الحجاج بن يوسف الثقفي ... "المبيد"
هو أبو محمد الحجاج بن يوسف الثقفي قائد في العهد الأموي، وُلِدَ ونَشأَ في الطائف وانتقل إلى الشام فلحق بروح بن زنباع نائب عبد الملك بن مروان فكان في عديد شرطته، ثم قَلَّدَه عبد الملك أمر عسكره.
أمره عبد الملك بقِتالِ عبد الله بن الزبير، فزحف إلى الحجاز بجيشٍ كبيرٍ وقتل عبد الله وفرَّق جموعه، فولاَّه عبدُ الملك مكة والمدينة والطائف، ثم أضاف إليها العراق والثورة قائمة فيه، فانصرف إلى الكوفة، فقمع الثورة وثبتت له الإمارة.
بنى مدينة واسط ومات بها، وكان سَفَّاكاً سَفَّاحاً مُرْعِباً باتِّفاقِ مُعْظَمِ المُؤَرِّخِين، عُرف بـالمبير أي المُبيد.
نسبه ...
هو أبو محمد الحجاج كليب بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف بن مُنبّه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خَصَفَة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الثقفي.
نشأته ...
وُلِدَ في منازل ثقيف بمدينة الطائف، في عام الجماعة 41 هـ وكان اسمه كُليب ثم أبدَلَهُ بالحجَّاج وأمُّه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي الصحابي الشهيد نشأ في الطائف، وتعلَّم القرآن والحديث والفصاحة، ثم عمل في مطلع شبابه معلم صبيان مع أبيه، يعلم الفتية القرآن والحديث، ويفقههم في الدين، لكنه لم يكن راضياً بعمله هذا، على الرغم من ذلك فقد اشتُهِر بتعظيمه للقرآن.
إلتحاقه بمعسكر الشام ...
قرَّر الحجاج الانطلاق إلى الشام حاضرة الخلافة الأموية المتعثرة قد تختلف الأسباب التي دفعت الحجاج إلى اختيار، الشام مكاناً ليبدأ طموحه السياسي منه رغم بُعدِ المسافة بينها وبين الطائف، وقرب مكة إليه، لكن يُعتقد أن السَّبب الأكبر كراهته لولاية عبد الله بن الزبير.
في الشام التحق بشرطة الإمارة التي كانت تعاني من مشاكل جمة، منها سوء التنظيم، وقلة المجندين، فأبدى حماسةً، وسارع إلى معالجة تلك الأخطاء، فقربه إبن زنباع قائد الشرطة إليه، ورفع مكانته، ورقاه فوق أصحابه، فأخذهم بالشدة، وعاقبهم لأدنى خلل، فضبطهم وسير أمورهم بالطاعة المطلقة لأولياء الأمر، رأى فيه إبن زنباع العزيمة والقوة، فقدمه إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، وكان داهية مقداماً، جمع الدولة الأموية وحماها من السقوط، فأسسها من جديد.
شخصيته ...
ذُكر أن الحجاج كان قبيح الوجه وصغير الجسد ، ولكن كان فصيحاً وبليغاً وخطيبا، وكان جبارا عنيدا مقداما على سفك الدماء بأدنى شبهة ، وكان حقودًا حسودا كما وصف نفسه لعبد الملك بن مروان، وبمراجعة سريعة على تاريخه وأفعاله يتضح للباحث بأنه كان سياسيا محنّكاً وقائداً مدبراً، وكثيراً ما استخدم المكر والخداع لكي ينتصر في حروبه.
حصار مكة وولايته على الحجاز ...
في 73 هـ قرر عبد الملك بن مروان التخلص من عبد الله بن الزبير، فجهز جيشاً ضخماً للقضاء على ابن الزبير رضي الله عنه في مكة، وأمر عليه الحجاج بن يوسف، فخرج بجيشه إلى الطائف، وانتظر الخليفة ليزوده بمزيد من الجيوش، فتوالت الجيوش إليه حتى تقوى تماماً، فسار إلى مكة وحاصر ابن الزبير فيها، وقد ضرب الكعبة بالمنجنيق دون مراعاة لحرمتها وقداستها، حتى تهدمت بعض أجزاء منها، فكان حصار الحجاج خمسة أشهر وسبع عشرة ليلة.
أعلن الحجاج الأمان لمن سلم من أصحاب ابن الزبير رضي الله عنه، غير أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه لم يقبل أمان الحجاج، وقاتل رغم تفرق أصحابه عنه الذين طمعوا في أمان الحجاج، قتل الحجاج ابن الزبير رضي الله عنه وصلبه بصحن الكعبة، وأرسل إلى أمه "أسماء بنت أبي بكر" رضى الله عنها أن تأتيه، فأبت، فأرسل إليها لتأتين أو لأبعثن من يسحبك بقرونك، فأرسلت إليه: والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني فلما رأى ذلك أتى إليها فقال: كيف رأيتني صنعت بعبد الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك.
وقيل دخل الحجاج عليها فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم. قالت: كذبت، كان برا بوالديه، صواما قواما، ولكن قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيخرج من ثقيف كذابان، الآخر منهما شر من الأول، وهو مبير، بعد أن انتصر الحجاج في حربه، أقره عبد الملك بن مروان على ولاية الحجاز (مكة، المدينة، الطائف).
ولايته على العراق ...
عزل عبد الملك بن مروان الحجاج عن الحجاز لكثرة الشكايات منه، وأقره على العراق، نزل الحجاج بالكوفة ثم دخل المسجد ملثماً بعمامة حمراء، اعتلى المنبر وخلع عمامته فجأة وقال خطبته المشهورة:
"أما والله فإني لأحمل الشر بثقله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله، والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى ثم قال: والله يا أهل العراق، إن أمير المؤمنين عبد الملك نثل كنانة بين يديه، فعجم عيدانها عوداً عوداً، فوجدني أمرّها عوداً، وأشدها مكسراً، فوجهني إليكم، ورماكم بي يا أهل العراق، يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق، إنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مناخ الضلال، وسننتم سنن الغي، وأيم الله لألحونكم لحو العود، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، إني والله لا أحلق إلا فريت، ولا أعد إلا وفيت ..... الخ"
بنى الحجاج مدينة واسط فجعلها عاصمته، وسير الفتوح لفتح المشرق، وقضى على الخوارج والثائرين على الدولة الأموية ثم قضى على ثورة إبن الاشعث، فستقر العراق ومن حوله.
إصلاحات الحجاج ...
قام الحجاج بجهود إصلاحية عظيمة، شملت هذه الإصلاحات النواحي الاجتماعية والصحية والإدارية وغيرها، فأمر بعدم النوح على الموتى في البيوت، ومنع التبول أو التغوط في الأماكن العامة، ومنع بيع الخمور، وأمر بإهراق ما يوجد منها، وعندما قدم إلى العراق لم يكن لأنهاره جسور فأمر ببنائها، وأنشأ عدة صهاريج بالقرب من البصرة لتخزين مياه الأمطار وتجميعها لتوفير مياه الشرب لأهل المواسم والقوافل، وكان يأمر بحفر الآبار في المناطق المقطوعة، كما ساعد في تعريب الدواوين، وفي الإصلاح النقدي للعملة، وإصلاح حال الزراعة في العراق بحفر الأنهار والقنوات، وإحياء الأرض الزراعية.
•• تنقيط المصحف
ومن أجلِّ الأعمال التي تُنسب إلى الحجاج اهتمامه بنقط حروف المصحف وإعجامه بوضع علامات الإعراب على كلماته، وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان، وترك غيرها من القراءات، وكتب مصاحف عديدة موحدة وبعث بها إلى الأمصار.
الحجاج في عهد الوليد بن عبدالملك ...
مات عبد الملك بن مروان في 86 هـ، وتولى ابنه الوليد بعده، فأقر الحجاج على كل ما أقره عليه أبوه، وقربه منه أكثر، فاعتمد عليه وكان ذلك على كره من أخيه وولي عهده سليمان بن عبد الملك، وابن عمه عمر بن عبد العزيز، وفي ولاية الوليد هدد سليمان بن عبد الملك الحجاج إذا ما تولى الحكم بعد أخيه، فرد عليه الحجاج مستخفاً مما زاد في كره سليمان له.
الفتوحات الاسلامية ...
أرسل الجيوش المتتابعة، واختار لها القادة الأكفاء، مثل قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي ولاه الحجاج خراسان، وعهد إليه بمواصلة الفتوحات، فأبلى بلاء حسنا، ونجح في فتح العديد من الممالك والمدن الحصينة، مثل: بلخ، وبيكند، وبخارى، وشومان، وكش، والطالقان، وخوارزم، وكاشان، وفرغانه، والشاس، وكاشغر (كردستان الشرقية) الواقعة على حدود الصين المتاخمة لإقليم ما وراء النهر وانتشر الإسلام في هذه المناطق وأصبح كثير من مدنها مراكز هامة للحضارة الإسلامية مثل بخارى وسمرقند.
كما بعث الحجاج بابن عمه محمد بن القاسم الثقفي لفتح بلاد السند (باكستان)، وكان شابا صغير السن لا يتجاوز العشرين من عمره، ولكنه كان قائدا عظيما، نجح خلال فترة قصيرة لا تزيد عن خمس سنوات أن يفتح مدن وادي السند، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في فتح قنوج أعظم إمارات الهند التي كانت تمتد بين السند والبنغال فأجابه إلى طلبه وشجعه على المضي، وكتب إليه أن "سر فأنت أمير ما افتتحته"، وكتب إلى قتيبة بن مسلم عامله على خراسان يقول له: "أيكما سبق إلى الصين فهو عامل عليها".
وفاته ...
مرض الحجاج بعد أن امر بقتل "سعيد بن جبير" تلك الورع التقي، الذي دعا على الحجاج فقال: "اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي" فكانت نهايته على دعوى مظلوم، فلم يلبث بعد موت ابن جبير أكثر من اربعين يوما فكان يقول على فراش المرض: "مالي ولسعيد بن جبير، مالي ولسعيد بن جبير؟"
مات الحجاج في رمضان أو شوال سنة 95، فتفجع عليه الوليد بن عبدالملك، وترك وصيته، وفيها قال: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف: أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها يحيا وعليها يموت وعليها يبعث.. الخ".
ويروى أنه قيل له قبل وفاته: ألا تتوب؟ فقال: إن كنت مسيئاً فليست هذه ساعة التوبة، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفزع، وقد ورد أيضاً أنه دعا فقال:"اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل"، وقد أوصى يزيد بن أبي مسلم أن يُدفن سرا وأن يخفي موضع قبره حتى لا يتعرض للنبش
الحجاج في الميزان ...
اختلف المؤرخون القدماء والمحدثون في شخصية الحجاج بن يوسف بين مدح وذم، ولكن الحكم عليه دون دراسة عصره المشحون بالفتن والقلاقل أمر محفوف بالمزالق، ويؤدي إلى نتيجة غير موضوعية بعيدة عن الأمانة والنزاهة.
لا يختلف أحد في أنه اتبع أسلوبا حازما مبالغا فيه، وأسرف في قتل الخارجين على الدولة، وهو الأمر الذي أدانه عليه أكثر المؤرخين، ولكن هذه السياسة هي التي أدت إلى استقرار الأمن في مناطق الفتن والقلاقل التي عجز الولاة من قبله عن التعامل معها.
يقف ابن كثير في مقدمة المؤرخين القدماء الذين حاولوا إنصاف الحجاج؛ فيقول: "إن أعظم ما نُقِم على الحجاج وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله، وقد كان حريصا على الجهاد وفتح البلاد، وكانت فيه سماحة إعطاء المال لأهل القرآن"
• وفي الختام نرى أن رحمة الله وسعت كل شيء، وأن الله قد غفر لرجل قتل مائة نفس وإن الحجاج ليس منه ببعيد هذا المجاهد في سبيل الله .. فهو اصبح بين يدي الله إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له .. رحم الله الحجاج.
إعداد/أ. حسام الدين مصطفى
#عالم_المعرفة