بدعة الاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ محمد حامد الفقي
بدعة الاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ محمد حامد الفقي
بدعة الاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ محمد حامد الفقي
قد جاء في حب النبي صلى الله عليه وسلم من النصوص ما لا يحتاج إلى إيضاح ولا بيان، ورأس ذلك ما روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" وفي الحديث الآخر "حتى أكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه".
والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا لا يكون فرضاً فحسب، بل هو أحد أصلي الإيمان فإن مبنى الإيمان وأساسه: على حب الله وحب رسوله. فلن يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواها.
والحب حبان: حب وهمي خيالي، وحب يقيني حقيقي، أو حب كاذب، وحب صادق.
فالحب الوهمي الخيالي الكاذب: هو حب الجاهلين، الذين حرموا من العلم بمعرفة محبوبهم على حقيقته، وصفاته التي تميزه عن غيره.
والحب اليقيني الحقيقي الصادق: هو حب العارفين الذين أوتوا العلم بمعرفة محبوبهم وصفاته، وخصائصه التي تميزه عن غيره، تمييزاً لا يقع معه وهم ولا اشتباه.
ولطالما كان الحب الوهمي الخيالي هذا باب من أوسع أبواب الشيطان التي يدخل منها في القلب الزيغ والإلحاد والكفر والشرك؛ ويقلب هذا الجاهل من حيث لا يشعر ألد أعداء من يدعي حبه، وأشد الناس بغضاً له، ولصفاته ولخصائصه التي امتاز بها عن غيره.
والمثل قائم ملموس في النصارى الذين يزعمون ويقسمون جهد أيمانهم أنهم أشد الناس حباً للمسيح عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه، ونحن وكل عاقل لا يمتري طرفة عين في أنهم أبغض الناس لعيسى، وأشد الخلق كراهية له، ولصفاته التي ميزه الله تعالى واختصه بها. ذلك أنهم جهلوا عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وجهلوا حقيقته وما امتاز به؛ فكانوا من الضالين المضلين.
وما جرهم الشيطان إلى الغلو في عيسى وأمه، وقسيسهم ورهبانهم إلا بزمام هذا الحب الوهمي الخيالي الكاذب، وما زال يقذف في قلوبهم من الأوهام والخيالات الكاذبة حتى قالوا إنه ابن الله، وإنه الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، أشركوهم معه في العبادة والتشريع، وسبحان الله وتعالى عما يقول أولئك الظالمون علواً كبيراً.
ولا يشك عاقل في أن المسيح الذي يدّعون له هذا الحب الوهمي الكاذب إنما هو شخص خيالي وهمي أيضاً لا حقيقة له في الوجود أصلا، وصورته في رءوسهم الخاوية، ورسمته في قلوبهم المظلمة الجاهلة يد الشيطان عدو عيسى، وعدو الأنبياء، وعدو الإنسان المبين.
فإنه يستحيل كل الاستحالة أن يكون لمسيح موصوف بالبنوة لله، وبصفات اللاهوتية المزعومة: وجود ولا حقيقة في خارج هذه العقول السخيفة ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 88 - 95].
أما عيسى الحقيقي: عبدالله ورسوله، الذي جعل الله ولادته آية على عظيم قدرته سبحانه، ومعجزة لإبطال ما ادعوه في ذلك العصر من التبحر في الطب، حتى فُتنوا وفَتنوا الناس بذلك.
هذا النبي الذي هو عيسى بن مريم، الذي لم يقل لهم إلا ما أمره به الله: ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ [المائدة: 117] و﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ﴾ [آل عمران: 50، 51] فإن النصارى اليوم أشد عداوة له من اليهود، وهم أشد عيباً له وشتمًا ممن رمى أمه السيدة الطاهرة مريم بالمنكر والزور. ولو أنه عاد اليوم لكان أول من يحاربه ويرفع السيف في وجهه هؤلاء النصارى الواهمون الكاذبون في حبه، ولكان أول من يقتل عيسى عليه السلام أولئك النصارى الضالون المضلون.
وأنت تراهم مع ذلك قد أكثروا من الأعياد والذكريات لحوادث المسيح وأمه ولكل شأن من شؤون المسيح وأمه وللرهبان والقسيسين من المنتسبين إلى المسيح، والزاعمين أنهم يحبون المسيح، فلا يكاد ينتهي شهر إلا وفيه عيد أو أكثر، يفعلون في تلك الأعياد أقصى ما يستطيعون، ويبذلون من الأموال في تلك الأعياد؛ ويطعمون من الأطعمة الخاصة باسم تلك الأعياد، ويوقدون من السرج، ويشعلون من الشموع، ويقيمون من الزينات ومعالم الأفراح، ابتهاجا وسرورا بتلك الأعياد والذكريات أقصى ما يستطيعون. وقد جعلوا لكل من تلك الأعياد طقوسا يرتلون فيها التراتيل، ويترنمون فيها بالصلوات والمزامير، ويجتمعون لها في الكنائس والمعابد والبيوت والمجامع، وهي - عندهم أهم عناصر دينهم وأقرب قرباتهم.
وأجلى مظاهر حبهم للمسيح ابن مريم، وإجلالهم له ولدينه وشرعته وهي - زعموا خير طريق يسلكونها إلى مرضاة عيسى ومرضاة الله، ليبلغوا بها إلى جنات الآخرة التي يقولون إنها مقصورة عليهم، حرام على غيرهم؛ ولن يدخلها إلا من كان نصرانياً على عقيدتهم هذه، وأعيادهم هذه، وذكر أناتهم للمسيح وأمه، والقسيسين والرهبان.
وإن كان هذا - في الحقيقة إنما هو إجلال وتعظيم للمسيح الخيالي الذي لا وجود له إلا في أوهامهم، وهو خصومة عنيفة وبغض شديد؛ ومبارزة بالعداء واللدد لعيسى ابن مريم عبد الله ورسوله؛ ومحادة له، ولشرعته ودينه، وإزراء عليه وعلى ملته؛ وتكذيب فاحش له، وتوقح شنيع في الرد لما جاء به من الهدي والإيمان وما دعا إليه من العلم والحكمة، وإخلاص الدين والعبادة لله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وإن تاريخ القسيسين وبتاركة النصارى ليحدثنا عن الدماء التي أريقت والنفوس التي أزهقت في نيقة، وأفسيس؛ وفي الإسكندرية وغيرها في سبيل ذلك العداء المستحكم لعيسى ولدين عيسى ولشرعة عيسى عليه السلام. إذ كان أولئك الذين أبيحت دماؤهم وتحولت شوارع المدينة أنهاراً تجري بتلك الدماء إنما كانوا يحاولون رد فرية البنوة لعيسى، والقضاء على ما ابتدع في شريعته من كفر وإلحاد؛ والإبقاء على تلك الملة سليمة من هذه الأباطيل المحدثة؛ والعقائد الفاسدة. فكان جزاؤهم ما لقوا من أعداء عيسى الذين لسبوا خدعة وغشاً ثوب محبته؛ وتراءوا بإكباره وإجلاله؛ ليرتقوا به من العبودية إلى الربوبية، ويقولون فيه ما تكاد السماوات تتفطر منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً.
ولقد كان لليهود في إفساد دين عيسى بن مريم وإزاغة النصارى عنه أكبر الأثر لأنهم أقسى الناس قلباً؛ وأبعدهم عن الرحمة والخير، وأعظمهم بغضاً للأنبياء ولكل قائم بالقسط بين الناس ولكن اليهود مع هذا على طول الزمن قد تأثروا أيضاً بما كان سلفهم قد دسه في النصارى، وشرع لهم أحبارهم أعياداً يضاهئون بها أعياد النصارى لما رأوا ما تجره هذه الأعياد من منافع مادية على القسس والرهبان، فابتدع أحبار اليهود لعامتهم مثل هذه الأعياد، وأخذوا يستغلونها لجر المنافع المالية، والرياسات الدنيوية، وجرى كلتا الأمتين - الغضبية والضلالية - على ذلك.
وقد كان لمشركي العرب، وعبدة الكواكب والمجوس والهنود وغيرهم في الجاهلية أعياداً وذكرانات ومواسم لآلهتهم، أعتقد أنها كانت القدوة الأولى التي عمل اليهود على جر النصارى إليها، والمنبع الأول الذي اقتبس منه اليهود ما أفسدوا به ملة عيسى بن مريم. كما أن اليهود والنصارى جميعاً إنما أخذوا عقيدة بنوة عزير، والمسيح لله عن البوذيين، والبراهمة الهنود والصينيين. وعن عقيدة مشركي المصريين القدماء الذين كانوا يزعمون أن فرعون ابن السماء، أو ابن (رع) الشمس؛ أو ما إلى ذلك. وقد قال الله تعالى ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30].
وكن على ذكر من أن هؤلاء جميعاً إنما كانوا يقيمون تلك الأعياد ويحتفلون بها وينحرون ويطعمون، ويلهون ويلعبون، قصداً أولا إلى تعظيم من جعل له العيد من معتقديهم من البشر وغيره، صالحيهم وغير صالحيهم، وقصدا ثانيا إلى التقرب إلى الله بإحياء ذكريات أحبابه وأوليائه، وأن ذلك يحبه الله ويثيب عليه إكراما لأولئك الأحباب والأولياء، وأن ذلك دين ورثوه عن الآباء والأجداد، والقسس والأحبار والرهبان، وهم أعرف بالله وأوليائه وأحبابه ومحبوباته وما يقرب إليه من كل أحد، وأنه لا حق لأحد أن يسألهم من أين جئتم بهذا، ولا عن أي دليل أو حجة عليه، وإلا كان مطروداً من رحمة الله، مشلوحا من الدين والعقيدة، بل ومن الجنة أيضا، وما على الناس إلا أن يكون مثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون وإلا سدت في وجوههم أبواب الرحمة التي مفاتيحها بأيدي أولئك الأحبار والرهبان، وأغلقت دونهم أبواب السماء التي لا تفتح إلا بواسطة أولئك القسس والبتاركة والرؤساء المحتكرين للدين، بل وللجنة والآخرة، وكان عدواً لله ملعونا من السماء، لأن بتاركة الأرض لعنوه، وعدواً لأولئك الأحباب الذين تقام تلك الأعياد باسمهم، والتي يتخذها أولئك الأحبار والرهبان شبكة لصيد لمال والرياسة على حساب أولئك الذين ماتوا؛ ولا يستطيعون الآن لتلك الأكاذيب والأباطيل والدجل والنصب والاحتيال رداً.
وما كفاهم تلك البدع الخبيثة التي نشروها وحملوا الناس عليها بمختلف الأسباب والأساليب؛ بل عمدوا إلى ما يردها من النصوص؛ أو يشي إلى بطلانها - ولو من طرف خفي - فحرفوه عن موضعه أو غيروه واستبدلوه بغيره من عند أنفسهم يكتبونه بأيديهم ويقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله. فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
وما زال الشر يتمادى بأولئك المبدلين لدين الله؛ المحرفين لكتبه، المحاربين لأنبيائه، المزيغين للعقائد المشترين بآيات الله ودينه ثمناً من حطام الدنيا ومتاعها قليلا يملأ الله به بطونهم ناراً وسعيرا؛ ومازالت دائرة كفرهم وفسوقهم تتسع، وشرر زيغهم يتطاير؛ حتى أشعل في العالم نار الفتنة؛ وعم الأرض والناس بذلك جاهلية استحكمت مخالبها في قلوبهم، ووثنية ضربت على ربوعهم ونفوسهم، وظهر الفاسد في البر والبحر بما كسبت أيدي هذه الطغمة المحتكرة لرحمة الله وفضله، وثوابه وجنته، ومن تبعهم على ذلك ومالأهم على ظلمهم واستبدادهم وطغيانهم؛ وانتشر ظلام هذه الجاهلية الجهلاء حتى أصبح في ليل بهيم من عمى القلوب والبصائر.
وآن أوان نزول الغيب من عند الله، وانبثاق نور الهداية التي يخرجهم الله بها من تلك الظلمات إلى النور، وينقذهم من الضلال إلى الهدى، ويفك عنهم أغلال أولئك الظالمين الطاغين، ويهديهم سبيله المستقيم الذي يستحيل على الله أن يجعله احتكارا بيد شيخ أو حبر أو قسيس، وكشف عن مخازي وجرائم أولئك الزاعمين أنفسهم خزان رحمة الله، وعرفنا أنهم أبعد الناس عن رحمة الله، وأشقى الناس بعذاب الله وغضبه وشديد عقابه.
وما تنزّل ذلك الغيث الرحماني إلا على قلب خاتم الأنبياء وأشرف المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وما تفجرت ينابيع الحكمة والرحمة إلا على لسان ذلك الرسول الأكرم، فأحرقت شهبها شياطين الدجل الديني، وطواغيت الخرافات والعقائد الزائفة، وبددت مصابيحها غياهب تلك الظلمات، وجلت عن القلوب صداها، وأعادتها إلى صفائها الفطري، فعرفت ربها وبارئها، وخلصت له دينها وذلها، وأسلمت له وجهها في طاعة وانقياد، لا استدراك ولا تكعكع، وسارعت إلى مغفرة الله ورضوانه، وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
مهد الله تعالى لانبثاق هذا النور المحمدي بمقدمات نبهت العقول إلى قرب مجيئه وأعدت النفوس وهيأتها لتلقيه بما هو أهل من التصديق والإذعان، والإجلال والإعظام والإكبار.
فكان حدث أبرهة مع جيشه الكثيف؛ وفيلته العظيمة، وإجرامه الفظيع في محاولة هدم بيت الله العتيق؛ وعجز قريش وجيران قريش، وإخلافهم عن صده ورده ولجوئهم وفزعهم إلى الله على لسان شيخ قريش عبد المطلب؛ إذ تعلق بأستار البيت ونادي ربه:
لا هُمَّ إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
فمنع الله بيته، ورد كيد عدوه في نحره ﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 3 - 5] و لا كرامة لقريش ولا نصرة لهم ولشيخهم، فلم يكونوا بشركهم ووثنيتهم الفاجرة، وتلويثهم البيت الذي طهره إبراهيم للطائفين والعاكفين والركع السجود بما نصبوا عليه وحوله وبداخله من صور وتماثيل آلهتهم التي اتخذوها من دون الله، وإنما كان ذلك إكرامًا وتمهيداً لذلك المولود الكريم الذي سيولد في هذا العام الولادة الأولى البشرية، فيكون المثل الأعلى في طفولته لتربية النشئ على الطهر والعفاف، وعزة النفس وصيانتها عن كل ما يتسفل بها إلى درك الصغار والفساد. والذي سيولد الولادة الثانية الروحية العلمية الرسالية، فيحمي الله به هذا البيت العتيق؛ ويطهره من تلك الأرجاس الشركية؛ ويدفع عنه الهدم المعنوي الذي هدم وقوض من أركانه الدينية بما ألصقت به قريش من صور وتماثيل أوليائهم الذين ﴿ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [النحل: 20، 21].
فأبرهة كان يريد هدمه الحسي بنقض أحجاره، وقريش كانت تهدمه الهدم المعنوي، وتخربه الخراب الديني، فحماه الله من أبرهة عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم ليؤذن قريشا بفضل ذلك المولود العظيم الذي سيحيي الله به بيته العتيق من هدمهم المعنوي ويعمره بالإيمان بالله وإقام الصلاة والطواف لله وحده والعكوف عنده لله وحده لا شريك له.
وقرن الله تعالى بميلاد ذلك المولود العظيم آيات بهرت العقول، إرهاصاً بنبوته، وإعلاماً بجلالته، وإيذاناً بفضيلته. وجعله يتيما لم ير أباه حتى يكون الفضل في كفالته وتربيته وإيوائه لله وحده، ليصنع على عين الله، يصاغ في القالب العقلي والفكري الذي يؤهله لوظيفة خاتم المرسلين وأتقى المتقين وأعلم العالمين بالله رب العالمين، وسيد الداعين؛ وأصبر المجاهدين، وخير أولي العزم من الأنبياء الصادقين، وأفضل قدوة وأحسنها للمهتدين إلى صراط الله المستقيم.
فهو في ولادته الأولى: محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي العربي: بشر، ولد كما يولد البشر؛ وطعامه وشرابه ومحياه ومماته ككل إنسان ﴿ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ [المؤمنون: 33] وقد قال الله الذي شهد خلق رسول الله وتكوينه وخلق السموات والأرض وخلق أنفس الناس وكل شيء ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾ [الكهف: 110] [فصلت: 6] ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 34] ﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 9] ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30] ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ [آل عمران: 144].
لقد حدّث النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بنفسه من كل إنسان مهما أوتى من علم - "إنما أنا بشر، فلعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته فأقضى له" "إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله؛ فقولوا عبد الله ورسوله".
ألا فاشهدوا بأني آمنت بقول الله عن رسوله وبشريته، وقول الرسول عن نفسه وعبوديته، وكفرت بكذب أعداء الرسول القائلين على الله وعليه بغير علم ولا هدى ولا نور: إنه أول خلق الله كلهم؛ وأنه النور الذي منه خلق الله كل شيء، وأنه نور عرش الله، وأنه مكتوب على ساق العرش، وأنه وأنه... من تلك الأباطيل التي دسها اليهود وإخوانهم وافتروها على الله ورسوله؛ وموهوا بها على الجاهلين ليصلوا منها إلى تكذيب القرآن فيما أخبر عن بشرية الرسول التي يماثل فيها جميع البشر، وإلى تكذيب الرسول الذي يخبر عن نفسه بما يرد افتراءات أولئك الزائغين الضالين، وإن زعموا وزعم لهم شياطينهم أنهم أشد الناس حباً للرسول وتعظيما للرسول؛ فما مثلهم إلا كمثل النصارى مع عيسى سواء بسواء، حذوك النعل بالنعل، فكن على بيّنة من أمرك، واحذر أن تكون مع الجاهلين المفتونين المخدوعين عن دينهم ونبيهم بخرافات وجهالات عششت وباضت وفرخت في رءوسهم وقلوبهم فحجبتها عن نور العلم النبوي؛ والهدي المحمدي الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأفلح به أصحابه الصادقون والتابعون المقتدون والأئمة المهتدون والعلماء العارفون؛ ولم يخطر مع هذا ببال واحد منهم تلك الفرى الكاذبة؛ فإن ما أوتوا من علم وإيمان رد عنهم كيد شياطين الإنس والجن، فلم يستطيعوا أن يدسوا في رءوسهم تلك الخزعبلات والجهالات، وأغناهم في معرفة الرسول وإجلاله وتفديته بأنفسهم ما أفادهم من العلم والإيمان؛ وما أنقذهم من شرك ووثنية. ولقد كانوا من قبل لفي ضلال مبين. أولئك قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ونصرة دينه ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام: 90].
نعم. محمد صلى الله عليه وسلم بشر في خلقه؛ بشر في ولادته؛ بشر في طعامه وشرابه، بشر في محياه ومماته، ولكنه لا يستطيع عاقل - فضلا عن مسلم - أن ينكر أو يجحد أنه أعلى أنواع البشرية في كل خصائصها ومزاياها. فروحه أطهر الأرواح، وعقله أكبر العقول؛ ونفسه أزكى النفوس، وفطرته أسلم الفطر، وتفكيره أوسع أفقاً من كل تفكير وفطنته أنبه الفطن؛ ورجولته أكمل رجولة، وشجاعته أقوى شجاعة، وقوته أشد قوة وقلبه أبر القلوب وأرحمها.
وبالجملة فكماله البشرى لم يكن ولن يكون له فيه مساو ولا ضريب ولا مثيل. وليس في ذلك مثقال خردلة من غلو. فقد أخبر الله أنه على خلق عظيم و﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124] وأنه صنع موسى على عين عنايته ورعايته، فأولى سيد الأنبياء وخاتم المرسلين. وحدثتنا سيرته صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم عن كل ذلك وعن خير من ذلك.
ولد محمد صلى الله عليه وسلم الولادة الثانية الروحية المعنوية، النبوية العلمية؛ بعد انقضاء أربعين سنة من عمره الشريف.
في ليلة القدر من ليالي شهر رمضان المعظم؛ بينما محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء يتحنث والتحنث الابتعاد عن المآثم وما يوجب الحنف والعصيان وقد فر من مكة ومجالسها ومجامعها؛ ومن أهل مكة ووثنيتهم وجاهليتهم، وأخلاقهم الفاسدة وسيرتهم المعوجة حيث لا يجد عنده من العلم ما يستطيع أن يرشدهم به، ولا من الدين الحق ما يقدر أن يرجعهم به عن غيهم وكفرهم. فلم يجد لنفسه الحائرة، وقلبه المفعم بالآلام لحال مكة وسكانها وجيرانها الأقربين والأبعدين؛ إلا البعد عنهم حتى لا يرى ما يزيد في لهيب تلك الآلام في نفسه، ويضاعف الهموم والأحزان التي أقضت مضجعه ومنعته لذة العيش في ذلك الوسط المشرك.
وهكذا النفوس الطيبة، والأرواح الطاهرة لا يهنأ عيشها، وتنعم بالحياة في الأوساط الفاسدة، فإما أن تبذل النصح وتعمل على الإصلاح، وإما أن تهجر ذلك الوسط وتفر منه، ولو إلى الكهوف والغيران؛ تنعم بوحدتها، وتأنس بالطبيعة الساكنة ما فيها من المخلوقات الصامتة ترى يها آيات الله؛ وخضوع العبودية ما لا تراه من الإنسان الخصيم المبين لربه ونفسه.
في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر مضت على العالم في ظلمة الجهل الحالكة، وشقاء الوثنية الطاغية - تمخضت هذه الليلة عن ولادة النبوة؛ وتكشفت عن السراج المنير الذي ملأ الدنيا نورا وهدى ورحمة.
في ليلة القدر هذه بينما محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء، غارق في بحار التفكير في خلق السموات والأرض؛ وفي قومه والناس جميعا وضلالهم، وفي نفسه وحيرتها أمام هذه الطرق الملتوية، والسبل المعوجة المظلمة التي يسلكها الناس إلى ربهم، وفطرته تأبى له أن يسلك شيئاً من مسالكهم ولا ترضى لهم تلك المسالك، وتحاول السمو إلى معرفة المسلك القويم والصراط المستقيم، إذ فجأه الحق، فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ، فإني أمي لم أتعلم القراءة ولا الكتابة؛ وأين من القراءة والكتابة ناشئ قضى كل أوقات الصلاح للتعليم في رعاية الغنم بين جبال مكة وفي صحراء جزيرة العرب التي يقل فيها النبت والمرعى؟ فأخذه الملك وضمه إليه ضمة بلغت منه الجهد، وعصره عصرة كادت روحه تزهق معه. ثم خلاه، فقال: اقرأ. فقال:ما أنا بقارئ، لقد أسمعتك أني لست بقارئ؛ وأعلمتك أني لا أقرأ، فكيف تأمرني بعدها بالقراءة؟ فأخذه وضمه الثانية أشد من الأولى، ثم خلّاه وقال له: اقرأ؛ فقال: ماذا أقرأ؟ علمني الذي أقرأه؛ فماذا تريدني أقرأ؟ فضمه الثالثة أشد من الأوليين، ثم خلاه وقال له: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].
فأخذه الدهش لتلك الفجاءة مع تلك العصرات الشديدات البالغات، فارتجف فؤاده، ورعدت فرائصه؛ وأسرع الأوبة إلى السيدة الطاهرة البرة الكريمة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وقد كانت تنتظر تلك الساعة بفارغ الصبر، وتعد الأيام والليالي لها، لما كانت ترى على زوجها الكريم من مخائل النبوة؛ ولما كانت تسمع من ابن عمها ورقة من صفات النبي الخاتم الذي بشّر به عيسى بن مريم، وكانت لا تراها متمثلة إلا في زوجها الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
[/center
[center]جاءها وهو على تلك الحال من الدهشة والرجفة، وقال "زملوني زملوني" وأخذ يستعرض مفاجأة جبريل بمفتاح الهداية، ومصباح النور الذي طالما تشوفت إليه نفسه التائهة، وقلبه الحائر، وأنه بذلك قد آن لنفسه أن تطمئن إلى هداية الله بذلك الوحي والقرآن له وللناس، وآن لقلبه أن يستريح من حيرته المضنية العنيفة إلى روح الله ونوره الذي يهدي به من يشاء إلى صراط مستقيم.
وأخذ يستعرض حال القلوب ما استحكم عليها من أغلال الجاهلية والهوى، والتقليد الأعمى للآباء والأجداد. وهل من الممكن لذلك المفتاح الذي وضعه الله في يده أن يطلق القلوب من هذه القيود ويفتح هذه الأغلاق؟ إن ذلك لمن أشق الأمور وأحوجها إلى أقوى الجهود. لذلك ضمه جبريل إلى تلك الضمات إشارة إلى ما في ذلك الحمل الذي حمله الله إياه من ثقل ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5] وما سينال فيه من مجهود شاق؛ وجهاد عنيف.
ثم هدأت نفسه بعد ذلك الاستعراض، واطمأنت إلى قول خديجة رضي الله عنها "كلا لن يخزيك الله أبداً" ووقر في نفسه يقين بأن الذي حمَّله ذلك الحمل الثقيل هو القوي العزيز؛ وأنه لا بد ناصره ومعينه بقوته وتوفيقه.
كان ذلك مبدأ الولادة الثانية لمحمد فكان رسول الله؛ وخرج من ظلمات الحيرة التي طالما ضاق بها صدره، ووضع عن كاهله ما كاد ينقضه من هموم التفكير الطويل في طريق الوصول إلى الله، والتفكير المضني في إنقاذ أولئك المساكين الذين أشقتهم وثنيتهم وجاهليتهم.
ثم مازال الوحي يترى، والنبوة تنمو؛ ونور الهدي والفرقان تتسع آفاقه حتى تمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم. وأتم الله نوره على كره من الكافرين. وجعل كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم. وأنزل ختام ذلك وآية تمامه. وبلوغه الحد الذي لا مزيد عليه في الخير والهداية ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
وإن هذه الولادة الثانية لأجل قدراً وأعظم خطراً في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس المؤمنين والعقلاء من الولادة الأولى، بل إنه لا نسبة بينهما بحال. فلقد لبث بعد الولادة الأولى عمراً طويلا هو أربعون سنة محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي العربي لا يتلو شيئا من آيات الله ولا أن يعلم أحداً، ولا يستطيع أن يزكي نفسه من أرجاس الشرك والوثنية. قال الله تعالى ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [الشورى: 52] وقال ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ [العنكبوت: 48، 49].
وقال ﴿ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [يونس: 16] وقال ﴿ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [يونس: 16].
فما كان الفضل الأعظم، والرحمة العامة الشاملة؛ والهداية التي أخرجت الناس إلى النور من محمد بن عبد الله، وإنما كانت من محمد رسول الله،. وما كانت هذه الرسالة إلا بعد تلك الولادة الروحية الثانية؛ والتي كانت ليلة القدر من شهر رمضان بعد بلوغه سن الأربعين.
فلئن كان شيء من هاتين الولادتين جديراً بالتذكير والإحياء، فهي الولادة النبوية لا الولادة البشرية. وأنه لمن أوجب الفروض إحياء هذه الذكرى في قلب المؤمن ونفسه وبيته ومتجره ومصنعه ونظام معيشته وإدارة شئونه العامة والخاصة.
وإن من أقوى أسباب سعادة الأمة أن تحيي هذه الذكرى في حكومتها ونظامها وإدارتها وقضائها؛ وملكها وجميع شئونها الاقتصادية والسياسة والدولية. ولن يكون ذلك الإحياء بالاحتفال يوما معينا أو ليلة واحدة من السنة. لا وإنما يكون ذلك في كل وقت ولحظة؛ وفي كل عمل وشأن، تبقى هذه الذكرى النبوية ألزم للإنسان من طعامه وشرابه؛ لا تبرح قلبه ولا تخرج من نفسه، لتكون هي المقومة لعمله، والمهذبة لخلقه، والهادية له في شئونه كلها إلى الصراط المستقيم وطريق الرشاد القويم.
هذه الذكرى الروحية تتصل بالروح والأخلاق والآداب لا بالظواهر الفارغة من شموع تضاء وخيام تنصب، ،وطبول وزمور. فإن هذه الولادة الروحية تمقت أشد المقت تلك المظاهر الفارغة.
ولقد وفق الصحابة والتابعون والأئمة المهتدون وسلفنا الصالحون رضي الله عنهم إلى الانتفاع بهذه الذكرى المجيدة، وأحلوا من نفوسهم المحل الأرفع إيمانا، وهداية، إطاعة لله ولرسوله وأخلاقا كريمة، وشدة على الكفار وتراحم بينهم، وركوعا وسجوداً وأمرا بالمعروف ونهياً عن المنكر، وعدلا وإنصافا، وصدقا وبرا. فكانوا بهذه الذكرى خير أمة أخرجت للناس.
وأعرضوا كل الإعراض عن ذكرى الولادة البشرية، فلم يحتفلوا لها ولم يقيموا لها وزنا. لأنهم يعلمون أن في شهر ربيع الأول كانت الولادة البشرية. وفيه كانت الوفاة البشرية. فأي الحادثتين يذكرون؟ أما الولادة الروحية فلم تنقطع ولم تقبر، ولن تقبر، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ولا يزال فضلها وخيرها يعم أهل الأرض غضاً طريا كأول شأنها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم البشرية.
والذكريات تحفز المحتفل إلى تعرف خصائص ومزايا هذه الذكرى. وتحضه على البحث والتنقيب على ما امتاز به المحتفل بذكراه واختص به عن غيره. وتدوين تلك المزايا ونشرها وبثها في الذكرى وفي الناس ليكون لهم منه قدوة نافعة، وأسوة حسنة والمذكر يجتهد في أن يصور تلك الذكرى بأقصى ما يستطيع وأروع ما يقدر ليكون لها في النفوس الأثر الذي يريده.[/center
فالصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم لشدة حرصهم على ذكرى الولادة النبوية الروحية يبذلون أقصى ما يستطيعون في حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة أخلاقه النبوية، وآدابه الرسولية، وينشرونها في الناس، ويتحملون في سبيل نشرها في نواحي العالم أشق الجهود وأبعد الأسفار. وما زالوا كذلك يفعلون حتى ملأوا الأرض بالهدى النبوي وعمت رحمة الله في مشارق الأرض ومغاربها، بفضل أولئك الذين كانوا يعرفون محمدا رسول الله، لا محمدا البشر العربي. ويعرفون رسالته، لا جسمه ويعرفون نور هداية نبوية وإشراق صحيفة ملية، لا نور عينيه، لا بياض وجهه وخديه.
ثم أتى من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. وعميت بصائرهم عن ذكرى النبوة، فدس لهم أعداؤهم من اليهود والنصارى فتنة الاحتفال بذكرى البشرية وعظموها في نفوسهم، وشغلوهم بها كل الانشغال حتى لتكاد تعتقد أنها عندهم كل شيء. فيتكلفون لها الأمور التي لا تعرف. ويتحدثون عنها، ويؤلفون فيها ما لا يرضاه مسلم عاقل عن نبيه صلى الله عليه وسلم فمن قصائد تشبيب وغزل، ومن وصف لحمرة خديه؛ وسواد عينيه، وطول أهدابه، ووصف لفمه ولبطنه، ولكذا وكذا. وتفننوا ما اشتهت نفوسهم المنحطة في وصفه صلى الله عليه وسلم حتى ليظن السامع والقارئ أنهم إنما يصفون امرأة حسناء، لا نبياً هو أفضل خلق الله وأشرف رسل الله، ولا إماما هو خير الأئمة شجاعة ومروءة وكرم أخلاق وسخاء نفس، ولا مجاهدا في سبيل الدعوة إلى الله. كان أكمل الأمثلة الصالحة للمجاهدين الصابرين المحتسبين الذين لا يخطر لهم ببال حظ أنفسهم ولا شهوة هواهم، وإنما ملك نفسه حب الله وحب دين الله، وحب الخير للناس أن يكونوا محبين لله ومحبين لدين الله ومهتدين بهدي الله.
فما أسمج تلك القصص التي يسمونها "موالد" وما أبعدها عن دين الله، وما أعظم شرها في تذكير الناس برسول الله، وما أشدها فتكًا بدين الله، وما أقبحها في تنفير الناس من محمد رسول الله الهادي إلى سواء السبيل، وتعشيقهم لمحمد الحلو الجميل أحمر الخدود، وأسود العيون، وممشوق القد، ونحيل الخصر. بئسما صنعت وتصنع؛ وبئسما كانوا يصنعون.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
قال ابن إسحاق: فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد من كرامته ورسالته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم حسبا وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً وأعظمهم أمانة وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما حتى سماه قومه الأمين.
وذكر أبو نعيم في دلائل النبوة؛ وغيره من أهل السير والتاريخ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال "حدثتني أم أيمن - حاضنة رسول الله صلى الله عليه سلم قالت: كان لقريش صنم تحضره وتعظمه؛ وتنسك له النسائك - أي تذبح له الذبائح- ويصنعون له الطعام كما يصنع الناس اليوم في الموالد من ذبائح وأطعمة - ويحلقون رءوسهم عنده، ويعكفون عنده يوما إلى الليل. وذلك يوم في السنة. وكان أبو طالب يحضره مع قومه، وكان يكلم رسول الله أن يحضر ذلك العيد مع قومه، فيأبى رسول الله. حتى رأيت أبا طالب غضب عليه أسوأ الغضب فيقول: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا؛ وجعلنا نقول: ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيداً، ولا تكثر لهم جمعاً قالت: فلم يزالوا به حتى ذهب؛ فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع إلينا مرعوبا. فقلن عماته: ما دهاك؟ قال: إني أخشى أن يكون بي لمم. فقلن: ما كان الله عز وجل ليبتليك بالشيطان. وفيك من خصال الخير ما فيك. فما الذي رأيت قال: إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد، لا تمسه. قالت أم أيمن: فما عاد إلى عيد لهم".
لقد كان هذا في طفولته صلى الله عليه وسلم، فأبى عليه ربه أن يحضر لهم عيداً (مولداً) من موالدهم، ولا أن يشاركهم في شيء من اجتماعاتهم التي كانوا يحيون بها ذكرى أوليائهم. وبغض الله إلى قلبه أشد البغض تلك الأعياد والموالد الجاهلية التي صرفت الناس عن الله وعبادته إلى أولئك الموتى تعظمها من دون الله وتفزع إليها وتتمسح بما نصب على قبورها. كما بغض الله إليه كل ما كانوا فيه من فسوق ومعاص، ورذائل ونقائص، حتى شرفه الله وشرف الأرض برسالته؛ فكان قد تمكن منه بغض تلك الأعياد والموالد، وانجلى له كل الانجلاء ما كان لها من أسوأ الأثر في إفساد القلوب والعقائد؛ وأنها ما تقام إلا لمحادة الله والكفر به، وما يقصد منها إلا جر المغانم لأولئك الدجالين الطغاة الذين استعبدوا الناس واستولوا على قلوبهم فأفسدوها باسم أولئك الموتى؛ وموالدهم وأعيادهم.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرب هذه الأعياد أشد قيام، وجاهد الدعاة إليها من سدنة أولئك الموتى أشد جهاد، وما زال حتى طهّر الأرض منها؛ ونكس أعلامها وقشع عن القلوب غياهبها وظلماتها. وعرف الصحابة بنور العلم النبوي فساد ما كانوا فيه وضلاله وشقائه، فعاونوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبطاله أعظم المعاونة ونصروه عليها وعلى المفتونين بها أعز نصر.
ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف من طباع الأمم وتحولها عن دين الحق ما رأى في اليهود والنصارى وقريش. ويزيده الله تعالى بذلك علما. ويخشى على أمته أن تتردى في مثل ما تردى فيه أولئك المرتدون. ويعلم الله أن أهل الكتاب لا بد أن يحاولوا رد كثير من المسلمين عن دينهم إن استطاعوا. وسيبذلون في ذلك كل ما يستطيعون. علم ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحذر أمته أشد التحذير من تلك الفتنة وخوّف أشد التخويف من دسائس أهل الكتاب، وأعطانا سلاحا قويا ندفع به عن أنفسنا كيد أعداء الأنبياء من شياطين الجن والإنس. ذلك هو القرآن الذي تولى الله تعالى بنفسه وضمن حفظه. والسنة المطهرة التي تركها فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. من تمسك بهما فلن يضل ولن يشقى ومن أعرض عنهما فإن له معيشة ضنكا. قال صلى الله عليه وسلم "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي" وقال "وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي. تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل بدعة ضلالة وقال "لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" وقال "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القُذّة بالقذة".
كل ذلك يدلنا دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حذرا أشد الحذر على أمته من الافتتان بما سيوحيه شياطين الجن والإنس من زخرف القول وغروره، رداً لهم عن دينهم، وإرجاعا لهم إلى الكفر بعد إذ أنقذهم الله منه. وبين لنا أن سبيل الشيطان إلى فتنة النصارى وغيرهم هي بعينها سبيله إلى هذه الأمة. وأن علينا أن ننظر في أصل كفر هؤلاء، وما أدى بهم إلى عداوة عيسى بن مريم وغيره من الأنبياء. لنعرفه فنتقيه ونعلمه فنحذره. فإن جهلنا ذلك. وقلنا: إن النصارى وغيرهم كفروا لأنهم يهود ونصارى لا لأنهم غلوا في عيسى، ولا لأنهم شرعوا في دين الله ما لم يأذن به الله واتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ومعابد، واتخذوا لها الأعياد والذكرانات، ولا لأنهم وضعوا في أعناقهم أغلال التقليد الأعمى لقسيسيهم ومطارنتهم ورهبانهم. وأن قاعدتهم وعمدتهم في الدين والعمل "حطها في رقبة عالم واطلع سالم".
إذا جهلنا ذلك ولم نتبينه حق التبين وقعنا فيه شراً مما وقعوا، واتخذناه نحن كذلك على مثل ما اتخذوه، عملا صالحا وقربة إلى الله، وخيرا نافعا. ولا يزال ذلك حتى يملك علينا قلوبنا ويصبغها بصبغة الهوى والفتنة، فتنعكس فطرتها وتنقلب حقيقتها فترى المنكر معروفا والمعروف منكرا، والصالح باطلا والباطل صالحا، وأهل الخير والهدى أهل ضلال، وأهل الضلال والزيغ أهل الخير والهدي. وحينئذ يعمنا الله بعذاب من عنده وتحق علينا آية ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 78].
يتبع