بيان أن ليلة القدر لا تأتي في الليالي الشفع من العشر الأواخر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد وردت العديد من الأحاديث تصرح بالتماس ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان، منها ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عامًا، حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، قال: (من كان اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر، وقد أريت هذه الليلة، ثم أُنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها؛ فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر)، فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين، من صبح إحدى وعشرين[1].
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تحرَّوْا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان) [2] .
وروى مسلم عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه قال: رأى رجلٌ أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر؛ فاطلبوها في الوتر منها) [3].
وهذه الأحاديث تدل على أن ليلة القدر تختص بليالي الوتر دون الشفع.
وليالي الوتر من الليالي العشر: خمس ليالٍ، وهي ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين، وليالي الشفع من الليالي العشر: خمس ليالٍ إذا كان الشهر تامًّا، وأربع ليالٍ إذا كان الشهر ناقصًا، وهذه الليالي هي: ليلة اثنتين وعشرين، وليلة أربع وعشرين، وليلة ست وعشرين، وليلة ثمانٍ وعشرين، وليلة ثلاثين.
وليالي الوتر يمكن أن تحسب إذا عدت الليالي من أولها؛ أي: باعتبار ما يمضي من الليالي العشر، فتكون الليالي الوتر الليلة الأولى والثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة؛ أي: ليلة 21 و23 و25 و27 و29، ويمكن أن تحسب إذا عدت الليالي من آخرها؛أي: باعتبار ما يبقى من الليالي، فتكون الليالي الوتر تاسعة تبقى من العشر، وسابعة تبقى من العشر، وخامسة تبقى من العشر، وثالثة تبقى من العشر، وليلة تبقى من العشر.
وذهب بعض العلماء - كابن تيمية[4] - إلى أن ليلة القدر تكون في الشفع كما تكون في الوتر، وقالوا: إذا كان الشهر كاملًا تكون الليالي الوتر باعتبار ما بقي هي ليالي شفع[5]؛ أي: تكون ليلة اثنتين وعشرين وليلة أربع وعشرين وليلة ست وعشرين وليلة ثمان وعشرين وليلة ثلاثين؛ حيث ليلة اثنتين وعشرين تاسعة تبقى من العشر، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى من العشر، وليلة ست وعشرين خامسة تبقى من العشر، وليلة ثمانٍ وعشرين ثالثة تبقى من العشر، وليلة ثلاثين ليلة تبقى من العشر، وهذا هو موضع الإشكال والخلاف.
وقالوا أيضًا: إذا كان الشهر ناقصًا، تكون الليالي الوتر باعتبار ما بقي، ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين؛ حيث ليلة إحدى وعشرين تاسعة تبقى من العشر، وليلة ثلاث وعشرين سابعة تبقى من العشر، وليلة خمس وعشرين خامسة تبقى من العشر، وليلة سبع وعشرين ثالثة تبقى من العشر، وليلة تسع وعشرين ليلة واحدة تبقى من العشر، وهذا لا إشكال فيه.
واستدل هؤلاء العلماء بما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، يلتمس ليلة القدر قبل أن تُبانَ له، فلما انقضين أمر بالبناء فقوض، ثم أُبِينت له أنها في العشر الأواخر، فأمر بالبناء فأعيد، ثم خرج على الناس، فقال: (يا أيها الناس، إنها كانت أبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتقَّان معهما الشيطان، فنُسِّيتها؛ فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)، قال: قلت: يا أبا سعيد، إنكم أعلم بالعدد منا، قال: (أجل، نحن أحق بذلك منكم)، قال: قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: (إذا مضت واحدة وعشرون، فالتي تليها ثنتين وعشرين، وهي التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون، فالتي تليها السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة) [6].
وقالوا: هذا تفسير الصحابي أبي سعيد الخدري رضي الله عنه للحديث الذي رواه، وهو أعلم بفقه الحديث منا، وبهذا الاعتبار فإذا كان الشهر ناقصًا، كان الحساب بالباقي كالحساب بالماضي، وإذا كان كاملًا، فهذه الليلة تكون في ليالي الأشفاع باعتبار أول الشهر، وقد أبهم النبي صلى الله عليه وسلم مراده؛ لتلتمس الليلة في جميع ليالي العشر، وعليه فلا بد من الاجتهاد في العشر جميعها؛ حتى يصيبها المسلم بيقين.
ولا نسلم بتفسير هؤلاء الأفاضل للحديث؛ لعدة وجوه:
الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب الصحابة بنقص الشهر؛ وذلك لأنه ليس على تمام الشهر يقين[7]؛ فحسب الشهر على تقدير نقصانه؛ لأنه المتيقن[8]، فيؤخذ الشهر تسعة وعشرين، وإن كان ثلاثين فإن كونه ثلاثين غير معلوم، فيؤخذ بالجزم[9]، ويؤيد ذلك ما رواه أحمد وغيره عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم مضى من الشهر؟)، قال: قلنا: مضت ثنتان وعشرون، وبقي ثمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا، بل مضت منه ثنتان وعشرون، وبقي سبعٌ، اطلبوها الليلة) [10]؛ فالصحابة رضي الله عنهم حسبوا المتبقي من الشهر على تقدير كماله، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صحح لهم، وحسب المتبقي من الشهر على تقدير نقصانه.
وروى أحمد وابن خزيمة، عن معاذ بن عبدالله بن خبيب الجهني، عن أخيه عبدالله بن عبدالله بن خبيب، قال: كان رجل في زمان عمر بن الخطاب قد سأله فأعطاه، قال: جلس معنا عبدالله بن أنيس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه في مجلس جهينة - قال: في رمضان - قال: فقلنا له: يا أبا يحيى، سمعت
يا أبا يحيى، سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة المباركة من شيء؟ فقال: نعم، جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الشهر، فقلنا له: يا رسول الله، متى نلتمس هذه الليلة المباركة؟ قال: (التمسوها هذه الليلة)، وقال: وذلك مساء ليلة ثلاث وعشرين، فقال له رجل من القوم: وهي إذًا يا رسول الله أول ثمان؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ليست بأول ثمان، ولكنها أول السبع، إن الشهر لا يتم) [11]، فهذا الصحابي رضي الله عنه حسب المتبقي من الشهر على تقدير كماله، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صحح له، وحسب المتبقي من الشهر على تقدير نقصانه.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته بالتماس ليلة القدر في شهر كامل دون ناقص، بل أطلق طلبها في جميع شهور رمضان، ولو أراد أن يحسب على ما ينكشف عليه الشهر من نقصانه وتمامه، لكان قد أمر بما لا يصح الامتثال به إلا بعد فواته، فلم يبقَ إلا أنه أراد أن يحسب ذلك على نقصانه[12].
الوجه الثالث: لو كان المراد التماس ليلة القدر في جميع الليالي العشر، لَمَا كان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة) بعد قوله: (فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان) فائدة.
الوجه الرابع: هذا التفسير مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على كون ليلة القدر في ليالي الوتر، وأحاديث تحري ليلة القدر في ليالي الوتر مقيدة لمطلق أحاديث تحري ليلة القدر في العشر الأواخر أو السبع الأواخر.
الوجه الخامس: لو كان الشهر تسعة وعشرين يومًا، فلا إشكال؛ فإن المذكورات في حديث الباب تكون أوتارًا؛ فإن تسعًا يبقين ليلة الحادية والعشرين، وسبعًا يبقين ليلة ثالثة وعشرين، وهكذا، وأما لو كان الشهر ثلاثين يومًا، فيلزم طلب ليلة القدر في الأشفاع منتخبة، ولا يقول بانتخاب الأشفاع أحدٌ[13].
الوجه السادس: التفسير المروي عن أبي سعيد رضي الله عنه لا يناسب ما ظهر أن ليلة القدر كانت في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين، وكانت في سنة ليلة ثلاث وعشرين، وقول أُبَيٍّ: إنها ليلة سبع وعشرين[14].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة) له تفسيران:
التفسير الأول:
التمسوها في التاسعة والعشرين، والسابعة والعشرين، والخامسة والعشرين، قال الصنعاني: ولو قيل: المراد بتاسعة تبقى ليلة تاسعة من العشر باقية منها، وهي ليلة تاسع وعشرين، ومثله سابعة إلى ليلة سبع وعشرين، كما أنه المراد في خامسة يبقى - لما كان بعيدًا[15].
التفسير الثاني: التمسوها في تاسعة تبقى، وسابعة تبقى، وخامسة تبقى، ويؤيد التفسير الثاني ما رواه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى) [16]، وعلى تقدير نقصان الشهر - لأنه المتيقن - يكون معنى تاسعة تبقى ليلة الحادية والعشرين، وسابعة تبقى ليلة الثالثة والعشرين، وخامسة تبقى ليلة الخامسة والعشرين، وقلنا: تبقى لا تمضي على طريقة العرب في التأريخ إذا جاوزوا نصف الشهر، إنما يؤرخون بالباقي لا بالماضي.
وفي المدونة قال مالك رحمه الله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (التمسوا ليلة القدر في التاسعة والسابعة والخامسة)، فأرى والله أعلم أن التاسعة ليلة إحدى وعشرين، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين، يريد في هذا على نقصان الشهر، وكذلك ذكر ابن حبيب[17].
واحتج بعض الأفاضل على جواز وقوع ليلة القدر في ليالي الشفع بما رواه عباد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن ضمرة بن عبدالله بن أنيس، عن أبيه قال: كنت في مجلس بني سلمة وأنا أصغرهم، فقالوا: من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر؟ وذلك صبيحة إحدى وعشرين من رمضان، فخرجت، فوافيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب، ثم قمت بباب بيته، فمر بي، فقال: ادخل، فدخلت، فأتي بعشائه، فرآني أكف عنه من قلته، فلما فرغ قال: (ناولني نعلي)، فقام وقمت معه، فقال: (كأن لك حاجة)، قلت: أجل، أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر، فقال: (كم الليلة؟)، فقلت: اثنتان وعشرون، قال: (هي الليلة)، ثم رجع فقال: (أو القابلة)، يريد ليلة ثلاث وعشرين[18].
قالوا: الحديث يدل على أن ليلة القدر تكون إما في ليلة ثلاث وعشرين، وإما في اثنين وعشرين؛ أي: يمكن أن تكون في ليالي الشفع.
ولا نسلم لهم بصحة الحديث؛ فالحديث انفرد به عباد بن إسحاق، عن الزهري، عن ضمرة بن عبدالله بن أنيس، عن أنيس، عن أبيه، وعباد ليس بالقوي[19]، وفي سنده ضمرة بن عبدالله بن أنيس، وضمرة بن عبدالله بن أنيس ذكره ابن حبان في الثقات[20]، ولم يوثقه غيره.
وقد صحح الحديث الألباني، وقال: (وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، رجال "الصحيح"، غير ضمرة بن عبدالله، وثقه ابن حبان فقط، لكن روى عنه جماعة من الثقات، منهم الزهري؛ فهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى إذا لم يخالف، وقال الحافظ: "مقبول"، يعني عند المتابعة، وقد توبع) [21].
والسؤال المطروح: هل يوجد متابعة أم لا؟ ودعنا ننظر لما اعتقد الألباني رحمه الله أنه متابعة؛ حيث قال: (والحديث أخرجه أحمد (3/ 495)، وابن نصر (ص 106) من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني معاذ بن عبدالله بن خبيب الجهني، عن أخيه عبدالله بن عبدالله بن خبيب قال: جلس معنا عبدالله بن أنيس صاحب رسول
صلى الله عليه وسلم في مجلسه - في مجلس جهينة - قال: في رمضان، قال: فقلنا له: يا أبا يحيى، سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة المباركة من شيء؟ فقال: نعم، جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الشهر، فقلنا له: يا رسول الله، متى نلتمس هذه الليلة المباركة؟ قال: (التمسوها هذه الليلة)، قال: وذلك مساء ليلة ثلاث وعشرين، فقال له رجل من القوم: وهي إذًا يا رسول الله أول ثمان؟! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ليست بأول ثمان، ولكنها أول السبع، إن الشهر لا يتم)، قلت: وإسناده حسن بما قبله؛ عبدالله بن عبدالله بن حبيب لم يذكر فيه ابن حاتم (2/ 2/ 90) جرحًا ولا تعديلًا، وتابعه أبو بكر بن حزم عن عبدالله بن أنيس.. به مختصرًا: أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم - وسألوه عن ليلة يتراءَوْنها في رمضان؟ - قال: (ليلة ثلاث وعشرين)، أخرجه أحمد (3/ 495)، وإسناده صحيح على شرط مسلم) [22].
والمتابعة - كما نعلم - هي مشاركة راوٍ لغيره في رواية حديث ما[23]، ويشترط في المتابعة أن توافق في الإسناد، ويكفي في المتن موافقة المعنى[24]، ولا موافقة للمعنى هنا؛ فالحديث الأول فيه احتمال أن تكون ليلة القدر في هذا العام إما ليلة اثنين وعشرين، أو ليلة ثلاث وعشرين، والحديثان الآخران فيهما تعيين لليلة ثلاث وعشرين فقط، والحديث الأول فيه مخالفة للأحاديث المستفيضة، كون ليلة القدر في ليالي الوتر، أما الحديثان الآخران فيوافقان الأحاديث المستفيضة كون ليلة القدر في ليالي الوتر.
وعليه؛ فحديث ضمرة بن عبدالله بن أنيس فيه زيادة لم يوافقه فيها أحد، وهو لا يحتمل التفرد، أضف إلى ذلك أن هذه الزيادة تخالف الأحاديث المستفيضة كون ليلة القدر في ليالي الوتر، ومن هنا يتبين دقة الإمام أبو داود عندما وصف هذا الحديث بالغرابة فقال: (وهذا حديث غريب) [25]، والحديث الغريب ليس له إلا إسناد واحد[26]، ويتبين أيضًا دقة الإمام ابن عبدالبر عندما وصف هذا الحديث بالتفرد، فقال: (الحديث انفرد به عباد بن إسحاق، عن الزهري، عن ضمرة بن عبدالله بن أنيس، عن أنيس، عن أبيه) [27]، وهذا مشعرٌ بانتفاء المتابعات.
وعلى فرض صحة الحديث، فيحتمل أن يكون معنى "أو القابلة"؛ أي: بل القابلة، و"أو" تكون بمعنى "بل في توسع الكلام[28]، وكأنه قال: ليست ليلة القدر ليلة اثنين وعشرين، بل ليلة ثلاث وعشرين، ويؤيد ذلك أن ليلة الجهني - أي ليلة عبدالله بن أنيس- معروفة بالمدينة ليلة ثلاث وعشرين، وحديثه هذا مشهور عند خاصتهم وعامتهم[29].
واحتج بعض الأفاضل على جواز وقوع ليلة القدر في ليالي الشفع بما رواه أحمد والطبراني عن عمران أبي العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان) [30]، قالوا: الحديث دل على أن ليلة القدر كانت في ذلك العام ليلة أربع وعشرين من رمضان، وهي ليلة شفع، وبالتالي يمكن أن تكون ليلة القدر في ليالي الشفع.
ولا نسلم لهم بصحة الحديث؛ ففيه قتادة مدلس، وقد عنعن ولم يصرح بالتحديث، والحديث تفرد به عمران القطان، ضعفه ابن معين وأبو داود والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات[31]، وذكره العقيلي في الضعفاء[32]، وعمران القطان لا يحتمل التفرد، وقال الطبراني: (لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا عمران القطان، ولا يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد) [33]، وقال الهيثمي: (رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عمران بن داود القطان، ضعفه يحيى، ووثقه ابن حبان، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وبقية رجاله ثقاتٌ، وعن جابر قال: (أنزل الله صحف إبراهيم في أول ليلة خلت من رمضان، وأنزلت التوراة على موسى لستٍّ خلون من رمضان، وأنزل الزبور على داود في إحدى عشرة ليلةً خلت من رمضان، وأنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين خلت من رمضان)؛ رواه أبو يعلى، وفيه سفيان بن وكيع، وهو ضعيفٌ) [34].
وعلى فرض صحة الحديث، فنص الحديث "في أربع وعشرين خلت من رمضان"، وليس: في أربع وعشرين من رمضان، أو ليلة أربع وعشرين من رمضان، أو ليلة أربع وعشرين تمضي من رمضان، وكون القرآن أنزل في أربع وعشرين خلت من رمضان؛ أي: أنزل ليلة خمس وعشرين.
واحتج بعض الأفاضل على جواز وقوع ليلة القدر في ليالي الشفع بما رواه الترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه فقد ذكرت ليلة القدر عنده فقال: ما أنا ملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر؛ فإني سمعته يقول: (التمسوها في تسع يبقين، أو في سبع يبقين، أو في خمس يبقين، أو ثلاث، أو آخر ليلة) [35]، قالوا: في تسع يبقين محمول على الثانية والعشرين، وفي سبع يبقين محمول على الرابعة والعشرين، وفي خمس يبقين على السادسة والعشرين، و: أو ثلاث محمول على الثامن والعشرين، وآخر ليلة محمولة على الثلاثين، وبالتالي يمكن أن تكون ليلة القدر في ليالي الشفع، والجواب: أن كلامهم يصح لو كان الشهر يحسب على ثلاثين يومًا، وهذا غير مسلَّم؛ فالشهر يحسب على تسعة وعشرين يومًا، وإن كان ثلاثين؛ لأن كونه ثلاثين غير معلوم وغير متيقن، فيؤخذ بالجزم واليقين، ومن المتيقن أن الشهر لا يقل عن تسعة وعشرين يومًا، فيحسب الشهر على تقدير نقصانه؛ لأنه المتيقن، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته بالتماس ليلة القدر في شهر كامل دون ناقص، بل أطلق طلبها في جميع شهور رمضان، ولو أراد أن يحسب على ما ينكشف عليه الشهر من نقصانه وتمامه، لكان قد أمر بما لا يصح الامتثال به إلا بعد فواته، فلم يبقَ إلا أنه أراد أن يحسب ذلك على نقصانه [36].
وعلى تقدير نقصان الشهر - لأنه المتيقن - يكون معنى: "التمسوها في تسع يبقين"؛ أي: ليلة 21، وقوله: "في سبع يبقين"؛ أي: ليلة 23، وقوله: "في خمس يبقين"؛ أي: ليلة
وقوله: "في خمس يبقين"؛ أي: ليلة 25، وقوله: "ثلاث"؛ أي: ليلة 27، وقوله: "آخر ليلة"؛ أي: ليلة 29.
واحتج بعض الأفاضل بما رواه البخاري: أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (التمسوا في أربع وعشرين) [37]، وهذا قول صحابي مخالف للأحاديث المستفيضة، كون ليلة القدر في ليالي الوتر.
إشكال وجوابه
إن قيل: من حسب الليالي الباقية من الشهر على تقدير نقصان الشهر، فينبغي أن يكون عنده أول العشر الأواخر ليلة العشرين؛ لاحتمال أن يكون الشهر ناقصًا، فلا يتحقق كونها عشر ليال بدون إدخال ليلة العشرين فيها، يقال له: ذكر العشر خرج مخرج الغالب، وليس المقصود حقيقة العشر، ومثله صيام العشر الأوائل من ذي الحجة، مع أن المقصود صيام تسعة أيام من ذي الحجة؛ لأن اليوم العاشر عيد، ولكنه كلام خرج مخرج الغالب، يعني: التسعة تقرب إلى العشرة، وكذلك التسع في رمضان تقرب إلى العشر، والعشر الأواخر عبارة عما بعد انقضاء العشرين الماضية من الشهر، وسواء كانت تامة أو ناقصة فهي المعبر عنها بالعشر الأواخر وقيامها قيام العشر الأواخر، وهذا كما يقال: صام عشر ذي الحجة، وإنما صام منه تسعة أيام؛ ولهذا كان ابن سيرين يكره أن يقال: صام عشر ذي الحجة، وقال: إنما يقال: صام التسع، ومن لم يكره، وهم الجمهور، فقد يقولون: الصيام المضاف إلى العشر هو صيام ما يمكن منه، وهو ما عدا يوم النحر، ويطلق على ذلك العشر؛ لأنه أكثر العشر، والله أعلم [38].
هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
[1] رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم 2027، باب الاعتكاف في العشر الأواخر.
[2] رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم 2017، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، ورواه مسلم في صحيحه، حديث رقم 1169، باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها، وبيان محلها، وأرجى أوقات طلبها.
[3] رواه مسلم في صحيحه، حديث رقم 1165، باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها، وبيان محلها، وأرجى أوقات طلبها.
[4] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 25/ 284.
[5] انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال 4/ 156.
[6] رواه مسلم في صحيحه، حديث رقم 1167، باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها، وبيان محلها، وأرجى أوقات طلبها.
[7] انظر: مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لأبي الحسن المباركفوري 7/ 126.
[8] انظر: لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص 196.
[9] العرف الشذي شرح سنن الترمذي للكشميري 2/ 203.
[10] رواه أحمد في مسنده رقم 7417، وابن حبان في صحيحه رقم 2548، وابن خزيمة في صحيحه رقم
، والبيهقي في سننه الكبرى رقم 3450، واللفظ لأحمد.
[11] رواه أحمد في مسنده رقم 16046، وابن خزيمة في صحيحه رقم 2186.
[12] شفاء الغليل في حل مقفل خليل للمكناسي 1/ 314.
[13] العرف الشذي شرح سنن الترمذي للكشميري 2/ 203.
[14] انظر: مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لأبي الحسن المباركفوري 7/ 126.
[15] التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني 5/ 476.
[16] رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم 2021، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر.
[17] طرح التثريب في شرح التقريب لزين الدين العراقي 4/ 156.
[18] رواه أبو داود في سننه، حديث رقم 1379، والنسائي في سننه الكبرى، حديث رقم 3387، والطبراني في معجمه الكبير، حديث رقم 14928.
[19] الاستذكار لابن عبدالبر 3/ 413.
[20] انظر الثقات لابن حبان 4/ 388، اسم رقم 3494.
[21] صحيح أبي داود للألباني 5/ 124 حديث رقم 1248.
[22] صحيح أبي داود للألباني 5/ 124 - 125، حديث رقم 1248.
[23] انظر: مقدمة في أصول الحديث لعبدالحق الدهلوي ص 56.
[24] تحرير علوم الحديث لعبدالله يوسف الجديع 1/ 54.
[25] مختصر سنن أبي داود للمنذري 2/ 110، حديث رقم 1333.
[26] المنهج المقترح لفهم المصطلح للشيخ حاتم العوني ص 115.
[27] الاستذكار لابن عبدالبر 3/ 413.
[28] لسان العرب لابن منظور 14/ 54.
[29] التمهيد لابن عبدالبر 21/ 214.
[30] رواه أحمد في مسنده، حديث رقم 16984، ورواه الطبراني في الأوسط، حديث رقم 3740، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، حديث رقم 18649.
[31] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي 1/ 197 رقم 959.
[32] الضعفاء الكبير للعقيلي 3/ 300.
[33] المعجم الأوسط للطبراني 4/ 111.
[34] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي 1/ 157.
[35] رواه الترمذي في سننه، باب ما جاء في ليلة القدر، حديث رقم 794، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
[36] شفاء الغليل في حل مقفل خليل للمكناسي 1/ 314.
[37] رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم 2022، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر.
[38] لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص 197.
، والبيهقي في سننه الكبرى رقم 3450، واللفظ لأحمد.
[11] رواه أحمد في مسنده رقم 16046، وابن خزيمة في صحيحه رقم 2186.
[12] شفاء الغليل في حل مقفل خليل للمكناسي 1/ 314.
[13] العرف الشذي شرح سنن الترمذي للكشميري 2/ 203.
[14] انظر: مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لأبي الحسن المباركفوري 7/ 126.
[15] التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني 5/ 476.
[16] رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم 2021، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر.
[17] طرح التثريب في شرح التقريب لزين الدين العراقي 4/ 156.
[18] رواه أبو داود في سننه، حديث رقم 1379، والنسائي في سننه الكبرى، حديث رقم 3387، والطبراني في معجمه الكبير، حديث رقم 14928.
[19] الاستذكار لابن عبدالبر 3/ 413.
[20] انظر الثقات لابن حبان 4/ 388، اسم رقم 3494.
[21] صحيح أبي داود للألباني 5/ 124 حديث رقم 1248.
[22] صحيح أبي داود للألباني 5/ 124 - 125، حديث رقم 1248.
[23] انظر: مقدمة في أصول الحديث لعبدالحق الدهلوي ص 56.
[24] تحرير علوم الحديث لعبدالله يوسف الجديع 1/ 54.
[25] مختصر سنن أبي داود للمنذري 2/ 110، حديث رقم 1333.
[26] المنهج المقترح لفهم المصطلح للشيخ حاتم العوني ص 115.
[27] الاستذكار لابن عبدالبر 3/ 413.
[28] لسان العرب لابن منظور 14/ 54.
[29] التمهيد لابن عبدالبر 21/ 214.
[30] رواه أحمد في مسنده، حديث رقم 16984، ورواه الطبراني في الأوسط، حديث رقم 3740، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، حديث رقم 18649.
[31] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي 1/ 197 رقم 959.
[32] الضعفاء الكبير للعقيلي 3/ 300.
[33] المعجم الأوسط للطبراني 4/ 111.
[34] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي 1/ 157.
[35] رواه الترمذي في سننه، باب ما جاء في ليلة القدر، حديث رقم 794، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
[36] شفاء الغليل في حل مقفل خليل للمكناسي 1/ 314.
[37] رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم 2022، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر.
[38] لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص 197.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/spotlight/0/89922/%D8%
#منتدى_المركز_الدولى