في شِعْرِ النِّساءِ الِكْلاسيكي أ.د. لطفي مَنْصور
يُخْطِئُ مَنْ يَظُنُّ أنَّ النِّساءَ الْعَرَبِيّاتِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُنَّ شاعِرتٌ مُفْلِقاتٌ، في الْعُصُورِ الْعَرَبِيَّةِ الْأُولَى. لَكِنَّ مَصادِرَنا عَنْ شِعْرِهِنَّ قَليلَةٌ وَشَحِيحَةٌ. وَالسَّبَبُ في ذَلِكَ قٍلَّةُ الرُّواةِ لِلشِّعْرِ النَِسائِيِّ. لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّهْلِ أنْ يُرْوَى شِعْرٌ عَنِ الْمَرْأَةِ لِاخْتِلافِها عَنِ الرَّجُلِ ، وَإنَّ الْعاداتِ الْعَرَبِيَّةَ لا تُتِيحُ مِثْلَ هَذا.
قَدْ وَصَلَتْنا عَنْ أَخْبارِ النِّساءِ الشّاعِراتِ قِطْعَةٌ لا بَأْسَ بِها، تَضُمُّ تَراجِمَ لِثَمانٍ وَثَلاثينَ شاعِرَةً حَتَّى أَواسِطِ الْقَرْنِ الرّابِعِ الْهِجْرِيِّ. هِيَ جُزْءٌ مِنْ كِتابٍ ضَخْمٍ أَلَّفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرانَ الْمَرْزُبانِيُّ (ت ٣٨٤هج).
عَرَفْنا عَنْ طَريقِ "الْفِهْرِسْتْ" الّذي أَلَّفَهُ ابْنُ النَّديم (تً٣٨٥هج) كِتابَيْنِ في أَشْعارِ النِّساءِ سَبَقا كِتابَ الْمَرْزُبانيِّ هُنا:
- أَشْعارُ الْجَواري لِلْمُفَجَّعِ الشّاعِرِ الشِّيعِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ (٣٢٧هج) وَقَدْ ضاعَ هَذا الْكِتابُ، وَلَمْ يَصِلْنا مِنْهُ شَيْءٌ.
- كِتابُ الْإماءِ الشَّواعِرِ لِأبي الْفَرِجِ الْأَصْبَهاني صاحِبِ كِتابِ الْأَغاني الْمَشْهُور (ت ٣٥٦هج) وَقَدْ حُقِّقَ كِتابُ الْإماءِ وَطُبِعَ تَحْتَ عُنْوان "الْقٍيان"، وَصَدَرَ في لَنْدَن عَنْ مَكْتَبَةِ فُؤادِ الرَّيِّس، وَهُوَ لا يُقَدَّرُ بِثَمَنٍ .
وَبَعْدَ أَبِي الْفَرَجِ وَرّدَ ذِكْرُ كِتابَيْنِ هُنا:
- النِّساءُ الشَّواعِرُ لِابْنِ الطَّرّاحِ (ت٧٢٠ هج) وَهُوَ في عِدَّةِ مُجَلَّداتٍ، وَهُوَ مَفْقودٌ وَالْأَمَلُ كَبيرٌ في الْحِصُولِ عَلَيْهِ.
- نُزْهَةُ الْجُلَساءِ في أَشْعارِ النِّساءِ لِجَلالِ الدِّينِ السُّيُوطيِّ (ت ٩١١هج) طُبِعَ في دِمَشْقَ بِتَحْقِيقِ صَلاحِ الدِّينِ الْمُنَجِّدِ.
- كِتابُ الشّاعِرَةِ عُلَيَّةَ بِنْتِ الْمَهْدِي الْخَليفَةِ الْعَبّاسِيِّ الثّالِثِ، جَمَعَهْ وَحَقَّقَهُ زَوْرَةُ أَسْعّد سَمْعان، طُبٍعَ في عَكّا (فلسطين) سَنَةَ ١٩٨٨م، وَقَدَّمَ لَهُ الدُّكتور جورج قَنازِع في حِينِهِ.
هذا بِاخْتِصارٍ ما نَمْلِكُهُ وَما وَصَلَ إلَيْهِ بَحْثِي الْخاصُّ مِنْ مَصادِرَ عَنْ أَخْبارِ النِّساءِ الشّاعِراتِ. وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ نُضِيفَ مَوْسُوعَةَ الْأَغاني لِأَبي الْفَرَجِ الْأَصْبَهاني، فَفِيها ذِكْرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَشْعارِ الْجَوارِي وَالْقِيانِ وَذِكْرِهِنَّ.
في الْعَصْرِ الْجاهِلِي وَأَوائِلِ الْإسلامِ اشْتَهَرَتْ شاعِرَتانِ في الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ، وَكانَ لَهُما أَثَرٌ كَبيرٌ عَلَى الشَّعْرِ عامَّةً:
الْأولَى الشّاعِرَةُ الْمُخَضْرَمَةُ الْخَنْساءُ. وَاسْمُها تُماضِرُ بِنْتُ عَمْرٍو السُّلَيْمِيَّةُ، أَدْرَكَتِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَوَفَدَتْ عَلَيْهِ وَمَدَحَتْهُ، فَأُعْجِبَ بِشِعْرِها، وَاسْتَزادَها بِقَوْلِهِ لَها "إيهِ يا خُناسُ"، ثُمَّ قالَ: "إنَّ مِنَ الْبَيانِ لَسِحْرا". لَها دٍيوانٌ صَغِيرٌ طُبِعَ في الْمَكْتَبَةِ الثَّقافِيَّةِ في بَيْروتَ. مُعْظَمُ شِعْرِها في رِثاءِ أَخَوَيْها صَخْرٍ وَمُعاوِيَةَ.
الثّانٍيَةُ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةُ: الشّاعِرَةُ الْأُمَوِيَّةُ الَّتي فاقَتْ بِشِعْرِها الشَُعَراءَ الْفُحُولَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُها عَلَى الْخَنْساءِ.
لَيْلَى شاعِرَةٌ عُذْرِيَّةٌ غَزِلَةٌ عَشِقَتْ الشَّاعِرَ تَوْبَةَ ابْنَ الْحُمَيِّرِ الْخَفاجِيَّ، وَقالَتْ فِيهَ قَصائِدَ رائِعَةً تَذْكُرُ مَناقِبَهُ وَشَجاعَتَهُ وَبُطُولاتِهِ في الْحُروبِ والْغَزَواتِ، وَمُروءَتَهُ وَكَرَمَهُ، وَخاصَّةً بَعْدَ مَقْتَلِهِ.
وَفَدَتْ لَيْلَى عَلَى خُلَفاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، مِنْهُمُ مُعاوِيَةُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوانَ وَمَدَحَتْهُما، وَمَدَحَتِ الْحَجَّاجَ بنَ يوسُفَ الثَّقَفِيَّ والي الْعِراقَيْنِ بِعِدَّةِ قَصائِدَ وَأَجازوها وَأَجْزَلُوا لَها. ثُمَّ هَجاها غَيْرَةً مِنْها الشّاعِرُ الْكَبٍيرُ النّابِغِةُ الْجَعْدِيُّ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ وَغَلَبَتْهُ بِبَيْتِها الْمَشْهورِ: مِنَ الطَّويل
أَعَيَّرْتَنِي داءً بِأُمِّكَ مِثْلَهُ
وَأَيُّ حَصانٍ لا يُقالُ لَها هَلَا
في الْعَصْرِ الْجاهِلِي عُرِفَتْ نِساءٌ أُطْلِقَ عَلَيْهِنَّ اسْمُ النّائِحاتِ. كانَ الْعَرَبُ يَسْتَأْجِرونَ تِلْكُمُ الشّاعِراتِ، لٍيَنُحْنَ بِأَشْعارِهِنَّ وَيَبْكِينَ عَلَى الْمَيْتِ. وَذَكَرَ تاريخُ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ حالَتَيْنِ لِهذا النَّوْعِ مِنْ الشِّعْرِ:
الْأولَى لَيْلَةَ قُتٍلَ كُلَيْبُ بْنُ وائِلٍ ؛ وَالثّانِيَةُ عِنْدَما نُحْنَ عَلَى أَميرِ الْمُؤْمِنينَ عُثْمانَ بِنِ عَفَّانَ . شِعْرُ النُّواحِ هذا لَمْ تَصِلْنا نَماذِجُ مِنْهُ، لَكِنَّنا نَفْتَرِضُ أنَّهُ كانَ نَوْعًا مِنَ الرِّثاءِ يُعَدِّدُ مَآثِرَ الْمَيِّتِ وَحَسَبَهُ وَنَسَبَهُ.
هَلْ هُناكَ اخْتِلافٌ بَيْنَ شِعْرِ النِّساءِ والرِّجالِ في الْعُصُورِ الْغابِرَةِ؟ الْجَوابُ نَعَمْ. هُناكَ فَرْقٌ في الْمَضامِينِ وَالْأَغْراضِ الشِّعْرِيَّةِ وَالْأُسْلوبِ. الرِّجالُ لَهُمْ ما يَهُمُّهُمْ، كَالْوُقُوفِ عَلَى الْأَطْلالِ وَبُكاءِ الدِّيارِ ، وَالْمُعَلَّقاتِ، وَوَصْفِ النّاقَةِ، وَالرِّحْلَةِ الصَّحْراوِيَّةِ، وَالطَّرْدِيّات الَّتي فيها ذِكْرُ الصَّيْدِ، وَوَصْفُ الْخَمْرِ وَمَجالِسِها وَالْقِيانِ ، وَالتَّباهي بِالسِّلاحِ ، وَوَصْفِ الْخَيْلِ ، وَالْقَصائِدِ الْمُطَوَّلَةِ. لَيْسَ صُدْفَةً أَنْ لا تُنْسَبَ مُعَلَّقَةٌ أوْ مُفَضَّلِيَّةٌ لِامْرَأةٍ فَهَذا غَيْرُ مَوْجُودٍ. فَنِسْبَةُ شِعْرِ النِّساءِ لِشِعْرِ الرِّجالِ كَواحِدٍ في الْمِائَةِ.
يَنْحَصِرُ شِعْرُ النِّساءِ وَخاصَّةً الْجَواري في الْغِناءِ وَالْعَزْفِ، وَالْفَخْرِ بِنَسَبِها وَرِثاءِ مَيِّتِها، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الشِّعْرِ قَليلٌ.
وَمِنْ ناحِيَةِ الْأُسْلُوبِ فَشِعْرُ النِّساءِ يَمِيلُ إلى الرِّقَّةِ وَالسُّهولَةِ، وَعُذُوبَةِ الْأَلْفاظِ. عَلَى أَنَّنا لا نَعْدَمُ وُجُودَ فَخامَةٍ في الْأَلْفاظِ، وَقُوَّةٍ في التَّعابِيرِ عِنْدَ الْخَنْساءِ وَلَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ. وَشِعْرُ الْإماء يميلُ بٍمُجْمَلِهِ إلَى الرِّقَّةِ وَالْبُحُورِ الْخَفيفَةِ.