آلام العقل الغربي: فهم الأفكار التي صاغت نظرتنا للعالم - ريتشارد تارناس

آلام العقل الغربي: فهم الأفكار التي صاغت نظرتنا للعالم - ريتشارد تارناس

بعض الكتب تحب أن تعيد قراءتها فور انتهائك منها، لا لصعوبة فهمها أو لرغبتك في استدراك ما فاتك استيعابه منها، ولكن لفائدتها ولأهميتها ولاستشعارك الحاجة لتحصيل أكبر قدر من هذه الإفادة وتلك الأهمية، وكتاب "آلام العقل الغربي: فهم الأفكار التي صاغت نظرتنا للعالم"، لمؤلفه ريتشارد تارناس، أستاذ الفلسفة والسيكولوجيا، يأتي في مقدمتها.

اشتغل تارناس على هذا الكتاب،الذي يزيد عن 600 صفحة، عشر سنوات، ومنذ إصداره عام 1991 وهو يتصدر أعلى الكتب العالمية مبيعًا. 

يُصنَّف الكتاب ضمن كتب تاريخ الأفكار والتأريخ الثقافي، لأن الملف يتتبع فيه رحلة تكوُّن العقل الغربي منذ فلاسفة الإغريق واليونان حتى ثمانينيات القرن العشرين، وفي هذه الرحلة الطويلة يقف بالرصد الدقيق والتحليل العميق أمام محطات مهمة كان لها أثر كبير في تشكيل هذا العقل وتطوير نظرته لنفسه وللعالم. 

فمثلا يتناول المؤلف سقراط وأفلاطون وأرسطو، ويشرح خلاصة فلسفة كل واحد منهم، شرحا وافيا واضحا عميقا فتتعرف إليهم من جديد وكأنك لم تعرفهم من قبل، ذلك لأن تارناس لم يقدم للقارئ مجرد مادة وصفية، كأغلب الكتب التي تناولت تاريخ الفلسفة، وإنما دخل في عمق العملية التحليلية، وتساءل عن الأفكار التي أسس عليها هذا الفيلسوف أو ذاك أطروحته الفلسفية، ونقَّب في ماهيتها، ومصادرها، والجديد الذي أضافته لمسيرة الفكر البشري، وكيفية استقبالها، ومدى تأثيرها.

قسَّم تارناس كتابه إلى أقسام بحسب الموضوع، فتحدث عن محطات تطور الفلسفة والعلم والدين، وأثر كل محطة على العقل الغربي. وعالج في هذا السياق فلسفة الحقبة الكلاسيكية التي سادت فيها أفكار الثلاثة العظام، سقراط وأفلاطون وأرسطو، والتأثيرات التي أحدثوها في جيلهم والأجيال التي جاءت من بعدهم، ودور العلوم في تطوير تلك النظرة، وبخاصة علمي الرياضة والفلك. وهنا نقرأ مثلًا أن فكرة عدم مركزية الأرض كانت فكرة قديمة لكنها غير مشهورة كما أصبحت بعد ذلك على يد كوبرينيكوس وجاليلليو.

الجديد الممتع الذي يقدمه كتاب ريتشارد تارناس أنه وهو يبوِّب كتابه ويقسِّمه لم يفصل بين الفلسفة والدين والعلم فصلًا تامًا، وإنما مزج بينهما وفصل على نحو مدهش، وبذلك أبان علاقة التأثير والتأثر لكل منهم في الآخر، فكان على سبيل المثال وهو يتحدث في الفلسفة ويحلل سبب انبثاق التيار الفلاني يلقي الضوء على أهم المكتشفات العلمية التي تركت أثرًا على العصر، ومن ثم على الفيلسوف، فأملت عليه إعادة النظر والخروج بهذه الفكرة أو تلك.

وبهذا نجد أنفسنا في هذا الكتاب ننتقل بسلاسة ومنطقية بين الفلسفة والعلم والدين، ونضع أيدينا بسهولة على الإشكالات التي جعلت العلاقة بينهم أحيانًا علاقة تصارعية وأحيانًا علاقة تعاضدية. 

وعلى ذكر الدين، فقد خصص المؤلف جزءا للمسيحية وأثرها على نظرة العقل الغربي للعالم، وتحدث عن المسيح والقديس بولس والكنيسة والإمبراطورية الرومانية، حديثًا عميقًا جريئًا؛ تقرأه فتتضح أمامك تطور عقائد وشعائر هذه الديانة بأوضح ما يكون. وينتقل في سرده لتطور المسيحية إلى القرون الوسطى فنقرأ كلامًا مهمًا عن الاستقرار الإيماني لأتباع هذه الديانة في تلك الفترة، وفي نفس الوقت نطالع بوادر القلق العقلي حينما تصادمت مكتشفات العلم مع توجهات الكنيسة، وما نجم عن هذا الصدام من انحسار لدور الكنيسة في الحياة العامة، وبداية عصر التخلص من النظرة الدينية للحياة، ومرحلة الخلاص من تأثير الدين على العقل الغربي، وكيف انعكس ذلك كله على الفلسفة -مرة أخرى- كما توضحها كتابات فلاسفة عصر النهضة، الذين تأثروا بدورهم بالمكتشفات العلمية التي مهدت لذلك العصر وبالأخص الانعطافة التاريخية الحاسمة لكوبرينيكوس الذي أثبت مركزية الشمس ونفى مركزية الأرض، وتبعات ذلك الإثبات على العقل الغربي خاصةً والإنساني عامةً. 

وهكذا، ينتقل بنا ريتشارد تارناس بين الفلسفة والعلم والدين، فنقرأ لكبلر وجالليليو ونيوتن، في ذات الوقت الذي تقرأ فيه لكانط وديكارت ولأغسطين وتوما الأكويني، وننتقل من مرحلة لمرحلة، فنجد أنفسنا مع مندل وهو يحدثنا عن الوراثة وانعكاس ذلك الحديث على كتابات ديكارت التي عن العقل.

ويستمر الكتاب فينقلنا إلى كتابات دارون في الأحياء وأثرها في الفلسفة وعلوم النفس والاجتماع، ونطالع ذلك في نتاج لوك وكانط وإبداعات فولتير وروسو، وهكذا، ونحن نقرأ تقع أعيننا على رموز الفكر والإبداع البشري: هيجل، كيركجارد، ديوي، مل، غاندي، ماركس، تولوستوي، ديستيوفيسكي، جوته، إليوت، نيتشه، فرويد، يونج، سارتر، هابرماس، بلانك، أينشتين.

الكتاب أشبه بعِقد نفيس من اللؤلؤ، كل حبة فيه كان لابد أن توجد، وكان لابد أن يكون هذا مكانها، لينتظم العقد، ويزيّن جيد العقل الغربي، ويستفيد منه العقل الإنساني عامةً، وقد استطاع ريتشارد تارناس بإبداع وتفرد أن يصنعه بتؤدة، فاستحق على هذا الصبر وذلك الإتقان إطراء كبار المفكرين المعاصرين.

الحق أن لدينا كتابًا مهمًا مشابهًا لذلك من ناحية الفكرة العامة، وهو كتاب "فجر وضحى وظهر ويوم الإسلام"، لأحمد أمين، والذي يتتبع فيه مصادر تكوين العقل المسلم، والمؤثرات السياسية والاجتماعية والدينية والفلسفية التي ساهمت في صياغته، لكن الفرق بين الكتابين هو ذاته الفرق بين مؤلف تعلم في جامعة هارفارد، كريتشارد تارناس، ومؤلف تعلم في مدرسة القضاء الشرعي كأحمد أمين، فالأول امتلك المنهج وتوفرت تحت يديه مصادر حضارة بأكملها لا تزال في أوج عطائها، والثاني حاول بأدوات منهجية متواضعة، ولم يجد من حضارته الذابلة مصادر تعينه في تأريخ الأفكار والعلوم، كما لم يجد ما وجده تارناس من أجواء للحرية الفكرية تمكنه من المضي بجسارة في التفكير والتحليل . 

على كل حال، كتاب "آلام العقل الغربي"، لمؤلفه ريتشارد تارناس، من أهم الكتب التي تساعد القارئ على فهم الأفكار التي صاغت نظرة الغرب للعالم، وهو كذلك من الكتب التي تسهِّل علينا تتبع مسار الفكر البشري وإبداعه في العلوم والفنون والآداب، وأحسب أنه لا غنى لأي مثقف عن قراءته. 

رابط تحميل الكتاب بخانة التعليقات، كما أنه موجود ككتاب صوتي على تطبيق Storytell للمشتركين فيه، وشكرًا للمترجم فاضل جتكر الذي نجح في نقله بسلاسة إلى العربية.