من شرح كتاب الكبائر
للشيخ صالح الفوزان حفظه الله ورعاه
( باب ما جاء في البهتان )
وقول الله تعالى: * والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد أحتملوا بهتاناً وإثماً مبينا * [الأحزاب: ٥٨].
عن ابن عمر مرفوعاً: «من قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج ممّا قال» رواه أبو داود بسند صحیح.
ولمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته».
البهتان: هو الكذب، والكذب من كبائر الذنوب، وهذا يدل على أنه لا يجوز ولا يحل إيصال الأذى إلى المسلم بوجه من الوجوه، من قول أو فعل بغير حق، ويدخل في هذا البهتان وهو أن ترمي الشخص بما ليس فيه
وقد قال تعالى: * إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والأخرة وأعد لهم عذاباً مهينا * [الأحزاب: ٥٧]،
ومعنى يؤذون الله: أي: ينتقصوه وينسبون إليه شيئاً لا يليق به ﷻ، وقد
قال تعالى في الحديث القدسي: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار».
فالله ﷻ يتأذى بما ينسب إليه مما لا يليق به ﷻ ولكنه لا يتضرر، لأن الله لا يضره شيء، إلا أنه يتأذى بدليل هذا الحديث والآية، فلم يقل: يضرون الله، بل قال: * يؤذون الله ورسوله * وبعضهم حمل معنى قوله: «يؤذيني ابن آدم» أي: يعاملني معاملة توجب الأذى في حقي.
ويؤذون الرسول ﷺ، يعني: يتنقصونه أو يسبون أصحابه وأقاربه، فهم يؤذون الرسول ﷺ بأنواع من الأذى كأن ينسبوا إليه شيئاً لم يقله مثل الأحاديث الضعيفة التي دسّها الوضّاعون الذين يضعون الأحاديث على الرسول ﷺ، وكالذين يتهمون عائشة رضي الله عنها في عرضها، وكالذين يسبون الصحابة رضوان الله عنهم، فإن هؤلاء يؤذون الرسول ﷺ، فجزاؤهم لعنة الله، أي: الطرد من رحمته، كما أنه سبحانه أعد لهم عذاباً مهيناً في جهنم يوم القيامة خالدين مخلدين مهانين، والعياذ بالله.
ثم قالﷻ: *والذين يؤذون المؤمنين* أي: ينسبون إليهم شيئاً لم يقع منهم، ولم يكتسبوه، فهذا هو البهتان، وأما إذا كان ما قيل فيهم قد وقع منهم فهذه هي الغيبة، كما قال الرسول ﷺ.
وقوله تعالى في هذه الآية: «بغير ما اكتسبوا» مثل قوله ﷺ: «وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» فوصف هذا الفعل بأنه بهتان،
ولهذا قال تعالى: «فقد احتملوا بهتاناً» أي: كذباً قبيحاً، «وإثماً مبينا» أي: بيّناً واضحاً يتأثمون به، فلا يضرون الشخص الذي بهتوه، وإنما يضرون أنفسهم، فيعود الضرر عليهم.
وفي حديث ابن عمر بيان عقوبة من قال في مؤمن ما ليس فيه من الصفات الذميمة، يتنقصه بذلك ويكذب عليه، فكان عقابه بأن يسكنه الله ردغة الخبال، وردغة الخبال: منزلة قبيحة في النار، وكل النار قبيحة، ولكن هذه المنزلة فيها زيادة عذاب.
وجاء في معنى ردغة الخبال في حديث آخر: أنها: «عصارة أهل النار»، فيشرب منها إهانة له فدل هذا على عظم حرمة المؤمن عند الله ﷻ وأنه لايجوز أن تنتهك، وأن من انتهك حرمة المؤمن فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب بسوء صنيعه، ولهذا يجب احترام المؤمنين وتقديرهم، وعدم تحقيرهم والإقلال من شأنهم، لأن المؤمن كريم عند الله ﷻ، فقد أعزه الله وكرمه بالإيمان، فالمؤمنون هم الأعلون في الدنيا والآخرة، والذين ينتقصونهم ويحتقرونهم ويقللون من شأنهم داخلون في
قوله تعالى: «وفقد أحتملوا بهتاناً وإثماً مبينا»
فضلاً عما أخبر به الرسول ﷺ من أن اللهﷻ يهينهم يوم القيامة بأن: يسكنهم رذغة الخبال حتى يخرج القائل مما قال في أخيه وذلك بالتوبة من هذه الكبيرة ويتحلل من المقول فيه.
وأما حديث أبي هريرة ، وهو ثاني حديثي الباب، وفيه قوله ﷺ: «أتدرون ما الغيبة؟» فهو تفسير
لقوله ﷻ: *ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم* [الحجرات: ١٢].
فالنبي ﷺ قد فسّر الغيبة في حديث أبي هريرة وبيّنها، وهذا من تفسير السُنة النبوية للقرآن، ولكنه ﷺ لم يلقِ عليهم التفسير ابتداء لأهميته بل سألهم عن معنى الغيبة من أجل التنبه، وهذا فيه التعليم بطريقة السؤال والجواب في الأمور المهمة، «فقالوا: الله ورسوله أعلم»، فيه: أنّ المسلم إذا سئل عن شيء وهو لا يدري بأنه لا يتخرص، بل يحيل السائل إلى من يعلم الجواب، ويقول: الله أعلم.
فقال ﷺ: «الغيبة ذكرك أخاك بما يكره» فلا تذكر عيوب أخيك، لأنه يكره ذلك كما أنه لو ذكر هو عيوبك لكرهت أنت ذلك، فكيف ترضى لأخيك ما لا ترضاه لنفسك؟ وقد قال ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه», فعرض أخيك مثل عرضك، فكما لا ترضى أنت أن يمس عرضك بالغيبة، فلا ترض أن يُمس عرض أخيك بالغيبة، أما أن تذكره بما يحب، كأن تثني عليه وتمدحه في غيبته، فهذا شيء طيب وهو لا يكرهه، وهذا فيه رفع من شأنه، لأنك أنت لا تكره أن يثني عليك أحد ويمدحك في غيبتك، فعليك أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك.
وقوله ﷺ: «ذكرك أخاك» لأن المؤمن أخو المؤمن
قالﷻ: *إنما المؤمنون إخوة* [الحجرات: ۱۰]، فكيف تغتاب أخاك المؤمن.
وقوله: «بما يكره» أما إذا ذكرته بما يحب فهذا من الإحسان إليه.
ثم إنهم سألوا الرسول ﷺ: كيف يكون هذا غيبة؟ أي: والكلام الذي قلته موجود فيه، قال ﷺ: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته» لأنّه يكره هذا الكلام ولو كان معناه موجوداً فيه، فالمسلم يستر أخاه المسلم ويدافع عن عرض أخيه في حال غيبته.
وفي الحديث: «من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة»، فالمطلوب من المسلم أن يدافع عن عرض أخيه لا أن يقع فيه. ثم قال ﷺ: «إن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» هذا أشد الكذب، والعياذ بالله! إذن فالمغتاب لا يخلو إما أن يكون مغتاباً وإما أن يكون كذاباً، فدل على أنه لا يجوز ذكر المسلمين بما يكرهون في غيبتهم في المجالس، وإن كان هذا أصبح فاكهة كثير من المجالس التي يغتاب المجتمعون فيها إخوانهم وولاة الأمور والعلماء ولا يوقرون أحداً، فلا تعمر مجالسهم ولا يأنسون إلا بالغيبة والتفكه بأعراض الناس، فعلى المسلم أن يحذر من هذه الأمور ويبتعد عنها، لما ورد فيها من الوعيد الشديد والعذاب الأليم.
أرقام الصفحات من شرح كتاب الكبائر
{404 * 405 * 406 * 407 * 408 * 409 }
《
#منتدى_المركز_الدولى》