ذاكرة مصر» تحرس التاريخ رقمياً

ذاكرة مصر» تحرس التاريخ رقمياً

تتعدى ملامح الأهمية ومعايير القيمة، بالنسبة لمشروع "ذاكرة مصر المعاصرة" الرقمي، ضمن مكتبة الإسكندرية، المنظور التوثيقي أو جانب تميز مستويات دقة التسجيل والتأريخ فيه. إذ إنه يمثل روحية وثيقة بانورامية تسرد قصص التاريخ المصري وحيثياته بوجهة تشويق تتقمص معه ثوباً عصرياً جاذباً:

مشروع رقمي. ولا تقف حدود تميز "الذاكرة" عند هذا الحد، كونه يصنف الأكبر من نوعه في الشرق الأوسط.. وهكذا فإنه مؤهل بقوة لينير الدرب أمام الأجيال الشابة فيروي لها، بعمق وموضوعية وشمولية، أحداث المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي العام في مصر، وتفاصيله، خلال حقب متنوعة ومتتابعة. كما أنه، وإلى جانب ذلك، يشكل في طبيعة مضامينه وغنى محتواه، رافداً علمياً موسوعياً لجهود البحاثة والمتخصصين، بفضل إذكائه رؤاهم وتذخير مشروعات عملهم.

يوثق "ذاكرة مصر المعاصرة" تاريخ مصر عبر موقع إلكتروني متخصص، منذ عهد محمد علي باشا في عام 1805 وحتى نهاية عهد الرئيس الراحل أنور السادات سنة 1981، وهو ما لا يضاهيه فيه أي من المشروعات الفكرية المعنية، وكذا ما لا تقدمه مكتبة ما أو مجموعة وجهة محددة.

وتبرز صيغة تفرد مهمة في المشروع/ "الذاكرة"، تتبدى في محور تجسده كمستودع رقمي لتوثيق 200 عام من تاريخ مصر المعاصر، من خلال عشرات الآلاف من المواد التي تشمل الوثائق والصور وملفات الصوت والفيديو، والتي كونت فهرساً تضمن 14 صنفاً مختلفاً من مواد التوثيق.

وثائق قديمة

يتيح موقع ذاكرة مصر المعاصرة لجميع رواده، في طبيعة خدماته ومستواها، انسيابية وسرعة الحصول على ما يشاءون من وثائق قديمة تعود إلى العقود والفترات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة في مصر. ويفتح بذا، باباً جديداً في المجال، يتجاوز الباحثون والمثقفون ومحبو الاطلاع، معه، عقبات وصعوبات الحصول على الوثائق التاريخية المصرية. وبناءً على ذلك، يتجسد بمثابة بوابة فكرية مشرعة تعرف بتاريخ مصر الوطني، وتوجد جسراً ثقافياً جديداً، يربط بين ماضي مصر وروحية الحداثة وآفاق المستقبل فيها.

يشرح محمود عزت، المشرف على وحدة "ذاكرة مصر المعاصرة" في مكتبة الإسكندرية، ماهيته واستراتيجيته: "(ذاكرة مصر المعاصرة) ابن بار ونشط لمكتبة الإسكندرية، وهو يأتي في إطار إغناء رؤاها وتوجهاتها الفكرية البناءة.

وكان قد اقترح فكرته، مدير إدارة المشروعات الخاصة في المكتبة، الدكتور خالد عزب، بهدف التأريخ لمصر في ميادين الحياة كافة، منذ عهد محمد علي باشا في العام 1805، وإلى زمن الرئيس الراحل محمد أنور السادات (1981).

وهكذا فإن المشروع يوثق هذه المرحلة بأكملها. ويقدمها للجمهور من خلال موقع إلكتروني ضخم، يزوره جميع أبناء مصر. والباحثين المتخصصين، في الداخل والخارج. ويحقق المشروع بما يتسم به، رؤى إنشائه وغايات عمله، بفضل جعله تاريخ مصر متداولاً وموثقاً بطرق حديثة، تتناسب مع طبيعة وتفضيلات الأجيال الجديدة".

ويضيف المشرف على وحدة "ذاكرة مصر": "كانت قد بدأت فكرة تأسيس المشروع منذ العام 2005. ودشن الموقع رسمياً في شهر أكتوبر من العام 2008. ورغم حداثته، استطاع المشروع تحقيق إنجازات كبيرة في الحقل، تتقدمها قدرته في الحصول على الوثائق والصور بدقة وانسيابية. وكذا نجاحه في حصد نتائج هائلة بشأن نسب المشاهدة والزيارات. ومن ثم تطورت آليات عمله ورؤاه، لاحقاً، فصدرت عنه "مجلة ذاكرة مصر المعاصرة"، التي تنشر عبق ملامح التاريخ المصري ودقائقه، في الأسواق والمطارح كافة، عبر توفرها للقراء بأسعار رمزية. وهناك أيضاً، سلسلة من الكتب و"الكتالوغات" التذكارية التي تصدر عن المشروع، بصفة مستمرة".

يتابع عزت حديثه حول مضمون المشروع وآليات عمله: بمقدور زائر موقع المشروع عبر محركات البحث على شبكة الإنترنت، الحصول على معلومات وافية وشاملة ترحل به إلى عالم أرشيفي قديم مشبع بالتفاصيل عن كل ما يخص تاريخ مصر القديم. كما يطلع الزائر للموقع على قصص ومواقف وأحداث شائقة ووافية عن جميع الشخصيات التاريخي.

وعن الأحداث السياسية البارزة. وهناك إذكاء من نوع خاص لهذه الجوانب، يوفره إدراج المشروع لوثائق وصور ونبذ تاريخية مفصلة عن تلك الأحداث والشخصيات. كما انه يتضمن الأرشيف الصحافي الضخم الذي يعرض بدوره، الأعداد الأولى لإصدارات المؤسسات الصحافية القومية، مثل: (الأهرام، الجمهورية، دار الهلال).

كما يؤرخ الموقع لفناني مصر. ويضمن محتوى ما يقدمه حول جميع ذلك، فيديوهات وصوراً ووثائق بانورامية. كما أن المشروع ينظم نشاطات ومعارض خارجية في شتى دول العالم، مرماها التعريف بقيمة التاريخ المصري".

العائلات المصرية

يوضح عمرو خفاجي، رئيس وحدة متحف السادات، في حديثه بخصوص "ذاكرة مصر المعاصرة"، جدوى المشروع وقيمته التاريخية الاجتماعية والسياسية.. إذ يعنى بالإضاءة على إسهامات العائلات المصرية العريقة: "اهتم المشروع بالعائلات المصرية المشاركة في صنع الحياة السياسية طوال المائتي عام الماضيين.

وسد بذلك ثغرة حيوية. فطالما أهمل الباحثون هذه الجزئية البنيوية في التاريخ المصري، التي تمثل أحد أهم المصادر البحثية في الحصول على الصور والمستندات الخاصة بشخصيات حيوية مؤثرة في العصر الحديث". ويتابع: "هناك زعماء وشخصيات مصرية كانت بحوزتهم، في داخل منازلهم، صور وأوراق قديمة تعكس التاريخ المصري وأحداثه بأدق التفاصيل.

وهي لا تزال موجودة. إذ لا يزال الأولاد والأحفاد يحتفظون بها. وأحياناً لا نجدهم يعون أهميتها أو ما تشير إليه من كشف خبايا تاريخية. وهكذا، عند التواصل معهم وتعريفهم بمسؤوليات (ذاكرة مصر المعاصرة)، وجدوى ما يؤديه من خدمات للوطن، والذي نسعى إلى إكمال ملامحه كافة، يرحبون بالفكرة ويسعون إلى رفدنا بما لديهم من الأوراق والصور".

ويروي خفاجي، أن فريق المشروع زار منزل الفريق أول محمد صادق، وزير الحربية السابق - والقائد العام للقوات المسلحة خلال عامي 1971و1972. وعثر لدى أبنائه على صور تاريخية غاية في القيمة والأهمية، توثق مجموعة أحداث ومفاصل تاريخية في مسيرة المؤسسة العسكرية في مصر، خلال مرحلة مهمة جداً. ومنها: صور تكشف عن صفقة الأسلحة بين مصر والاتحاد السوفييتي في حرب 6 أكتوبر عام 1973".

وفي خصوص الحقبة الملكية في مصر، يشير رئيس وحدة متحف السادات، إلى أن "الذاكرة" كشفت بدورها، عن وثائق مهمة، وضعت في داخل موقع ذاكرة مصر المعاصرة، بعد تصنيفها وتوثيقها تاريخياً، ويتابع: "يذكر التاريخ حادثة الرابع من شهر فبراير عام 1942، عندما حاصر الجيش الإنجليزي قصر الملك فاروق بالدبابات؛ لإجباره على التنازل عن العرش أو الموافقة على تشكيل حكومة الوفد. واكتشف فريق البحث في المشروع، أن هناك أوراقاً قديمة كانت بحوزة أحمد باشا صادق، قائد الحرس الملكي، تتضمن مذكرات تبين وقائع الحادثة تلك بالتفصيل".

لا تطول المدة بزائر وحدة "ذاكرة مصر المعاصرة" في مكتبة الإسكندرية، ليعي مدى الجدية والدقة في متابعة تفاصيل العمل ومراحله، في اشتغال جميع المعنيين على المهام والمسؤوليات المناطة بهم، لإغناء "ذاكرة مصر المعاصرة". ولا نحار أو نتوه في تبين الدأب في الاشتغال على تطوير رؤى العمل وتصويب دقته وشموليته. إذ عمد القائمون عليه إلى إصدار مجلة ثقافية، ربع سنوية، تروي حكايات المصريين قديماً، بالصور والوثائق.

وعن طبيعة المجلة وتوجهاتها، تقول سوزان عابد، سكرتيرة التحرير: "تعد المجلة الأبرز والأرفع بين المجلات الثقافية اليوم في السوق المصرية حالياً. وتتميز في أنها تعمل على إعادة تقديم تاريخ مصر إلى قرائها، بصورة وروح جديدتين، وذلك على نحو سمته السهولة والتنوع في الموضوعات الموثقة ضمنها، بالصور والخطابات والوثائق.. إن الموقع الرقمي للذاكرة، عموماً، يعتمد على تقديم كل الوثائق بشكل موضوعي ومحايد، من دون التعليق أو التعقيب، أو إظهار وثائق وإخفاء جزء منها.

ومن هنا تنبع ضرورات المجلة وقيمة المهام التي تؤديها. إذ إن الجمهور في حاجة إلى فهم المدلول التاريخي للوثيقة. وهو ما تضطلع به المجلة، عبر تناولها سيرة وقصة وثيقة أو صورة أو حادثة ما، بالشرح والتفصيل والتحليل". كما تلفت سوزان إلى أنه من أهم الموضوعات الاجتماعية التي عولجت في المجلة صحافياً، من خلال الصور القديمة، تلك الاحتفالات التراثية التي اندثرت المسماة: «الدواسة». وتختم سكرتيرة التحرير حديثها مؤكدة أن مجلة ذاكرة مصر المعاصرة تعد تجربة فريدة داخل سوق النشر والصحافة المصرية.

دور محوري

تحقق إنجاز "ذاكرة مصر المعاصرة"، بفضل التعاون بين إدارة المشروعات الخاصة في مكتبة الإسكندرية وإدارة تكنولوجيا المعلومات. ويعمل بمقتضى توجهات خاصة تقودها معايير كونه المشروع الأوحد للحفاظ على التراث الوطني المعاصر، وتسهيل المهمة على الجمهور العادي والباحثين للإطلاع على التاريخ بشكل مبسط.

وتتجسد أعماله وفق صيغة يكلل معها دور دار الوثائق والمكتبات في القاهرة، في توثيق تاريخ مصر. إلا أنه يتميز بكونه رقمياً يعرض محتواه عبر موقع إلكتروني متاح للجميع. ويوضح مسؤولون في المشروع، أنه يكلف مكتبة الإسكندرية ملايين الجنيهات.

والتي توظف في سبيل العثور على الوثائق القديمة، ومعالجتها فنياً، حتى تظهر بجودة فنية عالية. كما يشترك في العمل ضمن المشروع، 15 باحثا، يسندهم 30 غيرهم في فريق عمل القاهرة ضمن دار المحفوظات وقطاع تكنولوجيا المعلومات.

بوابة معرفية تاريخية مشرعة

تنبع أهمية "ذاكرة مصر المعاصرة"، انطلاقاً من كونه مشروعاً رقمياً يوظف أطر التقدم والتطور التكنولوجي، في سبيل حفظ التاريخ الوطني والتعريف به. فرغم مرور فترة طويلة على نهاية النظام الملكي في مصر.

وكذا الحقبة الناصرية في خمسينات القرن الماضي، نجد أنه لا يزال تاريخ تلك المراحل، يُمارس مهامه في الكشف عن أوجه ملامح الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للحياة في البلاد، قبل قرنين من الزمن. ويأتي هذا المشروع الفكري ليسد ثغرة قلة الوثائق التي تظهر الحياة المصرية بتلوناتها وسياقاتها التاريخية.. وكذا التغلب على حيثية قلة تداولها، ومن ثم القدرة على إتاحتها للباحثين وطلاب العلم، فضلًا عن العاشقين لتاريخ مصر.

جهود مشتركة وتنسيق فاعل بين الهيئات الوطنية

يؤكد محمود عزت، المشرف على مشروع "ذاكرة مصر المعاصرة"، دعم جميع الهيئات والوزارات الحكومية، للمشروع من خلال إمداده بالوثائق والصور والفيديوهات الخاصة بمضامينه ومحتواه، لديها؛ ذلك إيماناً منها بالدور الوطني الذي تمضي به مكتبة الإسكندرية، وأهمية أعمالها في حفظ تراث مصر، وترقيمه عبر وسائل الاتصال الحديثة.

ويقول في الخصوص: "زودتنا وزارة السياحة بما لديها من صور تاريخية نادرة ووثائق سرية. كما سارعت إلى الانخراط في هذا التوجه والمسارعة إلى المبادرة في الاتجاه عينه، هيئات عديدة أخرى: وزارة الآثار، مجلسا الشعب والشورى، الهيئة العامة للاستعلامات، الأندية الرياضية (مثل نادي الاتحاد السكندري والأوليمبي)، ووزارة المالية، دار المحفوظات.

وذلك فضلاً عن إهداءات العائلات وتقديمها ما لديها من صور ووثائق محفوظة تعكس طبيعة الدور المهم الذي لعبه الأجداد والأهل في التاريخ المصري، أثناء الفترات السياسية القديمة بتبايناتها وتنوعاتها. ومن بينها: أسرة بطرس باشا غالي، أسرتا الرئيسين الراحلين: جمال عبدالناصر وأنور السادات، أسرة أحمد ماهر باشا.
المصدر:
دينا حسن - دار الإعلام العربية

《#منتدى_المركز_الدولى》