين، فإن وافقت الفتيا ما في نفسه طبقها، وإلا بحث عن آخر حتى يجد من يفتيه، وهذا هو اتباع الهوى بعينه، نعوذ بالله من اتباع الهوى، ونسأله ـ أن يجعل اتباع الحق رائدنا وغايتنا.
وأختم بقول ابن دريد في "مقصورته":
وآفة العقل الهوى فمن علا *** على هواه عقله فقد نجا
_______________
(1) ينظر: التبيان في أقسام القرآن لابن القيم: (129). (2) الصواعق المرسلة 3/ 1052. (3) إعلام الموقعين عن رب العالمين - (1 / 298). (4) الصواعق المرسلة - (4 / 1526). (5) والتي حررها شيخ الإسلام ابن تيمية: في رسالته القيمة: رفع الملام عن الأئمة الأعلام. (6) قال ابن رجب:: "وقد روي هذا الحديث عن النبي ج من وجوه متعددة، بعض طرقه جيدة"، ينظر: جامع العلوم والحكم، شرح الحديث 27. (7) صيد الخاطر: (162) بتصرف.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:33 | |
| القاعدة الخامسة عشرة: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) الحمد لله الذي حمد نفسه في السماوات والأرض، وحمد نفسه في الآخرة والأولى، وصلى الله وسلم وبارك على سيد ولد آدم، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فليس مثل ملتقانا بهاءا، ونضرة، لأن حديثنا لا يزال يتردد ويتجدد في آي من القرآن، ورسمه واسمه: (قواعد قرآنية)، لنتأمل جميعاً في قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي تبعث الأمل في نفوس أهل الإيمان، وتملأ قلوبهم ثقةً ويقيناً، وراحة وطمأنينة، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].
وهذه الآية الكريمة جاءت مرةً على لسان موسى ج وهو يبشر قومه الذين آمنوا به، بحسن العاقبة لهم في الدنيا قبل الآخرة، والتمكين في الأرض إن هم لازموا التقوى.
وجاءت هذه القاعدة بلفظ مقارب، في خطاب الله تعالى لنبيه محمد ج في خواتيم سورة طه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
وجاءت هذه القاعدة ـ أيضاً ـ بعد انتهاء قصة قارون، في خواتيم سورة القصص، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
ومن المعلوم أن العاقبة هنا لا تنحصر في الآخرة التي ضمن الله النجاة فيها للمتقين، كما في قوله ـ: {والآخرة عند ربك للمتقين}، بل هي عامة في الدنيا والآخرة، ولكن قبل أن نسأل: أين صدق هذه القاعدة، فلنسأل: أين تحقيق التقوى على الوجه الصحيح؟! وإلا فوعد الله لا يتخلف!
أيها القارئ المسدد:
إن أدنى تأمل لمجيء هذه الآيات ـ مع تنوع سياقاتها ـ ليوضح بجلاء اطراد هذه القاعدة، فقد أخبر بها ربنا جل وعلا في قوله: {والعاقبة للتقوى}، وبعد قصة قارون قوله:{والعاقبة للمتقين}، وبشر بها موسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام.
"وحقيقة العاقبة: أنها كل ما يعقب أمراً، ويقع في آخره من خير وشر، إلا أنها غلب استعمالها في أمور الخير، فالمعنى: أن التقوى تجيء في نهايتها عواقب خير. واللام ـ في قوله "للتقوى" و "للمتقين" للملك، تحقيقاً لإرادة الخير من العاقبة؛ لأن شأن لام الملك أن تدل على نوال الأمر المرغوب، وإنما يطرد ذلك في عاقبة خير الآخرة، وقد تكون العاقبة في خير الدنيا ـ أيضاً ـ للتقوى. وجاءت هذه الجملة بهذا الأسلوب لتؤكد معنى العموم، أي: لا تكون العاقبة إلا للتقوى، فهذه الجملة أرسلت مجرى المثل"(1).
فما أحوجنا ونحن نشاهد ما نشاهد: إن على المستوى الفردي أو الجماعي أن نتأمل هذه القاعدة، ولنبدأ بالإشارة إلى المستوى الجماعي: فإن أمة الإسلام تمر منذ قرون بحالة من الضعف والتفرق وتسلط الأعداء على كثير من أهله، وهذه حالٌ تجعل بعض الناس من المنتسبين للإسلام ـ وللأسف ـ يبحث عن موطئ قدم خارج دائرة بلاد الإسلام، فيذهب غرباً أو شرقاً، بحثاً عن مبادئ أخرى، ومذاهب مختلفة، لا تمت إلى الإسلام بصلة، بسبب شعوره البائس بهزيمة داخلية وما تعانيه الأمة الإسلامية من تفرق وتشرذم، وفي الوقت ذاته: انبهاره بالتقدم المادي، وما يوجد في تلك البلاد من محاسن تتعلق بحقوق الإنسان، وغيرها من المجالات.
والمؤلم في أمثال هؤلاء أنهم لم يروا من حضارة الشرق أو الغرب إلا الجانب الإيجابي والحسن، وعميت أبصارهم، أو تعاموا عن الجوانب المظلمة ـ وما أكثرها ـ! هذه الحضارة التي اعتنت بالجسد، وأهملت الروح، وعمرت الدنيا وخربت الآخرة، وسخّرت ما تملكه من أسباب مادية في التسلط على الشعوب المستضعفة، وفرض ثقافتها، وأجندتها على من تشاء!
وعلى سبيل المثال: فإن نظام الثورة الفرنسية الذي قرر مبادئ حقوق الإنسان والمساواة بين البشر ـ كما يزعم واضعوه ـ لم يمنعه من إبادة ثلث سكان جزيرة هاييتي؛ لأنهم تمردوا على العبودية! كما أن القائد الفرنسي المشهور نابليون ـ الذي أنجبته الثورة الفرنسية ـ جاء إلى بلاد مصر، ليحتلها ويقيم نظاماً استعمارياً فيها.
والأمثلة كثيرة لا يتسع المقام لسردها، فضلاً عن التفصيل فيها، ولكن لعل من المناسب أن نُذكّر بقضية الساعة هذه الأيام، وهي قضية انهيار النظام الاقتصادي الرأسمالي! الذي قام على مصادمة منهج الله العادل في شأن المال، فرأى أربابه صدق ما توعد الله به أكلة الربا من المحق، وفي كل يوم نسمع عن مليارات ضائعة، وشركات عالمية أفلست، حينها قال من قال: لا بد من العودة إلى المنهج الإسلامي في الاقتصاد! وصدق الله: {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}، وصدق الله: {والعاقبة للتقوى}.
ألا ما أحوج الدول الإسلامية، والجماعات الإسلامية في بقاع الأرض إلى أن يتدبروا هذه القاعدة جيداً، وأن يتأملوا جيداً في العواقب التي جناها مخالفوا التقوى في الأنظمة والحكم والسلوك، ومن تدبر مجيء قوله تعالى ـ على لسان موسى وهو يخاطب قومة المضطهدين عدة قرون ـ: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} [الأعراف: 128] من تدبرها عرف حاجة الدول والمجتمعات لتدبر هذه الآية جيداً، وأن وعد الله لا يتخلف لمن اتقاه دولاً كانوا أو شعوباً، تأمل معي قول مَنْ عواقب الأمور كلها إليه ـ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 41]}.
ومن أراد أن يعرف الآثار السيئة التي لقيها العالم من بعد المسلمين عن دينهم، وخسارة العالم لعظيم مبادئ الإسلام فليقرأ كتاب الشيخ أبي الحسن الندوي:: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟!.
أما على المستوى الفردي، فإن الحديث فيها يحتاج إلى بسط أكثر، ولكن حسبنا في مقامنا هذا أن نشير إشارة مُذِكّرة بأهمية هذه القاعدة في حياتنا اليومية: فإن آية القصص: {والعاقبة للمتقين} جاءت بعد قصة قارون الذي لم يصبر على شهوة المال!
وفي هذا إشارة إلى حاجة العبد ـ رجلاً كان أو امرأة ـ لتدبر هذه القاعدة جيداً، خصوصاً وهو يعيش في جو من المغريات والفتن والصوارف عن دين الله ـ يتدبرها ويتأملها؛ لتهوّن عليه الصبرَ عن الشهوات والملذات المحرمة... فكلما دعته نفسه إلى ما يخالف التقوى فليذكرها بحسن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة..
وكذلك الداعية إلى الله، من أحوج ما يكون إليها وهو يسير في طريق الدعوة الطويل، والمليء بالابتلاء بالخير أو بالشر، وخصوصاً إذا كان لا يجد معيناً ولا ناصراً، بل قد يجد مناهضاً ومعادياً!
يقول شيخنا العلامة ابن باز: ـ بعد أن ذكر شيئاً مما تعرض له إمام الدعاة محمد ج من أذى وابتلاء، قال: "فكيف يطمع أحد بعد ذلك أن يسلم؟ أو يقول متى كنت متقياً أو مؤمناً فلا يصيبني شيء؟ ليس الأمر كذلك بل لابد من الامتحان , ومن صبر حَمِدَ العاقبة , كما قال الله جل وعلا: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}،{وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} فالعاقبة الحميدة لأهل التقوى, متى صبروا واحتسبوا وأخلصوا لله وجاهدوا أعداءه وجاهدوا هذه النفوس , فالعاقبة لهم في الدنيا والآخرة , كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} فأنت ـ يا عبد الله ـ في أشد الحاجة إلى تقوى ربك، ولزومها، والاستقامة عليها، ولو جرى ما جرى من الامتحان, ولو أصابك ما أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء الله, أو من الفسقة والمجرمين فلا تبالِ , واذكر الرسل - عليهم الصلاة والسلام - , واذكر أتباعهم بإحسان , فقد أوذوا، واستهزئ بهم، وسخر بهم، ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، فأنت يا أخي كذلك اصبر وصابر"(2).
ومفهوم هذه القاعدة القرآنية المحكمة: أن كل من لم يكن تقياً في أحواله، أو أفعاله، فلا عاقبة له حسنة، وإن أمهل زماناً، أو تُركَ دهراً، وهذه سنة الله في خلقه، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية: يستدل بهذه القاعدة القرآنية: (والعاقبة للمقتين) وبأمثالها ـ إبان هجوم التتار على بلاد الإسلام ـ وكان يقسم بالله أن التتار لن ينصروا، بل سيخذلون وينكسرون، وكان مما قاله حينها: "واعلموا - أصلحكم الله - أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون، والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم ومنتقم لنا منهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن عاقبته، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين" (3).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،،
______________
(1) التحرير والتنوير - (9 / 193) بتصرف يسير. (2) مجموع فتاوى ابن باز (2 / 289). (3) ينظر: مجموع الفتاوى (3 / 125)، و (28 / 419).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:35 | |
| القاعدة السادسة عشرة: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) الحمد لله ما حمده الحامدون، وغفل عن ذكره الذاكرون، وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهلم بادي الخير لنتدبر وقافين مع: (قواعد قرآنية)، لنتأمل جميعاً في قاعدة من القواعد القرآنية، التي يحتاجها الإنسان في مقام التمييز بين الأقوال والأفعال، والسلوكيات والمقالات، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100].
والخبيث: ما يكره بسبب رداءته وخساسته، سواء كان شيئاً محسوساً، أو شيئاً معنوياً، فالخبيث إذاً يتناول: كل قول باطلٍ ورديء في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح من الفعال، فكل خبيث لا يحبه الله ولا يرضاه، بل مآله إلى جهنم، كما قال ـ: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37].
وإذا تبين معنى الخبيث ههنا، فإن الطيب عكس معناه، فالطيب شامل: للطيب والمباح من الأقوال والأفعال والمعتقدات، فدخل في هذه القاعدة كل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الواجبات والمستحبات والمباحات. فلا يستوي الإيمان والكفر، ولا الطاعة والمعصية، ولا أهل الجنة وأهل النار، ولا الأعمال الخبيثة والأعمال الطيبة، ولا المال الحرام بالمال الحلال(1).
وهذه القاعدة القرآنية هي صدر الآية الكريمة: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة: 100] والتي سيقت في معرض الحديث عن أنواع من المطاعم والمشارب والصيد، وتفصيل الحرام والحلال فيها.
ولا ريب أن الغرض من الآية ليس مجرد الإخبار بأن الخبيث لا يستوي هو والطيب، فذلك أمرٌ مركوز في الفَطَر، بل الغرض هو الحث والترغيب في تتبع كل طيب من القول والعمل والاعتقاد والمكسب، والتنفير من كل خبيث من القول والعمل والاعتقاد والمكسب.
ولما كان في بعض النفوس ميلٌ إلى بعض الأقوال أو الأفعال أو المكاسب الخبيثة، ولما كان كثيرٌ من الناس يؤثر العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، جاء التحذير من الخبيث بأسلوب عجيب يقطع الطريق على من قد يحتج بكثرة من يتناول هذا الخبيث، فقال ـ: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} وذلك أن في بعض الخبائث شيءٌ من اللذة الحسية أو المعنوية، كالحصول على مالٍ كثير لكن من طريق حرام، أو الوصول إلى اللذة الجسدية عن طريق الزنا، أو الخمر أو غيرهما من الملذات المحرمة، فهذه قد تغري الإنسان، وتعجبه، إلا أنه مع كثرة مقداره، ولذاذة متناوله، وقرب وجدانه، سبب للحرمان من السعادات الباقية الأبدية السرمدية التي إليها الإشارة بقوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ} [الكهف 46]، وإذا كان الأمر كذلك فالخبيث ولو أعجبك كثرته يمتنع أن يكون مساوياً للطيب الذي هو أعظمه: معرفة الله ومحبته، وطاعته، فتلك هي ـ والله ـ الحياة الطيبة التي وعد بها ـ من استقام على أمره، بأن يطيب عيشه في الدنيا والبرزخ والآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] هؤلاء هم الذين طابت أقوالهم وأفعالهم وحياتهم، فطاب مماتهم ورجوعهم إلى الله، كما قال ـ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِين} [النحل: 32] نسأل الله الكريم المنان من فضله الواسع العظيم.
أيها المسلم:
ولعظيم موقع هذه القاعدة وما دلّت عليه، فإن المتأمل للقرآن يجد عجباً من كثرة التأكيد على العمل بما دلّت عليه هذه القاعدة، ومن ذلك:
1 ـ التأكيد على ضرورة العناية بالمكاسب الطيبة، ولم يستثن الله أحداً من عباده المؤمنين في الحث على هذا الأمر، بالإضافة إلى العمومات الآمرة بطيب المكسب، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين} [البقرة: 168] إلا أن الله تعالى خص الرسل عليهم الصلاة والسلام ـ الذين كانوا أطيب الناس حساً ومعنى ـ بخطاب خاص في هذه المسألة بالذات، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51].
وكلُّ هذا يؤكد ضرورة العناية بهذا الباب العظيم الذي هو طيب المكسب، ولقد سلنا الصالح شديدي العناية بهذه المسألة، ولربما سافر أحدهم مئات الأميال، وتغرب عن وطنه، كل ذلك بحثاً عن لقمة طيبة حلال، حتى قال سفيان الثوري:: إن طلب الحلال هو عمل الأبطال.
ولقد كان من أعظم أسباب العناية بطيب المكسب عند أسلافنا أمور، من أهمها: أ ـ أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ب ـ ومنها: أن هذه المكاسب مما تنبت عليها الأجساد.
ولهذا فإن مما يوصى به كثرة الصدقة كلما كثر المال، أو قويت فيه الشبهه، كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم من يتعاطون التجارة، حيث يقول صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أهل السنن ـ: من حديث قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نسمى السماسرة ـ فقال: "يا معشر التجار! إن الشيطان والإثم يحضران البيع ـ وفي لفظ: إنه يشهد بيعكم الحلف واللغو فشوبوه بالصدقة ـ، فشوبوا بيعكم بالصدقة" قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وإذا كان هذا شأن هذه المسألة ـ أعني طيب المكسب ـ فعلى الناصح لنفسه أن يجتهد في طيب مكسبه، والحذر من أي شيء يكدره، خصوصاً وقد اتسعت على الناس اليوم أنواع من المكاسب المحرمة فضلاً عن المختلطة والمشتبهة، كبعض الشركات الموجودة في أسواق الأسهم المحلية والعالمية.
2 ـ ومن هدايات هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} أنه لا يصح ـ أبداً ـ أن نجعل الكثرة مقياساً لطيب شيءٍ ما، وصحته وسلامته من المحاذير الشرعية، وهذا أمرٌ يصدق على الأقوال والأفعال والمعتقدات، بل يجب أن نحكم على الأشياء بكيفيتها وصفتها وبمدى موافقتها للشرع المطهر.
تأمل ـ مثلاً ـ في قلة أتباع الرسل وكثرة أعدائهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] ، وهذا مما يؤكد على الداعية أهمية العناية بالمنهج وسلامته، وأن لا يكون ذلك على حساب كثرة الأتباع! وهذا موضعٌ لا يفقهه إلا من وفقه الله تعالى، ولا يصبر عليه إلا من أعانه الله وسدده؛ لأن في الكثرة فتنة، وفي القلة ابتلاء.
وإليك مثالاً ثالثاً يجلي لك معنى هذه القاعدة بوضوح، وهو أن تتأمل في كثرة المقالات والعقائد الباطلة وكيف أن المعتقد الحق هو شيء واحدٌ فقط، قال ـ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]!
والله الذي لا إله غيره، ما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيّب مثلها وأحسن، مع أمن من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، والعاقل حين يتحرر من هواه، ويمتلئ قلبه من التقوى، ومراقبة الله تعالى، فإنه لا يختار إلا الطيب، بل إن نفسه ستعاف الخبيث، ولو كان ذلك على حساب فوات لذات، ولحوق مشقات؛ فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، مسلياً نفسه بقوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]. جعلنا الله وإياكم من الذين طابت أقوالهم وأفعالهم، فطاب منقلبهم ومآلهم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_______________
(1) ينظر: مفردات الراغب: (272)، وتفسير ابن جزي والسعدي لهذه الآية.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:36 | |
| القاعدة السابعة عشرة: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين) حمداً لك اللهم، وصلاةً وسلاماً على خيرتك من خلقك، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فمرحى بكم في مهيع موضوعنا الشائق الرائق: (قواعد قرآنية)، نعيش فيها مع قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة في أبواب المعاملات، والعلاقات بين الناس، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين} [القصص: 26].
وهذه الآية الكريمة جاءت ضمن قصة موسى عليه السلام مع صاحب مدين ـ في سورة القصص ـ، والذي كان عاجزاً عن طلب الماء فخرجت ابنتاه للسقيا، بيد أنهما تأخرتا انتظاراً لصدور الناس عن البئر، إلا أن مروءة موسى وشهامته حملته على أن يبادر ـ من غير أن ينتظر سؤالهما ـ بقضاء حاجتهما، والسقيِ لهما، فأعجبَ هذا الفعلُ الفتاتين، فذكرتاه لوالدهما المقعد عن العمل، فأرسل في طلبه، فلما جاء وحدثه بخبره، قالت له إحداهما ـ وهي العالمة بعجز والدها عن القيام بمهام الرجال ـ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص: 26] فقولها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} تعليل لطلبها، فالقوة في العمل، والأمانة في أدائه على الوجه المطلوب.
وهذا التنصيص على هذين الوصفين هو من وفور عقل هذه المرأة التي رأت اكتمال هاتين الصفتين في موسى عليه السلام، وهو دليل ـ كما سيأتي ـ أن هذا من المطالب التي يتفق عليها عقلاء البشر في كل أمة من الأمم، وشريعة من الشرائع.
وقد أخذ العلماء ـ رحمهم الله ـ هذه الآية مأخذ القاعدة فيمن يلي أمراً من الأمور، وأن الأحق به هو من توفرت فيه هاتان الصفتان، وكلما كانت المهمة والمسؤولية أعظم، كان التشدد في تحقق هاتين الصفتين أكثر وأكبر.
أيها الأخ الموفق:
إن من تأمل القرآن الكريم وجد تلازماً ظاهراً وبيّناً بين هاتين الصفتين (القوة والأمانة) في عدة مواضع، ومن ذلك: ما وصف الله به مبلغ الوحي والرسالات إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ـ جبريل؛ ـ في قوله ـ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} [التكوير: 19 - 21] فانظر ـ يا عبدالله ـ كم وصفاً وصف الله به هذا الرسول الملكي الكريم؟! ومن ذلك وصفه بالقوة والأمانة، وهما من أعظم عناصر النجاح والكمال فيمن يؤدي عملاً من الأعمال.
والموضع الثاني من المواضع التي لوحظ فيها وصف القوة والأمانة، فهو قول يوسف عليه السلام للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. "أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه"(1).
ولا يخفى أن إدارة أموال مجموعة من الأيتام تحتاج إلى هاتين الصفتين فكيف بإدارة أموال تتعلق بجماعة، أم كيف بإدارة أموال دولة بأكملها، ولهذا أبرزَ يوسفُ عليه السلام هاتين الصفتين، ومدح نفسه بهما، لا لذات المدح، بل لأن الوضع الاقتصادي في مصر آنذاك يقتضي مبادرة في ضبط إدارة أموالها، خصوصاً وقد كانت مقبلة ـ بحسب الرؤيا ـ على سنين عجاف مجدبات، تحتاج إلى حكمة وتعقل في الصرف.
أما الموضع الثالث من المواضع التي لوحظ فيها وصف القوة والأمانة في القرآن الكريم فهو: ما جاء في قصة سليمان عليه السلام، وهو يعرض على من كان عنده أمر إحضار عرش بلقيس ملكة سبأ: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}[النمل: 38، 39].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: معلقاً على هذه المواضع الثلاثة بكلام نفيس، أنقل منه ما يناسب المقام: "وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة كما قال تعالى: {إن خير من استأجرت القوي الأمين}...، والقوة في كل ولاية بحسبها: فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها، فإن الحرب خَدْعَةٌ، وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر...، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.
والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمناً قليلاً، وتركِ خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل من حَكم على الناس في قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]... إلى أن قال: "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوةً، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر...
ثم قال: مبيناً منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج في هذا الباب: "ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل الرجل لمصلحةٍ مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان"
ثم لخص كلامه الطويل في تعليقه على هذه الآية بقوله: "والمهم ـ في هذا الباب ـ معرفةُ الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود، فإذا عُرِفَتْ المقاصد والوسائل تَمَّ الأمر"(2).
وكان: قد قال كلمة ينبغي أن نعيها جيداً ـ معشر المستمعين والمستمعات ـ: "ثم إن المؤدي للأمانة ـ مع مخالفة هواه، يثبته الله، فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده، فيذل أهله، ويذهب ماله، وفي ذلك الحكاية المشهورة، أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك؟ فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين أقفرتْ أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم - وكان في مرض موته- فقال: أدخلوهم علي، فأدخلوهم، وهم بضعةَ عشر ذكراً، ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بَنَيّ! والله ما منعتكم حقاً هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني!
قال هذا العالم ـ الذي يحكي هذه القصة ـ: فلقد رأيت بعض بنيه، حمل على مائة فرس في سبيل الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها. قلت (والكلام لابن تيمية): هذا وقد كان خليفة المسلمين، من أقصى المشرق بلاد الترك، إلى أقصى المغرب، بلاد الأندلس وغيرها، ومن جزيرة قبرص، وثغور الشام والعواصم، إلى أقصى اليمن، وإنما أخذ كل واحدٍ من أولاده، من تركته شيئاً يسيراً، يقال: أقل من عشرين درهماً -! قال ـ أي هذا العالم الذي يحدث بهذه القصة القصة ويعظ ذلك الخليفة العباسي ـ: وحضرتُ بعض الخلفاء، وقد اقتسم تركتَه بنوه، فأخذ كلُّ واحدٍ منهم ستّمائة ألف دينار، ولقد رأيتُ بعضهم، يتكفف الناس - أي يسألهم بكفه!!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله، ما فيه عبرة لكل ذي لب!"(3)
ختاماً من أراد أن يتوسع في فهم معاني هذه القاعدة القرآنية العظيمة، فليراجع ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية". رزقنا الله وإياكم فهمَ كتابه والعمل به، وجعلنا وإياكم ممن يقوم بحق ما ولاه الله عليه، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
________________
(1) تفسير السعدي: (400). (2) ينظر: السياسة الشرعية ـ مع تعليق شيخنا العثيمين عليها ـ ص: (42-63) باختصار وتصرف. (3) ينظر: السياسة الشرعية ـ مع تعليق شيخنا العثيمين عليها ـ ص: (29-31)، وسيرة عمر بن عبدالعزيز: (338).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:38 | |
| القاعدة التاسعة عشرة: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فحي هلا بكم في ملتقانا البديع: (قواعد قرآنية)، نعيش فيه مع قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب التعامل بين الخلق، الذين لا تخلو حياة كثير منهم من بغي عدوان، سواء على النفس أو على ما دونها، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}[البقرة: 179].
وهذه الآية القاعدة القرآنية العظيمة جاءت بعد قوله ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثم قال تعالى ـ مبيناً هذه القاعدة العظيمة في باب الجنايات ـ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 178، 179]، ولنا مع هذه القاعدة القرآنية المحكمة وقفات:
الوقفة الأولى:
إن من تأمل في واقع بلاد الدنيا عموماً ـ مسلمها وكافرها ـ فسيجد قلة القتل في البلاد التي يُقتلُ فيها القاتل ـ كما أشار إلى ذلك العلامة الشنقيطي: ـ وعلل ذلك بقوله: "لأن القصاص رادع عن جريمة القتل؛ كما ذكره الله في الآية المذكورة آنفاً، وما يزعمه أعداء الإسلام من أن القصاص غير مطابق للحكمة؛ لأن فيه إقلال عدد المجتمع بقتل إنسان ثان بعد أن مات الأول، وأنه ينبغي أن يعاقب بغير القتل فيحبس، وقد يولد له في الحبس فيزيد المجتمع، كله كلامٌ ساقط، عارٍ من الحكمة؛ لأن الحبس لا يردع الناس عن القتل، فإذا لم تكن العقوبة رادعةً فإن السفهاء يكثر منهم القتل، فيتضاعف نقص المجتمع بكثرة القتل" انتهى كلامه.
الوقفة الثانية:
مع قوله سبحانه وتعالى في هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، ذلك أن "الحياة أعز شيء على الإنسان في الجبلة، فلا تعادل عقوبة القتل في الردع والانزجار، ومن حكمة ذلك: تطمين أولياء القتلى بأن القضاء ينتقم لهم ممن اعتدى على قتيلهم، قال تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً}[الإسراء:33] أي: لئلا يتصدى أولياء القتيل للانتقام من قاتل مولاهم بأنفسهم؛ لأن ذلك يفضي إلى صورة الحرب بين رهطين فيكثر فيه إتلاف الأنفس"(1).
الوقفة الثالثة:
مع تنكير كلمة (حياة) في هذه القاعدة القرآنية {ولكم في القصاص حياة}. فهذا التنكير "للتعظيم، أي: في القصاص حياة لنفوسكم؛ فإن فيه ارتداعُ الناس عن قتل النفوس، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس؛ لأن أشد ما تتوقاه نفوس البشر من الحوادث هو الموت، فلو علم القاتل أنه يسلم من الموت لأقدم على القتل مستخفاً بالعقوبات كما قال سعد بن ناشب لما أصاب دماً وهربَ فعاقبه أمير البصرة بهدم داره بها:
سأغسلُ عني العار بالسيف جالباً *** عليَّ قضاء الله ما كان جالبا وأذهل عن داري، وأجعل هدمها *** لعرضيَ من باقي المذمة حاجبا ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت *** يميني بإدراكك الذي كنت طالبا
ولو ترك الأمر للأخذ بالثأر ـ كما كان عليه في الجاهلية ـ لأفرطوا في القتل وتسلسل الأمر كما تقدم، فكان في مشروعية القصاص حياة عظيمة من الجانبين"(2).
الوقفة الرابعة مع هذه القاعدة القرآنية {ولكم في القصاص حياة}:
هي مع ختم هذه القاعدة بقوله تعالى: {يا أولي الألباب} ففي ذلك "تنبيه على التأمل في حكمة القصاص؛ ففي توجيه النداء إلى أصحاب العقول إشارة إلى أن حكمة القصاص لا يدركها إلا أهل النظر الصحيح؛ إذ هو في بادئ الرأي كأنه عقوبة بمثل الجناية؛ لأن في القصاص رزية ثانية لكنه عند التأمل هو حياة لا رزية للوجهين المتقدمين. ثم قال: {لعلكم تتقون} إكمالا للعلة، أي لأجل أن تتقوا، فلا تتجاوزوا في أخذ الثأر حد العدل والإنصاف"(3).
الوقفة الخامسة مع هذه القاعدة القرآنية {ولكم في القصاص حياة}:
أن هذه القاعدة العظيمة من جوامع الكلام وبليغِه، فاق ما كان سائراً مسرى المثل عند بعض المتأخرين(4) وهو قولهم: (القتل أنفى للقتل). وقد اشتغل جمع من البلاغيّين في تحليل هذه القاعدة القرآنية {ولكم في القصاص حياة} للبحث عن مواطن إيجازها المتقَن، ومقارنتِها بالمثل المشهور الذي تكرر وتردد على ألسنة كثير من الأدباء، والكُتاب والصحفيينن ذلكم هو قول العرب: (القتلُ أنفى للقتل) فزعم بعضهم أنها أفصح من هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها {في القصاص حياة}،
وقبل بيان المقارنة يحسن إيراد كلمة محررة ومتينة لأبي بكرٍ الباقلاني: حيث يقول كلاماً، هو كالقاعدة في بين حال من يريد أن يقارن بين كلام الله وكلام خلقه: "فإن اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مُرْمَدٍ(5) فصاحة القرآن، وموقع بلاغته وعجيب براعته فما عليك منه! إنما يخبر عن نفسه، ويدل على عجزه، ويبين عن جهله، ويصرح بسخافة فهمه وركاكة عقله" (6)!
أيها الإخوة:
وبالمقارنة بين ما نحن بصدده من هذه القاعدة القرآنية: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وبين ذلك المثل: "الْقَتْلُ أنْفَى لِلْقَتل" ظهر ما يلي: (1) إنّ حروف القاعدة القرآنية: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أقل عدداً من عبارة العرب: "الْقَتْلُ أنْفَى للقتل". (2) القاعدة القرآنية ذكرت "الْقِصَاصَ" ولم تقل القتل، فشملت كلَّ ما تُقَابَلُ به الجناية على الأنفس فما دون الأنفس من عقوبة مُمَاثلة، وحدّدَتِ الأمر بأنْ يكون عقوبة وجزاء لخطأ سابق، لا مجرد عدوان، وهذا عين العدل. أمّا عبارة العرب فقد ذكرت القتل فقط، ولم تقيّده بأن يكون عقوبة، ولم تُشِرْ إلى مبدأ العدل، فهي قاصرة وناقصة. (3) القاعدة القرآنية {في القصاص حياة} نصَّتْ على ثبوت الحياة بتقرير حكم القصاص، أما المثل العربي فذكر نَفْي القتل، وهو لا يَدُلُّ على المعنى الذي يَدُلُّ عليه لفظ "حياة". (4) القاعدة القرآنية خالية من عيب التكرار، بخلاف المثل العربي الذي تكررت فيه كلمة القتل مرتين في جملة قصيرة. (5) القاعدة القرآنية صريحة في دلالتها على معانيها، مستغنية بكلماتها عن تقدير محذوفات، بخلاف عبارة "العرب" فهي تحتاج إلى عدّة تقديراتٍ حتى يَستقيم معناها، إذْ لا بُدَّ فيها من ثلاثة تقديرات، وهي كما يلي: "القتلُ" قصَاصاً "أنْفَى من تركه "لِلقَتْلِ" عمْداً وعدواناً. (6) في القاعدة القرآنية سَلاَسة، لاشتمالها على حروف متلائمة سهلة التتابع في النطق، أمّا العبارة "العرب" ففيها تكرير حرف القاف المتحرِّك بين ساكنين، وفي هذا ثقل على الناطق (7).
وبعد فإن لهذه المقارنة البلاغية الموجزة قصةً أختم بها حديثي في هذه القاعدة القرآنية، وهي أن العلامو محمود شاكر: قرأ مقالةً لأحد الصحفيين يقرر فيها أن عبارة "القتل أنفى للقتل" أبلغ من هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {ولكم في القصاص حياة}، فضاق صدر الشيخ محمود شاكر جداً، ووصف هذه الكلمة بأنها كافرة، فكتب ـ وقتها ـ إلى الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي يستحثه على الجواب عن هذه الدعوى المزيفة، يقول الشيخ محمود شاكر:: "غلى الدم في رأسي حين رأيت الكاتب يلج في تفضيل قول العرب: "القتل أنفى للقتل" على قول الله -تعالى- في كتابه الحكيم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، فذكرت هذه الآية القائلة: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121]... ففي عنقك أمانة المسلمين جميعًا لتكتبن في الرد على هذه الكلمة الكافرة لإظهار وجه الإعجاز في الآية الكريمة، وأين يكون موقع الكلمة الجاهلية منها؛ فإن هذه زندقة إن تركت تأخذ مأخذها في الناس؛ جعلت البر فاجرًا، وزادت الفاجر فجورًا، هم ذئاب الزندقة الأدبية التي جعلت همها أن تلغ ولوغها في البيان القرآني... الخ كلامه".
فلما بلغ هذا الكلام الأديب الرافعي غضب غضبة مضرية، وانبرى للرد على هذه الكلمة الآثمة في بضع صفحات من كتابه الرائع "وحي القلم"، لخصنا شيئاً منها فيما ذكرته آنفاً، فجزاه الله خيراً، وغفر له، وإلى هنا ينتهي ما أردتُ بيانه حول هذه القاعدة القرآنية الكريمة: {ولكم في القصاص حياة} وإلى لقاء جديد بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
________________
(1) التحرير والتنوير (2 / 192). (2) التحرير والتنوير 2/200. (3) التحرير والتنوير 2/200، بتصرف واختصار. (4) ينظر في بيان كون هذا المثل منقولاً ومترجماً: وحي القلم 3/407 - 410. (5) أي من في عينيه رمدٌ، إشارة إلى عماه عن إبصار الحقيقة. (6) نقلها الرافعي في وحي القلم: (3/399). (7) ينظر ـ في بيان أوجه إعجاز هذه الآية الكريمة ـ: وحي القلم للرافعي 3/402 – 409، والبلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها (492) للميداني.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:40 | |
| القاعدة العشرون: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا حديث متجدد عن قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب العدل والجزاء، ولتدبرها أثرٌ في فهم المؤمن لما يراه أو يقرأه في كتب التاريخ، أو كتاب الواقع من تقلبات الزمن والدهر بأهله، سواء على مستوى الأفراد أم الجماعات، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قوله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18].
ولعل إيراد الآية الكاملة التي ذكرت فيها هذه القاعدة مما يجلي لنا أبرز صور الإهانة التي تنزل الإنسان من عليائه، يقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
فهل أدركتَ معي ـ أخي ـ وأنت تستمع لهذه الآية الكريمة أن أعلى وأبهى وأجلى صور كرامة العبد أن يوحّد ربه، وأن يفرده بالعبادة، وأن يترجم ذلك بالسجود لربه، والتذللِ بين يدي مولاه، وخالقِه ورازقه، ومَنْ أمرُ سعادتِه ونجاته وفلاحِه بيده سبحانه وتعالى، يفعلُ ذلك اعترافاً بحق الله، ورجاءً لفضله، وخوفاً من عقابه؟!
وهل أدركتَ ـ أيضاً ـ أن غاية الهوان والذلّ، والسفول والضعة أن يستنكف العبد عن السجود لربه، أو يشرك مع خالقه إلهاً آخر؟! وتكون الجبال الصم، والشجر، والدواب البُهمُ، خيراً منه حين سجدت لخالقها ومعبودها الحق؟!
أيها الإخوة:
وإذا تبيّن هذا فإن هذه القاعدة القرآنية الكريمة: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} جاءت في سياق بيان من هم الذين يستحقون العذاب؟ إنهم الذين أذلوا أنفسهم بالإشراك بربهم، فأذلهم الله بالعذاب، كما قال سبحانه وتعالى: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} فلا يجدون حينها من يكرمهم بالنصر، أو بالشفاعة!
وتأمل ـ أيها المبارك ـ كيف جاء التعبير عن هذا العذاب بقوله: {ومن يهن الله} ولم يأت بـ(ومن يعذل الله) وذلك ـ والله أعلم ـ "لأن الإهانة إذلالٌ وتحقيرٌ وخزيٌ، وذلك قدرٌ زائدٌ على ألم العذاب، فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان" (1).
ثم تأمل كيف جاء التعبير عن ضد ذلك بقوله: (فما له من مكرم) فإن لفظ "الكرم لفظ جامع للمحاسن والمحامد، لا يراد به مجرد الإعطاء، بل الإعطاء من تمام معناه، فإن الإحسان إلى الغير تمام المحاسن، والكرم كثرة الخير ويسرته،... والشيء الحسن المحمود يوصف بالكرم، قال تعالى: {أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم} [الشعراء: 7]، قال ابن قتيبة: من كل جنس حسن، والقرآن قد دل على أن الناس فيهم كريم على الله يكرمه، وفيهم من يهينه، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13]، وقال تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} [الحج:18] (2)
أيها القارئ الكريم:
وإذا كان الشرك بالله هو أعظم صورةٍ يذل بها العبد نفسه، ويدسها في دركات الهوان، فإن ثمةَ صوراً أخرى ـ وإن كانت دون الشرك ـ إلا أن أثرها في هوان العبد وذله ظاهر بيّن: إنه ذل المعصية، وهوان العبد بسببها، يقول ابن القيم: موضحاًً شيئاً من معاني هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} وهو يتحدث عن شيء من شؤم المعاصي، وآثارها السيئة: "ومنها: أن المعصية سببٌ لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه، قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم!. وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}! وإنْ عَظّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم، أو خوفاً من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه... إلى أن قال: وهو يتحدث عن بعض عقوبات المعاصي: "أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمر الله، واستخف به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الناس، وعلى قدر تعظيمه الله وحرماته يعظم الناس حرماته! وكيف ينتهك عبدٌ حرمات الله ويطمع أن لا ينهك الناس حرماته؟! أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟! أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق؟!
وقد أشار سبحانه إلى هذا ـ في كتابه ـ عند ذكر عقوبات الذنوب، وأنه أركس أربابها بما كسبوا، وغطي على قلوبهم، وطبع عليها بذنوبهم، وأنه نسيهم كما نسوه، وأهانهم كما أهانوا دينه، وضيعهم كما ضيعوا أمره، ولهذا قال تعالى ـ في آية سجود المخلوقات له ـ: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} فإنهم لما هان عليهم السجود له، واستخفوا به، ولم يفعلوه أهانهم، فلم يكن لهم من مكرم بعد أن أهانهم، ومن ذا يكرم من أهانه الله أو يهن من أكرم... إلى أن قال:: ومن عقوباتها: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذم والصغار، فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمتقي والمطيع... ونحوها، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيء...، وأمثالها فهذه أسماء الفسوق وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان التي توجب غضب الديان، ودخول النيران، وعيش الخزي والهوان، وتلك أسماء توجب رضى الرحمان، ودخول الجنان، وتوجب شرف المتسمي بها على سائر أنواع الإنسان، فلو لم يكن في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل ناهٍ عنها، ولو لم يكن في ثواب الطاعة إلا الفوز بتلك الأسماء وموجباتها؛ لكان في العقل أمرٌ بها ولكن لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا مقرب لمن باعد، ولا مبعد لمن قرب، ومن يهن الله فماله من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء"(3) انتهى كلامه.
معشر القراء الكرام:
وفي كلمة ابن القيم الآنفة: "ومن ذا يكرم من أهانه الله، أو يهنْ من أكرم؟" إشارة إلى معنى يفهم من هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} وهو أن من أكرمه ربه بطاعته، والانقيادِ لشرعه ظاهراً وباطناً، فهو الأعز الأكرم، وإن خاله المنافقون أو الكفار الأمر على خلاف ذلك، كما قال من طمس الله على بصائرهم من المنافقين وأشباههم: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[المنافقون: 8] إي والله.. لا يعلمون من هم أهل العزة حقاً!
ألم يقل الله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [آل عمران: 139]؟! وكيف يشعر المؤمن بالهوان وسنده أعلى؟! ومنهجه أعلى؟! ودوره أعلى؟ وقدوته ج أعلى وأسمى؟! فهل يعي ويدرك أهل الإيمان أنهم الأعزة حقاً متى ما قاموا بما أوجب الله عليهم؟
وأختم حديثي عن هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}،بكلمة رائعة لشيخ الإسلام ابن تيمية: حيث يقول: "الكرامة في لزوم الاستقامة، واللهُ تعالى لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}" (4)، أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم منهم، وأن يكرمنا وإياكم بطاعته، ولا يذلنا ويهيننا بمعصيته، وإلى لقاء جديد بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_______________
(1) مجموع الفتاوى 15/367. (2) مجموع الفتاوى 16/295. (3) الجواب الكافي: (38 – 52) باختصار. (4) التحفة العراقية في الأعمال القلبية: (12).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:43 | |
| القاعدة الحادية والعشرون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين) القاعدة الحادية والعشرون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا مرفأ جديد إلى حلقة جديدة من هذه السلسلة الموسومة بـ(قواعد قرآنية)، نعيش فيها مع قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب التعامل مع الخالق سبحانه وتعالى والتعامل مع خلقه، هي قاعدة تمثل سفينةً من سفن النجاة، وركناً من أركان الحياة الاجتماعية، وهي ـ لمن اهتدى بهديها ـ علامة خير، وبرهان على سمو الهمة، ودليل على كمال العقل، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}[التوبة: 119].
أيها الإخوة:
هذه القاعدة المحكمة جاءت تعقيباً على قصة جهاد طويل، وبلاء كبير في خدمة الدين، والذب عن حياضه، قام به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم،وذلك في خاتمة سورة التوبة ـ التي هي من آخر ما نزل عليه – صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117، 119].
والمعنى: إن هؤلاء الذين تاب الله عليهم ـ النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والثلاثة الذين خلفوا ـ هم أئمة الصادقين، فاقتدوا بهم.
وأنت ـ أيها المبارك ـ إذا تأملتَ مجيء هذه القاعدة القرآنية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} بعد هذه الآيات، أدركتَ أن الصدق أعمّ من أن يختصر في الصدق في الأقوال! بل هو الصدق في الأقوال والأفعال والأحوال، التي كان يتمثلها نبينا صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، قبل البعثة وبعدها.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم صادق اللهجة، عف اللسان، أميناً وفيّاً حافظاً للعهود قبل بعثته، عرف بالصادق الأمين، وكان ذلك سبباً في إسلام بعض عقلاء المشركين، الذين كان قائلهم يقول: لم يكن هذا الرجل يكذب على الناس أفتراه يكذب على الله؟!
أيها الإخوة:
كثيرٌ من الناس حينما يسمع هذه القاعدة القرآنية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} لا ينصرف ذهنه إلا للصدق في الأقوال، وهذا في الحقيقة تقصير في فهم هذه القاعدة، وإلا لو تأمل الإنسان سياقها لعلم أنها تشمل جميع الأقوال والأفعال والأحوال! كما تقدم.
يا أهل القرآن!
إن للصدق آثاراً حميدة، وعوائد جليلة; وهو دليل على رجحان العقل، وحسن السيرة، ونقاء السريرة. ولو لم يكن للصدق من آثار إلا سلامته من رجس الكذب، ومخالفة المروءة، والتشبه بالمنافقين! فضلاً عما يكسبه الصدق من عزة، وشجاعة، تورثه كرامة، وعزة نفس، وهيبةَ جناب، ومن تأمل في قصة الثلاثة الذين خلفوا أدرك حلاوة الصدق ومرارة الكذب ولو بعد حين. ومن تأمل في الآيات الواردة في مدح الصدق والثناء على أهله وجدَ عجبا عجاباً!
ولو أخذتُ في سرد الآيات الواردة فيه سرداً فقط لانقضى وقت الحلقة قبل أن تنقضي الآيات، ولكن حسبنا أن نشير إلى جملة من الآثار التي دلّ عليها القرآن للصدق وأهله في الدنيا والآخرة: 1. فالصادق سائر على درب الأنبياء والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ الذين أثنى الله عليهم في غير ما آية بالصدق في الوعد والحديث.
2. والصادق معانٌ ومنصورٌ، ويسخر الله له من يدافع عنه من حيث لا يتوقع، بل قد يكون المدافع خصماً من خصومه، تأمل في قول امرأة العزيز: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}[يوسف: 51].
3. والصادق يسير في طريق لاحب إلى الجنة، ألم يقل النبي ج: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا" أخرجه الشيخان(1)، وقد قال الله عز وجل ـ مبيناً صفات أهل الجنة ـ: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران: 17].
4. وأهل الصدق هم الناجون يوم العرض الأكبر على ربهم، كما قال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}[المائدة: 119].
5. والصادقون هم أهلٌ لمغفرة الله وما أعده لهم من الأجر والثواب العظيم، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ... أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) [الأحزاب: 35].
وبعد هذا.. فإن من المحزن والمؤلم أن يرى المسلم الخرق الصارخ ـ في واقع المسلمين ـ لما دلّت عليه هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}! فكم هم الذين يكذبون في حديثهم؟ وكم هم الذين يخلفون مواعيدهم؟ وكم هم أولئك الذين ينقضون عهودهم؟ أليس في المسلمين من يتعاطى الرشوة ويخون بذلك ما اؤتمن عليه من أداء وظيفته؟ أليس في المسلمين من لا يبالي بتزوير العقود، والأوراق الرسمية؟ وغير ذلك من صور التزوير؟ لقد شوّه ـ هؤلاء ـ وللأسف بأفعالهم وجهَ الإسلام المشرق، الذي ما قام إلا على الصدق!
وإنك لتعجب من مسلم يقرأ هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}! ومع ذلك يمارس كثير من المسلمين الكذب مع وفرة النصوص الشرعية التي تأمر بالصدق وتنهى عن الكذب!
ليت هؤلاء يتأملون هذا الموقف، الذي حدّث به أبو سفيان س قبل أن يسلم، حينما كان في أرض الشام، إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم، قال: فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقلت: أنا، فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا بترجمانه، فقال له: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه، فقال أبو سفيان: وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت(2).
فتأمل ـ أيها المؤمن ـ كيف حاذر هذا الرجل الذي كان مشركاً يومئذ من الكذب؛ لأنه يراه عاراً وسُبةً لا تليق بالرجل الذي يعرف جلالة الصدق، وقبح الكذب؟! إنها مروءة العربي، الذي كان يعد الكذب من أقبح الأخلاق! ولهذا لما سئل ابن معين: عن الإمام الشافعي قال: دعنا، والله لو كان الكذب حلالاً لمنعته مروءته أن يكذب(3)! وجاء في ترجمة الحافظ إسحاق بن الحسن الحربي (ت: 284) أن الإمام إبراهيم الحربي سئل عنه، فقال: ثقة، ولو أن الكذب حلال ما كذب إسحاق(4)! وكان إبراهيم الحربي (ت: 285) يقول في الإمام المحدث هارون الحمال: لو أن الكذب حلال لتركه هارون تنزهاً(5). ولله درُّ الإمامِ الأوزاعي: أنه قال: والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت!
فأين من هذا أولئك الذين استمرأوا الكذب، بل وامتهنوه، ولم يكتفوا بهذا بل روّجوا شيئاً من عادات الكفار في الكذب، كما هو الحال فيما يسمى بكذبة إبريل! ويزعم بعضهم أن تلك كذبة بيضاء! وما علموا أن الكذب كله أسود! إلا ما استثناه الشرع المطهر.
ويقال: لو لم يكن من خسارة يجنيها هؤلاء الذين يكذبون إلا أنهم يتخلفون بكذبهم هذا عن ركب المؤمنين الصادقين، الذين عناهم الله بهذه القاعدة القرآنية المحكمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}.
ما أحرانا معشر الآباء والمربين، أن نربي أجيالنا على هذا الخلق العظيم، وبغض الكذب، وأن نكون لهم قدوات حية يرونها بأعينهم.
يقول الأستاذ الأديب الكبير محمد كرد علي:
"لو عَمَدنا إلى الصدق نجعله شعارنا الباطنَ والظاهر في عامة أحوالنا؛ لوفرنا على أنفسنا وعلى من يحتفون بنا وعلى القائمين بالأمر فينا أوقاتاً وأموالاً ولغواً وباطلاً، ولعشنا وأبناءنا سعداء لا نقلق ونَرَوّع، ممتعين بما نجني، مباركاً لنا فيما نأخذ ونعطي، ولعشنا في ظل الشرف، وتذوقنا معنى الإنسانية، ونَعِمْنا بالقناعة، وعَمّنا الرضى"(6). انتهى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_______________
(1) البخاري ح ()، ومسلم ح (). (2) صحيح البخاري ح (؟)، وصحيح مسلم ح (74). (3) لسان الميزان 5/416. (4) تاريخ بغداد (6/382). (5) تاريخ بغداد (14/22) وفي النص خلل، صحح من تذكرة الحفاظ 2/478. (6) أقوالنا وأفعالنا (178).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:44 | |
| القاعدة الثانية والعشرون: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذه حلقة جديدة من حلقات هذه السلسة المباركة ـ إن شاء الله ـ (قواعد قرآنية)، نعيش فيها مع قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب التعامل مع الخالق سبحانه وتعالى والتعامل مع خلقه، هي قاعدة وملاذٌ لمن تواجه أعمالهم بعدم التقدير، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين}[يوسف: 90].
وهذه القاعدة جاءت في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وذلك حين دخل عليه إخوته فقالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 88 - 90].
أيها الإخوة:
ما أكثر ما نحفظ تعريف التقوى، بل قد يحفظ بعضنا عدة تعاريف لها وللصبر، ويحفظ تقسيمات الصبر، ثم يفشل أحدنا، أو يقع منه تقصير ظاهر في تطبيق هذه المعاني الشرعية كما ينبغي عند وجود المتقضي لها. ولستُ أعني بذلك العصمة من الذنب، فذلك غير مراد قطعاً، وإنما أقصد أننا نخفق أحياناً ـ إلا من رحم الله ـ في تحقيق التقوى أو الصبر إذا جد الجد، وجاء موجبهما.
كلنا ـ أيها الإخوة ـ يحفظ أن التقوى هي فعل أوامر الله، واجتناب نواهيه. وكلنا يدرك أن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة، وحبس للنفس على مراد الله ورسوله، ولكن الشأن في النجاح في تطبيق هذين المعنيين العظيمين في أوانهما.
ولنا أن نتساءل ـ أيها الإخوة ـ هنا عن سر الجمع بين التقوى والصبر في هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}؟ والجواب: أن ذلك ـ والله أعلم ـ لأن أثر التقوى في فعل المأمور، وأما الصبر فأثره في الأغلب في ترك المنهي(1).
أيها القراء الأكارم:
إن لهذه القاعدة القرآنية الجليلة تطبيقاتٍ كثيرة في حياة المؤمن، بل وفيما يقرأه المسلم في كتاب ربه، ومن ذلك:
1 ـ ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية: تعليقاً على هذه القاعدة {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} في سورة يوسف صلى الله عليه وسلم: "ثم إن يوسف ابتلي بعد أن ظُلِمَ بمن يدعوه إلى الفاحشة، ويراوده عليها، ويستعين عليه بمن يعينه على ذلك، فاستعصم واختار السجن على الفاحشة، وآثر عذاب الدنيا على سخط الله، فكان مظلوماً من جهة من أحبه لهواه، وغرضِه الفاسد... ثم تكلم على محنته مع إخوته، وكيف أنه تعرض لنوعين من الأذى فقابلهما بالتقوى والصبر:
أما الأذى الأول: فهو ظلم إخوته له، الذين أخرجوه من انطلاق الحرية إلى رق العبودية الباطلة بغير اختياره.
وأما الأذى الثاني: فهو ما تعرض له من ظلم امرأة العزيز، التي ألجأته إلى أن اختار أن يكون محبوساً مسجوناً باختياره.
ثم فرق الشيخ: بين صبره على أذى إخوته، وصبره على أذى امرأة العزيز، وقرر أن صبره على الأذى الذي لحقه من امرأة العزيز أعظم من صبره على أذى إخوته؛ لأن صبره على أذى إخوته كان من باب الصبر على المصائب التي لا يكاد يسلم منها أحد، وأما صبره على أذى امرأة العزيز فكان اختيارياً؛ واقترن به التقوى، ولهذا قال يوسف: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
ثم قال شيخ الإسلام ـ مبيناً اطراد هذه القاعدة القرآنية ـ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فقال: "وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه، وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان ـ وإن لم يفعل أوذي وعوقب ـ اختار الأذى والعقوبة على فراق دينه: إما الحبس وإما الخروج من بلده، كما جرى للمهاجرين حين اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين، وكانوا يعذبون ويؤذون.
وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع من الأذى فكان يصبر عليها صبراً اختيارياً، فإنه إنما يُؤذى لئلا يفعل ما يفعله باختياره، وكان هذا أعظم من صبر يوسف؛ لأن يوسف إنما طلب منه الفاحشة، وإنما عوقب ـ إذا لم يفعل ـ بالحبس، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طلب منهم الكفر، وإذا لم يفعلوا طلبت عقوبتهم بالقتل فما دونه، وأهون ما عوقب به الحبس... إلى أن قال: فكان ما حصل للمؤمنين من الأذى والمصائب هو باختيارهم طاعة لله ورسوله لم يكن من المصائب السماوية التي تجري بدون اختيار العبد من جنس حبس يوسف لا من جنس التفريق بينه وبين أبيه وهذا أشرف النوعين وأهلها اعظم بدرجة وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه وتكفر عنه الذنوب بمصائبه"(2).
2 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة القرآنية: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: تربيةُ النفس على التقوى والصبر على ما يسمى بعشق الصور، الذي أفسد قلوب فئام من الناس، بسبب تعلق قلوبهم بتلك الصور، سواء كانت صوراً حية، أم ثابتة. ولقد عظمت الفتنة بهذه الصور في عصرنا هذا، الذي لم تعرف الدنيا عصراً أعظم منه في انتشار الصورة، والاحتراف في تصويرها، والتفنن في تغيير ملامحها، وتَيّسر الوصول إلى الصور المحرمة منها وغير المحرمة، عن طريق الإنترنت، والجوال، وغيرها من الوسائل.
فعلى المؤمن الناصح لنفسه أن يتقي ربه، وأن يجاهد نفسه في البعد عن هذا المرتع الوخيم ـ أعني تقليب النظر في الصور المحرمة ـ وأن يوقن أن ما يقذفه الله في قلبه من الإيمان والنور والراحة والطمأنينة سيكون أضعاف ما يجده من لذة عابرة بتلك الصور، ومن أراد أن يعرف مفاسد هذا الباب ـ أعني عشق الصور ـ فليقرأ أواخر كتاب العلامة ابن القيم: "الجواب الكافي" فقد أجاد وأفاد.
وليتذكر المبتلى بالعشق "أنه إذا عف عن المحرمات نظراً وقولاً وعملاً، وكتم ذلك، فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلامٌ محرم: إما شكوى إلى المخلوق، وإما إظهار فاحشة، وإما نوعُ طلبٍ للمعشوق، وصَبَرَ على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى ما في قلبه من ألم العشق، كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة، فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر، و{مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}" (3).
3 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {إِنّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أن الإنسان قد يبتلى بحُساد يحسدونه على ما آتاه الله من فضله، وقد يجد من آثار هذا الحسد ألواناً من الأذى القولي أو الفعلي، كما وقع لأحد ابني آدم حين حسد أخاه؛ لأن الله تقبل قربانه ولم يتقبل قربان أخيه، وكما وقع ليوسف مع إخوته، وقد يقع هذا من المرأة مع ضرتها، أو من الزميل مع زميله في العمل.
وهذا النوع من الحسد، يقع غالباً بين المتشاركين في رئاسة أو مال أو عمل إذا أخذ بعضهم قسطاً من ذلك وفات الآخر؛ ويكون بين النظراء؛ لكراهة أحدهما أن يفضل الآخر عليه (4).
فعلى من ابتلي بذلك أن يتذكر هذه القاعدة القرآنية: {إِنّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، وليتذكر ـ أيضاً ـ قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}.
4 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة القرآنية العظيمة: ما تكرر الحديث عنه في سورة آل عمران في ثلاثة مواضع، كلها جاءت بلفظ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا}. الأول والثاني منهما: في ثنايا الحديث عن غزوة أحد، يقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[آل عمران: 120]، والثاني: في قوله سبحانه وتعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِين} [آل عمران: 124، 125].
والموضع الثالث: في أواخر آل عمران ـ في سياق الحديث عن شيء من المنهج القرآني في التعامل مع أذى الأعداء من المشركين وأهل الكتاب ـ فقال سبحانه وتعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[آل عمران: 186].
وهذه مواضع جديرة بالتأمل والتدبر، وأحرف هذه الحلقات لا تساعد على التوسع فيها، فأوصي بالرجوع إليها وتدبرها، وتأملها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
______________
(1) جامع الرسائل لابن تيمية (1/38). (2) مجموع الفتاوى 10/121- 123 بتصرف واختصار. (3) مجموع الفتاوى 10/ 133 بتصرف واختصار. (4) ينظر: مجموع الفتاوى 10/ 125-126.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:45 | |
| القاعدة الثالثة والعشرون: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا ظل من ظلال حلقات هذا البرنامج نتفيأه عند قاعدة من القواعد القرآنية التي حفل بها كتاب ربنا عز وجل، تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189].
وهذه القاعدة القرآنية جاءت ضمن سياق الحديث عن عادة من عادات أهل الجاهلية، الذين إذا أحرموا، لم يدخلوا البيوت من أبوابها، تعبدا بذلك، وظنا أنه بر، فأخبر الله أنه ليس ببر؛ لأن الله تعالى، لم يشرعه لهم، كما ثبت سبب هذا النزول في الصحيحين من حديث البراء رضي الله عنه.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189].
ولئن كان سبب النزول الذي عالج ذلك الخطأ من أجلى وأظهر الصور التي عالجتها هذه القاعدة، فإن ثمة تطبيقات أخرى واسعة لهذه القاعدة القرآنية الجليلة {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، تظهر لمن تتبع كلام العلماء عنها، أو في تطبيقاتهم العملية لها، ومن ذلك:
1 ـ عبادة الله تعالى، فإنها الطريق الموصل إلى الله عز وجل، ومن أراد أن يصل إلى الله، فعليه أن يسلك الطريق الموصل إليه سبحانه وتعالى، ولا يكون ذلك إلا بواسطة الطريق الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله:
"فالوصول إلى الله وإلى رضوانه بدونه محال، وطلب الهدى من غيره هو عين الضلال، وكيف يوصل إلى الله من غير الطريق التي جعلها هو سبحانه موصلة إليه؟ ودالة لمن سلك فيها عليه؟ بعث رسوله بها مناديا، وأقامه على أعلامها داعيا، وإليها هاديا، فالباب عن السالك في غيرها مسدود، وهو عن طريق هداه وسعادته مصدود، بل كلما ازداد كدحاً واجتهاداً: ازداد من الله طرداً وإبعاداً"(1).
ويؤكد ذلك العلامة السعدي رحمه الله، في تعليقه على هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} فيقول: "وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله، فهو متعبد ببدعة، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم، التي هي قاعدة من قواعد الشرع"(2).
2 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة { وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} أنه:
"يؤخذ من عمومها اللفظي والمعنوي أن كل مطلوب من المطالب المهمة ينبغي أن يؤتى من بابه، وهو أقرب طريق ووسيلة يتوصل بها إليه، وذلك يقتضي معرفة الأسباب والوسائل معرفة تامة؛ ليسلك الأحسن منها والأقرب والأسهل، والأقرب نجاحاً، لا فرق بين الأمور العلمية والعملية، ولا بين الأمور الدينية والدنيوية، ولا بين الأمور المتعدية والقاصرة، وهذا من الحكمة"(3).
3 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} إغلاقها لباب الحيل على الأحكام الشرعية، إلا فيما أذن فيه الشرع؛ ذلك أن المتحايل على الشريعة لم يأت الأمر من بابه، فخالف بذلك ما دلت عليه هذه القاعدة المحكمة.
يقول ابن القيم رحمه الله مبيناً شناعة فعل هؤلاء المتحايلين، الذين تفننوا في هذا الباب: "فاستبيحت بحيلهم الفروج، وأخذت بها الأموال من أربابها فأعطيت لغير أهلها، وعطلت بها الواجبات، وضيعت بها الحقوق، وعجّت الفروج والأموال والحقوق إلى ربها عجيجاً، وضجت مما حل بها إليه ضجيجاً، ولا يختلف المسلمون أن تعليم هذه الحيل حرام، والإفتاء بها حرام، والشهادة على مضمونها حرام، والحكم بها مع العلم بحالها حرام"(4)انتهى.
فإذا تبين ذلك، فقارن ـ أيها المستمع الكريم ـ كم هم الذين وقعوا في هذا المرتع الوخيم؟! ممن نصبوا أنفسهم للإفتاء في بعض المنابر الإعلامية، أو في بعض المواقع، وساعدهم على ذلك تراكض كثير من الناس في هذا الباب، وأدنى نظرة في الواقع، تبين أن الأمر جلل، والله المستعان.
4 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة القرآنية: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}:
في باب طلب العلم شرعياً كان أم غير شرعي، وكذلك في طلب الرزق، فإن "كل من سلك طريقاً وعمل عملاً، وأتاه من أبوابه وطرقه الموصلة إليه، فلا بد أن يفلح وينجح ويصل به إلى غايته، كما قال تعالى: { وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}[البقرة: 189]، وكلما عظم المطلوب تأكد هذا الأمر، وتعين البحث التام عن أمثل وأقوم الطرق الموصلة إليه"(5).
وما أجمل ما قاله قيس بن الخطيم:
إذا ما أتيت العزّ من غير بابه *** ضللتَ، وإن تقصد من الباب تهتد(6).
5 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة القرآنية: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}:
هو الحديث مع الناس، فإن الآية ترشد إلى أن المؤمن عليه أن يسلك الطريقة المناسبة في الحديث، فيعرف الموضوع المناسب الذي يحسن طرقُه، والوقت الملائم، ويعرف طبيعة الشخص أو الناس الذين يتحدث إليهم، فإن لكل مقام مقالاً، ولكل مجال جدالاً، ولكل حادثة مقاماً.
وعلى هذا فإذا أراد الإنسان أن يخاطب شخصاً كبير المنزلة في العلم أو الشرف، فلا يليق أن يخاطبه بما يخاطب سائر الناس؛ والحكمة في هذا هي المدار، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
6 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة القرآنية: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}:
ما أشار إليه ابن الجوزي في كتابه الماتع "صيد الخاطر" حيث يقول رحمه الله: "شكا لي رجل من بغضه لزوجته ثم قال: ما أقدر على فراقها لأمور: منها كثرة دينها علي، وصبري قليل، ولا أكاد أسلم من فلتات لساني في الشكوى، وفي كلمات تعلم بغضي لها.
فقلت له: هذا لا ينفع وإنما تؤتى البيوت من أبوابها، فينبغي أن تخلو بنفسك، فتعلم أنها إنما سلطت عليك بذنوبك، فتبالغ في الاعتذار والتوبة، فأما الضجر والأذى لها فما ينفع، كما قال الحسن البصري عن الحجاج بن يوسف: عقوبة من الله لكم، فلا تقابلوا عقوبته بالسيف، وقابلوها بالاستغفار.
واعلم أنك في مقام مبتلى، ولك أجر بالصبر وعسى أن تكرهوا شيئاً، وهو خير لكم، فعامل الله سبحانه بالصبر على ما قضى، واسأله الفرج، فإذا جمعت بين الاستغفار وبين التوبة من الذنوب، والصبر على القضاء، وسؤال الفرج، حصلت ثلاثة فنون من العبادة تثاب على كل منها، ولا تُضَيّع الزمان بشيء لا ينفع، ولا تحتل ظاناً منك أنك تدفع ما قدر... وأما أذاك للمرأة فلا وجه له، لأنها مسلطة فليكن شغلك بغير هذا. وقد روي عن بعض السلف أن رجلاً شتمه فوضع خده على الأرض وقال: اللهم اغفر لي الذنب الذي سَلّطَتَ هذا به علي"(7) انتهى كلام ابن الجوزي رحمه الله.
والغرض الذي أردتُ منه ذكر هذه القصة: أن هذا الإمام الواعظ استخدم هذه القاعدة القرآنية {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} في علاج مشكلة هذا الرجل الاجتماعية، وما أكثر هذا النوع من المشاكل، لكن ما أقل من يستعمل قواعد القرآن، وهداياته في علاج مشاكل الناس الاجتماعية، إما تقصيراً في فهم هداياته، أو قصوراً في ذلك، والواجب علينا أن ننطلق في إصلاح مشاكلنا كلها مهما تنوعت من كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن نعتقد ذلك يقيناً؛ لأن الله تعالى يقول: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} في كل شيء: في أمر العقائد، وأحكام الحلال والحرام، والقضايا الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، ولكن الشأن فينا نحن، وفي تقصيرنا في تطلب حل مشاكلنا من كتاب ربنا تعالى، نسأل الله تعالى أن يعيننا على فهم كتابه، والاهتداء بهديه، والاستنارة بنوره، وإلى لقاء جديد بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_________________
(1) مقدمة كتابه "تهذيب السنن" 1/3. (2) تفسير السعدي: (88)، وقد نبه على اطراد هذه القاعدة: شيخنا محمد العثيمين رحمه اله في شرحه على البخاري. (3) تيسير اللطيف المنان (45). (4)إعلام الموقعين عن رب العالمين - (3 / 372). (5) القواعد الحسان: (3). (6) جمهرة الأمثال للعسكري (89). (7) صيد الخاطر: (303).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:47 | |
| القاعدة الرابعة والعشرون: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا ظل من ظلال حلقات هذا السلسلة المباركة؛ لنتوقف قليلاً عند قاعدة من القواعد القرآنية التي حفل بها كتاب ربنا عز وجل، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
وهذه الآية الكريمة جاءت في ختام سورة العنكبوت، والتي افتتحت بقوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3].
وكأن ختام سورة العنكبوت بهذه القاعدة القرآنية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} هو جواب عن التساؤل الذي قد يطرحه المؤمن ـ وهو يقرأ صدر سورة العنكبوت التي ذكرنا مطلعها آنفاً ـ تلك الكلمات العظيمة ـ التي تقرر حقيقة شرعية وسنة إلهية ـ في طريق الدعوة إلى الله تعالى، وذلك السؤال هو: ما المخرج من تلك الفتن التي حدثتنا عنها أول سورة العنكبوت؟! فيأتي الجواب في آخر السورة، في هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} فلا بد من الجهاد ـ بمعناه العام ـ ولا بد من الإخلاص، عندها تأتي الهداية، ويتحقق التوفيق بإذن الله.
ولا بد لكل من أراد أن يسلك طريقاً أن يتصور صعوباته؛ ليكون على بينة من أمره، وهكذا هو طريق الدعوة إلى الله، فلم ولن يكون مفروشاً بالورود والرياحين، بل هو طريق "تعب فيه آدم, وناح لأجله نوح, ورمى في النار الخليل, وأضجع للذبح إسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في السجن بضع سنين"(1).
أتدري لماذا أيها القارئ الكريم؟
لأن "الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف؛ وأمانة ذات أعباء؛ وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا. وهم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب"(2).
"فيا من نصبت نفسك للدعوة، وأقمت نفسك مقام الرسل الدعاة الهداة تحمَّل كلَّ ما يلاقيك من المحن بقلب ثابت، وجأش رابط، ولا تزعزعنَّك الكروب؛ فإنها مربِّية الرجال، ومهذِّبة الأخلاق، ومكوِّنة النفوس.
وإن رجلاً لم تعركه الحوادث، ولم تجرِّبه البلايا لا يكون رجل إصلاح ولا داعي خَلْقٍ إلى حقٍّ؛ فوطِّن النفس على تحمُّل المكروه، وابذل كل ما تستطيع من قوة ومال يهدك الله طريقاً رشداً، ويصلح بك جماعات بل أمماً [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ]"(3).
أيها القراء الكرام:
وإذا تبينت صلة هذه القاعدة القرآنية المذكورة في آخر سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ـ بأول السورة، فإن دلالات هذه القاعدة في ميدان الدعوة كبيرة ومتسعة جداً، وهي تدل بوضوح على أن من رام الهداية والتوفيق ـ وهو يسير في طريق الدعوة ـ فليحقق ذينك الأصلين الكبيرين اللذين دلّت عليهما هذه القاعدة:
1 ـ أما الأصل الأول: فهو بذل الجهد والمجاهدة في الوصول إلى الغرض الذي ينشده الإنسان في طريقه إلى الله تعالى.
2 ـ والأصل الثاني هو: الإخلاص لله، لقوله ـ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} فليس جهادهم من أجل نصرة ذات، ولا جماعة على حساب أخرى، وليس من أجل لعاعة من الدنيا، أو ركض وراء كرسي أو منصب، بل هو جهادٌ في ذات الله تعالى.
وإنما نُبّه على هذا الأصل ـ وهو الإخلاص ـ مع كونه شرطاً في كل عمل، فإن السر ـ والله أعلم ـ لأن من الدعاة من قد يدفعه القيام بالدعوة، أو بأي عمل نافع، الرغبة في الشهرة التي نالها الداعية الفلاني، أو يدفعه نيل ثراء ناله المتحدث الفلاني.. فجاء التنبيه على هذا الأصل الأصيل في كل عمل صالح.
وثمة سرٌّ آخر ـ والله أعلم ـ في التنبيه على هذا الأصل، وهو: أن الإنسان قد يبدأ مخلصاً، ثم لا يلبث أن تنطفئ حرارة الإخلاص في نفسه كلما لاح أمام ناظريه شيء من حظوظ النفس، والأثرة، أو التطلع إلى جاه، والرغبة في العلو والافتخار، أو الانتصار.
"والعلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة، وهي إذا استفحلت استأصلت الإيمان، وإذا قلّت تركت به ثُلماً شتى، ينفذ منها الشيطان" (4)، لذا ليس غريباً أن يأتي التوكيد على هذا الأصل الأصيل في هذا المقام العظيم: مقام الجهاد والمجاهدة.
وإذا تقرر أن السورة مكية ـ على القول الصحيح من أقوال المفسرين ـ وهو الذي لم تجب فيه بعدُ شعيرة الجهاد بمعناه الخاص ـ وهو قتال المشركين لإعلاء كلمة الله ـ فإن ثمة معنى كبيراً تشير إليه هذه القاعدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وهو أن من أبلغ صور الجهاد: الصبر على الفتن بنوعيها: فتن السراء وفتن الضراء، والتي أشارت أوائل سورة العنكبوت إلى شيءٍ منها.
أيها المتأمل الكريم:
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} دلت على شيءٍ آخر، كما يقول ابن القيم:: "وهو أن أكمل الناس هدايةً أعظمهم جهاداً، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد... إلى أن قال:: ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطناً، فمن نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نصرتْ عليه نُصِرَ عليه عدوُه" (5).
وفي كلمات الأعلام من سلف هذه الأمة، والتابعين لهم بإحسان ما يوسع دلالة هذه القاعدة: فهذا الجنيد: يقول ـ في تعليقه على هذه القاعدة القرآنية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ـ: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة؛ لنهدينهم سبل الإخلاص. ولأهل العلم نصيب من هذه القاعدة، يقول أحمد بن أبي الحواري: حدثني عباس بن أحمد ـ في قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} قال: الذين يعملون بما يعلمون، نهديهم إلى ما لا يعلمون.
وهذا الذي ذكره هذا العالم الجليل هو معنى ما روي في الأثر: من علم بما عمل، ورّثه الله علم ما لم يعمل، وشاهد هذا في كتاب الله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد: 17].
وكان عمر بن عبدالعزيز: يقول: "جهلنا بما علمنا تركنا العمل بما علمنا ولو علمنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا غلق ما لا تهتدي إليه آمالنا (6).
وفي واقع المسلمين أحوال تحتاج إلى استشعار معنى هذه القاعدة القرآنية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}: فمن له والدان كبيران مريضان، بحاجة أن يستشعر هذه القاعدة.. ومن سلك طريق طلب العلم، فطال عليه بعض الشيء بحاجة أن يتأمل معاني هذه القاعدة.. ومن فرّغ جزءً من وقته لتربية النشء، والشباب، أو لتعليم أبناء وبنات المسلمين كتابَ الله عز وجل ـ وقد دبّ عليه الفتور ـ هو بحاجة ماسّة ليتدبر هذه القاعدة..
وبالجملة، فكلُّ من نصب نفسه لعمل صالح، سواء كان قاصراً أم متعدياً، فعليه أن يتدبر هذه القاعدة كثيراً، فإنها بلسمٍ شافٍ في طريق السائرين إلى ربهم، ويوشك المؤمن أن ينسى كلَّ ما واجهه من تعب ونصب، إذا وضع قدمه على أول عتبة من عتابات الجنة، جعلني الله وإياكم ـ ووالدينا وذرياتنا ـ من أهلها، ومن الدعاة إلى دخولها.
_________________
(1) الفوائد: (42). (2) في ظلال القرآن. (3) الكلمة للمنفلوطي، نقلاً عن مقالات لكبار كتاب العربية للدكتور محمد الحمد ـ وفقه الله ـ (1 / 213). (4) خلق المسلم للغزالي: (66). (5) الفوائد: (59). (6) درء التعارض 4/358.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الإثنين 17 يونيو - 23:48 | |
| القاعدة الخامسة والعشرون: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) http://almoslim.net/node/119463 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا مرتع خصب، وروضة غناء، نتفيأ في ظلالها معنىً من معاني كلام الله عز وجل، ومع قاعدة من القواعد التي تتصل بفقه السنن الإلهية في الأمم والمجتمعات، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}[الإسراء: 59].
وقد تنوعت عبارات المفسرين في بيان المراد بهذه الآيات التي يرسلها ربنا تعالى، فمن قائل: هو الموت المتفشي الذي يكون بسب وباء أو مرض، ومن قائل: هي معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفا للمكذبين، وثالث يقول: آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي.
وهذا الإمام ابن خزيمة: يبوب على أحاديث الكسوف بقوله: باب ذكر الخبر الدال على أن كسوفهما تخويف من الله لعباده، قال الله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}(1).
وكل هذه العبارات ـ في تنوعها ـ تشير إلى أن الآيات لا يمكن حصرها في شيء واحد، وما ذكره السلف ـ رحمهم الله ـ إنما هو عبارة عن أمثلة لهذه الآيات، وليس مرادهم بذلك حصر الآيات في نوع واحد منها، وهذه هي عادة السلف في أمثال هذه المواضع عندما يفسرونها.
والمهم هنا ـ أيها المستمعون الفضلاء ـ أن يتأمل المؤمن والمؤمنة كثيراً في الحكمة من إرسال هذه الآيات ألا وهي التخويف، أي: حتى يكون الإنسان خائفاً وجلاً من عقوبة قد تنزل به.
يقول قتادة: في بيان معنى هذه القاعدة القرآنية: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}: "إن الله يخوف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكرون، أو يرجعون، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يأيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه"(2).
وروى ابن أبي شيبة: في مصنفه من طريق صفية بنت أبي عبيد قالت: زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، فوافق ذلك عبد الله بن عمر وهو يصلي، فلم يدر، قال: فخطب عمر الناس وقال: لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم.
وهذا التوارد في كلمات السلف في بيان معنى هذه الآية يؤكد أن السبب الأكبر في إرسال الآيات: هو تخويف العباد، وترهيبهم مما يقع منهم من ذنوب ومعاصٍ، لعلهم يرجعون إلى ربهم الذي أرسل لهم هذه الآيات والنذر، وإن لم يرجعو فإن هذه علامة قسوة في القلب ـ عياذاً بالله تعالى ـ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 42 - 44].
وكما قال ربنا عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]. ـ فإن قلتَ: ما الجواب عما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال ـ لما سمع بخسف ـ: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا!(3).
فالجواب أن مراد ابن مسعود رضي الله عنه ـ كما بينه الإمام الطحاوي: ـ: أنا كنا نعدها بركة؛ لأنا نخاف بها فنزداد إيماناً وعملاً، فيكون ذلك لنا بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً ولا تعملون معها عملاً، يكون لكم به بركة، ولم يكن ما قال عبد الله س عندنا مخالفاً لما جاء به كتاب الله عز وجل من قول الله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} أي: تخويفاً لكم بها لكي تزدادوا عملا،وإيمانا فيعود ذلك لكم بركة"(4).
أيها القارئ الفطن:
ومع وضوح هذا المعنى الذي دلت عليه هذه القاعدة القرآنية: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}،ومع ظهوره، إلا أن من المؤسف جداً أن يقرأ الإنسان أو يسمع بعض كتاب الصحف، أو المتحدثين على بعض المنابر الإعلامية من يسخرون أو يهوّنون من هذه المعاني الشرعية الظاهرة، ويريدون أن يختصروا الأسباب في وقوع الزلازل أو الفيضانات، أو الأعاصير ونحوها من الآيات العظام في أسباب مادة محضة، وهذا غلط عظيم!
ونحن لا ننكر أن لزلزلة الأرض أسباباً جيولوجية معروفة، وللفضيانات أسبابها، وللأعاصير أسبابها المادية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: من الذي أمر الأرض أن تتحرك وتضطرب؟ ومن الذي أذن للماء أن يزيد عن قدره المعتاد في بعض المناطق؟ ومن الذي أمر الرياح أن تتحرك بتلك السرعة العظيمة؟ أليس الله؟ أليس الذي أرسلها يريد من عباده أن يتضرعوا له، ويستكينوا له لعله يصرف عنهم هذه الآيات؟!
ولا أدري! ألم يتأمل هؤلاء دلالة هذه القاعدة من الناحية اللغوية؟ فإنها جاءت بأسلوب الحصر: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}، فهي في قوة الحصر الذي دلّ عليه قوله تعالى ـ: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 62] ، وهي فقوة الحصر الذي دلّ عليه قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] ونحوها من الآيات.
ثم ماذا يصنع هؤلاء الذين يهوّنون من شأن هذه الآيات ـ شعروا أم لم يشعروا، قصدوا أم لم يقصدوا ـ بمثل تلك التفسيرات المادية الباردة، ماذا يصنعون بما رواه البخاري ومسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح، قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشرما فيها وشر ما أرسلت به" قالت: وإذا تخيلت السماء ـ وهي سحابه فيها رعد وبرق يخيل إليه أنها ماطرة ـ تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فعرفت ذلك في وجهه، قالت عائشة: فسألته؟ فقال: لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا}(5).
ولا أدري كيف يجيب هؤلاء ـ هداهم الله ـ عن قوله تعالى في حق قوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25]؟
يقول ابن كثير: في بيان معنى قوله عز وجل:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ}: أي: من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} أي: نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار.
وأما ما يورده بعض الناس من قولهم: هناك بلاد أشد معصية من تلك البلاد التي أصابها ذلك الزلزال، ويوجد دول أشد فجوراً من تلك التي ضربها ذاك الإعصار، فهذه الإيرادات لا ينبغي أن تورد أصلاً؛ لأنها كالاعتراض على حكمة الله تعالى في أفعاله وقضائه وقدره، فإن ربنا يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، والله يقضي بالحق، وربنا لا يُسأل عما يفعل، وله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة، والعلم التام، ومن وراء الابتلاءات حكم وأسرار تعجز عقولنا عن الإحاطة بها، فضلاً عن إدراكها.
وبعد: فهل بعد هذا البيان والوضوح يستريب منصف في أهمية تدبر وتذكر هذه القاعدة القرآنية الكريمة: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}؟! نسأل الله تعالى أن يرزقنا الاعتبار والادكار، والاتعاظ بما نوعظ به، ونعوذ بالله من قسوة القلب التي تحول دون الفهم عن الله وعن رسوله، والحمد لله رب العالمين.
_______________
(1) صحيح ابن خزيمة: 2/309. (2) تفسير الطبري. (3) شرح مشكل الآثار (9/6). (4) شرح مشكل الآثار (9/6). (5) أخرجه الشيخان.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:04 | |
| القاعدة السادسة والعشرون: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية عظيمة الصلة بواقع الناس، وازدادت الحاجة إلى التنويه بها في هذا العصر الذي اتسعت فيه وسائل نقل الأخبار، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
وهذه القاعدة القرآنية الكريمة جاءت ضمن سياق الآداب العظيمة التي أدب الله بها عباده في سورة الحجرات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6]}.
ولهذه الآية الكريمة سبب نزول توارد المفسرون على ذكره، وخلاصته أن الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه ـ سيد بني المصطلق ـ لما أسلم اتفق مع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث له ـ في وقت اتفقا عليه ـ جابياً يأخذ منه زكاة بني المصطلق، فخرج رسولُ رسولِ صلى الله عليه وسلم لكنه خاف فرجع في منتصف الطريق، فاستغرب الحارث بن ضرار تأخر رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت ذاته لما رجع الرسول إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث إلى الحارث، فالتقى البعث الذين بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم مع الحارث بن ضرار في الطريق، فقال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك! قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله! قال: لا والذي بعث محمداً بالحق، ما رأيته بتة ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟! قال: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، خشيت أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل ورسوله، قال فنزلت الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} انتهى الحديث مختصراً، وقد رواه الإمام أحمد بسند لا بأس به، ويعضده الإجماع الذي حكاه ابن عبدالبر على أنها نزلت في هذه القصة.
وجاء في قراءة سبعيّة: {فتثبتوا} وهذه القراءة تزيد الأمر وضوحاً، فهي تأمر عموم المؤمنين حين يسمعون خبراً أن يتحققوا بأمرين: الأول: التثبت من صحة الخبر. الثاني: التبيّن من حقيقته. فإن قلتَ: فهل بينهما فرقٌ؟ فالجواب: نعم، لأنه قد يثبت الخبر، ولكن لا يُدْرى ما وجهه!
ولعلنا نوضح ذلك بقصة وقعت فصولها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مسجده ليوصل زوجته صفية رضي الله عنها إلى بيتها، فرآه رجلان، فأسرعا المسير فقال: على رسلكما إنها صفية.
فلو نقل ناقل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمشي مع امرأة في سواد الليل لكان صادقاً، لكنه لم يتبين حقيقة الأمر، وهذا هو التبين. وهذا مثال قد يواجهنا يومياً: فقد يرى أحدنا شخصاً دخل بيته والناس متجهون إلى المساجد لأداء صلاتهم. فلو قيل: إن فلاناً دخل بيته والصلاة قد أقيمت، لكان ذلك القول صواباً، لكن هل تبين سبب ذلك؟ وما يدريه؟! فقد يكون الرجل لتوه قدم من سفر، وقد جمَعَ جمْع تقديم فلم تجب عليه الصلاة أصلاً، أو لغير ذلك من الأعذار.
وهذا مثال آخر قد يواجهنا في شهر رمضان مثلاً: قد يرى أحدنا شخصاً يشرب في نهار رمضان ماءً أو عصيراً، أو يأكل طعاماً في النهار، فلو نقل ناقل أنه رأى فلاناً من الناس يأكل أو يشرب لكان صادقاً، ولكن هل تبين حقيقة الأمر؟ قد يكون الرجل مسافراً وأفطر أول النهار فاستمر في فطره على قول طائفة من أهل العلم في إباحة ذلك، وقد يكون مريضاً، وقد يكون ناسياً،... الخ تلك الأعذار.
أيها القراء الكرام:
وفي هذه القاعدة القرآنية دلالات أخرى، منها: 1 ـ أن خبر العدل مقبول غير مردود، اللهم إلا إن لاحت قرائن تدل على وهمه وعدم ضبطه فإنه يرد. 2 ـ "أنه سبحانه لم يأمر بردِّ خبر الفاسق وتكذيبه ورد شهادته جملةً، وإنما أمر بالتبين، فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق، ولو أخبر به من أخبر"(1). 3 ـ ومنها: أنها تضمنت ذم التسرع في إذاعة الأخبار التي يخشى من إذاعتها، ولقد عاب ربنا تبارك وتعالى هذا الصنف من الناس، كما في قوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] (2). 4 ـ أن في تعليل هذا الأدب بقوله: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ما يوحي بخطورة التعجل في تلقي الأخبار عن كل أحدٍ، خصوصاً إذا ترتب على تصديق الخبر طعنٌ في أحد، أو بهتٌ له.
إذا تبين هذا المعنى، فإن من المؤسف أن يجد المسلم خرقاً واضحاً من قبل كثير من المسلمين لهذه القاعدة القرآنية المحكمة: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}، وازداد الأمر واتسع مع وسائل الاتصال المعاصرة كأجهزة الجوال والإنترنت وغيرها من الوسائل!
وأعظم من يكذب عليه من الناس في هذه الوسائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكم نسبت إليه أحاديث، وقصص لا تصح عنه، بل بعضها كذب عليه، لا يصح أن ينسب لآحاد الناس فضلاً عن شخصه الشريف صلى الله عليه وسلم.
ويلي هذا الأمر في الخطورة التسرع في النقل عن العلماء، خصوصاً العلماء الذين ينتظر الناس كلمتهم، ويتتبعون أقوالهم، وكلُّ هذا محرم لا يجوز، وإذا كنا أمرنا في هذه القاعدة القرآنية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} أن نتحرى ونتثبت من الأخبار عموماً، فإنها في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق ورثته أشد وأشد.
ومثل ذلك يقال: في النقل عما يصدر عن ولاة أمور المسلمين، وعن خواص المسلمين ممن يكون لنقل الكلام عنهم له أثره، فالواجب التثبت والتبين، قبل أن يندم الإنسان ولات ساعة مندم.
ولا يقتصر تطبيق هذه القاعدة القرآنية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} على ما سبق ذكره، بل هي قاعدة يحتاجها الزوجان، والآباء مع أبنائهم، والأبناء مع آبائهم. ولله كم من بيت تقوضت أركانه بسبب الإخلال بهذه القاعدة القرآنية!
هذه رسالة قد تصل إلى جوال أحد الزوجين، فإن كانت من نصيب جوال الزوجة، واطلع الزوج عليها، سارع إلى الطلاق قبل أن يتثبت من حقيقة هذه الرسالة التي قد تكون رسالة طائشة جادة أو هازلة جاءت من مغرض أو على سبيل الخطأ! وقل مثل ذلك: في حق رسالة طائشة جادة أو هازلة تصل إلى جوال الزوج، فتكتشفها الزوجة، فتتهم زوجها بخيانة أو غيرها، فتبادر إلى طلب الطلاق قبل أن تتثبت من حقيقة الحال! ولو أن الزوجين أعملا هذه القاعدة القرآنية: {فَتَبَيَّنُوا} لما حصل هذا كلّه.
وإذا انتقلتَ إلى ميدان الصحافة أو غيرها من المنابر الإعلامية، وجدت عجباً من خرق سياج هذا الأدب.. فكم من تحقيقات صحفية بنيت على خبر إما أصله كذب، أو ضُخّم وفُخّم حتى صُور للقراء على أن الأمر بتلك الضخامة والهول، وليس الأمر كما قيل!
والواجب على كل مؤمن معظم لكلام ربه أن يتقي ربه، وأن يتمثل هذا الأدب القرآني الذي أرشدت إليه هذه القاعدة القرآنية الكريمة: {فَتَبَيَّنُوا}. جعلنا الله وإياكم من المتأدبين بأدب القرآن العاملين به، وإلى لقاء جديد بإذن الله، والحمد لله رب العالمين.
_______________
(1) مدارج السالكين (1 / 360). (2) ينظر: القواعد الحسان في تفسير القرآن (98).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:08 | |
| القاعدة السابعة والعشرون: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية عظيمة القدر؛ لعظيم أثرها في حياة العبد، وقوة صلتها بتلك المضغة التي بين النبي ج أن صلاحها صلاح لبقية الجسد، وفسادها فساد له، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ}[فاطر: 18].
التزكية في اللغة مصدر زكى الشيء يزكيه، وهي تطلق ويراد بها معنيان:
المعنى الأول: التطهير، ومنه قوله تعالى عن يحيى عليه السلام: (وزكاة وكان تقياً)، فإن الله زكاه وطهر قلبه وفؤاده، وهذا تطهير معنوي، ويطلق على التطهير الحسي، يقال: زكيت الثوب إذا طهرته.
والمعنى الثاني: هو الزيادة، يقال زكى المال يزكوا إذا نمى.
وكلا المعنيين اللغويين مقصودان في الشرع، لأن تزكية النفس شاملة للأمرين: تطهيرها وتخليتها من الأدران والأوساخ الحسية والمعنوية، وتنميتها وتحليتها بالأوصاف الحميدة والفاضلة، فالزكاة ـ باختصار ـ تدور على أمرين: التخلية، والتحلية.
والمقصود بالتخلية: أي تطهير القلب من أدران الذنوب والمعاصي، والمقصود بالتحلية: أي تحلية النفس بمكارم الأخلاق، وطيب الشمائل، وهما عمليتان تسيران جنباً إلى جنب، فالمؤمن مطالب "بالتنقِّي من العيوب، كالرياء والكبر، والكذب والغش، والمكر والخداع والنفاق، ونحو ذلك من الأخلاق الرذيلة، ومطالب بالتحلَّى بالأخلاق الجميلة، من الصدق، والإخلاص، والتواضع، ولين الجانب، والنصح للعباد، وسلامة الصدر من الحقد والحسد وغيرهما من مساوئ الأخلاق، فإن تزكيته يعود نفعها إليه، ويصل مقصودها إليه، ليس يضيع من عمله شيء"(1).
وعلى هذا المعنى جاءت الآيات القرآنية بالأمر بتزكية النفس وتهذيبها، كقوله تعالى: "قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى" وقال سبحانه "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" ـ وكما في هذه القاعدة القرآنية التي نحن بصددها: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ}.
وهذه الآية جاءت في سورة فاطر ضمن السياق التالي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) [فاطر: 15 - 18]}.
قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: "وجملة {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} تذييلٌ جار مجرى المثل، وذكر التذييل عقب المذيل يؤذن بأن ما تضمنه المذيَّل داخل في التذييل بادىء ذي بدء مثل دخول سبب العام في عمومه من أول وهلة دون أن يُخص العام به، فالمعنى: أن الذين خَشُوا ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة هم ممّن تزكى فانتفعوا بتزكيتهم، فالمعنى: إنما ينتفع بالنذارة الذين يخشون ربهم بالغيب فأولئك تزكوا بها ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه.
والمقصود من القصر في قوله: {فإنما يتزكى لنفسه} أن قبولهم النذارة كان لفائدة أنفسهم، ففيه تعريض بأن الذين لم يعبأوا بنذارته تركوا تزكية أنفسهم بها فكان تركهم ضراً على أنفسهم"(2).
معشر القراء الكرام:
إن من تأمل نصوص القرآن وجد عناية عظيمة بمسألة تزكية النفوس: فهذا خليل الرحمن حينما دعا بأن يبعث من ذريته رسولاً، ذكر من جملة التعليلات: تزكية الناس الذين سيدعوهم، فقال تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[البقرة: 129]
وربنا تعالى يذكر عباده بمنته عليهم، حين استجاب دعوة خليله إبراهيم، وأن من أعظم وظائفه هي تزكية نفوسهم، فقال ﻷ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين [الجمعة: 2].
ولما دعا نبي الله موسى فرعون اختصر له دعوته في جملتين: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18، 19].
ومن تأمل سورة الشمس، أدرك عظيم هذه الغاية، وخطورة هذه العبادة الجليلة، فإن الله تعالى أقسم أحد عشر قسماً متتابعاً على أن فلاح النفس لا يكون إلا بتزكيتها! ولا يوجد في القرآن نظير لهذا ـ أعني تتابع أحد عشر قسماً على مُقْسَمٍ واحد ـ وهو ـ بلا ريب ـ دليل واضح، وبرهان ساطع على خطورة هذا الموضوع.
أيها المتأمل!
إن منطوق هذه القاعدة القرآنية: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} يدل بوضوح أن أعظم أثر لهذه التزكية هو أثرها على نفسي المتزكي، ومفهومها يتضمن تهديداً: أنك إن لم تتزكَ يا عبدالله، فإن أعظم متضرر بإهمال التزكية هو أنت.
ولئن كانت هذه القاعدة تعني كل مسلم يسمعها، فإن حظ الداعيةِ وطالبِ العلم منها أعظم وأوفر، لأن الأنظار إليه أسرع، والخطأ منه أوقع، والنقد عليه أشد، ودعوته يجب أن تكون بحاله قبل مقاله.
ولعظيم منزلة تزكية النفس في الدين، كان الأئمة والعلماء المصنفون في العقائد يؤكدون على هذا الأمر بعبارات مختلفة، منها ما ذكره شيخ الإسلام ابنُ تيميه رحمه الله جملةً من الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنّةِ ومن ذلك قولُه: "يأمرون بالصبر عند البلاء والشكرِ عند الرخاء،ويدعون إلى مكارمِ الأخلاق ومحاسن الأعمالِ، ويعتقدون معنى قولِه صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنُهُم خلقاُ" ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها" انتهى.
وإنما نص أئمة الدين على ذلك؛ لأن هناك تلازماً وثيقاً بين السلوك والاعتقاد: فالسلوك الظاهرُ مرتبطٌ بالاعتقادِ الباطن، فأيُّ انحرافٍِ في الأخلاقِ إنما هو من نقص الإيمان الباطن، قال ابنُ تيميه رحمه الله (إذا نقصت الأعمالُ الظاهرةُ الواجبةُ، كانَ ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان، فلاُ يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب، أن تُعدم الأعمالُ الظاهرةُ الواجبةُ" (3).
ويقول الشاطبيُّ رحمه الله: "الأعمالُ الظاهرةُ في الشرع دليلٌ على ما في الباطن فإذا كان الظاهرُ منخرماً أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك" (4). فالسلوكُ والاعتقادُ متلازمان، كذلك فإن من الأخلاقِ والسلوك ما هو من شُعَبِ الإيمان.
ولهذا ـ لما ظن بعض الناس ومنهم بعض طلاب العلم ـ أن أمر التزكية سهلٌ أو يسير أو من شأن الوعاظ فحسب ـ يقال ذلك إما بلسان الحال أو بلسان المقال ـ وُجِدَت صورٌ كثيرة من التناقضات والفصام النكد بين العلم والعمل!
إن سؤالاً يتبادر إلى الذهن ونحن نتحدث عن هذه القاعدة القرآنية: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} كيف نزكي نفوسنا؟ والجواب عن هذا يطول جداً، لكنني أشير باختصار إلى أهم وسائل تزكية النفس، فمن ذلك: 1. توحيد الله تعالى، وقوة التعلق به. 2. ملازمة قراءة القرآن، وتدبره. 3. كثرة الذكر عموماً. 4. المحافظة على الصلاة المفروضة، وقيام الليل ولو قليلاً. 5. لزوم محاسبة النفس بين الفينة والأخرى. 6. حضور الآخرة في قلب العبد. 7. تذكر الموت، وزيارة القبور. 8. قراءة سير الصالحين.
وفي مقابل هذا فإن العاقل من يتنبه لسد المنافذ التي قد تفسد عليه أثر تلك الوسائل؛ لأن القلب الذي يتلقى الوسائل والعوائق موضع واحد لا يمكن انفصاله.
إذن لا يكفي أن يأتي الإنسان بالوسائل بل لا بد من الانتباه إلى العوائق، مثل: النظر إلى المحرمات، أو سماع المحرمات، اطلاق اللسان فيما لا يعني فضلاً عما حرم الله تعالى.
اللهم إنا نسألك وندعوك بما دعاك به نبيك محمد صلى الله عليه وسلم: "اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها"(5). وإلى لقاء جديد بإذن الله، والحمد لله رب العالمين.
________________
(1) تفسير السعدي: (687). (2) التحرير والتنوير (12 / 43). (3) ينظر: مجموع الفتاوى 7/582، 616،621. (4) الموافقات 1/233. (5) صحيح مسلم ح (2722).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:10 | |
| القاعدة الثامنة والعشرون: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية عظيمة الصلة بواقع الناس، وازدادت الحاجة إلى التنويه بها في هذا العصر الذي اتسعت فيه وسائل نقل الأخبار، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}[الأعراف: 85].
وهذه القاعدة القرآنية الكريمة تكررت ثلاث مرات في كتاب الله عز وجل، كلها في قصة شعيب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
ومن المعلوم للقراء الكرام أن من جملة الأمور التي وعظ بها شعيبٌ قومَه: مسألة التطفيف في الكيل والميزان، حيث كان هذا فاشياً فيهم، ومنتشراً بينهم.
وهذا مثال ـ من جملة أمثلة كثيرة ـ تدل على شمول دعوات الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لجميع مناحي الحياة، وأنهم كما يدعون إلى أصل الأصول ـ وهو التوحيد ـ فهم يدعون إلى تصحيح جميع المخالفات الشرعية مهما ظنّ بعض الناس بساطتها، إذ لا يتحقق كمال العبودية لله تعالى إلا بأن تكون أمور الدين والدنيا خاضعةً لسلطان الشرع.
وأنت ـ أيها المؤمن ـ إذا تأملت هذه القاعدة القرآنية: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} وجدتها جاءت بعد عموم النهي عن نقص المكيال والميزان، فهو عموم بعد خصوص، ليشمل جميع ما يمكن بخسه من القليل والكثير، والجليل والحقير.
قال العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله: "وما جاء في هذا التّشريع هو أصل من أصول رواج المعاملة بين الأمّة؛ لأنّ المعاملات تعتمد الثّقة المتبادَلة بين الأمّة، وإنَّما تحصل بشيوع الأمانة فيها، فإذا حصل ذلك نشط النّاس للتّعامل فالمُنتج يزداد إنتاجاً وعَرْضاً في الأسواق، والطَّالبُ من تاجر أو مُستهلك يُقبِل على الأسواق آمِناً لا يخشى غبناً ولا خديعة ولا خِلابة، فتتوفّر السّلع في الأمّة، وتستغني عن اجتلاب أقواتها وحاجياتها وتحسينياتها، فيقوم نَماء المدينة والحضارة على أساس متين، ويَعيش النّاس في رخاء وتحابب وتآخ، وبضد ذلك يختلّ حال الأمّة بمقدار تفشي ضدّ ذلك" (1). اهـ.
وقال بعض المفسرين ـ مبيناً سعة مدلول هذه القاعدة ـ: "وهو عامّ في كل حق ثبت لأحد أن لا يهضم، وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفاً شرعياً"(2).
أيها القراء الأكارم:
إذا تبين سعة مدلول هذه القاعدة، وأن من أخص ما يدخل فيها بخس الحقوق المالية، فإنه دلالتها تتسع لتشمل كلّ حق حسي أو معنوي ثبت لأحدٍ من الناس.
أما الحقوق الحسية فكثيرة، منها ـ ما سبقت الإشارة إليه ـ كالحق الثابت للإنسان كالبيت والأرض والكتاب والشهادة الدراسية، ونحو ذلك.
وأما الحقوق المعنوية، فأكثر من أن تحصر، ولو أردنا أن نستعرض ما يمكن أن تشمله هذه القاعدة لطال المقام، ولكن يمكن القول: إن هذه القاعدة القرآنية: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} كما هي قاعدة في أبواب المعاملات، فهي بعمومها قاعدة من قواعد الإنصاف مع الغير.
والقرآن مليء بتقرير هذا المعنى ـ أعني الإنصاف ـ وعدم بخس الناس حقوقهم، تأمل ـ مثلاً ـ قول الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] فتصور! ربك يأمرك أن تنصف عدوك، وألا يحملك بغضه على غمط حقه، أفتظن أن ديناً يأمرك بالإنصاف مع عدوك، لا يأمرك بالإنصاف مع أخيك المسلم؟! اللهم لا!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ معلقاً على هذه الآية ـ: «فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفّار على ألّا يعدلوا، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع أو متأوّل من أهل الإيمان؟ فهو أولى أن يجب عليه ألّا يحمله ذلك على ألّا يعدل على مؤمن وإن كان ظالما له» (3).
وفي واقع المسلمين ما يندى له الجبين من بخس للحقوق، وإجحاف وقلة الإنصاف، حتى أدى ذلك إلى قطيعة وتدابر، وصدق المتنبي يوم قال:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة *** بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
وهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس: يعلن شكواه قديماً من هذه الآفة، فيقول: "ليس في الناس شيء أقل من الإنصاف". علّق ابن رشد على هذه الكلمة فقال: قال مالك هذا لما اختبره من أخلاق الناس. وفائدة الأخبار به التنبيه على الذم له لينتهي الناس عنه فيعرف لكل ذي حق حقه (4).
ولنعد إلى واقعنا ـ أيها المستمعون الأكارم ـ: يختلف أحدنا مع شخص آخر من أصدقائه، أو مع أحد من أهل الفضل والخير، فإذا غضب عليه أطاح به, ونسي جميع حسناته، وجميع فضائله، وإذا تكلم عنه تكلم عليه بما لا يتكلم به أشد الناس عداوة ـ والعياذ بالله ـ!
وقُلْ مثل ذلك في تعاملنا مع زلة العالم، أو خطأ الداعية، الذين عرف عنهم جميعاً تلمس الخير، والرغبة في الوصول إلى الحق، ولكن لم يوفق في هذه المرة أو تلك، فتجد بعض الناس ينسى أو ينسف تاريخه وبلاءه وجهاده ونفعه للإسلام وأهله، بسبب خطأ لم يحتمله ذلك المتكلم أو الناقد، مع أنه قد يكون معذوراً!
ولنفترض أنه غير معذور، فما هكذا تورد الإبل، وما هكذا يربينا القرآن! بل إن هذه القاعدة القرآنية التي نحن بصدد الحديث عنها ـ {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} ـ تؤكد ضرورة الإنصاف، وعدم بخس الناس حقوقهم.
أيها القارئ اللبيب!
وثمة صورةٌ أخرى ـ تتكرر يومياً تقريباً ـ يغيب فيها الإنصاف، وهي أن بعض الكتاب والمتحدثين حينما ينتقد جهازاً حكومياً، أو مسؤولاً عن أحد الوزارات، يحصل منه إجحاف وبخس للجوانب المشرقة في هذا الجهاز أو ذاك، ويبدأ الكاتب أو المتحدث ـ بسبب النفسية التي دخل بها ـ لا يتحدث إلا من زاوية الأخطاء، ناسياً أو متناسياً النظر من زاوية الصواب والحسنات الكثيرة التي وُفق لها ذاك المرفق الحكومي، أو ذلك الشخص المسؤول!
وما هكذا يربي القرآن أهله، بل القرآن يربيهم على هذا المعنى العظيم الذي دلّت عليه هذه القاعدة المحكمة: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}.
وتلوح ههنا صورة مؤلمة في مجتمعنا، تقع من بعض الكفلاء الذين يبخسون حقوق خدمهم أو عمالهم حقوقهم، فيؤخرون رواتبهم، وربما حرموهم من إجازتهم المستحقة لهم، أو ضربوهم بغير حق، في سلسلة مؤلمة من أنواع الظلم والبخس! أفلا يتقي الله هؤلاء؟! {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}؟! [المطففين: 4 - 6] ألا يخشون أن يُسَلّطَ عليهم بسبب ظلمهم لمن تحت أيديهم وبخسهم حقوق خدمهم وعمالهم؟! ألا يخشون من عقوبات دنيوية قبل الأخروية تصيبهم بما صنعوا؟!
وختاماً:
قد يقع البخس ـ أحياناً ـ في تقييم الكتب أو المقالات على النحو الذي أشرنا إليه آنفاً، ولعل من أسباب غلبة البخس على بعض النقاد في هذه المقامات، أن الناقد يقرأ بنية تصيد الأخطاء والعيوب، لا بقصد التقييم المنصف، وإبراز الصواب من الخطأ، عندها يتضخم الخطأ، ويغيب الصواب، والله المستعان.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإنصاف من أنفسنا.. والإنصاف لغيرنا،وأن يجعلنا من المتأدبين بأدب القرآن العاملين به، وإلى لقاء جديد بإذن الله، والحمد لله رب العالمين.
________________
(1) التحرير والتنوير (5 / 451). (2) تفسير الكشاف (3 / 337). (3) الفتاوى. (4) البيان والتحصيل 18/306.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| |
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:14 | |
| القاعدة الثلاثون: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية، وقاعدة إيمانية، تمتد جذورها في قلوب الموحدين، في غابر الزمان وحاضره، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق: 3] والمعنى: أن من توكل على ربه ومولاه في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، وفعل ما أمر به من الأسباب، مع كمال الثقة بتسهيل ذلك، وتيسيره {فَهُوَ حَسْبُهُ} أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به(1).
أيها القراء الكرام:
إن هذه القاعدة القرآنية: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} جاءت في سياق الحديث عن آيات الطلاق في سورة الطلاق، لبيان جملة من المبشرات التي تنتظر من طبق شرع الله في أمر الطلاق، فقال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق: 2، 3].
وأما مناسبة مجيء هذا المعنى بعد ذكر هذه الأحكام المتعلقة بالطلاق، فلعل السر ـ والله أعلم ـ هو تضمنها للتحذير والتطمين! أما التحذير، فهو متجه لكل واحد من الزوجين اللذين قد تسول له نفسه مجاوزة حدود الله تعالى في أمر الطلاق، سواء فيما يتعلق بالعدة، أو النفقة، أو غير ذلك، خصوصاً وأن النفوس حال الطلاق قد تكون مشحونةً، وغير منضبطةٍ في تصرفاتها، وقد تتصرف بما تمليه حالة الغضب، بلا تجرد ولا إنصاف! وأما تضمن هذه القاعدة للتطمين، فهي لمن صدق مع الله في تطبيق شرع ربه في أمر الطلاق، وأنه وإن كيد به أو له، فإن الله معه، وناصره، وحافظ حقه، ودافع كيد من يريد به كيداً، والله أعلم بمراده.
ومع أن هذه القاعدة وردت في سياق آيات الطلاق ـ كما أسلفتُ ـ إلا أن معناها أعم وأشمل من أن يختصر في هذا الموضوع، وآيات القرآن الكريم طافحة بالحديث عن التوكل، وفضله، والثناء على أهله، وأثره على حياة العبد، وقبل الإشارة المجملة إلى ذلك، يحسن التذكير بأن النصوص دلّت على أن من كمال التوكلِ فعلَ الأسباب، وهذا بين ظاهرٌ، لكن نبه عليه؛ لأن بعض الناس قد يظن خطأ أن التوكل يعني تعطيل الأسباب، وهذا غلط بيّن، ومن تأمل قصة موسى عليه السلام لما واجه البحر، وقصة مريم عليها السلام لما ولدت، وغيرهم من الأولياء والصالحين، يجد أنهم جميعاً أمروا بفعل أدنى سبب، فموسى أمر بضرب الحجر، ومريم أمرت بهز الجذع، وما أحسن ما قيل:
"الالتفاتُ إلى الأسباب بالكلية شركٌ منافٍ للتوحيد، وإنكار أن تكون أسباباً بالكلية قدح في الشرع والحكمة، والإعراضُ عنها ـ مع العلم بكونها أسباباً نقصان في العقل ـ وتنزيلها منازلها ومدافعة بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، هو محض العبودية والمعرفة وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة"(2).
معشر القراء الفضلاء:
إنّ التّوكّل على اللّه عزّ وجلّ مطلوب في كلّ شئون الحياة، بيد أنّ هناك مواطن كثيرة ورد فيها الحضّ على التّوكّل والأمر به للمصطفى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين!
فيا أيها المؤمن!
"1- إن طلبت النّصر والفرج فتوكّل عليه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران/ 160). 2- إذا أعرضتَ عن أعدائك فليكن رفيقك التّوكّل: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (النساء/ 81). 3- إذا أعرضَ عنك الخلقُ، فتوكّل على ربك: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} (التوبة/ 129). 4- إذا تلي القرآن عليك، أو تلوته فاستند على التّوكّل: {وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الأنفال/ 2 مدنية). 5- إذا طلبت الصّلح والإصلاح بين قوم لا تتوسّل إلى ذلك إلّا بالتّوكّل: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}(الأنفال/ 61). 6- إذا وصلت قوافل القضاء فاستقبلها بالتّوكّل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(التوبة/ 51). 7- وإذا نصبت الأعداء حبالات المكر فادخل أنت في أرض التّوكّل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} (يونس/ 71). 8- وإذا عرفت أنّ مرجع الكلّ إلى اللّه وتقدير الكلّ فيها للّه فوطّن نفسك على فرش التّوكّل: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود/ 123). 9- وإذا علمت أنّ اللّه هو الواحد على الحقيقة، فلا يكن اتّكالك إلّا عليه: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ} (الرعد/ 30). 10- وإذا كانت الهداية من اللّه، فاستقبلها بالشّكر والتّوكّل: {وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}(إبراهيم/ 12). 11- وإذا خشيت بأس أعداء اللّه والشّيطان والغدّار فلا تلتجئ إلّا إلى باب اللّه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل/ 99). 12- وإذا أردت أن يكون اللّه وكيلك في كلّ حال، فتمسّك بالتّوكّل في كلّ حال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا}(النساء/ 81). 13- وإذا أردت أن يكون الفردوس الأعلى منزلك فانزل في مقام التّوكّل: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل/ 42). 14- وإن شئت أن تنال محبّة اللّه فانزل أوّلا في مقام التّوكّل: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران/ 159). 15- وإذا أردت أن يكون اللّه لك، وتكون للّه خالصا فعليك بالتّوكّل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (الطلاق/ 3)، {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}(النمل/ 79)"(3).
وقبل أن نختم حديثنا عن هذه القاعدة القرآنية: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أود أن أنبه إلى ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله من أن كثيراً من المتوكلين يكون مغبوناً في توكله!
وبيان ذلك ـ كما يقول رحمه الله ـ: أنك ترى بعض الناس يصرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله، مع أنه يمكنه نيلها بأيسر شيء، وفي المقابل ينسى أو يغفل عن تفريغ قلبه للتوكل في: زيادة الإيمان، والعلم، ونصرة الدين، والتأثير في العالم خيراً، فهذا توكل العاجز القاصر الهمة، كما يصرف بعضهم همته وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء، أو جوع يمكن زواله بنصف رغيف، أو نصف درهم، ويدع صرفه إلى نصرة الدين، وقمع المبتدعين، وزيادة الإيمان ومصالح المسلمين"(4) انتهى.
وههنا ملحظ مهم يستفاد من كلامه رحمه الله، وهو: أن الواحد منا ـ في حال نشاطه وقوة إيمانه ـ قد يقع منه نسيان وغفلة عن التوكل على الله، اعتماداً على ما في القلب من قوة ونشاط، وهذا غلط ينبغي التنبه إليه، والحذر منه، ومن تأمل في أدعية النبي صلى الله عليه وسلم وجده دائم الافتقار إلى ربه، ضارعاً إلى ربه أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، حتى ربى أمته على هذا المعنى في شيءٍ قد يظنه البعض بسيطاً أو سهلاً، وهو أن يقولوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله" عند سماع المؤذن في الحيعلتين!(5).
وقد أجمع العلماء على أن التوفيق، ألّا يكل اللّه العبد إلى نفسه، وأن الخذلان كل الخذلان أن يخلي بينه وبين نفسه! اللهم إنا نبرأ من كل حول وقوة إلا من حولك وقوتك، اللهم إنا نعوذ بك أن نوكل إلى أنفسنا طرفة، وإلى هنا أضع القلم، وإلى أن ألقاكم في حلقة قادمة بإذن الله.
__________________
(1) ينظر: تفسير السعدي: (869). (2) المصدر السابق 1/244 بتصرف. (3) جميع ما تقدم من 1 – 15 من كلام الإمام اللغوي المفسر الفيروز آباديّ:، في كتابه: بصائر ذوي التمييز 2/313-315. (4) ينظر: المصدر السابق 2/225 بتصرف. (5) أخرجه الشيخان: البخاري ح (588) ومسلم ح (385)، ولم أشأ أن أستشهد بالحديث الذي رواه أبو داود وابن حبان وغيرهما: من حديث عبدالرحمن بن أبي بكرة أنه قال لأَبِيهِ س: يَا أَبَةِ إِنِّى أَسْمَعُكَ تَدْعُو كُلَّ غَدَاةٍ اللَّهُمَّ عَافِنِى فِى بَدَنِى اللَّهُمَّ عَافِنِى فِى سَمْعِى اللَّهُمَّ عَافِنِى فِى بَصَرِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ تُعِيدُهَا ثَلاَثًا حِينَ تُصْبِحُ وَثَلاَثًا حِينَ تُمْسِى. فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ج يَدْعُو بِهِنَّ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ. قَالَ عَبَّاسٌ فِيهِ وَتَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ تُعِيدُهَا ثَلاَثًا حِينَ تُصْبِحُ وَثَلاَثًا حِينَ تُمْسِى فَتَدْعُو بِهِنَّ فَأُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ج «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِى إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِى شَأْنِى كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ»؛ لأن إسناده ضعيف، وينظر في تخريجه: مسند أبي داود الطيالسي 2/200 ح (909، 910)، والله أعلم.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| |
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:19 | |
| القاعدة الثانية والثلاثون: (وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء جديد مع قاعدة قرآنية، تربوية إيمانية، وثيقة الصلة بالواقع الذي تعيشه الأمة اليوم بالذات، وهي تعيش هذه التغيرات المتسارعة، والتي خالها البعض خارجةً عن سنن الله تعالى، وليس الأمر كذلك، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج/47].
وهذه القاعدة الكريمة جاءت في سياق تهديد الكفار الذين قابلوا الدعوة إلى الإسلام بالتكذيب والجحود، والاستهزاء والسخرية، قال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ... إلى قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 42، 48].
فقوله عز وجل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ...} معطوف على قوله تعالى: {وإن يكذبوك} والمعنى: أن هؤلاء الكفار يقولون: "لو كان محمد صادقاً في وعيده لعُجَّلَ لنا وعيدُه، فكانوا يسألونه التعجيل بنزول العذاب استهزاء، كما حكى الله عنهم في قوله: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}، وفي قوله: {ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين} فذكر ذلك في هذه الآية بمناسبة قوله: {فأمليت للكافرين} الآية"، وحكي: {ويستعجلونك} بصيغة المضارع للإشارة إلى تكريرهم ذلك تجديدا منهم للاستهزاء وتوركا على المسلمين"(1).
ثم جاء التعقيب على هذه المقالة الآثمة، بهذه القاعدة التي تسكب اليقين والطمأنينة في نفس النبي ج ونفوسِ أتباعه من المؤمنين المضطهدين، الذين امتلأت آذانهم من استهزاء هؤلاء الكفار، فقال الله ـ وهو أصدق من وعد وأصدق من وفّى ـ: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}.
وإذا تقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن هذه القاعدة القرآنية: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} لا تختص بهذا المعنى الذي وردت الآية في سياقه ـ وهو تعذيب الكفار ـ بل هي عامة في كل ما وعد الله به، إذ لا مكره لربنا جل وعلا، ولا راد لأمره ومشيئته، ولكن الشأن في تحقق العباد بفعل الأسباب المتعلقة بما وعد الله به ـ كما سيأتي بعد قليل ـ.
كما أن هذه القاعدة القرآنية: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} دلّت على معنى يُقَرّرُ بعض اللغويين خلافه، وهو أنه اشتهر عند كثيرين أن الوعد خاص بالخير، والوعيد متعلق بالشر، وينشدون في هذا البيتين المشهورين:
ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي *** ولا انثنى عن سطوة المتهدد
فإني وإن أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وهذه القاعدة التي نحن بصددها تخالف هذا الإطلاق، يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله ـ بعد أن ذكر عدة شواهد تؤكد خطأ هذا الإطلاق ـ: "ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج:72] فإنه قال في هذه الآية في النار: "وعدها الله" بصيغة الثلاثي الذي مصدره الوعد، ولم يقل أوعدها، وما ذكر في هذه الآية، من أن ما وعد به الكفار من العذاب واقع لا محالة، وأنه لا يخلف وعده بذلك، جاء مبينا في غير هذا الموضع... ثم ذكر جملة من الشواهد، ثم قال: وبالتحقيق الذي ذكرنا: تعلم أن الوعد يطلق في الخير والشر كما بينا".
ولنعد ـ أيها القراء الأكارم ـ إلى هدايات هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}، فإنه إذا تقرر عمومها في الخير والشر، فإنها ـ بلا ريب ـ من أعظم ما يجدد الفأل في نفوس أهل الإسلام، في الثبات على دينهم ومنهجهم الحق، بل وتزيدهم يقيناً بما عليه أهل الكفر والملل الباطلة من ضلال وانحراف، وبيان هذا: أن المؤمن لا يزال يرى إما بعين البصر أو البصيرة صدق ما وعد به أولياءه في الدنيا، كيف لا؟! وهو يقرأ نماذج مشرقة في كتاب الله عز وجل؟!
ألسنا ـ يا أهل القرآن ـ نقرأ قول ربنا عز وجل ـ في سورة آل عمران في سياق الحديث عن غزوة أحد ـ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}[آل عمران: 152]؟
أين نحن عن فواتح سورة الروم التي يقول الله تعالى فيها: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7].
وهذه الآيات من سورة الروم، تشير إلى سبب كبير في ضعف اليقين تجاه الوعود الربانية، ألا وهو: التعلق بالدنيا، والركون إليها، ولهذا فإنك لو تأملتَ لوجدت أن أضعف الناس يقيناً بموعود الله هم أهل الدنيا، الراكنين إليها، وأقواهم يقيناً هم العلماء الربانيون، وأهل الآخرة، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.
ولا يشكل على هذا ما يمر على القارئ من آيات قد يفهم منها أن فيها نوعاً من التردد في تصديق وعد الله، أو الشك في ذلك، كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وكقوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]، فإن هذه الآيات إنما تحكي حالةً عارضة تمر بالإنسان ـ بسبب ضعفه حيناً، وبسبب استعجاله أحياناً ـ وليست حالةً دائمةً، وإذا كان الشك في موعود الله لا يصح أن ينسب إلى آحاد المؤمنين، فهو من الأنبياء والمرسلين أبعد وأبعد، ولكن ـ ولحكمة بالغة ـ جاءت هذه الآيات لتطمئن المؤمنين من هذه الأمة أن حالات اليأس التي قد تعرض للعبد مجرد عرْض بسبب شدة وطأة أهل الباطل، أو تسلط الكفار، فإنها لا تؤثر على إيمانه، ولا تقدح فيه صدقه وتصديقه؛ ولهذا ـ والله تعالى أعلم ـ يأتي مثل هذا التثبيت في بعض الأحوال التي تعترض نفوس أهل الإيمان فترة نزول الوحي، كقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ …} إلى قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 42، 47].
والمؤمن ليس من شأنه أن يقترح أجلاً لإهلاك الكفار، أو موعداً نصرة الإسلام، أو غيرِ ذلك من الوعود التي يقرأها في النصوص الشرعية، ولكن من شأنه أن يسعى في نصرة دينه بما يستطيع، وأن لا يظل ينتظر مضي السنن، فإن الله لم يتعبدنا بهذا، وعليه أن يفتش في مقدار تحققه بالشروط التي ربطت بها تلك الوعود، فإذا قرأ ـ مثلاً ـ قول اللخ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: 7] فعليه هنا أن يفتش عن أسباب النصر التي أمر الله بها هل تحققت فيه فرداً أو في الأمة على سبيل المجموع؛ ليدرك الجواب على هذا السؤال: لماذا لا تنتصر الأمة على أعدائها؟!
ولو ذهب الإنسان إلى تعداد الآيات الموضحة لهذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} لطال به المقام، ولكن حسبنا ما ذكر، ولعلنا نختم حلقتنا بهذه اللطيفة المتصلة بهذه القاعدة: ذلك أن هذه القاعدة تضمنت تمدّح الله بهذا، وثناءه على نفسه، ويتضح لك هذا المعنى إذا قرأت ما حكاه الله تعالى عن إبليس ـ وهو يخطب في حزبه وأوليائه في جهنم ـ حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} فسبحان مَنْ تمدح بالكمال وهو أهلٌ له، وسبحان من وعد فأوفى، ومن أوفى بعهده من الله؟ وإلى لقاء قاعدة أخرى بإذن الله،والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_______________
(1) التحرير والتنوير 17/210.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:20 | |
| القاعدة الثالثة والثلاثون: (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية، وضوابط شرعية في مسألة حدث ولا زال يحدث فيها الخلل، بسبب القصور أو التقصير في تلمس الهدي القرآني في تطبيق تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[القصص: 77].
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة جاءت في أثناء قصة قارون، الذي غرّه ماله، وغرته نفسه الأمارة بالسوء، فقال ـ لما قيل له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص: 77]، قال ـ والعياذ بالله ـ قولة المستكبر ـ: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}[القصص: 78].
والشاهد ـ أيها المستمعون الكرام ـ: أن هذه القاعدة هي ميزان عظيم في التعامل مع المال، الذي هو مما استخلف الله العباد عليه، ولهذا سيسألهم يوم القيامة عنه سؤالين: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه(1).
أيها القارئ المبارك:
إن من أعظم مزايا هذا الدين ومحاسنه، أنه دين يدعو إلى التوازن في كل شيء، بغير إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء، في أمر الدين أو الدنيا، وهذا ما تقرره هذه القاعدة بوضوح وجلاء: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا ترتيب الكلام فيها كأنه عقد نُظِمَ كأحسن ما يكون النظم، فهي قد اشتملت على أربعة وصايا عظيمة، أحوج الناس إليها ـ في هذا المقام ـ هم أرباب الأموال، فلنتأملها جميعاً:
الأولى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} فإن الآخرة هي المستقبل الذي يجب على كل عاقل أن يسعى للنجاة فيها، وأن يجعل حاضره من الدنيا تمهيدًا لها، وأن يجعل سعيه في حياته غراسًا ليوم الحصاد.
وقارون قد حصل عنده من وسائل الغرس في الآخرة ما ليس عند أكثر الناس، فأمره الله أن يبتغي أن يعمل فيها بأعمال يرجو فيها ما عند اللّه، وأن يتصدق ولا يقتصر على مجرد نيل الشهوات، وتحصيل اللذات.
وأما الوصية الثانية: فهي {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}: "والنهي في {ولا تنس نصيبك} على سبيل الإباحة، فالنسيان هنا كناية عن الترك، والمعنى: لا نلومك على أن تأخذ نصيبك من الدنيا أي الذي لا يأتي على نصيب الآخرة، وهذا احتراس في الموعظة خشية نفور الموعوظ من موعظة الواعظ؛ لأنهم لما قالوا لقارون {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} أوهموا أن يترك حظوظ الدنيا فلا يستعمل ماله إلا في القربات، قال قتادة رحمه الله: نصيب الدنيا هو الحلال كله!
وبذلك تكون هذه الآية مثالاً لاستعمال صيغة النهي لمعنى الإباحة، و{من} للتبغيض، والمراد بالدنيا نعيمها. فالمعنى: نصيبك الذي هو بعض نعيم الدنيا"(2).
وههنا سؤال قد يطرحه بعض الناس: وهو أن الإنسان جُبِلَ فطرةً على حب المال، والتعلق بشيء مما لا بد له منه في هذه الدنيا، فكيف أمر أن لا ينسى نصيبه، وهو أمرٌ شبه المستحيل، بل المتوقع أن يقال: ولا تنس نصيبك من الآخرة!
فالجواب ـ والله تعالى أعلم بمراده ـ: أن هذه الآية جاءت لضبط التوازن ـ كما أسلفنا ـ في التعامل مع زينة الدنيا، ومن ذلك: المال، فقد يسمع أحدُ التجار أو الأثرياء مثل هذه الموعظة فيظن أن القصد أن يتخلى عن كلّ شيء من نعيم الدنيا ولو كان مباحاً، فيقال له: وإن أمرت بأن يكون جل همك الآخرة، فلسنا نطلب منك ترك ما أباح الله تعالى، بل المطلوب العدل، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقه.
ولهذا كان من بديع تفسير الإمام مالك لهذه الآية أن قال: هو الأكل والشرب من غير إسراف، فهو يشير بهذا إلى ما ذكرناه آنفاً، والعلم عند الله.
ولقد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الصحابة رضي الله عنهم خلل في فهم حقيقة الزهد والتعبد، فإنهم لما سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر! وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"(3).
وبهذا المنهج المتوازن المبني على الكتاب والسنة كان أئمة الإسلام، وعلماء الملة (4) يردون على ما أحدثه بعض الزهادة والعُباد من ألوان من التزهد التي تجافي هذا الهدي النبوي العظيم.
وذكر بعض أهل العلم ملمحاً لطيفاً في توجيه معنى قوله: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وهو أن الله عز وجل "أراد أن يجعل الدنيا شيئاً هيّناً مُعرَّضاً للنسيان والإهمال، فهو يُذكِّرنا بها، ويحثُّنا على أن نأخذ منها بنصيب، فأنا لا أقول لك: لا تنسَ الشيء الفلاني إلا إذا كنتُ أعلم أنه عُرْضَة للنسيان، وهذا جانب من جوانب الوسطية والاعتدال في الإسلام"،والله أعلم بمراده(5).
أما ثالث هذه الوصايا التي اشتملت عليها هذه القاعدة القرآنية، فهي: {وأحسن كما أحسن الله إليك}، وهذا يتفق تماماً مع العقل والشرع، قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}[الرحمن: 60]؟ "والإحسان داخل في عموم ابتغاء الدار الآخرة ولكنه ذكر هنا ليبني عليه الاحتجاج بقوله {كما أحسن الله إليك}، والكاف للتشبيه، أي: كإحسان الله إليك"(6).
وهذه الآية فيها من التعليل والحض ما هو ظاهر، وهي كقول الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور: 22] فكما تحب أن يعفو الله عنك، فاعف عن عباده، وهنا: كما تحب أن يحسن إليك ربك، ويدوم إحسانه، فلا تقع إحسانك عن خلقه، وإلا فالله غني عن العالمين.
ورابع هذه الوصايا في هذه القاعدة القرآنية: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. "وعطف {ولا تبغ الفساد في الأرض} للتحذير من خلط الإحسان بالفساد فإن الفساد ضد الإحسان، فالأمر بالإحسان يقتضي النهي عن الفساد، وإنما نص عليه؛ لأنه لما تعددت موارد الإحسان والإساءة فقد يغيب عن الذهن أن الإساءة إلى شيء مع الإحسان إلى أشياء يعتبر غير إحسان!
وجملة: {إن الله لا يحب المفسدين} علة للنهي عن الإفساد؛ لأن العمل الذي لا يحبه الله لا يجوز لعباده عمله"(7).
أيها القراء الكرام:
وبعد هذا التطواف السريع في ظلال هذه القاعدة القرآنية الجليلة: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} يتبين لنا بوضوح أن هذا القرآن ـ كما قال منزله سبحانه: {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وأنه ما من قضية يحتاجها الناس إلا وحكمها في كتاب الله، كما قال الإمام الشافعي، ولكن أين المتدبرون؟ والناهلون من هذا المعين الذي لا ينضب؟!
اللهم إنا نسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضاء بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين،وإلى لقاء جديد في الحلقة القادمة إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_______________
(1) جامع الترمذي (2417) وإسناده حسن، وفي الباب عن ابن مسعود رضي الله عنه وفي سنده ضعف. (2) التحرير والتنوير (20 / 108) بتصرف واختصار. (3) البخاري (4776). (4) ومن أكثر من رأيتهم يردون على هؤلاء: ابن الجوزي في عدد من كتبه، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم رحمة الله على الجميع. (5) أشار إليه الشيخ الشعراوي في تفسيره. (6) التحرير والتنوير (20 / 108). (7) التحرير والتنوير (20 / 109) بتصرف واختصار.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:22 | |
| القاعدة الرابعة والثلاثون: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية عقدية، نزلت قبل أربعة عشر قرناً، ولا تزال معانيها تتجدد لأهل الإسلام في كل زمان؛ تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
ولا يخفى أن هذه القاعدة المحكمة جاءت في سورة البقرة، تلك السورة التي تحدثت بتفصيل عن حقيقة أهل الكتاب، واليهود بشكل أخص ـ لكونهم يسكنون المدينة ـ.
ونزول هذه الآية الكريمة ـ كما أشار إليه جمع من المفسرين ـ جاء عقب مرحلةٍ من محاولات النبي صلى الله عليه وسلم لتأليف اليهود، لعلهم يستجيبون، وينقادون لدين الإسلام، فجاء هذا الخبر القاطع لكل محاولات التأليف التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يمارسها معهم.
يقول شيخ المفسرين ـ ابن جرير الطبري رحمه الله ـ: "وليست اليهود ـ يا محمد ـ ولا النصارى براضية عنك أبداً، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم، ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم، لأن اليهودية ضد النصرانية، والنصرانية ضد اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك، إلا أن تكون يهودياً نصرانياً، وذلك مما لا يكون منك أبداً، لأنك شخص واحد، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة، وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل، وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل، فالزم هدى الله الذي لجميع الخلق إلى الألفة عليه سبيل"(1) انتهى.
فتأمل ما تضمنته تتمة هذه القاعدة من وعيد عظيم لمن اتبع أهواءهم، ولمن هذا الوعيد العظيم؟! لمحمد صلى الله عليه وسلم! مع أنه لا يمكن أن يقع منه شيء من ذلك بعصمة الله له، قال تعالى في تتمة هذه القاعدة المحكمة: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
وتأمل ـ أيها المؤمن ـ كيف قسّم الله تعالى الأمر ـ في هذا الأصل العظيم ـ إلى قسمين: هدىً وهوىً، فالهدى هو هدى الله، وليس وراء ذلك إلا اتباع الهوى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}، يقول ابن جرير: في تتمة تعليقه على هذه الآية: "يعني جل ثناؤه بقوله: (ولئن اتبعت)، يا محمد، هوى هؤلاء اليهود والنصارى - فيما يرضيهم عنك - من تهود وتنصر، فصرت من ذلك إلى إرضائهم، ووافقت فيه محبتهم - من بعد الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة - ما لك من الله من ولي = يعني بذلك: ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك، وقيم يقوم به = ولا نصير، ينصرك من الله، فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته، ويمنعك من ذلك، إن أحل بك ذلك ربك"(2). فإذا كان هذا الكلام موجهاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن الناس بعده؟!
وهذه القاعدة المحكمة قالها الذي يعلم السرّ وأخفى، والذي لا يخفى عليه شيءٌ من أحوال خلقه، لا حاضراً ولا مستقبلاً، فالذي قال هذا الكلام، هو الذي قال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]؟!.
وقد أحسن العلامة السيد محمد رشيد رضا رحمه الله ـ حين لخص القواعد التي اشتملت عليها سورة البقرة ـ فجعل من جملة هذه القواعد هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} فقال رحمه الله، عن هذه الآية إنها:
"آية للنبي صلى الله عليه وسلم كاشفة عن حال أهل الملتين في عصره، ولا تزال مطردة في أمته من بعده، وقد اغتر زعماء بعض الشعوب الإسلامية فحاولوا إرضاء بعض الدول بما دون اتباع ملتهم من الكفر فلم يرضوا عنهم، ولو اتبعوا ملتهم لاشترطوا أن يتبعوهم في فهمها وصور العمل بها، حتى لا يبقى لهم أدنى استقلال في دينهم ولا في أنفسهم"(3) انتهى.
ومع وضوح هذا النص القرآني المحكم، فإنك لتتألم ـ أيها المؤمن ـ من تشكيك بعض المسلمين بهذه الحقيقة، وهذا التشكيك يأخذ صوراً شتى، تبدأ من التشكيك في كون هؤلاء كفاراً أصلاً! وتنتهي عند المطالبة بالتماهي والاندماج التام معهم، في مسخ واضح لأصل من الأصول الكبار، ألا وهو الولاء والبراء!
ولم يفرق هؤلاء بين ما يصلح أن يؤخذ منهم، ويستفاد منه في أمور الدنيا، وبين اعتزاز المؤمن بدينه، وتمايزه بعقيدته! وليس الحديث عن هذه الطوام التي لا يقولها عاقل قرأ التاريخ، فضلاً عمن عقل عن الله ورسوله قولهما.
وإن المؤمن ـ وهو يسمع أمثال هذه الكلمات الفجّة ـ ليتساءل عن هؤلاء الكتاب الذين يحملون أسماء إسلامية: ألم يسمع هؤلاء قول الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]؟.
وأين هم من قولَ الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]؟!
ألم يتأملوا قوله عز وجل عن سائر الكفار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}[آل عمران: 149، 150]؟!
هذه شهادة من الله على أعدائنا بما يريدون منا، وما يحاولونه من صدنا عن ديننا، فهل بعد هذه الشهادة من شهادة؟ أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد؟!
أيها القراء النجباء:
إن هذه القاعدة المحكمة: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وما جاء في معناها من الآيات التي ذكرتُ بعضها خَبَرٌ، والخبر لا ينسخ، لأن نسخه يستلزم أن يكون المخبر بهذا كاذباً، وهذا لو كان في حق آحاد فضلاء الناس لكان من أعظم القدح فيه، فكيف إذا كان المتكلم به هو الله العليم الخبير؟! ولو أردنا أن نقلب صفحات التاريخ؛ لوجدنا الجواب الذي يزيد المؤمن يقيناً بهذه القاعدة المحكمة! فمن الذي سمّ الشاة التي وجد النبي صلى الله عليه وسلم أثرها حتى لقي ربه؟! ومن الذي قتل الفاروق رضي الله عنه؟ ومن الذي سَمَّ جملة من الخلفاء المسلمين الذين كان لهم أثر في ضعف شوكة اليهود أو النصارى؟!
أيها الإخوة الفضلاء:
لقد غرّ بعض هؤلاء المتحدثين ـ بما ذكرناه آنفاً ـ كونهم يتعاملون مع بعض الأفراد من اليهود والنصارى فلا يجدون منهم إلا تعاملاً جيداً ـ كما يقولون ـ وهذا قد يقع، ولكنه لا يمكن أبداً أن يكون قاضياً على هذا الخبر المحكم من كلام ربنا، ذلك أن العلاقة الفردية قد يشوبها من المصالح، أو تكون حالات استثنائية، فإذا جدّ الجدّ، ظهرت أخلاقهم على الحقيقة، ومن له أدنى بصر أو بصيرة أدرك ما فعلته الحروب الصليبية التي غزت بلاد الشام قبل وبعد صلاح الدين! وما فعله إخوانهم وأبناؤهم في فلسطين وأفغانستان والعراق،وما حرب غزة الأخيرة إلا أكبر شاهد، ولا ينكره إلا من طمس الله بصيرته ـ عياذاً بالله ـ!
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على دينه الذي ارتضاه لنا، وأن يعيذنا من الحور بعد الكور، وإلى لقاء جديد في الحلقة القادمة إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.
_______________
(1) تفسير الطبري: 2/484. (2) تفسير الطبري: 2/484. (3) تفسير المنار: 1/95.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:25 | |
| القاعدة الخامسة والثلاثون: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ...)
د.عمر بن عبد الله المقبل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية إيمانية، لها صلة عظيمة بعبادة من أعظم العبادات، ألا وهي عبادة الدعاء: تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: 186].
وهذه القاعدة المتعلقة بالدعاء جاءت تعقيباً على جملةٍ من آيات الصيام، فهلمّ ـ أيها القارئ الكريم ـ لنقف على شيء من هدايات هذه القاعدة القرآنية: 1 ـ القرآن اشتمل على أربعة عشر سؤالاً، وكلها تبدأ بـ(يسألونك) ثم يأتي الجواب بـ(قل) إلا في آية واحدة (فقل) في سورة طه، إلا هذا الموضع الوحيد، فإنه بدأ بهذه الجملة الشرطية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}، وجاء جواب الشرط من دون الفعل: قل، بل قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، فكأن هذا الفاصل مع قصره (قل) كأنه يطيل القرب بين الداعي وربه، فجاء الجواب بدون واسطة: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} تنبيها على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء!. وهو من أبلغ ما يكون في الجواب عن سبب النزول ـ لو صحّ ـ حينما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟".
2 ـ تأمل في قوله: {عبادي} فكم في هذا اللفظ من الرافة بالعباد، حيث أضافهم إلى نفسه العليّة سبحانه وبحمده، فأين الداعون؟ وأين الطارقون لأبواب فضله؟!
3 ـ فإني قريب: ففيها إثبات قربه من عباده جل وعلا، وهو قرب خاص بمن يعبده ويدعوه، وهو ـ والله ـ من أعظم ما يدفع المؤمن للنشاط في دعاء ملاه.
4 ـ في قوله: {أجيب} ما يدل على قدرة الله وكمال سمعه سبحانه، وهذا ما لا يقدر عليه أي أحد إلا هو سبحانه!
أيها الإخوة:
إن أي ملك من ملوك الدنيا ـ ولله المثل الأعلى ـ مهما أوتي من القوة والسلطان لا يمكنه أن ينفذ كل ما يطلب منه؛ لأنه مخلوق عاجز، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه المرض والموتَ، فضلاً عن غيره، فتبارك الله القوي العزيز، الرحيم الرحمن.
5 ـ مع قوله: {إذا دعان} ففيها إشارة إلى أن من شرط إجابة الدعاء أن يكون الداعي حاضر القلب حينما يدعو ربه، وصادقاً في دعوة مولاه، بحيث يكون مخلصاً مشعراً نفسه بالافتقار إلى ربه، ومشعراً نفسه بكرم الله، وجوده(1).
6 ـ ومن هدايات هذه القاعدة ودلالتها: أن الله تعالى يجيب دعوة الداع إذا دعاه؛ ولا يلزم من ذلك أن يجيب مسألته؛ لأنه تعالى قد يؤخر إجابة المسألة ليزداد الداعي تضرعاً إلى الله، وإلحاحاً في الدعاء؛ فيقوى بذلك إيمانه، ويزداد ثوابه؛ أو يدخره له يوم القيامة؛ أو يدفع عنه من السوء ما هو أعظم فائدة للداعي؛ وهذا هو السر - والله أعلم - في قوله تعالى: {أجيب دعوة الداع}(2).
أيها القراء الكرام:
7 ـ وتاج هذه اللطائف المتصلة بهذه القاعدة من قواعد العبادة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} أنك تلحظ فيها سراً من أسرار عظمة هذا الدين، وهو التوحيد، فهذا ربك ـ أيها المؤمن ـ وهو ملك الملوك، القهار الجبار، الذي لا يشبه ملكه ملك، ولا سلطانه سلطان ـ لا تحتاج إذا أردتَ دعاءه إلى مواعيد، ولا إلى أذونات، ولا شيء من ذلك، إنما هو رفع اليدين، مع قلب صادق، وتسأل حاجتك، كما بكر بن عبدالله المزني ـ أحد سادات التابعين ـ: "من مثلك يا ابن آدم! خلي بينك وبين المحراب تدخل منه إذا شئت على ربك، وليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان"(3)، فيا لها من نعمة لا يعرف قدرها إلا الموفق، وإلا الذي يرى ما وقع فيه كثير من جهال المسلمين من التوسل بالأولياء والصالحين، أو ظنهم أن الدعاء لا يقبل إلا من طريق الولي الفلاني أو السيد الفلاني!!
أيها الإخوة:
وإذا تبين وقعُ هذه القاعدة ـ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ـ فإننا سندرك أن الحرمان الحقيقي للعبد حينما يحرم طرق الباب، وأن تنسيه نفسه هذا السبيل العظيم! كما قال أبو حازم لأنا من أن أمنع الدعاء، أخوف مني من أن أمنع الاجابة(4).
ويقول ابن القيم رحمه الله: "وقد أجمع العارفون أن التوفيق أن لا يكللك الله إلى نفسك, وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك, فاذا كان كل خير فأصله التوفيق, وهو بيد الله لا بيد العبد, فمفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجأ والرغبة والرهبة اليه، فمتى أعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له, ومتى أضلّه عن المفتاح بقي باب الخير مرتجا دونه، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني لا أحمل هم الإجابة, ولكني أحمل هم الدعاء, فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه.
وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم, والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك,..., وما أتي من أتي إلا من قبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء, ولا ظفر من ظفر ـ بمشيئة الله وعونه ـ إلا بقيامه بالشكر، وصدق الافتقار والدعاء"(5) انتهى.
ومن المعاني المهمة التي ينبغي أن يستحضرها العبد ـ وهو في مقام الدعاء ـ ما أشار إليه الإمام أبو سليمان الخطابي: ـ وهو يتحدث عن الحكمة من مشروعية الدعاء ـ فيقول: "وقد قضى الله ـ سبحانه ـ أن يكون العبد ممتحناً ومستعملاً، ومعلقاً بين الرجاء والخوف ـ اللذين هما مدرجتا العبودية ـ ليستخرج منه بذلك الوظائف المضروبة عليه، التي هي سمة كل عبد، ونِصْبةُ كل مربوب مُدَبّرٍ"(6).
أيها القارئ الفطن:
ومن هدايات هذه القاعدة ـ المتعلقة بسياقها ـ: استحباب الدعاء عند الفطر في رمضان وغيره، وهذا ما يدل عليه ظاهر القرآن، وفعل السلف، وفي السنة المرفوعة أحاديث لا تخلو من مقال، ولكن ها أنت ترى ظاهر القرآن يعضدها، ووجه الدلالة من الآيات على هذا المعنى: أن الله تعالى ذكر هذه الآية ـ آية الدعاء ـ بُعَيْد آيات الصيام وقبيل آية إباحة الرفث في ليل الصيام، قال ابن كثير:: "وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام، إرشاد إلى اجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر"(7) انتهى.
فما أجمل العبد وهو يظهر فقره وعبوديته بدعاء مولاه، والانكسار بين يدي خالقه ورازقه، ومَنْ ناصيته بيده! وما أسعده حينما يبتهل أوقات الإجابة ليناجي ربه، ويسأله من واسع فضله في خيري الدنيا والآخرة! نسأل الله تعالى أن يرزقنا صدق اللجأ إليه، والانطراح بن يديه، وكمال التضرع له، وقوة التوكل عليه، وأن لا يخيب رجاءنا فيه، ولا يردنا خائبين بسبب ذنوبنا وتقصيرنا.
__________________
(1) ينظر: مفاتيح الغيب 5/84، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين 1/345. (2) تفسير القرآن الكريم للعثيمين 1/345. (3) حلية الأولياء 2/229. (4) حلية الأولياء 3/241، 7/288. (5) الفوائد: (181). (6) شأن الدعاء: (9-10). (7) تفسير ابن كثير (1 / 273).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:28 | |
| القاعدة السادسة والثلاثون: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) د.عمر بن عبد الله المقبل الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية، وقاعدة شرعية من أعظم القواعد الشرعية التي يفزع إليها العلماء في فتاواهم، تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة جاءت في سورة التغابن، وفي تدبر سياقها ما يحسن إيراده هنا، خاصةً وأن هذه القاعدة بدأت بالفاء التي يسميها بعض العلماء: الفاء الفصيحة، أو فاء التفريع، فما بعدها فرعٌ عما قبلها، ذلك أن الله جل وعلا قال قبل هذه القاعدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التغابن: 14، 15] ثم جاء التعقيب بعد هذا بقوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التغابن: 16].
"أي: إذا علمتم هذا، فاتقوا الله فيما يجب من التقوى في معاملة الأولاد والأزواج ومصارِف في الأموال، فلا يصدّكم حب ذلك والشغل به عن الواجبات، ولا يخرجكم الغضب ونحوه عن حدّ العدل المأمور به، ولا حُبُّ المال عن أداء حقوق الأموال وعن طلبها من وجوه الحلال، فالأمر بالتقوى شامل للتحذير المتقدم وللترغيب في العفو كما تقدم ولما عدا ذلك... ولما كانت التقوى ـ في شأن المذكورات وغيرها ـ قد يعرض لصاحبها التقصير في إقامتها حرصاً على إرضاء شهوة النفس ـ في كثير من أحوال تلك الأشياء ـ زيد تأكيد الأمر بالتقوى بقوله: {ما استطعتم}، و{مَا} مصدرية ظرفية، أي مدة استطاعتكم؛ ليعم الأزمان كلها، ويعم الأحوال تبعاً لعموم الأزمان ويعم الاستطاعات، فلا يتخلوا عن التقوى في شيء من الأزمان. وجعلت الأزمان ظرفاً للاستطاعة لئلا يقصروا بالتفريط في شيء يستطيعونه فيما أمروا بالتقوى في شأنه ما لم يخرج عن حدّ الاستطاعة إلى حدّ المشقة، فليس في قوله: {ما استطعتم} تخفيف ولا تشديد، ولكنه عَدل وإنصافٌ، ففيه ما عليهم وفيه ما لهم"(1).
أيها الإخوة:
وبعد هذا العرض المجمل لمعنى القاعدة، يتبين أن هذا القدر من التقوى هو الواجب على العبد فعله ـ وهو تقوى الله ما استطاع ـ، أما التقوى التي يستحقها الله تعالى، فهي التي جاءت في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102]، وهي التي فسرها جمع من السلف بقوله: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر(2)، وبهذا الجمع يتبين أنه لا يصح قول من قال: إن هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: {فاتقوا الله ما استطعتم} ناسخة لآية آل عمران: {اتقوا الله حق تقاته}.
أيها القراء الكرام:
إن هذه القاعدة القرآنية المحكمة تدل بوضوح على أن كل واجب عجز عنه المكلف، فإنه يسقط عنه، وأنه إذا قدر على بعض المأمور، وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما يعجز عنه، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"(3).
فدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع، ما لا يدخل تحت الحصر كما يقول غير واحدٍ من أهل العلم(4).
ولعلنا ـ معشر القراء ـ نأخذ بعض الأمثلة التي تجلي هذا القاعدة:
1. ولعل أحرى الأمثلة هو ذلك الموقف الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول كلمته الجامعة الآنفة الذكر: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم": فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟! فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت: نعم لوجبت! ولما استطعتم! ثم قال: ذروني ما تركتكم! فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافِهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".
2. ومن تطبيقات هذه القاعدة ـ أيها الإخوة الكرام ـ أنه: "إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك، امتثالا لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة، قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}. حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما"(5).
3. أن الواجب عند إرادة الصلاة: التطهر بالماء، فإن عدم أو تعذر استعماله، فإن الإنسان ينتقل إلى التيمم ـ كما هو معلوم ـ.
4. أن صلاة الفريضة الأصل فيها أن يؤديها المصلي قائماً، فإن عجز صلى جالساً، وإلا صلى قاعداً، كما دلّ على ذلك عمران بن حصين رضي الله عنهما، ويدخل في ذلك جميع شروط الصلاة وأركانها وواجباتها.
5. وفي الصيام يجب على المسلم أن يمسك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإن كان الصيام يشق عليه افطر وانتقل إلى الإطعام.
6. وفي الحج، فإن مبنى هذا الركنِ كلّه على هذا الأصل العظيم: الاستطاعة، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97] وكما سبق في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
7. ومن فروع هذه القاعدة في مناسك الحج: أن من لم يجد مكاناً في منى أو مزدلفة سكن حيث تيسر له، وقل مثل فيمن عجز عن الرمي لأي سبب معتبر شرعاً، ولعل الحج من أكثر أركان الإسلام فروعاً تطبيقيةً لهذه القاعدة العظيمة.
8. ومن تطبيقات هذه القاعدة العظيمة: في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن المكلف يجب عليه أنه ينكر باليد إذا قدر عليه، فإن عجز فباللسان، وإلا فبالقلب، كما دل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المخرج في الصحيح (6).
9. وفي باب النفقات: فإن من عليه نفقةٌ واجبة، وعجز عن جميعها، بدأ بزوجته، فرقيقه، فالولد، فالوالدين، فالأقرب ثم الأقرب. وكذلك زكاة الفطر.
10. ومن تطبيقات هذه القاعدة العظيمة: مسائل الولايات والوظائف الدينية والدنيوية كلُّها - صغارُها وكبارُها – داخلة تحت هذه القاعدة العظيمة، فكل ولاية يجب فيها تولية الأصلح الذي يحصل بتوليته مقصود الولاية، فإن تعذرت كلها، وجب فيها تولية الأمثل فالأمثل، وقد سبق حديث مفصّل ـ في حلقة سابقة من حلقات هذا البرنامج ـ عند الكلام على قاعدة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص: 26](7).
وبما سبق من أمثلة يتجلى لنا عظيم موقع هذه القاعدة من هذا الشرع المطهر، الذي مبناه على اليسر والسعة، فنسأل الله تعالى الذي هدانا لهذا الدين القويم، أن يثبتنا عليه حتى نلقاه، وأن يرزقنا الفقه في دينه، والبصيرة فيه، والحمد لله رب العالمين.
_________________
(1) التحرير والتنوير 28/258 باختصار يسير. (2) ينظر: تفسير السعدي: (141). (3) البخاري ح (6858) ومسلم ح (1337). (4) تفسير السعدي: (141). (5) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/110). (6) صحيح مسلم (49). (7) وهي القاعدة السابعة عشرة.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| |
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| |
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:34 | |
| القاعدة التاسعة والثلاثون: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء جديد مع قاعدة من قواعد تربية النفس، وتوجيه علاقتها مع الله عز وجل، تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح: 7، 8](1).
وهذه القاعدة ـ كما لا يخفى ـ جزء من سورة الشرح، وقد بدئت بحرف الفاء المرتبط بالجملة الشرطية، وهذه الفاء هي فاء التفريع، أي أن ما بعدها فرع عما قبلها، فلننظر فيما قبلها، يقول الله عز وجل: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 1 - 8].
وغني عن القول أن هذه السورة العظيمة ـ سورة الشرح ـ "احتوت على ذكرِ عنايةِ الله تعالى لرسوله بلطف الله له, وإزالةِ الغمّ والحرجِ عنه، وتيسير ما عسر عليه، وتشريفِ قدره؛ لِيُنَفِّسَ عنه؛ فمضمونُها شبيهٌ بأنه حجةٌ على مضمون سورة الضحى؛ تثبيتاً له بتذكيره سالف عنايته به, وإنارة سبيل الحق, وترفيع الدرجة؛ ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته ما كان لِيقطع عنه فضله، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم"(2).
فإذا اتضح تبين موقع هذه القاعدة التي نتحدث عنها: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} والتي يأمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم إذا انتهى من طاعة أو عملٍ ما أن ينصب ويبدأ في عمل أو طاعة أخرى، وأن يرغب إلى ربه في الدعاء والعبادة، والتضرع والتبتل، لأن حياة المسلم الحق كلها لله، فليس فيها مجال لسفاسف الأمور، بل إن اللهو الذي تبيحه الشريعة لأصناف من الناس كالنساء والصبيان، أو في بعض الأوقات كالأعياد والأفراح؛ فإن من أعظم مقاصد ذلك أن يعيش أن يستجم الإنسان ـ والاستجمام للجد مرة ثانيةً من الشغل النافع ـ وأن يعيش العبودية لله في جميع أحواله، فهو يعيشها في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي الحضر والسفر، وفي الضحك والبكاء، ليتمثل حقاً قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، متأسياً ـ قدر الطاقة بالثلة المباركة من أنبياء الله ورسله ـ الذين أثنى الله عليهم بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء: 90].
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما الرغبة في الله، وإرادةُ وجهه، والشوقُ إلى لقائه، فهي رأس مال العبد، وملاكُ أمره، وقوامُ حياته الطيبة، وأصلُ سعادته وفلاحه ونعيمه، وقرةُ عينه، ولذلك خلق، وبه أُمِرَ، وبذلك أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ولا صلاح للقلب ولا نعيم إلا بأن تكون رغبته إلى الله عز وجل وحده، فيكون هو وحده مرغوبه ومطلوبه ومراده، كما قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح: 7، 8]" (3).
أيها القراء الكرام:
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه القاعدة: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} معنى عظيم، وهو أصل من الأصول التي تدل على أن الإسلام يكره من أبنائه أن يكونوا فارغين من أي عمل ديني أو دنيوي! وبهذا نطقت الآثار عن السلف الصالح رحمهم الله:
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: إني لأمقت أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل دنيا ولا آخرة(4)، وسبب مقت ابن مسعود رضي الله عنه لهذا النوع من الناس؛ لأن "قعود الرجل فارغاً من غير شغل، أو اشتغاله بما لا يعينه في دينه أو دنياه من سفه الرأي، وسخافة العقل، واستيلاء الغفلة" (5).
ولقد دلّ القرآن على أن هذا النوع من الناس الفارغين ـ وإن شئت فسمهم البطالين ـ ليسوا أهلاً لطاعة أوامرهم، بل تنبغي مجانبتهم؛ لئلا يُعدوا بطبعهم الرديء، كما قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف: 28]، يقول العلامة السعدي رحمه الله: "ودلت الآية، على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إماماً للناس، من امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه، فحقيق بذلك، أن يتبع ويجعل إماماً"(6).
أيها الإخوة المؤمنون:
ومن هدايات هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أنها تربي في المؤمن سرعة إنجاز الأمور ـ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ـ وعدمِ إحالة إنجازها إلى وقت الفراغ، فإن ذلك الأساليب التي يخدع بها بعض الناس نفسه، ويبرر بها عجزه، وإن من عجز عن امتلاك يومه فهو عن امتلاك غده أعجز!
قال بعض الصالحين: "كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس" علق ابن رجب: على هذا فقال: "يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير، ويستحيون من فقد ذلك و يعدونه خسراناً"(7)، ومن جميل ما قيل في هذا المعنى ذينك البيتين السائرين:
إذا هجع النوام أسبلت عبرتي *** وأنشدت بيتاً فهو من أحسن الشعر أليس من الخسران أنَّ ليالياً *** تمر بلا شيء وتحسب من عمر
ومن الحكم السائرة: لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد! وهي حكمة صحيحة يشهد القرآن بصحتها، وقد روي عن الإمام أحمد: أنه قال: إن التأخير له آفات! وصدق:، والشواهد على هذا كثيرة:
ـ فمن الناس من يكون عليه التزامات شرعية بينه وبين الله، كقضاء الصيام، أو أداء فرض الحج ـ مثلاً ـ فتراه يسوّف ويماطل، حتى يتضايق عليه الوقت في الصيام، أو يفجأه الموت قبل أن يحج! ولئن كان هذا قبيحاً ومذموماً في حقوق الله، فهو في حقوق الخلق ـ المبنية على المشاحة ـ أشد وأعظم، وكم ندم من كانت عليهم ديون حين تساهلوا في تسديدها وهي قليلة، فتراكمت عليهم، فعجزوا عنها، وصاروا بين ملاحقة الغرماء، والركض وراء الناس وإراقة ماء الوجه للاستدانة من جديد، أو للأخذ من الزكاة!! فهل من معتبر؟!
ـ ومن آثار مخالفة هذه القاعدة: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}: أن بعض الناس لا يهتبل ولا يستغل الفرص التي تسنح في طلب العلم، وتحصيله، فإذا انفرط عليه العمر، وتقضى الزمن، ندم على أنه لم يكن قد حصل شيئاً من العلم ينفعه في حياته وبعد مماته!
وقل مثل ذلك: في تفريط كثير من الناس ـ وخصوصاً الشباب والفتيات ـ في التوبة، والإنابة، والرغبة إلى الله، بحجة أنهم إذا كبروا تابوا، وهذا لعمر الله من تلبيس إبليس!
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى *** ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله *** وأنك لم ترصد بما كان أرصدا
وقوله تعالى ـ في هذه القاعدة التي هي مدار حديثنا ـ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أبلغ، وأعظم حادٍ إلى العمل، والجد في استثمار الزمن قبل الندم.
وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
_________________
(1) قال العلامة النحرير الطاهر ابن عاشور: ـ كما في التحرير والتنوير 30/368 ـ: "وهذه الآية من جوامع الكلم القرآنية لما احتوت عليه من كثرة المعاني". (2) التحرير والتنوير 30/359. (3) روضة المحبين: (405). (4) المعجم الكبير 9/102. (5) الكشاف 4/777. (6) تفسير السعدي: (475). (7) لطائف المعارف: (321).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:35 | |
| القاعدة الأربعون: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية، وكلمةٍ جامعة، وهي من أعظم قواعد الشرائع السماوية كلها، والتي لا يشذ عنها شيء، تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}[النحل: 90].
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة من أعظم القواعد الشرعية، والتي يدخل تحتها من الفروع ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وتتفق عليها جميع الشرائع السماوية؛ ذلك أن الشرائع كلها من لدن حكيم عليم، قال سبحانه وتعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115] قال أهل العلم: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام. ومَرَدُّ معرفة العدل من الجور إلى أدلة الشريعة المطهرة، ونصوصها المفصلة.
يقول الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله: "العدل حصن يلجأ إليه كل خائف، وذلك أنك ترى الظالم وغير الظالم إذا رأى من يريد ظلمه، دعا إلى العدل وأنكر الظلم حينئذ وذمه، ولا ترى أحداً يذم العدل، فمن كان العدل في طبعه فهو ساكن في ذلك الحصن الحصين"(1).
وقال العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله: "والعدل مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، وتمدَّح بادعاء القيام به عظماءُ الأمم، وسجلوا تمدُّحهم على نقوش الهياكل من كلدانية، ومصرية، وهندية.
وحسن العدل بمعزل عن هوى يغلب عليها في قضية خاصة، أو في مبدأ خاص تنتفع فيه بما يخالف العدل بدافع إحدى القوتين: الشاهية والغاضبة"(2). ويقول ابن تيمية رحمه الله: "إن جماع الحسنات: العدل، وجماع السيئات: الظلم"(3). وقال الماورديّ: "إنّ ممّا تصلح به حال الدّنيا قاعدة العدل الشّامل، الّذي يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطّاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكبر معه النّسل، ويأمن به السّلطان، وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنّه ليس يقف على حدّ، ولا ينتهي إلى غاية، ولكلّ جزء منه قسط من الفساد حتّى يستكمل"(4).
أيها القارئ الكريم:
إن هذا المعنى الشرعي العظيم ـ وهو العدل ـ الذين نتفيأ ظلال الحديث عنه من وحي هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} لهو معنى تعشقه النفوس الكريمة، والفطر السوية، ولله! كم كان تحقيقه سبباً في خيرات عظيمة، ومنح كثيرة؟! والعكس صحيح، وكم كان تحقيق هذا العدل سبباً في إسلام أناس ما حثهم على الإسلام إلا تحقيق هذا الأصل الكبير: العدل، وإليكم هذا الموقف الذي يبين شيئاً من آثار العدل في نفوس الخصوم قبل الأصدقاء:
روى ابن عساكر في تاريخ دمشق(5) من طريق الشعبي قال: وجد علي بن أبي طالب درعه عند رجل نصراني، فأقبل به إلى شريح يخاصمه ـ وشريح هذا أحد أشهر القضاة في عهد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ـ قال: فجاء علي حتى جلس إلى جنب شريح، فقال له علي: يا شريح! لو كان خصمي مسلماً ما جلست إلا معه، ولكنه نصراني! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم وإياهم في طريق فاضطروهم إلى مضايقه، وصغروا بهم كما صغر الله تعالى بهم، من غير أن تطغوا، ثم قال علي: هذا الدرع درعي،لم أبع ولم أهب! فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين! هل من بيّنة؟ قال: فضحك علي وقال: أصاب شريح! ما لي بينة، فقضى بها للنصراني!
قال: فمشى خُطىً ثم رجع، فقال النصراني: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء! أميرُ المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه؟ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الدرع والله درعك، يا أمير المؤمنين، أتبعتُ الجيش ـ وأنت منطلق إلى صفين ـ فخرجتْ من بعيرك الأوْرق، فقال: أما إذا أسلمت فهي لك، وحمله على فرس، فقال الشعبي: فأخبرني من رآه يقاتل الخوارج مع علي يوم النهروان.
فتأمل يا عبدالله! كيف أثّر هذا الموقف العجيب من الرجل الأول في الدولة آنذاك في إسلامه، بل والانضمام إلى جيوشه التي تقاتل الخوارج المارقين، وليست هذه فضيلة إقامة العدل في مثل هذه المواقف، بل إن الإمام العادل أحدُ السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه.
وفي الموقف مَلْحظٌ آخر: ألا وهو أن هذا القاضي لم يكن ليجرؤ على مثل هذا الحكم لولا أنه وجد ما يسنده ويقوي جانبه في إصدار مثل هذا الحكم على خليفة المسلمين آنذاك، من الخليفة نفسه، ومتى شعر القاضي أنه لا يستطيع أن يحكم بالعدل الذي يراه، فعلى القضاء السلام.
وهذا الموقف ـ أيضاً ـ يبرز جانباً من جوانب عظمة هذا الدين في العدل مع الخصوم والأعداء، فلم يمنع شريحاً كون الخصم نصرانياً أن يقضي له، وهذا تطبيق عملي لقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: 8].
أيها الإخوة الكرام:
وتمتد ظلال هذه القاعدة العظيمة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} لتشمل جميع شؤون الحياة، فمن ذلك: ـ العدل مع الزوجات: وهذا من الأمور المحكمات في باب العلاقة الزوجية، وهو أظهر من أن يفصل فيه، إلا أن الذي أرى أنه من المهم التوكيد عليه: هو تذكير الإخوة المعددين، بأن يتقوا الله في العدل بين زوجاتهم، وأن يحذروا من آثار عدمه السيئة في الحياة قبل الممات: وذلك فيما يقع بين الأولاد غير الأشقاء من نزاعات وخلافات، حتى يكونوا شماتة للآخرين، وأما في الآخرة فهو أعظم وأشد، وعليهم أن يتأملوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته التسع، ففيها الغناء والعبرة.
ومن صور تطبيقات هذه القاعدة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}:
ـ العدل مع الأولاد: ذلك أن على الوالدين أن يعدلوا بينهم، وأن يتجنبوا تفضيل بعضهم على بعض، سواء في الأمور المعنوية كالحب والحنان والعطف ونحو ذلك، أو في الأمور المادية كالهدايا والهبات، ونحوها.
ـ العدل والإنصاف في إصدار الأقوال، وتقييم الآخرين: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] ، وقال عز وجل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}[الأنعام: 152]. وهذا باب واسع جداً، يدخل فيه الكلام على الأفراد، والجماعات، والفرق، والكتب، والمقالات، وغير ذلك.
وما أجمل ما قاله ابن القيم في نونيته:
وتحل بالإنصاف أفخر حلة *** زِيْنَتْ بها الأعطاف والكتفان
أيها الإخوة:
ومن صور العدل التي دلّت عليها هذه القاعدة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}:
ـ العدل في العبادة: بحيث لا يتجاوز بها صاحبها العدل، ويتعدى الحد، ولا يقصّر في أدائها على الوجه الشرعي.
ـ العدل في النفقات: قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]، وقال سبحانه وتعالى مثنياً على عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان: 67]، وكان من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم العظيمة: "وأسألك القصد في الفقر والغنى"(6).
وبالجملة ـ أيها الكرام ـ: فمن تأمل أوامر الله تعالى وجدها وسطاً بين خلقين ذميمين: تفريط وإفراط، وهذا هو معنى هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}. وإلى هنا ينتهي ما أردت ذكره من إشارات عابرة حول معاني هذه القاعدة القرآنية الكريمة. وإلى لقاء قادم في حلقة جديدة بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
_________________
(1) الأخلاق والسير: (162). (2) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام،ص: (186). (3) مجموع الفتاوى (1/86). (4) أدب الدنيا والدين للماوردي (141). (5) تاريخ دمشق (42 / 487). (6) سنن النسائي (3/54) ح (1305)، وصححه ابن حبان ح (1971).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:37 | |
| القاعدة الحادية والأربعون: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية محكمة، ذات البعد الإيماني والتربوي، وله صلة شديدة بواقعنا اليومي، إنها القاعدة التي دلّ عليها قول ربنا جل جلاله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة تكررت بلفظ قريب في عدد من المواضع، كما تكرر معناها في مواضع أخرى.
فمن نظائرها اللفظية المقاربة قول الله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، ويقول عز وجل: { وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ...} [القصص: 47].
وأما الآيات التي وردت في تقرير هذا المعنى فكثيرة جدا، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، وكقوله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وقال جل وعلا: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 181، 182] في ثلاث مواضع من كتاب الله عز وجل.
ويقول سبحانه: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36]، يقول شيخ الإسلام ابن تيميه: ملخصاً ما دلت عليه هذه الآيات الكريمة بتلخيص العالم المتتبع المستقرئ لنصوص القرآن الكريم، يقول رحمه الله: "والقرآن يبين في غير موضع: أن الله لم يهلك أحداً ولم يعذبه إلا بذنب"(1).
أيها الإخوة الكرام:
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآيات الكريمة دلت عليه أيضا نصوص من الوحي الآخر، ألا وهو السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبى ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث القدسي العظيم ـ الذي يرويه عن ربه تعالى قال الله عز وجل: "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلوم إلا نفسه"(2).
وفى صحيح البخاري من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت... الحديث"(3).
وفى الصحيحين لما سأل أبو بكر - رضي الله عنه - النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته، قال له عليه الصلاة والسلام: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"(4).
فتأمل ـ أيها المؤمن ـ في هذه الأحاديث جيداً! فَمَنْ هو السائل؟ ومَنْ هو المجيب؟ أما السائل فهو أبو بكر الصديق الأكبر الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة في مواضع متعددة، وأما المجيب فهو الرسول الناصح المشفق صلوات الله وسلامه عليه! ومع هذا يطلب منه عليه الصلاة والسلام أن يعترف بذنوبه، وظلمه الكبير والكثير، ويسأل ربه مغفرة ذلك والعفو عنه، والسؤال هنا ـ أيها الأخوة القراء ـ مَنْ الناس بعد أبي بكر رضي الله عنه؟
أيها القراء الفضلاء:
إذا تقررت هذه الحقيقة الشرعية ـ وهي أن الذنوب سببٌ للعقوبات العامة والخاصة ـ فحري بالعاقل أن يبدأ بنفسه، فيفتش عن مناطق الزلل فيه، وأن يسأل ربه أن يهديه لمعرفة ذلك، فإن من الناس من يستمرئ الذنب تلو الذنب، والمعصية تلو المعصية، ولا ينتبه لذلك! بل قد لا يبالى! ولربما استحسن ذلك ـ عياذاً بالله ـ فتتابع العقوبات عليه وهو لا يشعر، فتكون مصيبته حين إذن مضاعفه!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ـ وهو يتحدث عن الأمور التي تورث العبد الصبر وتعينه عليه ليبلغ مرتبة الإمامة في الدين ـ قال رحمه الله: "أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلط الناس عليه بسبب ذنبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتعل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه بسببها عن ذنبهم ولومهم، والوقيعة فيه، وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار، فاعلم أن مصيبته مصيبة حققية، وإذا تاب واستغفر، وقال: هذا بذنوبي، صارت في حقه نعمة، قال علي رضي الله عنه كلمة من جواهر الكلام: "لا يرجونّ عبدٌ إلا ربه ولا يخافن عبد إلا ذنبه"، وروي عنه وعن غيره: "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة" (5) انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
ويقول تلميذه ابن القيم رحمة الله عليه ـ وهو يوضح شيئاً من دلالات هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} قال رحمه الله: وهل فى الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟! فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء؟ وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه؟ فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّلَ بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظى، وبالايمان كفراً، وبموالات الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجلَ الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباس الايمان لباس الكفر والفسوق والعصيان؟ فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينه غاية السقوط، وحلّ عليه غضب الرب تعالى، فأهواه ومقته أكبر المقت!
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم؟ حتى علا الماء فوق رأس الجبال، وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الارض، كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ ودمرت ما مرَّ عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم؟ حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة، حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها؟ فأهلكم جميعاً ثم أتبعهم حجارة من سجيل السماء، أمطرها عليهم فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه علي أمة غيرهم، ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد.
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل؟ فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات، ودمرها تدميراً؟... إلى أن قال رحمه الله: قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا صفوان بن عمر، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال: لما فتحت قبرص، فُرِّقَ بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي! فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره؟! بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى!انتهى كلام بن القيم:. والذي استطرد كثيرا في بيان آثار الذنوب والمعاصي السيئة على الفرد والمجتمع في كتابه النافع الجواب الكافي وذكر كلاما نفيسا يحسن الرجوع إليه والاستفادة منه.
إخوة الإيمان:
وليُعْلَم أنه ينبغي أن ندرك أن العقوبات حينما تذكر، فلا يصح حصرها في العقوبات الحسية أو العقوبات الجماعية ـ التي أشار ابن القيم إلى شيء منها ـ كالهدم والغرق والصيحة، أو السجن والعذاب الحسي، ونحو ذلك، فهذه لا شك أنها أنواع من العقوبات، ولكن ثمة أنواع من العقوبات قد تكون أشد وأعظم، وهى تلك العقوبات التي تتسلط على القلب، فيضرب بالغفلة وقسوته، حتى إن جبال الدنيا لو تناطحت أمامه ما اعتبر ولا اتعظ ـ عياذاً بالله ـ بل يظن المسكين، أو تظن أمة من الأمم ـ وهى ترى النعم تتابع وتزداد مع استمرارها في البعد عن شرع الله ـ تظن أن ذلك علامةً على رضى الله عز وجل عنها، وهذه لعمر الله من أعظم العقوبات التي يبتلى بها العبد وتبتلى بها أمة من الأمم.
استمع جيدا إلى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} فما الذي حصل؟ هل تابوا أم رجعوا؟ اقرأ تتمة الآية: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 42 - 44] فنعوذ بالله أن نكون من أهل هذه الآية، ونسأله بمنه وكرمه أن يتوب علينا وأن يبصرنا بمواطن الزلل منا، وأن لا يضربنا بقسوة القلب، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا إن ربي سميع مجيب الدعاء، وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى والحمد لله رب العالمين.
_________________
(1) مجموع الفتاوى (14/424). (2) صحيح مسلم (2577). (3) صحيح البخاري (6306). (4) صحيح البخاري (834)، صحيح مسلم (2705). (5) قاعدة في الصبر: (1/169) طبعت ضمن مجموع رسائله (ط.عالم الفوائد).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| |
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| |
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:43 | |
| القاعدة الرابعة والأربعون: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه حلقة جديدة من حلقات هذه السلسلة القرآنية التي تتابع، لنتذاكر ـ في هذه الحلقة ـ شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، هي من أعظم القواعد التي تعين على تعبيد القلب لرب العالمين، وتربيته على التسليم والانقياد، تلكم هي القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: 7].
وهذه القاعدة تدل دلالة واضحة ـ كما يقول أبو نعيم: في بيان شيء من خصائصه صلى الله عليه وسلم ـ على: "أن الله تعالى فرض طاعته على العالم فرضاً مطلقاً لا شرط فيه، ولا استثناء، فقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وإن الله تعالى أوجب على الناس التأسي به قولاً وفعلاً مطلقاً بلا استثناء، فقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} واستثنى في التأسي بخليله، فقال: {لقد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم ـ إلى أن قال ـ إلا قول إبراهيم لأبيه}"(1).
ولقد دأب العلماء على الاستدلال بهذه القاعدة في جميع أبواب العلم والدين: فالمصنفون في العقائد يجعلونها أصلاً في باب التسليم والانقياد للنصوص الشرعية، وإن خفي معناها، أو عسر فهمها على المكلف، قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا لم نقر بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم رددنا على الله أمره، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2).
وفي أبواب الفقه: يعمد كثير من المفتين من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إلى النزع بهذه القاعدة في إيجاب شيء أو تحريمه، وإن شئت فقل: في الأمر بشيء أو النهي عنه، وإليك هذه القصة التي رواها الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه حينما حدّث وقال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله! قال: فبلغ ذلك امرأةً من بني أسد يقال لها: أم يعقوب! ـ وكانت تقرأ القرآن ـ فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك؟ أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟ فقال عبدالله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته! فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}!
فقالت المرأة: فإني أرى شيئاً من هذا على امرأتك الآن قال اذهبي فانظري قال فدخلت على امرأة عبدالله فلم تر شيئاً! فجاءت إليه، فقالت: ما رأيت شيئاً! فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أما لو كان ذلك لم نجامعها(3).
وهذا عبدالرحمن بن يزيد رحمه الله: يرى محرماً عليه ثيابه، فنهر المحرم، فقال: ائتني بآية من كتاب الله عز وجل بنزع ثيابي! فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
وهذه قصة أخرى تؤكد وضوح هذا المعنى عند سلف الأمة رحمهم الله: يقول عبد الله بن محمد الفريابي: سمعت الشافعي ببيت المقدس يقول: سلوني عما شئتم أخبركم عن كتاب الله، وسنة رسوله! فقلت: إن هذا لجرئ! ما تقول أصلحك الله في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: نعم بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(4).
ويقول محمد بن يزيد بن حكيم المستملي: رأيت الشافعي في المسجد الحرام، وقد جعلت له طنافس، فجلس عليها، فأتاه رجل من أهل خراسان، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في أكل فرخ الزنبور؟ فقال: حرام. فقال: حرام؟! قال: نعم من كتاب الله، وسنة رسول الله، والمعقول، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (5).
أيها الإخوة الكرام:
إن هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} لتدل بمفهومها على ضرورة حفظ السنة، حفظها من الضياع، وحفظها في الصدور، إذ لا يتأتى العمل بالسنة إلا بعد حفظها حساً ومعنى: قال إسماعيل بن عبيدالله رحمه الله: ينبغي لنا أن نحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحفظ القرآن لأن الله يقول: {وما أتاكم الرسول فخذوه}(6).
وأما الحفظ المعنوي: فإن جهود أئمة الحديث من عهد الصحابة رضي الله عنهم ومن تلاهم من التابعين والأئمة لا تخفى على أدنى مطلع، وليس هذا مقام الحديث عن هذا الموضوع، وإنما المقصود: التنبيه على أن الحفظ الذي تحقق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم على أيدي هؤلاء قد قام به أئمة الإسلام خير قيام، فلم يبق على من بعدهم إلا حفظ ألفاظها، والتفقه في معانيها، والعمل بمقتضاها، إذ هذا هو المقصود الأعظم من ذلك كلّه.
معشر القراء الفضلاء:
إن في الآثار التي سقت بعضها وتركتُ كثيراً منها لدلالةً على شمول الآية لجميع الأوامر سواء كانت واجبة أم مستحبة، وشاملة لجميع النواهي سواء كانت محرمة أم مكروهة.
ومن تأمل واقع الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وجدهم أصحاب القدح المعلى في تلقي الأوامر والنواهي بنفوسٍ مُسلِّمة، وقلوب مخبتة، ومستعدة للتنفيذ، ولا تجد في قاموسهم تفتيشا ولا تنقيباً: هل هذا النهي للتحريم أم للكراهة؟ ولا: هل هذا الأمر للوجوب أم للاستحباب؟ بل ينفذون ويفعلون ما يقتضيه النص، فأخذوا هذا الدين بقوة، فصار أثرهم في الناس عظيماً وكبيراً.
ولما طغى على الناس ـ في القرون المتأخرة ـ كثرة السؤال والتنقيب: هل هذا الأمر واجب أم مستحب؟ وهل هذا مكروه أم محرم؟ صار أخذهم لأوامر الله ونواهيه ضعيفاً، فصار أثر التعبد لله هزيلاً، والانقياد عسيراً.
أيها الإخوة الفضلاء:
إنني لا أنكر انقسام الأوامر إلى واجب ومستحب، ولا أنكر انقسام النواهي إلى محرم ومكروه، ولا يُنكر أن الإنسان قد يحتاج إلى تفصيل الحال ـ عند وقوع المخالفة ـ ليتبين حكم الله، وما يجب عليه من كفارة ونحو ذلك، لكن الذي يؤسف عليه: أن أكثر الذين يسألون عن هذا التقسيم، ليس مرادهم طلب العلم وتحرير المسائل، بل التملص، والتنصل من الامتثال، وإلى هؤلاء يتوجه الحديث في هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
إنني موقن ـ أيها الإخوة ـ أن من ربى نفسه على ترك كل ما ينهى عنه، وفعل كل ما يستطيعه من الأوامر، من غير تنقيب عن حال هذا النهي أو ذاك الأمر، بل يبادر تعبداً لله تعالى بتعظيم الأمر والنهي، فإنه سيجد لذة عظيمة في قلبه، إنها لذة العيش في كنف العبودية، وظِلِّ الاستكانة والاستجابة والخضوع لله رب العالمين.
أيها الإخوة:
ومن أعظم دلالات هذه القاعدة ـ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ـ أنها ترد على أولئك الذين يزعمون الاكتفاء بالقرآن فقط في تطبيق أحكام الشريعة، فهاهو القرآن ذاته يأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولن يكون ذلك إلا باتباع سنته، بل كيف يتأتى للإنسان أن يصلي، أو يزكي، أو يصوم، أو يحج بمجرد الاقتصار على القرآن؟!
وإلى هنا ينتهي ما أردنا الحديث عنه في هذه القاعدة القرآنية المحكمة، وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
_________________
(1) نقله السيوطي في الخصائص الكبرى (2 / 297). (2) الإبانة لابن بطة (3 / 59). (3) البخاري (4604)، مسلم (2125). (4) تاريخ دمشق (51 /271). (5) سير أعلام النبلاء (10/88). (6) تاريخ دمشق (8/436).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| |
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 5:57 | |
|
القاعدة السادسة والأربعون: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد بكم ومعكم في حلقة من حلقات هذه السلسلة: قواعد قرآنية، نقلب فيها شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، وثيقة الصلة بقضية مهمة في باب الصلة مع الله، ومع عباده، تلكم هي القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}[البقرة: 197].
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة، جاء ذكرها ضمن سياق آيات الحج، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
ويحسن قبل الشروع في مذاكرة هذه القاعدة، أن نوضح معنى الآية التي تضمنتها هذه القاعدة بإيجاز، فيقال:
1 ـ لما تقرر فرض فالحج، وذكرت بعض قبل هذه الآية ـ فيما يخص الإتمام والإحصار ـ بدأ الحديث عن جملة من الآداب والأحكام، ومنها: النهي عن الرفث "وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصا عند النساء بحضرتهن، والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام، والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة"(1) فـ"لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعلا، حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه عالم به، وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة"(2).
2 ـ وفي الإخبار بأنه ما من خير نفعله إلا وهو يعلمه سبحانه وتعالى، دلالة واضحة على أن هذا متضمن الإثابة على هذا، والحض عليه، وإلا فإنه سبحانه وتعالى يعلم الخير والشر، ونظير هذه القاعدة قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}[البقرة: 270].
3 ـ وفي قوله تعالى: {من خير} في سياق هذه الجملة الشرطية: {وما تفعلوا} دليل على شمول الآية لكل خير قليلاً كان أو كثيراً.
4 ـ ثم ختمت الآية بأمرين مهمين، تضمنهما قوله سبحانه وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}، ففي قوله تعالى: {وتزودوا} أي اتخذوا زاداً لغذاء أجسامكم، وغذاء قلوبكم -وهذا أفضل النوعين - لقوله تعالى: {فإن خير الزاد التقوى}، فلما رغب سبحانه وتعالى في التقوى، أمر بها طلباً لخيرها فقال تعالى: {واتقون يا أولي الألباب}، وإنما خوطب أصحاب العقول بهذا الخطاب ـ وهم أولوا الألباب ـ لأنهم هم الذين يدركون فائدة التقوى، وثمرتها؛ أما السفهاء فلا يدركونها"(3).
أيها المحبون لكتاب ربهم:
إن هذه القاعدة الجليلة، لتربي في المؤمن معاني إيمانيةٍ وتربوية كثيرة ـ وهو في سيره إلى الله والدار الآخرة ـ ولعلنا نلخص هذه المعاني فيما يلي:
أولاً: في هذه الآية ترغيب وحض على إخلاص العمل لله جلّ وعلا، وإن لم يطلع عليه أحد، بل إن الموفق من عباد الله من يحرص كل الحرص على إخفاء العمل عن الخلق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وفي ذلك من الفوائد والعوائد على القلب والنفس الشيء الكثير، ولابن القيم كلمات تكتب بماء الذهب في هذا المعنى، حيث يقول:
"وكم من صاحب قلب وجمَعية وحال مع الله، قد تحدث بها، وأخبر بها، فسلبه إياها الأغيار، فأصبح يقلب كفيه، ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله، وأن لا يطلعوا عليه أحداً، ويتكتمون به غاية التكتم، كما أنشد بعضهم في ذلك:
من سارروه فأبدى السر مجتهداً ***لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا وأبعدوه فلم يظفر بقربهم *** وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا لا يأمنون مذيعا بعض سرهم *** حاشا وِدادِهِمُ من ذلكم حاشا
والقوم أعظم شيءٍ كتماناً لأحوالهم مع الله، وما وهب الله لهم من محبته والأنس به، وجمعية القلب عليه، ولا سيما للمبتدئ والسالك، فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطيبة ـ التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه، بحيث لا يخشي عليه من العواصف ـ فإنه إذا أبدى حاله وشأنه مع الله ليقتدي به ويؤتم به؛لم يبال، وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله"(4).
ثانياً: ومن المعاني التي تربيها هذه القاعدة: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} في نفوس أهلها:
راحة النفس، واطمئنان القلب، ذلك أن المحسن إلى الخلق، المخلص في ذلك لا ينتظر التقدير والثناء من الخلق، بل يجد سهولةً في الصبر على نكران بعض الناس للجميل الذي أسداه، أو المعروف الذي صنعه! فإنه إذا يفعل الخير ويوقن بأن ربّه يعلمه علماً يثيب عليه، هان عليه ما يجده من جحود ونكران، فضلاً عن التقصير في حقه، ولسان حاله ـ كما أخبر الله عن أهل الجنة ـ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]. أعرف رجلاً مفضالاً، له شفاعات ووجاهات لنفع الخلق، وابتلي بأناس نسوا جميله، وتنكروا لمعروفه، بل شعر أن بعضهم طعنه من الخلف، أو قلب له ظهر المجن! فذكرتُ له هذا المعنى ـ الذي ندندن حوله ههنا ـ فاستراح كثيراً.
ومع ما تقدم ذكره، فإني أهدي لإخواني ـ الذين منّ الله عليهم بالإحسان إلى الخلق وابتلوا بجفائهم ـ هذا النص النفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية:، حيث يقول في كلام طويل له حول هذا المعنى، قال رحمه الله:
"ولا يحملنك هذا على جفوة الناس؛ وترك الإحسان إليهم؛ واحتمال الأذى منهم؛ بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم؛ وكما لا تخفهم فلا ترجهم؛ وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله؛ وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله؛ وكن ممن قال الله فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}[الليل: 17 - 20]. وقال فيه: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]" (5).
وقال في موضع آخر: موصياً من يتصدى لنفع الخلق: "وإذا أحسن إلى الناس فإنما يحسن إليهم: ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد من عليه بأن جعله محسناً، ولم يجعله مسيئاً، فيرى أن عمله لله وأنه بالله، وهذا مذكور في فاتحة الكتاب {إياك نعبد وإياك نستعين}... فالمؤمن يرى: أن عمله لله لأنه إياه يعبد وأنه بالله؛ لأنه إياه يستعين، فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكوراً؛ لأنه إنما عمل له ما عمل لله كما قال الأبرار { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]، ولا يمن عليه بذلك ولا يؤذيه، فإنه قد علم أن الله هو المان عليه إذ استعمله في الإحسان، وأن المنة لله عليه وعلى ذلك الشخص، فعليه هو: أن يشكر الله إذ يسره لليسرى، وعلى ذلك: أن يشكر الله إذ يسر له من يقدم له ما ينفعه من رزقٍ أو علمٍ أو نصر أو غير ذلك.
ومن الناس: من يحسن إلى غيره ليمن عليه، أو يرد الإحسان له بطاعته إليه، وتعظيمه أو نفع آخر، وقد يمن عليه، فيقول: أنا فعلت بك كذا، فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه، ولا عمل لله ولا عمل بالله، فهو المرائي، وقد أبطل الله صدقة المنان وصدقة المرائي... الخ"(6).
والمقصود ـ أيها القراء الكرام ـ أن من فهم ما ترشد إليه هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} أقدم على فعل الخير، وسهل عليه الصبر على تقصير الخلق وجفائهم؛ لأنه لا يرجو سوى الله، نسأل الله تعالى بمنّه وكرمه أن يرزقنا فعل الخيرات، والإخلاص لله تعالى في كل ما نأتي ونذر، والحمد لله رب العالمين.
________________
(1) تفسير السعدي (91). (2) تفسير ابن كثير (1/197). (3) ينظر: تفسير القرآن للعثيمين: (2/415). (4) بدائع الفوائد 3/847 (ط.عالم الفوائد). (5) مجموع الفتاوى (1/31). (6) مجموع الفتاوى (14/329).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| |
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 6:04 | |
| القاعدة الثامنة والأربعون: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ)
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فحياكم الله إلى هذه الحلقة الجديدة من حلقات هذه السلسلة: قواعد قرآنية، نتفيأ في هذه الحلقة ظلال قاعدة قرآنية محكمة، سارت مسار الأمثال، وهي أثر من آثار حكمة الله عز وجل في خلقه، تعين من تدبرها على رؤية الأمور بتوازن واعتدال، تلكم هي القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60].
وهذه القاعدة هي جزء من آية كريمة في سورة البقرة وسورة الأعراف، في قصة استسقاء نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لقومه، يقول تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60].
والمعنى الخاص الذي يتعلق بهذه الآية الكريمة، أن الله تعالى امتن على بني إسرائيل بأن جعل العيون التي انفجرت من ذلك الحجر اثنتي عشرة عيناً، بعدد قبائل بني إسرائيل، منعاً للزحام، وتيسيراً عليهم، ليعرف كل سبط من أسباط بني إسرائيل، فلما تحققت هذه المنة، اكتملت عليهم النعمة، بتنوع المآكل والمشارب من غير جهد ولا تعب، بل هو محض فضل الله ورزقه، وتمت عليهم النعمة بتنظيم أمرهم في الورود والصدور، فأصبحوا منظمين، لا يبغي أحد على أحد، ولا ينقص أحد حق أحد.
وهذا المعنى ـ الذي دلّت عليه هذه القاعدة ـ جاء ذكره في قاعدة أخرى لكن بلفظ مغاير، وذلك في قوله عز وجل: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] أي على طريقته وسيرته التي اعتادها صاحبها، ونشأ عليها. كما أن هذا المعنى الذي دلّت عليه هذه القاعدة جاءت السنة بتقريره كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له"(1).
والحاصل أن هذا المعنى جاءت الشريعة بتقريره بعبارات متنوعة، وجُمَلٍ مختصرة، وألفاظ مختلفة؛ ولهذا دلالته ومغزاه، من جهة أهمية تدبر هذه المعاني والإفادة منها في واقعنا، ولعلنا في هذه الحلقة نشير إلى أهم هذه التطبيقات التي حصل بسبب الإخلال بها بعض الآثار السيئة، وفات بسبب ذلك بعض المكاسب الطيبة، ذلكم هو ـ معشر الإخوة ـ:
أهمية معرفة الإنسان للمواهب والقدرات التي وهبه الله إياها، ليفعلها في المجال الذي تناسبه؛ إذ من المتقرر أن الناس ليسوا على درجة واحدة في المواهب والقدرات والطاقات، ولم يجتمع الكمال البشري إلا في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فمعرفة الإنسان لما يحسنه ويتميز به مهم جداً في تحديد المجال الذي ينطلق فيه ليبدع؛ ولينفع أمته، إذ ليس القصد هو العمل فحسب، بل الإبداع والإتقان.
ومن نظر في سير الصحابة رضي الله عنهم أدرك شيئاً من دقة تطبيقهم لمعاني هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} فمنهم العالم المتخصص، ومنهم المعروف بالسنان ومقارعة الفرسان، وثالث يبدع في ميادين الشعر والبيان.
ومن جميل ما يذكر في هذا المقام القصة التي رواها ابن عبدالبر في كتابه القيم "التمهيد"، ذلك أن عبدالله بن عبدالعزيز العمري العابد، كتب إلى الإمام مالك يحضه إلى الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك: إن الله عز وجل قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشرُ العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم له، والسلام(1).
وهذا الجواب من الإمام مالك لا يدل على علمه فحسب، بل على وفور عقله وسمو أدبه، وجودة بيانه عن هذه القضية التي تاه في تقديرها فئام من الناس.
وفي عصرنا هذا برز سجالٌ يشبه هذا نبه الإمام مالك على خطئ قصور النظر فيه، فإنك واجدٌ في مقالات بعض الناس الذين نفروا للجهاد في سبيل الله عتاباً ولوماً لبعض العلماء المتفرغين للتعليم ونشر العلم، طالبين منهم النفير والخروج إلى الجهاد؛ لأن الجهاد أفضل الأعمال، وأنه فرض الوقت،... في سلسلة من التعليلات التي يُصَدّرون بها هذا اللون من العتاب، ويقابل ذلك ـ أحياناً ـ عتاب آخر من قبل بعض المشتغلين بالعلم والدعوة بلوم هؤلاء المتفرغين للجهاد، ورميهم لهم بأن كثيراً منهم ليس بعالم، ولا يفقه كثيراً من مسائل الشرع، في سلسلة من المآخذ التي كان يمكن تهذيبها وتخفيف حدتها لو تأمل الجميع هذه القاعدة وما جاء في معناها، كقوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} وكالقاعدة النبوية الآنفة الذكر: "كل ميسر لما خُلق له".
يوضح هذا ويبينه قول النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيحين ـ: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبدالله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، قال أبو بكر الصديق يا رسول الله ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم وأرجو أن تكون منهم"(3).
قال ابن عبدالبر رحمه الله: "وفيه: أن أعمال البر لا يفتح في الأغلب للإنسان الواحد في جميعها، وأن من فتح له في شيء منها حرم غيرها في الأغلب، وأنه قد تفتح في جميعها للقليل من الناس وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من ذلك القليل"(4).
أيها القراء الفضلاء:
في الساحة نماذج كثيرة خسرت الأمة طاقاتهم بسبب الإخلال بما دلّت عليه هذه القاعدة، فهذا شاب مبدع في العلم، وآتاه الله فهماً، وقدرةً على الحفظ، وسلك طريقه في العلم، فيأتيه من يأتيه ليقنعه بالانخراط في العمل الخيري، وكأنه ـ وهو في طريق الطلب ـ في طريق مفضول، أو عمل مرجوح!
والعكس صحيح، فمن الشباب من يحاول في طلب العلم، لكنه لا ينجح ولا يتقدم، ويعلم مَنْ حوله أنه ليس من أهل هذا الشأن، فليس من الحكمة في شيء أن يطالب هذا الرجل وأمثاله بأكثر مما بذل، فقد دلّت التجربة على أنه ليس من أحلاس العلم، فينبغي توجيهه إلى ما يحسنه من الأعمال.. فالأمة بحاجة إلى طاقات في العمل الخيري، والإغاثي، والاجتماعي، والدعوي، وصدق الله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}.
وفيما أشرتا إليه في تنوع اهتمامات الصحابة رضي الله عنهم ما يؤكد أهمية فهم هذه القاعدة على الوجه الصحيح، حتى لا نخسر طاقات نحن بأمس الحاجة إليها، خصوصاً في هذا الزمن الذي تنوعت فيه الاهتمامات، وتعددت فيه طرائق خدمة الإسلام، ونفع الناس، والموفق من عرف ما يحسنه، فوظفه لخدمة دينه، وأمته، وفي الأثر: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"(5)، وكيف يتأتى الإتقان من شخص لا يحسن ما يعانيه ويعالجه!
هذه ـ أيها الإخوة ـ هي هدايات الوحي: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}، {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}، "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له"(6)، فهل نتدبرها ونستفيد منها، من أجل فاعلية أكثر لطاقاتنا؟
وإلى هنا ينتهي ما أردت الإشارة إليه في هذه الحلقة، والحمد لله رب العالمين.
________________
(1) البخاري (7112)، مسلم (2648). (2) التمهيد (7/185). (3) البخاري ـ في مواضع ـ منها: (3466)، مسلم: (1027). (4) التمهيد (7/185). (5) أخرجه أبو يعلى (7/349) ح (4386) وفي سنده ضعف، لكن معناه صحيح. (6) سبق تخريجه آنفاً.
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 6:10 | |
| القاعدة التاسعة والأربعون: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فحياكم الله إلى هذه الحلقة الجديدة، نتفيأ في هذه الحلقة ظلال قاعدة قرآنية محكمة، لها أثرها البالغ في تصحيح سير الإنسان إلى ربه، وضبط عباداته ومعاملاته وسلوكياته، ومعرفة ما يخفى عليه أو يشكل من أمر دينه، إنها القاعدة التي دل عليها قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]
وهذه القاعدة تكررت بنصها في موضعين من كتاب الله تعالى: الموضع الأول في سورة النحل، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 43، 44].
والموضع الثاني: في سورة الأنبياء، يقول سبحانه وتعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]. وكلا الآيتين جاء في سياق إرشاد الكفار ـ المعاندين والمكذبين ـ إلى سؤال من سبقهم من أهل الكتاب، وفي هذا الإرشاد إيماء واضح إلى أن أولئك المشركين المعاندين لا يعلمون، وأنهم جهال، وإلا لما كان في إرشادهم إلى السؤال فائدة.
وإذا تأملت ـ أيها القارئ الكريم ـ في هذه القاعدة مع سياقها في الموضعين من سورة النحل والأنبياء، خرجت منها بأمور:
1 ـ عموم هذه القاعدة فيها مدح لأهل العلم. 2 ـ وأن أعلى أنواعه: العلمُ بكتاب الله المنزل، فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث. 3 ـ أنها تضمنت تعديل أهل العلم وتزكيتهم، حيث أمر بسؤالهم. 4 ـ أن السائل والجاهل يخرج من التبعة بمجرد السؤال، وفي ضمن هذا: أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله، وأنهم مأمورون بتزكية أنفسهم، والاتصاف بصفات الكمال. 5 ـ كما أشارت هذه القاعدة إلى أن أفضل أهل الذكر أهلُ هذا القرآن العظيم، فإنهم أهل الذكر على الحقيقة، وأولى من غيرهم بهذا الاسم(1). 6 ـ الأمرُ بالتعلم، والسؤالُ لأهل العلم، ولم يؤمر بسؤالهم إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه. 7 ـ وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم، ونهي له أن يتصدى لذلك. 8 ـ وفي هذه القاعدة دليل واضح على أن الاجتهاد لا يجب على جميع الناس؛ لأن الأمر بسؤال العلماء دليل على أن هناك أقواماً فرضهم السؤال لا الاجتهاد، وهذا كما هو دلالة الشرع، فهو منطق العقل ـ أيضاً ـ إذ لا يتصور أحدٌ أن يكون جميع الناس مجتهدين.
أيها المحبون لكتاب ربهم:
مرّ بنا كثيراً في هذا البرنامج، أن المقرر في علم أصول التفسير: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها مثال لذلك، فهذه الآية وإن كان سببها خاصاً بأمر المعاندين أن يسألوا عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر ـ وهم أهل العلم ـ فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين: أصوله وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علمٌ منها وبها، فعليه أن يسأل من يعلمها.
وهذا من الوضوح بمكان، بحث لا يحتاج إلى استطراد، إلا أن الذي يحتاج إلى تنبيه وتوضيح هو ما يقع من مخالفة هذه القاعدة في واقع الناس، وخرقٍ للآداب التي تتعلق بهذا الموضوع المهم، ومن صور ذلك:
1 ـ أنك ترى بعض الناس حينما تعرض له مشكلة أو نازلة، واحتاج إلى السؤال عنها سأل عنها أقرب شخص له، ولو لم يعلم حاله، هل هو من أهل العلم أم لا؟ وبعض الناس يعتمد على المظاهر، فإذا رأى من سيماه الخير ظنّ أنه من طلاب العلم أو العلماء الذين يستفتى مثلهم! وكل ذلك غلط بيّن، ومخالف لما دلت عليه هذه القاعدة المحكمة: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}! ولا أدري، ماذا يصنع هؤلاء إذا مرض أحدهم؟ أيستوقفون أول مارٍّ عليهم في الشارع فيسألونه أم يذهبون إلى أمهر الأطباء وأكثرهم حذقاً؟ ولا أدري ماذا يصنع هؤلاء إذا أصاب سيارته عطل أو تلف؟ أيسلمها لأقرب من يمر به؟ أم يبحث عن أحسن مهندس يتقن تصليح ما أصاب سيارته من تلف؟ إذا كان هذا في إصلاح دنياه، فإن توقيه في إصلاح دينه أعظم وأخطر! قال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.
ومن صور مخالفة هذه القاعدة: 2 ـ عدم التثبت في الأخذ عن أهل الذكر حقاً، ذلك أن المنتسبين للعلم كثرٌ، والمتشبهين بهم أضعاف ذلك، ومن شاهد بعض من يظهرون في الفضائيات أدرك شيئاً من ذلك؛ فإن الناس ـ بسبب ضعف إدراكهم، وقلة تمييزهم ـ يظنون أن كلّ من يتحدث عن الإسلام عالمٌ، ويمكن استفتاؤه في مسائل الشرع! ولا يفرقون بين الداعية أو الخطيب وبين العالم الذي يعرف مآخذ الأدلة، ومدارك النصوص، فظهر ـ تبعاً لذلك ـ ألوان من الفتاوى الشاذة، بل والغلط الذي لا يحتمل، ولا يُقْبَل، وكثر اتباع الهوى وتتبع الرخص من عامة الناس، فرقّت أديانهم، وضعفت عبوديتهم، بأسباب من أهمها فوضى الفتاوى التي تعج بها كثير من الفضائيات.
وهذا ما يجعل الإنسان يفهم ويدرك جيداً موقع المقالات المأثورة عن السلف ـ رحمهم الله ـ في شأن الفتوى وخطورتها، وهي نصوص ومواقف كثيرة، منها ما رواه ابن عبدالبر رحمه الله: أن رجلاً دخل على ربيعة بن عبدالرحمن ـ شيخ الإمام مالك ـ فوجده بيكي! فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له! وظهر في الإسلام أمر عظيم! قال ربيعة: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق(2).
علّق العلامة ابن حمدان الحراني على هذه القصة فقال: "قلت: فكيف لو رأى ربيعة زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا مع قلة خبرته وسوء سيرته وشؤم سريرته؟ وإنما قصده السمعة والرياء ومماثلة الفضلاء والنبلاء والمشهورين المستورين، والعلماء الراسخين والمتبحرين السابقين، ومع هذا فهم يُنْهَون فلا ينتهون، ويُنَبّهون فلا ينتبهون، قد أملي لهم بانعكاف الجهال عليهم، وتركوا ما لهم في ذلك وما عليهم"(3) اهـ.
والمقصود من هذا البيان الموجز: التنبيه على ضرورة تحري الإنسان في سؤاله، وأن لا يسأل إلا من تبرأ به الذمة، ومن هو أتقى وأعلم وأورع، فهؤلاء هم أهل الذكر حقاً الذين نصت هذه القاعدة على وصفهم بهذا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
وختاماً.. فإن الحديث السابق لا يفهم منه ـ أبداً ـ أن جميع من يظهرون على الفضائيات كمن ذكروا آنفاً، بل فيمن يظهر ـ ولله الحمد ـ عدد طيب من العلماء الراسخين، والشيوخ المتقنين، لكن الحديث كان منصباً على طوائف من المفتين، ليسوا على جادة أهل العلم في الفتوى، وليسوا أهلاً لها: {ولتعرفنهم في لحن القول}، والله المستعان،وعليه التكلان، ونعوذ به سبحانه وتعالى أن نقول عليه أو على رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا نعلم، والحمد لله رب العالمين.
_______________
(1) ينظر: تفسير السعدي: (441، 519). (2) جامع بيان العلم وفضله - (2 / 201). (3) صفة الفتوى: (11).
| |
|
| |
بنوتة مزيزنة برونزى
عدد المساهمات : 126 تاريخ التسجيل : 13/09/2013
| موضوع: رد: قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) الثلاثاء 18 يونيو - 6:14 | |
| | |
|
| |
| قواعد قرآنية د.عمر بن عبد الله المقبل (ملف كامل وورد مكتوب) | |
|